وقد ثار عليه ولد ابن عمه إسماعيل بن يونس باي وكفاه الله أمره بعد محاربات طويلة في جبل وسلات فمات حتف أنفه بقسمطينة وخلف ولدًا اسمه حسن مات بعد ذلك.
ثم إن الأمير حارب الدولة الفرانساويِّة وانفصل معها بصلح سنة أربع وثمانين. وأعان السلطان مصطفى خان على محاربة الموسكو سنة خمس وثمانين.
وضم ابني أخيه إلى أبنائه حمودة وسليمان وعثمان والمأمون في التعليم والختان والتدريب على أحوال الدولة حتى جهز لجميعهم محلة وجعل الحكم فيها على التناوب بينهم جميعًا.
وقد شاد من المباني والمفاخر ما بقي ذكره، فبنى تربته الشهيرة والمدرسة المجاورة لها. وأقام مكتبًا لتجويد القرآن العظيم لصق جامع والده وأسس التكيتين لإيواء الفقراء من الرجال والنساء وإطعامهم وكسوتهم وفراشهم وأوقف على جميع ذلك أوقافًا مهمة أجرى بها التعاليم والصدقات الجارية إلى هذا اليوم، وعطل الخمر، وهدم الحانات، وأجرى كثيرًا من السقايات، وأقام الجسور، وجدد كثيرًا من الزوايا والمساجد، وبنى المباني الباذخة بباردو.
وكان عالمًا عادلًا، ذا صيانة وعفاف وفروسية ونجدة وتقى وحلم وكرم، أقام في دولته سوق العلوم والأدب، فكثرت فيها الشعراء وتنافسوا في مدائحه بدواوين من الشعر وأولاهم من الجوائز والصلات ما بعثهم على الاعتكاف على مدائحه.
وكانت له في منطقة حبسَة أبدع حامل لواء شعراء تلك الدولة في وصفها بما يتمنى به أشهر فصحاء الملوك أن يكون له مثلها فيوصف بجميل أوصافها التي وصفه بها هذا الشاعر البليغ، وهو الكاتب الشيخ محمد الورغي إذ رصع إحدى عيدياته يخاطب الأمير بقوله: [الطويل]
وما فتن الألبابَ مثلك ناطقًا ... بأسهل ألفاظ على المطلب الوعر
وقتكَ أذى المعيان في ذاك حبسة ... ترد على أعضائه شهقة المكر
وعوضتَ منها في جنانك فسحةً ... يغيب بها ما في الحضيض إلى النسر
وسعت لها تأميل كل مؤمل ... وآويت في أكنافها كل ذي ذعر
وما ضر أن كانت لجودك آية ... كما أن غيم الجو كمن آية القطر
إذا ما شفعت الميم أتبعت منحة ... أو الباء جاء البر منك على الإثْر
ولولا الحيا والعلم أنك صالح ... لقلنا بفيكِ العذبِ فأفأةُ السحر
وفيك وفيها رحمة حين ينزوي ... أمامك ذو ذنب أو الطالب البر
فيأخذ هذا عن عتابك مهلة ... ويطنب ذا فيما يقودك للأجر
وإن زدت فيها عند ذاك تبسمًا ... فتلك لعمر الله منقبَة الفخر
كذلك فلينعتك من كان مغرمًا ... بحبك وليصدع بما فيك من سر
وقد أفرد له كاتبه المقرب الشيخ الحاج حمودة بن عبد العزيز تاريخًا جمع فيه مفاخر مملكته ودولته واستوفى من خصاله الحميدة وقصائد مديحه ما لم يحط به غيره من المؤرخين.
ولما شاخ هذا الأمير قدم ولده حمودة باي على ابن أخيه محمود باي الأكبر سنًا فجعل ولده ولي عهده وأجلسه لتعاطي الحكم بين يديه والسفر بالأمحال ثم توالى على الأمير المرض إلى أن حضر أجله فتوفي يوم السبت الثالث عشر من جمادى الثانية سنة ست وتسعين ومائة وألف ودفن بتربته التي أحدث بناءها قرب ساباط عجم عليه رحمة الله.
٥ المولى حمودة باشا باي
[١١٧٣ ١٢٢٩] هو الأمير أبو محمد حمودة بن علي بن حسين بن علي تركي. ولد ليلة السبت ثامن عشر ربيع الثاني سنة ثلاث وسبعين ومائة وألف، وتربى في حجْر ملك والده المعتني به غاية الاعتناء فقد ضم إليه من المربين العارفين بفنون السياسة من لهم عنده ذكر. وقدم لإقرائه العلوم المعقولة والدينية العالمين الشيخ الحاج حمودة بن عبد العزيز، ومن ذلك السلم ارتقى إلى رتبته العالية التي بلغها في الدولة، والشيخ حمودة بن باكير فقرأ عليهما ما أهله لكل كمال، حتى أنه لما استكمل السبع عشرة سنة وأراد والده تقديم خليفة لملكه أجمع نصحاء الدولة على اختياره، فأرسل إلى الدولة العثمانية بطلب تقديم ولده المذكور فأسعفته بذلك على عهد الغازي السلطان سليم خان الثالث، ووجهت له الخلعة العثمانية وأحضره والده بالديوان بالحاضرة وقلده الولاية وتمت بيعته غرة المحرم سنة إحدى وتسعين ومائة وألف، ووفدت عليه الوفود بالتهاني من كل فج وجلس للحكم والأوامر تصدر بختم والده وباشر السفر بالمحلة شتاءً وصيفًا.
1 / 10