لأنه على مقربة من الثوروية الاشتراكية ثوروية فوضوية هي أقل من تلك شيوعا ولكنها أشد حرارة وأقوى وحشية. وكلاهما انبثق من الديمقراطية شاعرا بألم العمال ومرجعا أصل الشقاء إلى استبداد صاحب رأس المال بالمأجور؛ ذلك الاستبداد الذي هو - على قولهما - مبعث افتقار المجاميع في سبيل تنعم أقلية ظالمة جائرة. وكلاهما يجاهر بتعذر إصلاح هذا المجتمع القائم على الملكية الفردية، ويقول بوجوب تقويضه وقلب النظام الحالي رأسا على عقب. إلى هنا يتفقان ثم يظهر بينهما الخلاف في أساليب التقويض وفي كيفية تنظيم المجتمع المقبل. الاشتراكية تريد تسخير الحكومة وإرهاب رأس المال لتقليل ساعات العمل وتحسين حالة العامل ريثما يتم لها القبض على زمام الحكم، والفوضوية تريد الفتك بذوي المناصب لا لسبب آخر سوى أنهم ينفذون قانونا يكرهه الفوضويون. الاشتراكية تعظم المجموع وكأنها لا تهتم بالفرد إلا لأنه جزء من مجموع هو كل شيء في تقديرها، والفوضوية تقول باستقلال الفرد استقلالا تاما يكاد يتلاشى المجموع حياله. الاشتراكية تريد قلب النظام الرأسمالي لتوطد مكانه نظامها الاشتراكي، والفوضوية تريد قلب النظام الرأسمالي وكل نظام سواه، تريد إلغاء كل قانون على الإطلاق أخلاقيا كان أم سياسيا أم اجتماعيا. هي الفوضى؛ أي التفويض إلى الفرد إدارة شئونه دون مراقبة أو سيطرة. وتنظر إلى الاشتراكية كنوع جديد من الثكن والأديرة ودور الحكومات فتنازلها مثلما تنازل الأرستقراطية والديمقراطية، ولعلها في نظرها أشد الأنظمة خطرا واستئثارا. فلئن كانت الاشتراكية نقدا للمجتمع الحاضر فالفوضوية نقد النقد وهدم الهدم وزلزال الزلزال. فهل من عجب بعد هذا إذا ما استنكر كروبتكن تلك «الديكتاتورية الحزبية» وهو الفوضوي المقاتل كل سلطة شيوعية كانت أم قيصرية؟ •••
ترى أي المفكرين نصدق، أروسو الهاتف بالعودة إلى الطبيعة لأن الإنسان خير بطبيعته ولكن المجتمع أفسده بأنظمته، أم هوبس المصرح بأن الإنسان ذئب للإنسان وأنه طوي على الفوضوية لا يقمعها ويحسن ضبطها فيه سوى الحكم المطلق: الحسن دون سواه؟
إذا تحرى الباحث أحوال العالم بلا مشايعة ولا تحزب، وجد من الناس الصالح والطالح، الذكي والأبله، المسالم والمتحامل، الخائن والوفي، فوجب عليه قبول كلا المذهبين كمتمم أحدهما للآخر. وليس هوبس بالغبين ولا بالمتعسف؛ لأن اللانظام ساير النظام في جميع أدوار التاريخ. وليست الفوضوية لانظاما موقوتا، بل هي حنق وعصيان متتابع يرمي إلى نقض أركان المجتمع؛ فنجدها في اضطرابات آلت إلى تغيير النظم في بلاد اليونان والرومان يتخللها ذلك الطور الخاص المدعو بالديماغوجيا ؛ أي حكومة الرعاع، وهو في نظر أرسطو خامس أنواع الديمقراطية.
1
ذلك الطور الموجد عهد الطغاة
Tyrans
وقد بدأ في بلاد اليونان خصوصا في القرن السابع والسادس قبل المسيح. وكثيرون من أولئك الطغاة أمثال بيزيستراتس وأرثاغوراس وبيرو وبوليكراتس كانوا أولا زعماء الفتنة ودعاة التحريض ضد حكم الأماثل أو الأقلية، ثم وصلوا إلى الحكم الديكتاتوري الأعلى؛ فكان عهدهم مقدمة لعهد الديمقراطية المعتدلة. أما الطاغية - باليونانية
Tyrannos - فكان في فجر التاريخ محاربا في الغالب يكبره الشعب؛ لأنه أنقذه من غارة المهاجمين وحفظ له حرمة الوطن، فلا يطول حتى يختاره زعيما يتكلم باسمه في مناقشة العظماء والكبراء. ثم تغيرت الحال وصار الزعماء يبلغون أعلى المراتب بفصاحتهم البيانية - موهبة ما فتئت ترفع ذويها إلى الأوج. ولدينا من ذلك في هذا العصر أمثال الدكتور ويلسن ولويد جورج وبلفور وسواهم من فطاحل الخطابة الجليلة الشأن.
وظل الاضطراب الديماغوجي يقلق هاتيك البلاد بدافع التنازع الاجتماعي بين الأغنياء والفقراء، حتى وضع له الفتح اللاتيني حدا بتأييد الممولين؛ لأن نظام البلديات الذي قامت به الإدارة الرومانية كان نظاما تيمقراطيا؛ أي إنه كان يرتب الناس وفقا لثروتهم، وبديهي أن يخص الفاتح ذوي اليسار بالحكم والمسئولية. غير أن الأمة الغالبة لم تسلم من هجمات الديماغوجيا لأنها دهمت هي أيضا بتنافس الطبقات؛ فتعددت في سجلاتها أسماء الطغاة، حتى إن المؤرخين يعتبرون إصلاحات الأخوين الطاغيين طيبيريوس وكابوس جراكس استهلالا للدور الثوروي الذي تخطى بالجمهورية الرومانية إلى الإمبراطورية أو القيصرية.
تتالت جماعات الخوارج عند مختلف الشعوب مظهرة استياءها بصنوف جمة من التمرد والمقاومة إلى أن وصلت الفوضوية إلى طورها العصري. ويرى أهلها في فلاسفة الفردية في القرن الثامن عشر كروسو وسواه المخبرين والمبشرين، ويكادون يستخرجون شعارهم من بيتين كتبهما ديدرو أحد مؤسسي الإنسكلوبيذيا الفرنساوية ومفادهما: «لم تصنع الطبيعة من الناس الخادم والمولى، وأنا لا أريد أن أسن الشرائع ولا أن تسن لي.»
অজানা পৃষ্ঠা