114

মুস্তফা নাহাস

مصطفى النحاس

জনগুলি

فقد ظلوا عقب معرفتهم بنبأ الاجتماعات التي كانت تعقد سرا عند سعد متكتمين للخبر، وهم في فرح بالغ به، متأهبون لأول إشارة من كبارهم الذين يتوافون سرا للتفكير والتدبير، متحفزون مستعدون لأية تضحية تطلبها الوطنية منهم، حتى كان ذات يوم لقي فيه أحد مندوبي المقطم زميلا لمصطفى في الجماعة التي تعاهدت على الجهاد، وتقدمت بأنفسها للجماعة الأخرى التي فكرت مثل تفكيرها واعتزمت عين اعتزامها، وكان ذلك الزميل جالسا في الديوان، فجاءه المندوب كعادته ليلتقط الأخبار منه على ما جرى مندوبو الصحف عليه كل يوم، فتناول الحديث بينهما أمر الهدنة التي عقدت في ذلك اليوم بالذات بين الحلفاء والألمان، وما سوف يكون للحرب العظمى من التأثير في مصير الشرق ومستقبل أمصاره، فقال المخبر إنه قد اتصل به أن دار المندوب السامي البريطاني - وكانت يومئذ تعرف بدار الحماية - قد تلقت معلومات عن اجتماعات سرية تعقد في دار سعد زغلول، وأن السلطة العسكرية تراقب الدار ليل نهار لتنقض انقضاضتها في الوقت المناسب.

وما كاد الموظف الكبير يسمع هذه الأنباء حتى نهض لساعته وقصد إلى مصطفى النحاس فقصها عليه، وكان يكفي علم هذه الأخبار لإثارة المخاوف، وإلقاء الفرق في الروع، واختلاج الوساوس في الصدور لحمل النفوس على الرجوع، ولكن مصطفى كان قد انتهى من اجتياز دور التفكير، ومرحلة تقليب وجوه الرأي، إلى دور الاعتزام الصادق، وتوطين الروح على الإقدام في غير تقاة ولا تردد، وتجشم الطريق وإن لقي عليه أشد المكاره، واجتمعت على قوارعه الحتوف والغوائل، وأشق الصعاب وأكبر المصاب.

هنالك لم يفرغ مصطفى، ولم يسائل نفسه ماذا تريد ليقيها، ولم يطالبها بما تبغي ليكفل لها السلامة والأمان، ولكنه فكر في شيء واحد لم يشرك فيه أمرا من أمور نفسه، ولا اعتبارا من اعتبارات شخصه، وهو ينبغي أن تسلم الفكرة من الخطر، وتصان حتما من الأذى، فلم يلبث هو وأصدقاؤه أن أجمعوا النية على أن ينقلوا الخبر إلى الجماعة الكبيرة في الحال.

وعرف سعد وصحبه النية التي بيتها الإنكليز لهم، فلم يحجموا ولم يترددوا، ولم توسوس المخاوف في صدورهم، فقد كانوا هم كذلك قد فرغوا من مساورة النفس وهمس المخاوف، إلى الشجاعة الصلبة الساكنة التي تنظر إلى الغد باطمئنان، وتعتزم العمل بأقوى اليقين وأعظم الإيمان، فقرروا وجوب الظهور وسرعة التكشف، حتى لا تفجأهم السلطة العسكرية فتسوق بهم إلى المعاقل والسجون قبل أن ينظموا الصفوف، ويمهدوا السبيل، ويبدءوا المسير.

لقد ساق القدر مصطفى يومئذ لإنقاذ الوفد قبل تكوينه، فكان المستبق إلى الفكرة أولا، ثم المستبق إلى نجاتها ثانيا، وهو يومئذ قاض، أو موظف مقيد بوظيفته، ولو أن رجلا آخر في مكانه، وفي مثل ظروفه الخاصة وإقلاله، وضعف سنده المادي واعتماده، ومحدود راتبه وماله - لراح على الأرجح متخوفا، وانثنى عن الفكرة قانعا منها بسلامة الإياب.

ولكن مصطفى أعد لها من التكوين، وهيئ لها بالفطرة والاستعداد، وخلق من أجلها ليكون زعيمها وبطلها؛ فكل حساب المخاوف ومطالب السلامة ومقتضيات الأمن والدعة ليس لمثله، ولا لرجل على غراره، ولكنها للاعتياديين الذين يعيشون لأنفسهم، ويسكنون إلى ذواتهم، ويطلبون مآرب عيشهم في غير خطر ولا رهبة ولا اقتحام عقاب.

وحل الموعد الذي ضربه سير ريجنالد ونجت باشا لسعد وأصحابه في دار الحماية - وهو قبل ظهر الثالث عشر من نوفمبر سنة 1913، وكان يوم أربعاء - وكان ونجت باشا يحسب أنهم أرادوا لقاءه للتهنئة بعيد عقد الهدنة، وكانت قد عقدت منذ يومين، ولكن ما كان أشد دهشته إذ تبين له أنهم جاءوا ليعلنوا في صراحة وشمم حق مصر في استقلالها التام، طالبين إليه السماح لهم بالسفر للسعي في الاعتراف بهذا الحق المقدس العظيم.

لقد كانت هذه الخطوة وثبة جريئة، وثبة الشجاعة التي تستفيض في مسارب الحس، وتستولي على مكامن الشعور، فلا يعود الإنسان معها يبالي خطرا أو يعبأ بمكروه، بل هي الوثبة الأولى للثورة؛ لأنها كانت في ذاتها ثورة، ثورة فرد مع صديقين له أمام أكبر دولة في العالم، خرجت من أكبر حرب بأعظم انتصار عرفه التاريخ؛ فهي منتشية بخمرة الفوز، ثملة بحميا النصر المبين؛ ليتقدم إليها وهي في لذة سكرتها، وحرارة جوانحها من صهباء نجاحها، وتمام عظمتها - رجل أعزل، لا سلاح له في يده إلا سلاح الحق؛ ليقول لها في شجاعة وكبرياء: «الآن لقد حان أن نتفاهم، واليوم وجب أن نصفي الحساب!»

لقد كبر على سير ونجت أمر هذا الرجل العجيب، ونكر منه كيف يجترئ كل هذه الجرأة وهو من القوة سليب، واستعظم منه أن يقف هذا الموقف، ويدلي أمامه بذلك البيان، وأحس حيال كلماته المنبعثة من أعماق إيمانه بشيء من التردد، ومسة من الارتباك؛ فاستمهله حتى يرفع الأمر إلى حكومته.

كان ذلك أول عهد الدنيا بالوفد، فهو يومئذ سعد زغلول وصاحباه، وليس من ورائهم أحد؛ لأن البلاد كانت لا تزال هادئة، والشعب كان لا يزال بأمر تلك الخطوة غير عليم ، ولم يكن يعرف الخبر غير الذين علموا بمستبقه، وألموا بتمهيده.

অজানা পৃষ্ঠা