মানবিক বিজ্ঞানের সমস্যা: এর নিয়মনীতি ও সমাধানের সম্ভাবনা
مشكلة العلوم الإنسانية: تقنينها وإمكانية حلها
জনগুলি
تصدير الطبعة الجديدة
مقدمة في المصطلح
1 - العلوم الطبيعية منطق تقدمها
2 - العلوم الإنسانية منطق تخلفها النسبي
3 - منطق مشكلة العلوم الإنسانية
4 - الخاصة المنطقية المميزة للعلوم الطبيعية
5 - التساوق المنهجي للخاصة المنطقية
6 - الإبستمولوجيا العلمية المعاصرة والخروج من مشكلة العلوم الإنسانية
7 - إمكانية حل مشكلة العلوم الإنسانية
الختام
অজানা পৃষ্ঠা
ثبت المراجع
تصدير الطبعة الجديدة
مقدمة في المصطلح
1 - العلوم الطبيعية منطق تقدمها
2 - العلوم الإنسانية منطق تخلفها النسبي
3 - منطق مشكلة العلوم الإنسانية
4 - الخاصة المنطقية المميزة للعلوم الطبيعية
5 - التساوق المنهجي للخاصة المنطقية
6 - الإبستمولوجيا العلمية المعاصرة والخروج من مشكلة العلوم الإنسانية
7 - إمكانية حل مشكلة العلوم الإنسانية
অজানা পৃষ্ঠা
الختام
ثبت المراجع
مشكلة العلوم الإنسانية
مشكلة العلوم الإنسانية
تقنينها وإمكانية حلها
تأليف
أ.د. يمنى طريف الخولي
تصدير الطبعة الجديدة
ونحن الآن في مطالع القرن الحادي والعشرين، نشهد تفجرا معرفيا باذخا غير مسبوق، ونبدو على أعتاب مرحلة جديدة من التقدم العلمي، يعلو فيها دور العلوم الآلية؛ أي: علم المنطق ومناهج البحث وعلوم المعلوماتية والكمبيوتر وعلم اللغة العام. تلوح في الأفق ثورة تنتزع العرش من الفيزياء لتعتليه علوم الوراثة والبيولوجيا الجزئية لتتآزر مع العلوم الآلية في منظومة مستجدة تماما، تستغل الإمكانات المعرفية للتكويد والتشفير والقوة التوليدية للأنساق الاستنباطية ... إلخ، لكن يظل التجريب دائما سلاحا أوليا للبحث العلمي لا مندوحة عن حسن استغلاله وتشغيله وشحذه. ولا تتوانى فلسفة العلم ومناهج البحث عن القيام بدورها في هذا. ومن كل صوب وحدب سوف تعلو مؤشرات التقدم العلمي والتفجر المعرفي قرننا الحادي والعشرين.
وفي كل هذا يزداد إلحاح دور العلوم الإنسانية في العقل وفي الواقع. ولا تزال سيطرة العقل العلمي التجريبي على الظواهر الطبيعية والحيوية تفوق كثيرا سيطرته على الظواهر الإنسانية. أجل، قطعت العلوم الإنسانية خطوات واسعة في طريق اصطناع المنهج العلمي التجريبي، وعلى مدار القرن العشرين أحرزت إنجازات متوالية. ولكن لا تزال الحاجة ملحة إلى مزيد من سيطرة العقل العلمي على الظواهر الإنسانية، وإلى دفع الطاقة التقدمية للعلوم الإنسانية.
অজানা পৃষ্ঠা
ومن هنا تأتي أطروحة هذا الكتاب. إنه ينطلق من منظور مستقبلي، هادفا أن تبلغ العلوم الإخبارية بالظواهر الإنسانية، ما بلغته العلوم بالظواهر الطبيعية من معدلات نجاح متسارعة في أداء وظائف العلم التجريبي من وصف وتفسير وتنبؤ وسيطرة تقانية، عسانا أن نحقق عالما أفضل وأكثر توازنا.
يقف الفصل الأول على منطق التقدم المتوالي للعلوم الطبيعية، الذي تبلور، بل تفجر بثورة العلم في القرن العشرين. ثورة النسبية والكوانتم، وهي من أعظم ثورات البشر طرا، وكانت ثورة المعلوماتية والهندسة الوراثية المذكورة آنفا إحدى نواتجها، وتظل تحمل إمكانات واعدة لا حصر لها، يعنينا منها هنا فتح الطريق لقهر صعوبات محيطة بالعلوم الإنسانية تعوق تسارع معدلات تقدمها، وتسبب مشكلة تخلفها النسبي عن العلوم الطبيعية. ويتكرس الفصلان الثاني والثالث لفلسفة العلوم الإنسانية: عوامل نشأتها وتناميها، ثم نجاحها في التوصيف العلمي للظواهر، لكن تباطؤ المعدلات والافتقار للتكامل حين التفسير. وفي هذا الإطار نحيط بمنطق مشكلة العلوم الإنسانية بمنتهى الدقة المستطاعة لمنطق العلم التجريبي. في الفصل الرابع نجد الخاصة المنطقية المميزة للعلوم التجريبية - كما تتبلور في العلوم الطبيعية - أي القابلية للاختبار التجريبي والتكذيب، تفتح الطريق لحل مشكلة العلوم الإنسانية. لا سيما أن هذه الخاصة تتساوق مع نظرية المنهج التجريبي المعاصرة التي تفتح بدورها الطريق لقهر عوامل تحول بين العلوم الإنسانية والتجريبية، وبين تحقيق درجة أعلى من النجاح في أداء وظائف العلم. وهذا يعني أن الاستيعاب الكامل لأبعاد الإبستمولوجيا العلمية - المنهجية والمنطقية - كفيل بدفع الطاقة التقدمية للعلوم الإنسانية والإسهام في حل مشكلتها.
وكما هو معروف، كارل بوبر هو الذي صاغ هذه الخاصة المنطقية؛ أي القابلية للتكذيب كمعيار للعلوم التجريبية، وجعلها عماد معالجته الرصينة النافذة لمنطق العلوم التجريبية. وها هنا تطبيق للقابلية للاختبار التجريبي وللتكذيب، وتشغيل واسع النطاق لها، أبعد كثيرا من إسهامات بوبر في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية. وربما نكون في هذه الزاوية بوبريين أكثر من بوبر نفسه!
على أي حال، ليس ينطوي هذا على اختزال العلوم الإنسانية أو ردها إلى العلوم الطبيعية، بل فقط استغلال ما هو مشترك في الممارسة العلمية التجريبية - كمبدأ تنظيمي - بالاقتراب منه يتسم المشروع العلمي بالإحكام. إنه لهذا تنامى اقتفاء العلوم الإنسانية لشروط القابلية للاختبار التجريبي، فعرفت طريق التقدم العلمي. والهدف أن يزداد الطريق وضوحا، فيزداد التقدم صعودا. وتلك أولى مهام فلسفة العلم التي هي المعقل الرسمي لأصول التفكير العلمي والثقافة العلمية وأصول البحث العلمي.
إنه حديث في الفلسفة، موجه لباحثي العلوم الإنسانية، لكن يهم أيضا باحثي العلوم الطبيعية، فضلا عن المثقف العادي في عصر لم تعد الثقافة فيه منعزلة عن حركة العلم بحال. وقبل كل هذا وبعده يظل احتياجنا القومي لجرعات مكثفة من أصوليات التفكير العلمي والبحث العلمي على السواء.
إن الاحتياج القومي والهم القومي لا يغيب أبدا عن بال المثقف الجاد، مهما أوغل في غياهب التخصص الدقيق. وفي هذا، فإن الطبعات السابقة من هذا الكتاب قد لاقت - بحمد الله تعالى - استقبالا حسنا. وأجمل ما في الأمر أنه في طبعته الأولى المجملة تحت عنوان «إمكانيات حل مشكلة العلوم الإنسانية على ضوء الخاصة المنطقية للعلوم الطبيعية وتساوقها المنهجي» عام 1990-1991، قد حصل في هذا العام نفسه على جائزتين عربيتين، فكان عاملا لفوزي بجائزة العلماء العرب الشبان في مجال العلوم الإنسانية، من مؤسسة عبد الحميد شومان - الفلسطيني - في الأردن. حصل الكتاب أيضا على جائزة سعاد الصباح للإبداع الفكري بين الشباب العربي، في العام نفسه. إنه عام الطوفان وكارثة الخليج المشئومة. بل إنني تسلمت الجائزة الكويتية في معرض القاهرة الدولي للكتاب أواخر يناير 1991، والحرب دائرة. ورغما عنها اجتمعت الجائزتان في هذا الكتاب، تأكيدا أن البحث العلمي العربي كالإبداع العلمي العربي لن تقف في وجهه حدود سياسية، ولو كانت بضراوة الأسلاك الشائكة وحقول الألغام. ويلتقي تقدير الطرفين المتقابلين، وفي صلب الزمن العصيب، مصداقا لثابت باق يعلو على الكوارث ومؤامرات الفرقة، فليست العروبة ترهات وألاعيب سياسية، بل هي وحدة ثقافية وحضارية غير قابلة للفصم أو القصم مهما كانت ضراوة الوقائع والمتغيرات. ومن ثم فإن القومية العربية أشد حقيقة من الدم في الشرايين، ومن أهوال الحروب والفرقة بين الأشقاء.
وإذا جمع هذا الكتاب بين الجائزتين العربيتين المتزامنتين والمتقابلتين، ليقف حجة دامغة في وجه كل من تسول له نفسه التطاول على مفهوم العروبة، وحقيقة القومية العربية، فإن هدفه المعرفي الأساسي هو الحيلولة دون التشويه الأيديولوجي للعلوم الإنسانية!
وقدمت دار قباء طبعته الجديدة مع بدايات القرن الحادي والعشرين.
1
وفقنا الله لما فيه السداد.
অজানা পৃষ্ঠা
يمنى طريف الخولي
منيل الروضة. مايو 2001
هوامش
مقدمة في المصطلح
حضارة العرب هي حضارة اللغة والفصاحة والبلاغة وفن القول، فالشعر فنها الأول وديوانها الأكبر، وتتيه على الحضارات طرا بأنها تتحدث اللغة ذات العدد الأكبر من المفردات التي تعد بالملايين، بينما لا تتجاوز مفردات اللغة الإنجليزية - مثلا - سبع مئات من الألوف. ومع هذا فإن أخبث مواطن الداء في الثقافة العربية هي عدم الحرص على دقة المصطلح، حتى إن معظم المصطلحات المهمة والخطيرة فضفاضة تتسم بالهلامية، قد تستخدم للدلالة على مدلولات شتى متداخلة أو متقاربة أو متباعدة أو حتى متضاربة ... على الإجمال قد يدل المصطلح على أشياء كثيرة فلا يدل على أي شيء محدد، ونعجز في معظم الأحايين عن ربط الاسم بمسماه، ومن ثم عن الإتيان بالقول المحكم الدقيق، وكأننا نعاني فقرا لغويا مدقعا!
على ذلك يبدو هذا التمهيد مهما لتحديد مصطلحات عنوان الكتاب أو موضوعه، ما دام بحثا في منطق «العلم»، ومجرد هذا المصطلح: العلم
Science
مصطلح حديث. ولم تتم صياغة مصطلح العالم
Scientist
إلا في الثلث الأول من القرن التاسع عشر، حين اشتق - آنذاك - من الفعل اللاتيني
অজানা পৃষ্ঠা
Sciere
أن يعرف؛ ليدل فقط وبتميز شديد على المنشغل بذلك النسق المعرفي النامي والمتعملق حديثا - وعلى وجه الخصوص - الطبيعة والكيمياء بمنهجهما الصارم، وطابعهما المحكم، ثم توالى اجتياح العلم لمجالات شتى، أتت كلها
Science
وفقا لهذا المصطلح المدقق. ولكن لم يوضع له مقابل في اللغة العربية إلا مصطلح «علم» العريق جدا والمترامي النطاق في ثقافتنا؛ حيث يدل على أي نشاط معرفي وأي درس عقلي على وجه الإطلاق. ولعله لم يظفر بتحديد ما إلا على يد بعض الفقهاء - كابن تيمية وابن حنبل - الذين أصروا على أن «العلم» يقتصر على أصول الدين وتفسير القرآن والشريعة والسنة ... بل وذهبوا إلى أن أي استعمال آخر له هو من قبيل التجديف والكفر. وبطبيعة الحال نهض المستنيرون من الفقهاء والفلاسفة والعلماء، وأيضا من المتكلمين ذوي المنزع العقلاني، نخص منهم بالذكر أبا الحسن العامري (متوفى 381ه)، لتأكيد أن «العلم» - هذا النشاط الشريف المعلى - يتطرق إلى مجالات أخرى كالرياضيات والنظر العقلي في شتى المواضيع والأمور. وفي كل حال كان مصطلح «العلم» في ثقافتنا العربية - ولا يزال - مصطلحا شديد العمومية، يشير - وعلى أحسن الفروض - إلى أي بناء عقلي نظامي وأي دراسة منهجية، في مقابل مصطلح
Science
الدقيق والمحدد الذي سوف نستعمله في هذا الكتاب.
إذن فمصطلح «العلم» يرد في هذا الكتاب بذلك المفهوم الدقيق المحدد ليدل فقط على: «أنساق تفيد مضمونا إخباريا، ومحتوى معرفيا، وتوصيفات دقيقة، وقوة شارحة، وقدرة تفسيرية، وطاقة تنبؤية، منصبة على ظواهر العالم التجريبي والواقعي الواحد والوحيد الذي نحيا فيه»، معنى هذا أن مصطلح «العلوم الإنسانية» يشير إلى الدراسات التي تستهدف الإحاطة المنهجية الوصفية والتفسيرية بالظواهر الإنسانية، كعلوم الاجتماع والاقتصاد والنفس والأنثروبولوجيا والجغرافيا ... إلخ، بفروعها العديدة. ولا ينطبق على الدراسات الإنسانية الأخرى المعيارية والتنظيمية من قبيل فقه اللغة، والقانون، والشريعة، والنقد الأدبي، وأنظمة المحاسبة والإدارة ... إلخ؛ أي أنها تخرج عن مجال بحثنا، وعن مجال فلسفة العلوم التجريبية. ولا ينفي هذا بطبيعة الحال خطورتها، وأهميتها الحضارية الكبيرة. بل إن التطور الكبير للسانيات واللغويات في القرن العشرين قد توغل كثيرا داخل حدود العلم، ومجرد أصول له قد انعكست على مسار العلوم الإنسانية فيما يعرف بالاتجاه البنيوي، وما تلا هذا من تطورات معرفية مهمة حدثت بفعل الحاسب الآلي (الكمبيوتر). ولكننا ملزمون بالتحديد المنطقي التجريبي الذي يحول بيننا وبين التعرض للدراسات الإنسانية المعيارية والتنظيمية.
ولما كان علم الاجتماع وعلم النفس هما القطبان اللذان يحصران كل موضوعات أو فروع العلوم الإنسانية التجريبية في تردداتها بين الجمعي العام والفردي الخاص، فإننا سنصوب عليهما الأنظار ونوليهما عناية خاصة.
ولا يمنع هذا بطبيعة الحال من التعرض للفروع الأخرى حسبما يقتضي السياق. غير أننا آثرنا الابتعاد عن «التاريخ»؛ لأننا لو اعتبرناه علما فلا بد أن يكون ذا طبيعة خاصة جدا.
ولا يفوتنا التوقف لتوضيح ضرورة استخدام مصطلح العلوم الإنسانية
অজানা পৃষ্ঠা
Human Science ، فالكثيرون وعلى رأسهم كلود ليفي شتراوس يطابقون بين مصطلحي
Human Sciences
و
Sciences Social ، ولكن مصطلح
Human Sc.
الذي بدأ يسود في السنوات الأخيرة يبدو أصوب؛ لأن الإنسان - وإن كان لا يتواجد إلا في صورة جمعية - فإنه الموضوع المحوري، والوحدة النهائية التي ترتد إليها الدراسة في كل حال. على أن التقاليد الأنجلوسكسونية وبجذور تعود لعصر النهضة وما قبيله، تضع مصطلح الإنسانيات
Humanties
ليدل على الآداب والفنون والمسائل المعيارية والقيمية واتجاهات لتفسير النصوص ... إلخ، وكلها مسائل مفارقة للعلم، ولا ينبغي أن تختلط به. وهذا جعلهم يفضلون مصطلح
Social Sciences
للدلالة على مجمل العلوم الإنسانية. وساعدهم في هذا وجود اشتقاق آخر هو
অজানা পৃষ্ঠা
Sociological
ليدل فقط على ما ينتمي لعلم الاجتماع بالذات.
ورحنا نحن ننقل هذا بغير مراعاة للشائع من اشتقاقات لغتنا، فنستخدم الترجمة الحرفية لمصطلح
Social Sciences
أي «العلوم الاجتماعية» للدلالة على مجمل العلوم الإنسانية، ونستخدم أيضا مصطلح «العلوم الاجتماعية» للدلالة على ما ينتمي لعلم الاجتماع؛ أي كترجمة للمصطلح
Sociological
في خلط ينبغي تجنبه عن طريق استخدام مصطلح «العلوم الإنسانية»، وقصر مصطلح «العلوم الاجتماعية» على علم الاجتماع وفروعه. وعلى ذلك التزم هذا الكتاب بمصطلح «العلوم الإنسانية» الأصوب، حتى حين ترجمة الاقتباسات من مصادر استخدمت مصطلح
Social Sciences ، بل وحين الاستفادة من مصادر عربية استخدمت مصطلح «العلوم الاجتماعية» للدلالة على مجمل العلوم الإنسانية.
وأخيرا فضلنا مصطلح مشكلة
؛ لأنه يفيد تحديدا منطقيا، ما يجعله أفضل من المصطلح المستحدث الذي ذاع استخدامه؛ أي إشكالية
অজানা পৃষ্ঠা
؛ لأنه يعني مشكلة تتوالد عنها مشكلات، ما يوحي بالهلامية التي لا يناسبها، ولا يجدي معها منطق.
الفصل الأول
العلوم الطبيعية منطق تقدمها
بلغ القرن العشرون خواتيمه متوجا بحصاد علمي يتيه به على القرون أجمعين، لقد تفجرت فيه الطاقة التقدمية للعلوم الطبيعية، وفاقت كل معدلات التقدم العلمي المعهودة من قبل بنسبها البسيطة والمركبة. وفور أن انتهى نصفه الأول قيل: «إن أكثر من ثلاثة أرباع علم الفيزياء المعروف لنا اليوم قد أنتجه هذا القرن العشرون.»
1
وفي نصفه الثاني تضاعف هذا النتاج، وما زال يتضاعف. ولحقت بالفيزياء - وهي العلم الطبيعي الأم - بقية أفرع العلوم الطبيعية. ونشأت فروع أخرى، ولا تزال تنشأ.
ولا نحسبن الأمر يعوزه استطراد. فتعملق العلوم الطبيعية «أوضح من شمس النهار» كما قال الأقدمون، لكن الأقدمين قالوا هذا التمثيل مجازا، ونحن نقوله حقيقة ففي إمكان العلوم الطبيعية الآن أن تجعل شمس النهار تتوارى بضع لحظات مثلا أمام التفاعلات الذرية لانفجار القنبلة الهيدروجينية، وهي واحدة من بنات حصائلها المتواضعات. هذه الحصائل تملأ آفاق عصرنا، بدءا من وسائل المواصلات والاتصالات التي قهرت الزمان والمكان، حتى غزو الفضاء، والصحراء. وثورة الهندسة الطبية، فضلا عن الهندسية الوراثية التي تعاظمت معها استطاعات الإنسان، وتتابع أجيال الحاسوب ... إلخ، ومع هذا «سيظل العلم دائما شيئا ما أعظم من تقانة (تكنولوجيا)، وأكثر من فروع للمعرفة. إنه شيء حي، شيء من أشياء المتعة والجمال، يتوشج بطبيعته توشجا داخليا في شئون الحياة، وهو مع هذا شيء مميز عنها، إنه ميدان للخبرة يلعب فيه الخيال دورا كاملا.»
2
لقد قيل إن العلم شيء حي، بمعنى أنه بناء صميم طبيعته الصيرورة. وهو نسق متتالي التوالد والتنامي والتغير، ما يعني أن منطقه منطق نظام ديناميكي، وهو منطق للتقدم المستمر؛ لذلك فحين نقف على خاصية البنية المنطقية للعلوم الطبيعية، سنرى كيف أن نسقها يحمل في صلب طبيعته إمكانية التقدم المستمر دائما استمرارية البحث العلمي. إن هذه الإمكانية متوشجة في صميم البنية المنطقية، حتى أمكن القول إن منطق العلم التجريبي منطق «تصحيح ذاتي» فنجد جاستون باشلار
Gaston Bachelard (1884-1962) شيخ فلاسفة العلم في فرنسا، يؤكد ضرورة الربط بين العلم والفلسفة، ويحرص على تأكيد أهمية الخيال والأحلام الشاعرية للعقل العلمي.
অজানা পৃষ্ঠা
وباشلار يطلق نظرياته ورؤاه النافذة المحيطة بأعماق ظاهرة العلم كشاعر ملهم، يقول: «العلم لا يخرج من الجهل كما يخرج النور من الظلام؛ لأن الجهل ليس له بنية، بل يخرج من التصحيحات المستمرة للبناء المعرفي السابق، حتى إن بنية العلم هي إدراك أخطائه. والحقيقة العلمية هي تصحيح تاريخي لخطأ طويل، والاختبار هو تصحيح الوهم الأولي المشترك.»
3
فيؤكد باشلار كثيرا أهمية النقد. أو حسب تعبيره «هذا الشك المسبق المنقوش على عتبة كل بحث علمي، يتصف بأنه متجدد، وهو سمة أساسية لا موقوتة في بنية التفكير العلمي.»
4
لذلك ينتهي باشلار إلى أن العقل العلمي يتنكر دائما لما ينجزه، من حيث دأبه على نقده وتصويبه. ألم نتفق على أن منطق العلم «منطق تصحيح ذاتي»؟! إنه لهذا يكفل لتواتر محاولات العلماء الإبداعية، ومحض توالي البحوث المنهجية ... يكفل لها التقدم المستمر، من حيث يفتح أمامها آفاقا أوسع. معنى هذا أنه مهما أحرزت العلوم الطبيعية من تقدم، فسوف يظل إحرازها هذا يحمل في صلب ذاته إمكانية التقدم الأبعد، فلا ركون ولا سكون البتة. بعبارة أخرى كل إجابة يطرحها العلم يطرح معها تساؤلات جديدة أبعد مراما. وكما يقول كلود ليفي شتراوس
C. Levi Strauss (1908-؟): «سوف تكون هناك دائما فجوة بين الإجابة التي يكون العلم قادرا على إعطائها لنا، وبين السؤال الجديد الذي سوف تثيره هذه الإجابة.»
5
فلن يتوقف أبدا تقدم مسيرة العلم الطبيعي الظافرة، التي انطلقت في طريقها الصاعد الواعد، فور أن وضع نيقولا كوبرنيقوس
N. Copernicus (1473-1543) فرض مركزية الشمس - التي سبق أن طرحها أرسطارخوس الساموسي في القرن الثاني الميلادي - بدلا من مركزية الأرض في النظام البطلمي القديم، المعتمد طوال العصور الوسطى. وتعد مركزية الشمس الكوبرنيقية - بضعف حجمها، وما فيها من أوجه قصور - هي المنعطف الجذري بألف ولام التعريف، الذي تحول معه العقل البشري من شعاب العلم الطبيعي القديم، ليستهل الخطوة الأولى ونقطة البدء في تشييد «نسق العلم الحديث».
لقد قيل إن العلم الطبيعي أقدم عهدا من التاريخ. فالمعطيات الأساسية التي يرسو عليها تأملها الإنسان وأسلافه لعشرات ومئات الآلاف من السنين، وقبل أن تخترع الكتابة. والواقع أن رموز الأعداد اخترعت قبل الكتابة. فأول ما ينبغي أن نقره بشأن العلم، هو أنه متأصل في صلب أقدم مناحي الإنجاز الإنساني.
অজানা পৃষ্ঠা
6
وحين نتقدم قليلا في مسيرة الحضارة الإنسانية سوف نلقى - بصفة أكثر تحديدا - الميراث العلمي الواضح المعالم للحضارات الشرقية القديمة، وعلى رأسها الحضارة الفرعونية، أعظم الحضارات طرا وفجرها الناصع. ثم هل كان يمكن تشييد «نسق العلم الحديث» بغير الأصول النظرية العميقة التي أرساها فلاسفة الإغريق، والفروض المثمرة التي طرحها بعضهم، خصوصا قبل السقراطيين منهم، وعلى رأسها فرض الذرة. وبصفة أكثر عينية لم تكن إنجازات جاليليو (1564-1642) - وهو في طليعة الآباء العظام للعلم الحديث - ممكنة دون إنجازات أرشميدس، هو الذي علمه التآزر الخصيب الولود بين لغة الرياضيات ووقائع التجريب. ومعلوم جيدا دور العلماء العرب في العصور الوسطى في مواصلة مسيرة البحث التجريبي، وعلى رأسهم وعلى رأس العلماء الطبيعيين القدامى طرا، ابن حيان، وابن الهيثم، والبيروني، والرازي.
ولئن كان العلم الطبيعي في هذا المسار الطويل قد أنجز بضع محصلات، ربما تتخذ مواقعها حتى الآن في نسق العلم الحديث، ولو كأصول تمهيدية فإنها كانت نتائج ضئيلة نسبيا والأهم متناثرة؛ لأن البحث العلمي نفسه كان نشاطا متناثرا، مشتتا مبعثرا، ملحقا بالاحتياجات العملية المباشرة في العهود السحيقة، ثم بالكهنوت في الحضارات القديمة، ثم بالفلسفة والإطار الثقافي في الحضارة الإغريقية، وفي الحضارة الوسيطة التي كان إطارها إطارا دينيا. فلم يكن العلم الطبيعي القديم كيانا مستقلا بذاته، حتى انبثق العلم الحديث في صورة نسقية؛ أي مهيأة للاستقلال، بحيث تحمل في صلب ذاتها حيثياتها وإمكانات تناميها، وفاعلية عوامل تقدمها ذي المعالم الواضحة.
والنسقية تعني إحكام المشروع العلمي فيرتكز في شتى ممارساته على أصوليات منهجية صارمة، ترتد في صورة خصائص منطقية دقيقة تحدد للمشروع العلمي تخوما واضحة، ما يكفل تآزر الجهود العلمية، فيجعلها تمثل متصلا صاعدا، يواصل تقدمه باستمرار، ويلقي في جوانحنا الثقة المدعمة بأن غده أفضل من يومه، تماما كما أن يومه أفضل من أمسه، الذي كان أفضل من أمسه الأول. فتمثل كل ممارسة من ممارسات العلم الطبيعي إضافة لرصيده، أو بالأحرى لرصيد الإنسانية، لكن إضافة رأسية.
أجل، يمثل العلم الطبيعي متصلا صاعدا، دونا عن شتى مناحي الإبداع الإنساني كالفن والأدب والفكر والفلسفة والأنظمة ... إلخ، التي تنمو في صورة تراكم كمي واتساع أفقي، لا يلغي القديم فيه الجديد، ولا يتجاوزه، ولا يفوقه، بل يقف بجواره. وأن تمثل الإنجازات المتوالية متصلا صاعدا، يقترب دوما من الصواب، متجاوزا مثالب الوضع السابق - أو مواطن كذبه - وباحثا عن مثالب أخرى في وضعه الجديد ليقترب من الأصوب. فذلك هو التعبير المنطقي عما يعرف بمقولة تقديم العلوم الطبيعية. وسوف نرى أن الخاصة المنطقية المميزة للعلوم الطبيعية، والتي تعطي أشمل معالجة لمنطق النظرية العلمية التجريبية، هي في حد ذاتها بلورة لعامل التقدم المتوشج في نسيج العلم الطبيعي. •••
وقد بذلت عدة محاولات فلسفية للوقوف على طبيعة هذا التقدم العلمي المستمر. وبنظرة شاملة يعطينا بوليكاروف أربعة آراء تجمل تصورات تقدم العلوم الطبيعية أو نموها
7
وهي: (أ)
تبعا لتتالي الأحداث الذي لا يحكمه أي اطراد عام، فإنه لا يمكن تفسير تقدم العلوم الطبيعية، يمكن فقط وصفه، وهذا هو تصور الوضعيين المناطقة على الخصوص. (ب)
تقدم العلم يتم كسلسلة من التحولات أو الثورات التي ربما تحدث بغير رابطة داخلية
অজানা পৃষ্ঠা
internal link . هذه هي النظرية الثورية. (ج)
وكنقيض للرأي السابق نجد الرأي التراكمي، الذي يؤكد استمرارية المعرفة العلمية. وهذا رأي شائع بين العلماء وفلاسفة العلم ومؤرخيه الكلاسيكيين، أمثال ويليم ويول وبيير دوهيم وكارل بيرسون وجورج سارتون. ولعل أبرز ممثليهم عالم الفيزياء المتطرف أرنست ماخ
E. Mach (1838-1916)، فقد استنفد قواه الفلسفية والمنطقية في شن حرب شعواء على الكمومية «الكوانتم» والنسبية، ما يوضح إلى أي حد كان تفكيره أسير مرحلة العلم الكلاسيكي، وعجز عن تجاوزها. ونظرا لبساطة مسلمات العلم الكلاسيكي، وتوافقها مع الحس المشترك، فإن ذلك الموقف لا يزال دارجا ويتكرر كثيرا، وحتى يومنا هذا. فيعرب باشلار عن أسفه؛ لأن القرن الثامن عشر لا يزال يحيا فينا. «وأحد أهداف هذا الكتاب الكفاح ضد الموقف العاجز عن مواكبة التقدم في العلم. وهو - أي العلم - المجال الذي يعنينا منه أنه التمثيل العيني لمقولة التقدم في أجلى وأصفى صورها.» (د)
التصور الجدلي (الديالكتكي) لهيجل وماركس وإنجلز وأشياعهم. وتبعا له يؤدي التقدم الكمي التدريجي؛ أي «التراكمي» إلى قفزات كيفية أو «ثورية» تصبح بدورها نقطة البدء لتراكم كمي جديد، يؤدي عند نقطة معينة إلى قفزة كيفية ... وهكذا، وفقا لقانون «الكم والكيف» الجدلي؛ أي الذي ينتقل عبر مراحل الجدل الثلاث: القضية ثم نقيضها، ثم المركب الذي يجمع خير ما فيهما ويتجاوزهما إلى الأفضل، فيصبح بدوره - في مرحلة أعلى من الجدل - قضية تنقلب إلى نقيضها ... وهلم جرا ... وعلى الرغم من النقد العنيف، بل الرفض الحاد الذي يلقاه الجدل من قبل فلاسفة العلم ذوي الولاء الشديد للعقلانية
8
فإننا نرى في التصور الجدلي وسيلة ناجحة للربط بين التصورين التراكمي والثوري في مركب متسق لمن شاء الاستفادة من التصورات الثلاثة معا في كل متآزر.
بيد أن الغاية المرومة في النهاية من كل فلسفة للعلم هي أن تبلور روحه، فتضع الأصبع على أشد ما يفجر الطاقة التقدمية للبحث العلمي والتفكير العلمي، ومن ثم للعقل الإنساني والحضارة الإنسانية. والنظرية الثورية - بداهة - أقوى ما يدفع الطاقة التقدمية للعلم، أوليست تجعله ثوريا؟
ولا بد قبلا من الوقوف عند مصطلح «الثورة» وقفة لغوية، لنميز بين جانبين للدراسة السيمانطيقية للمصطلحات هما الجانب الإشاري المباشر، والجانب الدلالي الإيحائي. من الناحية المباشرة نجد «الثورة» تعني - دائما - نمطا من التغيير المفاجئ السريع، مغايرا لمجرد النمو، أو حتى التطور الذي هو تغير تدريجي بطيء «يوازيه في تفسير التقدم العلمي النظرة التراكمية»، لذلك قيل: إن «الثورة مقابلة للتطور، فهي سريعة وهو بطيء، وهي تحول مفاجئ وهو تبدل تدريجي.»
9
وهذا المعنى الإشاري المباشر مقصود بعينه، ولكن فيما يختص بالجانب الدلالي الإيحائي، نلاحظ تفاوتا بين لفظة المصطلح الأوروبي
অজানা পৃষ্ঠা
Revolution
وبين المقابل العربي «ثورة». إذ تعود ثورة إلى: ثار الغبار: سطع، وأثاره غيره، وتثويرا: هيجه، وثورانا: هاج. ومنه قيل: فتنة ثارت، وأثارها العدو، وثار الغضب: احتد، وثار إلى الشر: نهض، وثور الشر تثويرا.
10
فنجدها في النهاية مردودة إلى «ثار» بمعنى يفيد هاج وماج، فيأتي الرفض والتغيير الجذري بفعل قوى انفعالية. وليس هذا مقصودا تماما، ولكن في الإنجليزية نجد المصطلح: «ثوري
Revolutionary »، جذري متطرف. وأيضا دوار؛ لأنه مأخوذ من
Revolution
التي تعني ثورة، وتعني أيضا إتمام دورة كاملة (مثلا دورة الجرم السماوي في مداره) ولنلاحظ أواصر القربى الفيلولوجية بين «ثورة
Revolution » وبين «نماء أو تطور
Evolution ». على هذا نجد المصطلح الإنجليزي لا يجعل الرفض هياجا مفاجئا، بل هو تقدم مكثف شديد الفاعلية، وانتقال جذري إلى مرحلة أعلى آن أوانها؛ لانتهاء المرحلة السابقة أو استنفاد مقتضياتها. وهذا هو المقصود على وجه الدقة من القول بالطابع الثري للتقدم العلمي.
وسوف نرى أن هذه النظرية الثورية لتقدم العلوم الطبيعية، والتي هي الضد الصريح لنظرية التراكم الكمي، والتعديل الحق للقول بالتطور العادي، إنما هي النظرة التي يفرضها منطق العلم ذاته، منطق الكيان المطرد التقدم ذي الثورات الحقيقية في تاريخ البشر، ذلك أننا سنلقاها محصلة للخاصة المنطقية المميزة للعلوم الطبيعية. ومن ثم فهي أي: النظرية الثورية - وفي أقوى صورها - هي المعتمدة في كتابنا هذا، المتسقة مع مسلماته وأهدافه، وإنها لنظرة شديدة الحداثة، ولكن قبيل أن ينتصف القرن العشرون، سبق أن بشر بها مؤرخ العلم هربرت بترفيلد.
অজানা পৃষ্ঠা
11
وخلاصة رؤيته هي أنه على قدر ما يمكننا اقتفاء الثورات العلمية بهدى العوامل الخارجية، فالوضع يتمثل في أن العلماء في مرحلة ما يحدثون تغييرا في مخططات تفكيرهم، يرون الأشياء القديمة بطريقة جديدة، ويحاولون التوصل إلى فكرة تمثل مفتاحا (
Key Idea
وهو تعبير بترفيلد المفضل) يفض مغاليق التعثر الطارئ. وحينما يتوصلون إلى فض هذه المغاليق تتدفق الاكتشافات بمنتهى السهولة، ويرفض بترفيلد اعتبار تاريخ العلم تاريخا للأفراد العظام، أو سلسلة من قصص النجاح، أو تراكم الاكتشافات والمعرفة بالوقائع. فذلك لا يعبر البتة عن التناول السليم لتاريخ العلم
12
هذا التاريخ المتقد لا تحيط به إلا الرؤية الباحثة عن ثوراته.
ولعل أشد فلاسفة العلم حرصا على إبراز الطابع الثوري للتقدم العلمي إنما هو باشلار. إذ يرى أن الخطأ الأساسي والأولي، هو الذي يظل مسيطرا على العقل البشري ما لم يعمل هذا العقل على إزاحته عن مواقعه واحدا بعد الآخر بجهد وكفاح وصراع لا يتوقف. فكل حقيقة لا بد أن تكتسب بنوع من النضال والانتصار. وكل معرفة لا بد أن تحارب لكي تحتل مواقع الجهل؛ لذلك فالتقدم في العلم يتم من خلال صراع بين الجديد والقديم. ولا يتحقق إلا بنوع من التطهير الشاق لهذه الأخطاء. المعرفة لا تسير في طريق ميسر معبد مباشرة إلى الحقيقة، بل إن طريقها ملتو متعرج ، تمتزج فيه الحقيقة بالبطلان، ويصارع فيه الصواب الخطأ صراعا مريرا كيما يخلص نفسه منه. وهكذا نلاحظ أن فعل المعرفة في كل حال ينطوي في حد ذاته على ثورة ما، من حيث ينطوي على صراع. يتبلور هذا الصراع في السلب في «اللا» التي أصبحت مقولة لا يستغني عنها العلم المعاصر (لاحتمية، لاتعين، ميكانيكا لانيوتنية، وهندسات لاإقليدية ...) ذلك أن الجدة العلمية لم يعد من الممكن اكتسابها، إلا عن طريق السلب المنظم، الذي يصارع القديم ويرفضه، ويعبر عما يطرأ على العلم من تحولات أساسية، عندما يعيد النظر في مفاهيمه الكبرى، ويراجعها من جديد. ومن ثم يصر باشلار إصرارا على رفض فكرة الاتصال في فلسفة العلوم. فالمعرفة العلمية تتصف أساسا بعدم الاتصال في صورتها أو في مضمونها.
13
والبنية الإبستمولوجية لفرضية علمية مختلفة تماما عن بنية الفرضية التالية لها في تاريخ العلم في «جدليات ناشطة حقا».
14
অজানা পৃষ্ঠা
والفيلسوف الذي يتبع بالتفصيل حياة الفكر العلمي سيدرك التزويجات غير المألوفة بين اللزوم والجدلية؛
15
لذلك كان مصطلح الجدل (الديالكتيك) الذي يعبر عن عدم اتصال المعرفة والانتقال من القضية إلى سلبها، شديد الشيوع في أعمال باشلار، ويحتل عناوين فرعية جمة. وفي عام 1951 أخرج كتابه «جدلية الزمان
La Dialectique De La Duree » «له ترجمة عربية».
على أساس الصراع مع الخطأ، السلب والجدلية، والاتصال. يتضح لنا عمومية التصور الثوري. ويغدو التقدم العلمي مرهونا بحدوسات جريئة تمثل بدورها قفزات ثورية، تعقبها أفكار تصحح أفكارا، فروح العلم هي تصحيح المعرفة، وتوسيع نطاقها، أو ما أسميناه منطق التصحيح الذاتي. وهذا الأفق من الأفكار المصححة هو ما يميز الفكر العلمي،
16
وكل هذا يعني أن الفكر العلمي فكر قلق، فكر يترقب الشيء، يبحث عن فرص جدلية ليخرج من ذاته، وليكسر أطره الخاصة، إنه الفكر الذي يسير على درب الموضوعية، ومثل هذا الفكر لهو الفكر المبدع.
17
هكذا يؤكد باشلار عمومية الثورة، فيقول: «تتضمن أزمات النمو الفكري إعادة نظر كلية في منظومة المعرفة.»
18
অজানা পৃষ্ঠা
وأيضا على عمقها فيقول: «إن الإنسان يصبح بواسطة الثورات الروحية التي يستلزمها الإبداع العلمي جنسا مغايرا.»
19
فهي تؤثر تأثيرا عميقا في بنية العقل المتجددة دوما «وحتى الثورات المتصلة بمفهوم واحد تواكب في الزمان ثورات عامة ذات تأثير عميق في تاريخ الفكر العلمي»،
20
وكل شيء يمضي جنبا إلى جنب، المفاهيم وإنشاء المفاهيم «فليس الأمر مجرد كلمات يتبدل معناها، بينما يظل الترابط ثابتا، كما أنه ليس أمر ترابط متحرك حر قد يفوز دائما بالكلمات ذاتها التي يترتب عليه أن ينظمها.»
إن العلاقات النظرية بين المفاهيم تبدل تعريفها كما يبدل تغير المفاهيم علاقاتها المتبادلة. وليس يهتم باشلار كثيرا بالصياغات المنطقية، بل بالأحرى بما أسماه «نفسانية المعرفة»؛ لأنه فيلسوف أولا وأخيرا وليس منطقيا، ولكن يمكننا أن نعبر عن هذا تعبيرا منطقيا، فنقول: إن الفكر لا بد حتما أن تتبدل صورته؛ إذ ما تبدل مضمونه.
فينفي باشلار أي سكونية تراكمية عن نمو المعرفة العلمية. فالمعرفة التي تبدو ثابتة تجعلنا نؤمن باستمرارية الأشكال العقلية وثباتها، واستحالة قيام أي طريقة جديدة للفكر. في حين أن قوام البنية العلمية ليس بالتراكم، وليس لكتلة المعارف العلمية تلك الأهمية الوظيفية المفترضة. فإذا قبلنا حقا أن الفكر العلمي في جوهره يعني إنشاء الموضوعية، وجب استخلاص أن مستنداته الحقيقية هي التصحيحات وتوسيعات الشمولية. وعلى هذا النحو تتم كتابة التاريخ الحركي للفكر. فالمفهوم يحظى بمعنى أكبر في تلك اللحظة بالذات، التي يغير فيها معناه، وإذ ذاك تصبح حدثا من أحداث إنشاء المفاهيم.
21
ويمكننا أخيرا - وعلى ضوء ما سبق - التوقف عند فكرة جوهرية أبدعها باشلار في إطار فلسفته الجدلية الرافضة للاتصال، لتلعب فيها دورا محوريا، بحيث تناظر تكذيب النظرية المقبولة عند كارل بوبر، وتحطيم النموذج القياسي عند كون، وتكون من أقوى تجسيدات النظرية الثورية، وأعتى رفض للنظرية التراكمية، ألا وهي «فكرة القطيعة المعرفية
La Ruptare Epistemologique » التي تكاد تكون تلخيصا لما سبق من خطوط فلسفة باشلار، ولكنها خرجت من أعطاف فلسفته، بل ومن حدود فلسفة العلم بأسرها، وشاعت وذاعت وترددت في سائر جنبات الفكر المعاصر، حتى كادت تصبح من معالمه، لا سيما أنها أبدت خصوبة وفاعلية في تفسير التحولات الحضارية.
অজানা পৃষ্ঠা
والقطيعة المعرفية تعني أن التقدم العلمي مبني على أساس قطع الصلة بالماضي، فهو شق طريق جديد لم يتراء للقدامى، ولم يرد لهم بحال، بحكم حدودهم المعرفية الأسبق، ومن ثم الأضيق والأكثر قصورا. والمثال الأثير لباشلار «المصباح الكهربي»
22
فهو ليس استمرارا لأساليب الإضاءة الماضية التي تقوم على الاشتعال والاحتراق، بل قطيعة لكل هذه الأساليب لحد الشروع في مرحلة تعتمد الإضاءة فيها على الحيلولة دون أي اشتعال أو احتراق، فهي خلق وإبداع جديد تماما.
القطيعة المعرفية هي التجاوز النشط المسئول للماضي، فالمبدع الخلاق للحاضر، فلا تعود اللحظة تكرارا كميا للتاريخ، بل هي عمل دءوب، هي إنجاز - إنجاز للحداثة. وعن طريقها يؤكد الإبداع العلمي حدس اللحظة التي تمثل حقيقة الزمان، من حيث هي الكائنة، وبين غير الكائنين: الماضي والمستقبل. وتغدو الشجاعة الذهنية في المحافظة على لحظة المعرفة نشيطة حية «وأن نجعل منها منبعا لحدسنا، متدفقا دوما، وأن نرسم انطلاقا من التاريخ الذاتي لأخطائنا النموذج الموضوعي لحياة تكون أفضل وأوضح».
23
ولا يفوتنا في هذا الصدد الإشارة إلى نظرية توماس كون
Thomas Kuhn
فهو من أهم من عنوا بتفسير التقدم العلمي، وطرح في كتابه الشهير «بنية الثورات العلمية» نظرية «تتضمن عناصر من كل من النظريتين الثورية والجدلية»،
24
ولكن ليس على طريقة باشلار؛ حيث تسخر الجدلية فقط لخدمة الثورية، بل ولإذكائها. أما نظرية كون فهي - إن صح التعبير - ثورية، لكن متهاودة إلى حد ما. إذ تقوم على التمييز في تقدم العلم بين العلم العادي
অজানা পৃষ্ঠা
Normal Science
وبين المراحل الثورية في هذا التقدم.
25
تقدم العلم العادي يحدث داخل إطار النموذج القياسي للعلم
Scientific Paradigm
الذي يقبله المجتمع العلمي بوصفه بناء علمنا اليوم، فهو الإنجازات العلمية المقبولة بصفة عامة، والتي تزود جمهرة المشتغلين بالعلم بأنماط المشاكل وحلولها، تقدم العلم العادي يسير داخل إطار هذا النموذج. فالعلم العادي لا يبدأ عمله بالبحث في النظرية الأساسية للنسق العلمي، أو محاولة الثورة عليها، كما أنه لا يهتم باختبارها، وظهور مثال معارض لا يعامل مباشرة كتفنيد للنسق - كما يوضح جون ويزدم الفيلسوف التحليلي الكبير - فربما عالجناه بفرض مساعد
Auxiliary Hypothesis .
26
إذن فنمو العلم العادي يسير من خلال التنقيح المعرفي المستمر لمحتوى نظريات أقل عمومية، أو حسابات دقيقة وتنبؤات، وأيضا من خلال عملية تنقيح الإضافات التي تلحق بالنسق، وتنقيح تطبيقاته. وعملية التنقيح هذه تأخذ طابع حل المتاهات
Solving Puzzle . وخلال حلها تثار مشاكل جديدة في حاجة للحل. بعبارة أخرى: العلم العادي هو حل المتاهات، من خلال تلقيح وتنقيح النظريات الموجودة بالفعل.
অজানা পৃষ্ঠা
27
وكل هذا داخل إطار النموذج القياسي للبناء العلمي. وقد استعمل كون مفهوم المستويات المختلفة للعمومية، وميز على وجه الخصوص بين النماذج القياسية الميتافيزيقية وهي النظرة العامة
Outlook
والنماذج القياسية السوسيولوجية - كمجموعة العادات العلمية - وبين النموذج القياسي المصطنع أو المشيد لحل المشاكل العلمية، المهم أن العلم العادي ينمو داخل إطار النموذج القياسي، بيد أن الفرض المتطور فيه يتحول من «ل» إلى «لا - ل»: «ل ← ل». أما في مرحلة العلم الثوري، فإن الإطار نفسه يتحطم، ويحل محله نموذج قياسي ذو أطر مختلفة. فيتحول الفرض من «ل ← د»
28
إذن ما يميز العلم الثوري عن العلم العادي، هو أن الأخير يتحرك داخل النموذج القياسي. بينما الأول يحطمه، ويحل محله نموذج آخر، يمثل العلائم البارزة في تاريخ العلم.
هكذا نلاحظ أن توماس كون يتمسك بنظرية ثورية معدلة، أو مخففة إلى حد ما، مقارنة بالنظرية الثورية الجذرية المعتمدة في هذا البحث، والتي رأيناها - مثلا - مع جاستون باشلار، وسوف نراها أعمق مع كارل بوبر، وثلاثتهم - بوبر وباشلار وكون - أساطين فلسفة العلم، لا سيما في النصف الثاني من القرن العشرين، وعلى وجه التعيين الربع الثالث منه، وفلسفة العلم - لأنها الوجه الآخر لمنطقه - لا تسمح كثيرا بالتناقضات الحادة في وجهات النظر، التي تترعرع في فروع الفلسفة الأخرى. والحق أنه لا تناقض حادا أو لا تناقض البتة بين الرأي الثوري الجذري، الفلسفي مع باشلار والمنطقي مع بوبر، أو مع سواهما، وبين الرأي الثوري المعدل مع كون.
كل ما في الأمر كما لاحظ بريان ماجي
Bryan Magee
أن كون يدخل في اعتباره سوسيولوجية العلم وسيكولوجية العالم، وعوامل أخرى يمكن أن نسميها العوامل الخارجية، أما باشلار وبوبر فينصب اهتمامهما على العوامل الداخلية للعلم وبنيته ، وبوبر بالذات يقتصر تفكيره على منطق العلم؛ لذلك كانت ثوريته جذرية، ويؤكد أن حالات التقدم الحقيقي «لا نجد فيها شيئا مشتركا، أو خط استمرارية بين النماذج القياسية المختلفة».
অজানা পৃষ্ঠা
29
وبعبارة أخرى، لا يوجد علم عادي وعلم ثوري، كل علم طبيعي هو علم ثوري من حيث هو مطرد التقدم، فقط بدرجات متفاوتة لهذه الثورية.
ولما كان بحثنا هذا مختصا بمنطق العلم - صميم بنيته الداخلية - بات واضحا لماذا نعتمد النظرية الثورية في طبيعة التقدم العلمي.
وعلى أي حال فإن التقدم المطرد للعلوم الطبيعية هو - كما أوضحنا - متصل صاعد، ولكن بحيث يمثل متوالية منطقية. فلا يعني البتة مجرد تراكم كمي رأسي، في مقابل التراكم الكمي الأفقي لبقية مناحي الإبداع الإنساني - كالفنون والآداب والفلسفات والأنظمة ... إلخ - بل يعني تضاعف القوة المنطقية لنظريات النسق العلمي، خصوصا في تصديها للمهمة التفسيرية التي هي تحد لا نهاية له، تمثل وقائع التجريب محكمه النهائي، وفيصل الحكم على مصير الفروض والنظريات العلمية.
من هنا كان العلم الطبيعي في كل حال علما تجريبيا، حتى الفيزياء البحتة دونا عن الفيزياء التجريبية أو المعملية - التي هي نسق فرضي استنباطي - فتبدو من الناحية الصورية أقرب إلى الرياضيات، أو لعلها من ناحية المناهج الإجرائية هكذا فعلا، فإنها - أي الفيزياء البحتة - ومهما روعي فيها الاتساق الرياضي والقوة الاستنباطية للفروض، لا مندوحة لها عن المواجهة مع الواقع، فتلتجئ في النهايات البعيدة إلى وقائع التجريب بشأن الاستنباطات الجزئية العينية القصية - بصفة خاصة التنبؤات - المشتقة من فروضها الأولية، لنحكم على هذا وذاك بواسطة التجريب. إن كل علم هو تجريبي من حيث هو إخباري؛ أي يخبرنا عن الواقع وظواهره.
والهدف من أي علم تجريبي إخباري هو الإجابة عن السؤال: كيف ولماذا تحدث الظاهرة موضوعه؟
المرحلة الأولى من العلم - منطقيا وليس تاريخيا
30 - هي المرحلة الوصفية التي تجيب عن السؤال: كيف تحدث الظاهرة؟ كيف تتبدئ؟ ولكن هذا لا يكفي. فتمهيد الطريق لإحكام السيطرة على الظاهرة فيما يعرف بالتقانة التي ارتهنت بنسق العلم التجريبي الحديث - دونا عن سواه من أنساق جمة أنشأها العقل البشري .
هذا يستلزم الانتقال من المرحلة الوصفية، وبناء عليها إلى المرحلة التالية عليها. وهي المرحلة التفسيرية التي تجيب عن السؤال: لماذا تحدث الظاهرة؟ أما التنبؤ، وهو الغاية النهائية المرومة من العلوم الطبيعية، فليس يفترق عن التفسير، بل هو - أولا - معلم نجاح التفسير، خصوصا الفيزيائي. وهو - ثانيا - يتخذ نفس البناء المنطقي الصوري للتفسير؛ أي الاستنباط. كلاهما يشتمل على: (أ)
شروط مسبقة أو مبدئية. (ب)
অজানা পৃষ্ঠা