عند إدراكه للعدالة القاسية في ذلك القول انهار جيمي ماكفارلين على الأريكة، واستلقى على الوسادة، ولم يحسب الوقت الذي مر عليه مستلقيا هناك. كل ما أدركه أن الأصوات ظلت تتصاعد من النافذة وأن الرجال كان يتخذ بشأنهم القرارات، حيث ترسل الحالات الميئوس منها إلى ما بدا له مكان بلا أمل، وأما الذين لديهم فرصة فقد كانوا يمنحون أفضل فرصة للتعافي. وكان ذلك عدلا؛ كان ذلك إنصافا. لكن نظرا إلى كونه اسكتلندي الأصل، ولد مع روح القتال تجري في دمائه، وحب أبدي وطيد للجبال والنجوم والسماء والبحر وأبناء جلدته؛ فقد قرر ألا يصير تابعا لأي رجل أو حكومة بعد الآن. لقد كان وحيدا ومنبوذا. لكنه سيصبح سيد قراره. إن كان لا بد أن يموت، فلماذا يموت في كامب كيرني حيث ينخر في صدر كل من الرجال الهالكين أفظع الأوبئة التي فتكت بالبشرية؟ من دون أن يستغرق وقتا للتأمل الواعي، من دون أي استعداد على الإطلاق، نهض جيمس لويس ماكفارلين وتشبث بحافة النافذة بيد، وبالأخرى استمسك بذراع الأريكة، وتمكن من حمل نفسه على الوقوف. عاد أدراجه هابطا إلى الطريق، وهناك اتجه يمينا، بحيث أصبح يواجه اتجاه الشمال، وبخطوات وئيدة حذرة، بدأ مغامرته الكبرى.
الفصل الثاني
المغامرة الكبرى
قد تكون المغامرة الكبرى لأحد الرجال هي صيد أفراس النهر البيضاء في أفريقيا، ولرجل آخر هي السيطرة على روحه لمدة ساعة. أما لجيمي ماكفارلين، فبعد سنوات من تلقي الأوامر باستمرار من ضباط أعلى رتبة، كان ثمة شيء مثير في أن يتخذ موقفا مستقلا ويقرر لنفسه لأول مرة إذا ما كان سيسعى وراء حظه شمالا أو جنوبا. فلماذا قرر الذهاب شمالا، هو شيء لم يدر له سببا على الإطلاق، لكن ربما كان السبب أن الطريق المؤدي لتلك الوجهة كان ينحدر إلى أسفل، وهو قد وجد أن صعود الجبل أكثر مما يسعه احتماله. لذلك بدأ المسير باتجاه الشمال على الطريق المنحدر. ومن ثم سار ببطء شديد، وظل يتطلع إلى السماء والأشجار، وبدا له أن بساتين البرتقال المزدهرة التي مر بها والليمون والبشملة كان عطرها أهدأ، وأن الهواء قد صار منعشا أكثر. بدأ يتساءل إذا ما كان بإمكانه مطلقا الوصول إلى البحر، وإن كانت قد تهب عليه رائحة ملح قوية في الهواء، وإن كان سيجدها منعشة. التقط عصا من جانب الطريق واستخدمها عكازا ليتكئ عليه. بعد برهة بلغ مفترق طرق وهناك توقف موجها اهتمامه لتفحص كل من الاتجاهات الثلاثة، التي قد يسلك منها واحدا إن وقع عليه اختياره. لقد كان يخوض مغامرة مثيرة بحق!
بينما هو واقف هناك أقبلت سيارة من الشرق، ولما لاحظ السائق الزي الرسمي لجيمي، ووجهه ويديه الهزيلتين، توقف، مثلما يتوقف كل السائقين في تلك الأيام، وهو ما كان جيمي وحده لا يعلمه، نظرا إلى احتجازه في المستشفيات، وسأله إذا كان يبتغي الركوب. كانت السيارة متجهة شمالا، فقال جيمي إنه يسره للغاية أن يركب. وهكذا تصادف أن حملته السيارة بعيدا عن منطقة المستشفى؛ لذا حين لاحظوا غيابه فعلا وأرسلت الممرضات للخارج للبحث عنه، كان هو على بعد مائة ميل متجها شمالا بسرعة ظلت تزيد أكثر فأكثر، ليحرز جيمي تقدما عظيما في مغامرته الكبرى.
راق له الطريق المؤدي إلى الشمال. راق له كثيرا حتى إنه حين أخبره السائق أخيرا أنه سيتجه غربا في مفترق الطرق التالي، حيث لديه أعمال في أحد المدن الكبرى، ارتأى جيمي أنه لما كان من المحتمل لرجل يرتدي الزي الرسمي أن يبحث عنه مسئولو الحكومة فمن الأفضل له أن يبقى في الريف؛ لذلك خرج من السيارة وسار ببطء نحو الشمال.
في استراحة اضطر إليها، بدأ يدرك أن الليل قد اقترب وأنه كان جائعا. لم يكن لديه ولو سنت واحد في جيوبه، وكان الاستلقاء على الأرض في برد ليل كاليفورنيا من الممكن أن يقضي عليه في أسرع وقت. وهنا أدرك أنه من الجائز جدا أن يكون الموت هو المغامرة الكبرى التي يسعى إليها، وأنه بتوليه زمام مصيره وخروجه من المستشفى بعيدا عن المؤن التي كانت توفرها له الحكومة، سوف ينهك نفسه حثيثا حتى يبلغ المرحلة التي تنتهي فيها مشكلاته بأسرع طريقة. ظل بضع دقائق يتساءل ما إن كانت مشكلاته سوف تنتهي أم أنها قد بدأت للتو؛ إذ إن الاسكتلنديين لديهم طريقة في الوعظ بشأن الجحيم والنار وعذاب الآخرة؛ ونظرا إلى أنه شارك في آخر الحروب العالمية، فقد كان جيمي ماكفارلين أكثر علما بالجحيم من أي قس اسكتلندي وصفه من منبره، ونظرا إلى أنه ظل يحمل جرحا مفتوحا في صدره طوال عامين، فلم يكن بإمكان أحد أن يحدثه عن النار، فحتى الكبريت الذي في الينابيع لم ينفع معه.
هكذا مضى في عتمة المساء حتى لم يعد قادرا على الاستمرار؛ فجلس على جلمود مريح كبير دافئ على جانب الطريق، وجلس القرفصاء، وانتظر ليرى ما سيحدث. فحدث الشيء نفسه الذي كان يجدر به أن يتوقعه، لو كان يعيش قبل ذلك بين رجال أصحاء. إذ جاءت سيارة أخرى، ولما لاحظ مالكها شحوبه وزيه الرسمي، ولما كان لديه مقعد شاغر؛ فقد توقف، وسئل جيمي مرة أخرى إن كان يريد الركوب. «رائع!» قال جيمي لنفسه. «ربما لن يصبح الأمر في غاية السوء رغم كل شيء.»
نظر إلى السيارة التي كانت محملة حتى الدواسات الجانبية بمعدات التخييم. استطاع أن يرى المفارش الملفوفة، واستطاع أن يشم رائحة الطعام. كان الرجل ذا وجه سمح، والفتاة الجالسة على المقعد بجانبه صغيرة وجميلة. أما السيدة التي دعي لمشاركتها المقعد الخلفي فقد دل مظهرها على أنها الأم. كان وجهها المستدير قويا وجذابا، وتحت تأثيره، اضطر جيمي إلى الكذب. إذ قال إنه قد غادر المستشفى لتوه حيث أقام طوال عام. وأعطاهم الانطباع بأن الأطباء قد سمحوا له بالخروج. لم يقل إنه هو من أعطى نفسه حق الخروج، وإنه كان هاربا. لكنه قال إنه يبحث عن عمل وإنه سيسره كثيرا الركوب معهم حتى يصل إلى موقع يقدم شيئا مبشرا للرجال الذين سرحوا مؤخرا من الجيش وأعياهم المرض.
قال السائق إنه يدعى ويليام برونسون من ولاية آيوا، وكان هو وزوجته وابنته يتجولون في كاليفورنيا بسيارتهم أثناء الشتاء، لكنهم الآن متجهون إلى الجزء الشمالي من الولاية لزيارة أصدقاء حتى يحين وقت العودة إلى الديار؛ إذ لا بد أن يصلوا إلى ألبيون في الوقت المناسب لزراعة المحاصيل.
অজানা পৃষ্ঠা