মুরুর ফি আর্দ হানা
مرور في أرض الهناء ونبأ من عالم البقاء
জনগুলি
ولكيلا أطيل الشرح وأثقل عليك، صعدنا إلى مركز المتصرفية في الجبل، وكان على كل الطريق التي مررت فيها جموع وخلائق لا تحصى ولا تعد، وصوت البارود يدوي دويا يصم الآذان، فتجاوبه الأصدية من تلك الوديان، وكبار الرجال والوجهاء والأمراء كلهم بخدمتي، يحيطون بي من كل جانب، والفرسان أمامي تلعب بالجريد، وكلهم يدعون لي ولعائلتي بطول العمر، وينشدون الأناشيد الحماسية لرفعة مقامي، وكيفما حولت نظري أجد التحية والتعظيم وإحناء الرءوس.
حينئذ أخذت أتأمل بعبودية هذا الشعب، وصغر نفس كباره الذين يجبرون العامة على هذا التظاهر المعيب، ويفنون قوى هذه الطبقة النشيطة التي كلها استعداد للأعمال العظيمة في سبيل رضائي، مع صرف الأموال وتعطيل الأشغال، فقلت: ماذا رأوا مني حتى عاملوني هذه المعاملة كفاتح عظيم، إنهم لم يروا بعد شيئا من خيري ولا من شري، بالحقيقة إنهم أذلاء.
نعم، كنت أسمع عن مثل هذا عندما كنت في الأستانة، ولكن ليس السمع كالعيان، رأيت أكبر ذات في لبنان يقف بين يدي صاغرا ذليلا، يتمنى أن يكون في خدمتي أينما ذهبت، ويفتخر أن يسمى من ياوران المتصرف.
وبعد أن حللت في سراي الحكومة، وأخذت الراحة الكافية وحان وقت تلاوة الفرمان، اجتمع في بتدين مركز المتصرفية جميع الحكام والوجوه، وكثير من رؤساء الطوائف، وجم غفير من الشعب، ولما تلي الفرمان رفعت الأيدي وأمن الجميع، وهتفوا بالدعاء، وهم غير عالمين بأن تلاوة مثل هذا الفرمان - الذي لا يفرق شيئا عن فرمانات الولاة في ولايات المملكة، والذي هو على نص واحد يعطى به الوالي الحكم المطلق تقريبا - هو برهان كاف على محاولة الدولة نزع امتياز لبنان، ومحو استقلاله الإداري؛ لأنها تعلم أن لا مطالب بهذه الحقوق؛ لأن الشعب ضعيف وجاهل، والكبار منه لا يهتمون إلا بالوظائف والعظمة الفارغة.
أما سعيهم لنوال الوظائف فهو غريب؛ إذ إن كلا منهم يعمل كل واسطة، وينفق الأموال الطائلة، وربما رهن أرزاقه لأجل الوظيفة؛ كل ذلك لكي يتظاهر أمام أقرانه بالعظمة، ويستبد بذويه وأهل بلده، متخذا قوة الحكومة لتنفيذ غايته في الناس، مع أنه عندما يقف الواحد منهم أمامي يكون كأنه واقف أمام العزة الإلهية، وقد يكون الشخص منهم أغنى وأعلم مني، عارفا بالقوانين، ذكيا متضلعا بجملة لغات، وربما يكون في بيته كالملك عائشا برغد وهناء، ذا أرزاق كثيرة، تغنيه عن مثل هذا التذلل، ومع ذلك فهو يفضل أن يكون خادما لي - أنا الغريب عنه - من أن يكون مخدوما معززا في بيته، مستقلا حرا، كل ذلك لكي يتظاهر بالفخفخة المعيبة، ويقطب حاجبيه في وجه أقرب الناس إليه، وينتقم ممن يحسبهم أعداءه.
وقبل أن جئت لبنان، لم أكن أظن أن الشعب يسترسل في الرشوة إلى هذا الحد، كنت أرى «خيالة الإنكليز» الليرات تتوارد علي فرقا وفيالق حتى بهرت عيني.
أما الوسائط لذلك فكثيرة، إنهم يغتنمون فرصة الأعياد والمواسم، ويرسلون إلي التحاويل، أو يتركون القيم المهمة بعد زيارتهم لي، ومثل ذلك تفعل نساء الوجهاء والكبراء مع امرأتي، فيأتينها بالهدايا الثمينة والأموال الوفيرة، ويتوسطنها في أمور كثيرة، والذي يرى نفسه مقصرا بالمال يعمل وسائط أخرى، كالالتجاء إلى الرؤساء الروحيين واستنجادهم لما لهم من النفوذ، وهؤلاء كل منهم يعمل على مناصرة أبناء طائفته والمحافظة على حقوقها المهضومة، فأصبح أنا - بعد هذه الأعمال - تائها في بحر هذا المحيط المضطرب، الذي يصلي ويتعبد كثيرا، وأضطر إلى استعمال الخداع والدهاء، فأعد هذا وذاك اليوم وأخلف بوعدي في الغد، وأنتحل الأعذار، وأجامل الرؤساء وألاطفهم، وأساير كلا على حسب هواه، وبعض الأحيان أتظاهر بالغضب، وأمتنع عن مقابلة الناس هربا من إيفاء الوعود، أو أتمارض وأحتجب عن الأنظار.
وآخرا لما أتعب من هذه الأعمال المضنية وهذا التصنع المقلق للبال، الذي لا يتعبون هم منه، آخذ لي منهم معينا وأسميه «كاخيه الباشا»، وأجعله واسطة بيني وبين الشعب من جميع الطبقات، فهو الذي يستلم الرشوة، وهو الذي يعزل ويوظف، ويصبح هو المسئول عن كل شيء، وبالاختصار هو القاضي الماضي، فأرتاح أنا من جميع أعمالي فائزا بالغنيمة.
أما الوشايات التي يستعملونها ضد بعضهم فحدث عنها ولا حرج، قد تصلني مكاتيب غفل كلها قذف وطعن وفضح أسرار بعضهم بعضا، هذا عدا عما أسمعه في أذني، وقد صرت أخيرا لا أصدق أحدا ولا أكذب أحدا، أسمع الكلمة من هذه الأذن وتخرج من الأذن الثانية.
وما كنت أعتبر من اللبنانيين إلا المتنحين عن الوظائف، فهؤلاء قد كان لي منهم بعض الأصدقاء، أقضي معهم أوقاتا طويلة للإفادة والاستفادة، وكنت أرى فيهم عفة نفس وحب الاستقلال الذاتي، وأدبا ومعرفة، إلا أن التنغص كان مالئا أفئدتهم، والتذمر ظاهرا على وجوههم، من كثرة ما يرونه من الحيف والظلم والفساد في الأحكام، ولكن يا للأسف فإن مثل هؤلاء قليلون في لبنان.
অজানা পৃষ্ঠা