1 - سيد قراره
2 - المغامرة الكبرى
3 - سيد النحل
4 - في حديقة النحل
5 - الكشافة الصغير
6 - «ماذا أفعل، يا إلهي؟»
7 - سيدة العاصفة
8 - زفاف من نوع جديد
9 - فيتامينات وكشافة
10 - إنها إرادة الخالق
11 - عبير روح وزهرة
12 - رؤية ما وراء الحجب
13 - مربي النحل
14 - معجزة بشرية
15 - حصاد العاصفة
16 - طفل الشراكة
17 - الدخيلة
18 - الكشافة الصغير يستعد للحرب
19 - مسئولية الصديق
20 - تمرد الكشافة
21 - ثم تأتي رؤية
22 - الكذبة النبيلة
23 - ما زالت المغامرة مستمرة
1 - سيد قراره
2 - المغامرة الكبرى
3 - سيد النحل
4 - في حديقة النحل
5 - الكشافة الصغير
6 - «ماذا أفعل، يا إلهي؟»
7 - سيدة العاصفة
8 - زفاف من نوع جديد
9 - فيتامينات وكشافة
10 - إنها إرادة الخالق
11 - عبير روح وزهرة
12 - رؤية ما وراء الحجب
13 - مربي النحل
14 - معجزة بشرية
15 - حصاد العاصفة
16 - طفل الشراكة
17 - الدخيلة
18 - الكشافة الصغير يستعد للحرب
19 - مسئولية الصديق
20 - تمرد الكشافة
21 - ثم تأتي رؤية
22 - الكذبة النبيلة
23 - ما زالت المغامرة مستمرة
مربي النحل
مربي النحل
تأليف
جين ستراتون بورتر
ترجمة
دينا عادل غراب
مراجعة
محمد يحيى
إلى جين الصغيرة التي أوحت لي بشخصية الكشافة الصغير.
الفصل الأول
سيد قراره
«جيمس لويس ماكفارلين.»
أنزل صاحب هذا الاسم قدميه على الأرض وجلس منتصبا فجأة، محيطا ركبتيه بيديه الكبيرتين حتى يتوازن. كان طوال الساعة الماضية، يصغي بين فترات من النعاس شبه الواعي، إلى الحكم الذي يتلوه رجال في موقع المسئولية على الرجال الذين يملكون زمام مصائرهم في أياديهم، لكن لم يرق له أن تعرض حالته هو عليهم للبت فيها.
لقد جلس في ذلك الصباح طوال ساعة تحت أشعة الشمس أمام مبنى المستشفى الضخم حيث يحاول بلدنا علاج الرجال الذين كانوا بالخارج للمشاركة في الحرب. وأدرك مؤخرا أنه في معركته لاستعادة عافيته يشن حربا خاسرة. إذ لم يستطع التغلب على الجرح الناجم عن إصابته بشظايا في الجزء الأيسر من صدره بالنجاح نفسه الذي حارب به العدو. لذلك عزم على اختبار قوته. فنهض ونزل إلى الطريق ليعرف إلى أين قد تحمله ساقاه على وجه التحديد. لكنه نسي أن يضع في حسبانه أن نزول الجبل أسهل كثيرا من صعوده؛ ومن ثم واصل السير حتى بدأت ركبتاه تخوران ووجد أن طاقته قد استنفدت. فاستراح بعض الوقت ثم استدار عائدا، لكن كانت رحلة الصعود بطيئة الوتيرة، بذل خلالها مجهودا مؤلما؛ مجهودا جعل العرق البارد يسيل منه والنار المتأججة تشتعل في صدره الأيسر، فيما صارت الأربطة المحيطة بكتفيه وحول جسده أدوات لتعذيبه. وظلت شمس كاليفورنيا الحارة مسلطة عليه حتى تقطعت أنفاسه. فاضطر مرارا إلى أن يتوقف ويلتمس مكانا للاستراحة على أي صخرة ناتئة أو رصيف جاف على جانب الجبل. وقد أنهكت عيناه المتعبتان من مشهد الألوان المبهرة الذي امتد محيطا به من كل جانب؛ فهناك اللون الأخضر لأشجار البلوط الحي ونباتات البهشية الزاهية، واللون الأبيض المخالط للزهري لزهور أشجار المانزانيتا المتخذة شكل الجرار، والمخمل المائل إلى اللون الأرجواني لنبات المريمية، والأزرق الأرجواني لزهور المريمية الشوكية بنسيجها الرقيق المتكتل. الأشياء الوحيدة التي رآها كانت رءوس نبات المحارب الهندي المتواترة، وقد لفتت نظره لأنها كانت مثل الجروح على الأرض، في حمرة الدم الحقيقي، في حمرة الدم الذي أغرق العديد من ساحات المعارك، الذي سال في عدة مستشفيات، الذي يراه كل يوم في الضمادات التي تزال من جانبه.
لقد رأى دماء كثيرة جدا لدرجة أن رؤية أي شيء يذكره بها أصبح يثير غثيانه؛ لذلك فقد تولى عن الزهور البديعة التي تصبغ جانب الجبل بشغف، وارتفع ببصره إلى زرقة السماء. لكن النظر إلى السماء لم يزد سوى أن جعل المسار الوعر الذي عليه سلوكه أكثر جلاء. هنا خطر له فقرة كان يسمع أباه يقرؤها من منبره في صباح أيام السبت بتفخيم حرف الراء المعهود لدى الاسكتلنديين الذي لم يمحه بقاؤه عمرا في بلدنا: «أرفع عيني إلى الجبال، من حيث يأتي عوني.»
راح يرفع عينيه إلى التلال والجبال لكن لم يأته أي عون. فتساءل إذا ما كان السبب أنه يطيع أوامر رجال آخرين، أم لأنه قد نسي الله. لقد علمه أبوه وأمه في طفولته أن يصلي ويؤمن بأن صلواته ستلبى. لكنه حين سافر لخدمة بلده، توقف عن الصلاة لسبب ما يتعذر تفسيره وركز كل قواه في القتال . فقد ارتكبت فظائع في حق رجال من عرقه ودمه في بداية الحرب دفعت كل الرجال الاسكتلنديي الأصل والميول إلى الجموح بعض الشيء.
لقد شارك في الحرب وهو واحد من أكثر الرجال تهذيبا. لكنه انبرى للمجازفة، التي كان رجال آخرون من بلدنا بأصولهم المختلفة يشعرون بأنها ستحرر العالم من الطغيان، بينما يعتمل في صدره غضب، وشعور يتشاطره كل الرجال من سلالة شعبه وبلدهم. فقد ألم بفرقة معينة من الاسكتلنديين أشياء، لا يمكن لرجل تسري في عروقه قطرة دم اسكتلندي أن ينساها مطلقا وإن أراد. تحت وطأة هذا الشعور، نسي الشاب، الذي كانت أمه دائما ما تشير إليه بحب قائلة: «عزيزي جيمي»، التعاليم والدين الذي ربته عليه، وسافر ليرى كم يستطيع أن يشفي غليله الشخصي من الرجال الذين جرحوا قلب اسكتلندا بأسرها جرحا أعمق مما تستدعي مقتضيات حرب عادية أن تحدثه في قلب أمة.
لقد ذهب للثأر وانتقم أشد الانتقام من أكثر من عدو، ثم حانت الساعة التي دخلت فيها صدره شظية مسننة من الحديد المغطى بالوسخ وسممت دمه. وبعد أسابيع على الحدود، عاد يجرجر قدميه، وهو يحمل الآن جرحين لن يندملا؛ أحدهما في قلبه لا يستطيع الناس رؤيته، والآخر في صدره ظل الأطباء والممرضات يطببونه دون جدوى.
حين حسم قرار عدم إمكانية عودته إلى الخدمة أعيد إلى الوطن. هنا أضيف جرح آخر للجرحين الغائرين بالفعل اللذين كانا يعذبانه. إذ إنه خلال سنوات غيابه الثلاث، قضت الأم الضعيفة الضئيلة نحبها، متأثرة بخوفها وقلقها على ابنها الوحيد، فلم يصمد طويلا أبوه، الذي كان دائما ما يعتمد عليها، ولحق بها. وبيع بيتهما الصغير لسداد نفقات مثواهما الأخير، فلم يبق في هذا العالم بأسره شيء يعود له؛ لا قريب ولا بيت. حتى أصدقاؤه تفرقوا ولم يكن أمامه سوى أن يظل تحت وصاية الحكومة حتى يحين الوقت الذي يعلن فيه بأهليته أن يبدأ حياة لنفسه مجددا.
تقديرا لخدمته الشجاعة، التي دل عليها زوجان من الميداليات وشارة ثبتت فوق الجرح الذي حمله؛ أرسل إلى كاليفورنيا، حيث كان من المأمول أن تأتي الشمس الساطعة، والفاكهة، وهواء المحيط النقي، والصيف الدائم للأرض الطيبة، بالشفاء الذي فشل الأطباء في أن يأتوا به. لقد منح نعيم أفضل مكان يمكن أن يرسل إليه رجل في حالته. المنتجع الجبلي، أروهيد سبرينجز - القابع عاليا فوق جبل تغطيه خضرة كل الأشجار والشجيرات والكروم المحلية، حيث الهواء معبق برائحة الزهور ومفعم بشدو الطيور - كانت الحكومة قد أخذته وجعلته مستشفى كبيرا، ويرجع سبب اتخاذ الموقع في هذه النقطة إلى أن الطبيعة قد أخرجت للسطح جدولا من الماء الساخن لدرجة الغليان، ماء شديد السخونة حتى إنه لا يمكن أن تمد فيها يدا، ماء يغلي آت من مغارة سفلية حيث النيران التي لا تخمد لا تزال تضطرم في قلب الأرض بالغة أقصى درجات التوهج، وتنبثق الينابيع وهي تفوح برائحة الكبريت والعديد من المواد الكيميائية، وبحرارة لا تتغير عاما تلو الآخر. كانت الينابيع تضخ إلى المستشفى، حيث توجه جميع خصائصها الطبية إلى الرجال الذين، مثل جيمي ماكفارلين، يجب علاجهم من جروح عنيدة قبل أن يستطيعوا العودة إلى ديارهم ليقوموا بمهام الرجال في شئون بلدنا.
تدفق العرق على وجنتيه وهو يصعد الجبل بمشقة في ذلك الصباح. وبينما كانت ركبتاه تصطكان ويداه البيضاوان تتشبثان بأي شجرة أو شجيرة يمكن أن يستند إليها، أخذ جيمس ماكفارلين يفكر. كان يفكر سريعا وعميقا. وتساءل، ما دام قضاء عام في ينابيع المياه المعدنية الساخنة هذه لم يعد عليه بأي منفعة على الإطلاق، فهل سيحقق عام آخر ما فشل فيه العام الأول. كما تساءل هل صار أكثر ضعفا وتدهورا عما كان عليه منذ عام. تساءل حتى متى تبقيه الحكومة في هذه الينابيع رغم أن مياهها لم تعد عليه بأي فائدة. كان على علم بكل الشكاوى المرة المترددة في أنحاء البلد من أولئك المسئولين عن رعاية جنودنا العائدين. كان على علم بالإجراءات الحكومية المعقدة، والفساد، والبطء في حصول الجنود المصابين على العلاج الذي يحتاجون إليه والذي لا بد أن يمنح لهم بالسرعة نفسها التي أرغموا بها على أن يبدءوا مغامرتهم الخطيرة. كان يعلم أن ثمة ألما مضنيا في قلب كل رجل مصاب تقريبا حيال هذا الأمر. بل كان ثمة ألم مضن في قلبه هو. لقد مضت أسابيع عديدة عبثا. مضت شهور عديدة قبل اتخاذ قرار بشأن ما سيفعل وكيف سيفعل، وأين سيفعل. أشياء كثيرة جدا لم تأخذ حقها من التقدير، وأشياء قليلة جدا أنجزت بكفاءة منذ أعلن السلام.
في اللحظات التي يضطر فيها إلى الاستراحة، كان يظل رافعا عينيه إلى السماء. لم يكن يستطيع أن ينظر إلى السماء دون أن ترتقي أفكاره عاليا جدا، وذلك الصباح كادت أحيانا أن تحاذي قاعدة العرش. أدرك أنه سيضحي بأي شيء في العالم لو أمكن له أن يعود إلى المنزل ويجثو عند ركبتي أمه ويضع رأسه على حجرها، وأن يجرب الشيء الذي لم يجربه بعد ذلك التصرف البسيط المهجور، وهو أن يطلب من الله العون الذي لم يستطع الحصول عليه من البشر.
أخيرا وصل إلى النخيل والورود، والبشملة والبرتقال، والمنحدرات المغطاة بالأعناب حيث بدءوا استصلاح الأرض من أجل توفير غذاء لأولئك المقيمين فوق قمة الجبل. تطلع إلى البساتين المحملة بالزهور بنظرة كاد يغشاها النفور. فقد كان من التعب في غاية. وكان الهواء حلوا إلى حد يثير الغثيان معبقا بعبير نفاذ ومقيم. خطر له متبرما أنه سيسر لو استقرت عيناه على بقعة دون أن يعيده وهج أحمر بلون الدم إلى ذكرى مؤلمة؛ إذ كان يتقد لهيب اللون الأحمر لزهور المحارب الهندي باستمرار حول صخور سفح الجبل، قرب مواقع الزراعة حيث امتدت جذور كل شجرة من الأشجار. وأخيرا صعد الدرب متثاقلا وصعد الدرجات الأمامية، حيث فعل شيئا لم يكن معتادا.
كانت كل الأراضي والشرفات الجانبية متاحة للرجال، لكن لم يكن مسموحا للجنود المعاقين بالاستلقاء على الأرائك الخيزرانية قرب أبواب المدخل الكبير. وتصادف وجود أريكة تحت نافذة عريضة على أحد جانبي المدخل اعتبرها ملائمة كمكان للراحة. ألقى نظرة خاطفة على عدة سيارات لم يتعرف عليها أثناء صعوده الدرجات، ثم اتجه مباشرة إلى الأريكة وتمدد عليها ، حيث استلقى بعض الوقت غير واع بما كان يدور حوله.
وبينما هو يحصل على بعض الراحة، كانت الأصوات القادمة من داخل النافذة مجرد أصوات، وبعد ذلك، حين هدأ قلبه وانحسر الألم الذي في جنبه واسترخت أطرافه المتعبة، أدرك أنه كان يتلى اسم تلو الآخر من قائمة، وأن كل اسم يمثل رجلا تناقش حالته وبناء عليها يقرر مصيره في نهاية المطاف. لكنه لم يدرك أنه مع الانتهاء من الذين تبدأ أسماؤهم بحروف الجيم والكاف واللام سيبدأ حرف الميم على الفور. لقد أقام في هذه المستشفى طويلا جدا؛ حتى أصبح يألف للغاية حجرته، والممرضات، والنظام، والرجال الذين تعرف عليهم، لدرجة أن المكان قد صار بمثابة بيته، البيت الوحيد الذي تبقى له في العالم. كان الكل طيبا معه. فهو لم يجد عيبا في الأطباء ولا الممرضات. لقد بذلوا ما في وسعهم، وبذل هو ما في وسعه؛ لكن ظلت الحقيقة أنه لم يتحسن، حتى إنه قد ثارت مؤخرا شكوك عما إذا كان على الحال نفسها منذ جاء. وعندئذ، بكل ما تسببه ضربة غير متوقعة من تأثير مفاجئ، سمع اسمه يذكر بوضوح، بتلك النبرة الباردة، المجردة التي يتحدث بها رجال أعمال يبرمون صفقة تجارية متطلعين فقط لأكبر فائدة لأكبر عدد. لم يذكر أنه قد سمع اسمه ينطق بتلك النبرات تحديدا قبل ذلك. وقد جعله هذا يشعر كأنه ليس بشرا، وإنما مجرد شيء. ثم أدرك أن الموضوع الجاري مناقشته هو التخلص من ذلك الشيء المحدد. سمع موقع تجنيده، وخدمته في الحرب، ومكافآته، ووصفا لإصاباته وهي تتلى بنبرة رتيبة جعلته يدرك أنها تتلى من سجل ما، ثم تساءل صوت أكثر نشاطا قائلا: «كم مكث ماكفارلين هنا؟»
فجاءته الإجابة: «أكثر من عام بقليل.»
ثم كان السؤال: «هل أفادته الينابيع بأي شيء؟ هل صار أفضل حالا؟»
فكانت الإجابة: «ليس كثيرا. إن جرحه عنيد؛ فهو يأبى الالتئام رغم كل ما نفعله.»
كان العرق الذي تصببه جيمي في معافرته قد جف على جسده، لكنه تدفق مرة أخرى مع السؤال التالي: «هل هو مصاب بمرض السل؟»
فكانت الإجابة: «لا. ليس بعد. لكنه في حالة تجعله عرضة للإصابة بالسل في أي لحظة. فهي بمثابة تربة خصبة تماما لنمو المرض.»
جلس جيمي ماكفارلين قابضا على ركبتيه وهو يلعق شفتيه الجافتين في انتظار سماع القرار. وقد جاء في كلمات قليلة. «أرسلوه إلى كامب كيرني.»
طوال دقيقة ظلت حمرة زهور المحارب الهندي تتوهج أمام عيني الرجل المنصت حتى لم يعد يرى شيئا سوى اللون الأحمر. طوال دقيقة ظل الغضب العارم يعتمل داخله في احتجاج مضطرم. لقد سمعهم يقولون إنه ليس مصابا بالسل، لكنه معرض بشدة للمرض المريع. وها هم يخططون لإرساله إلى مكان كل من فيه إما مصاب بالوباء، أو كان قاب قوسين من الإصابة به حتى إنه أرسل ليصبح عرضة للعدوى به، كما اقترح في حالته. هذا ليس عدلا! هذا ليس إنصافا! لقد تطوع في الجيش مبكرا ومتحمسا. لم يكن ممن استدعوا للتجنيد. وقد حارب بأقصى طاقته. وقبل كل ما واجهه دون شكوى. وتشهد الميداليات التي يرتديها بجسارته. كان سيدخل الحجرة ويخبر أولئك الأطباء برأيه فيهم وفي قرارهم القاسي.
حاول أن ينهض فوجد أنه أوهن من أن يقف على قدميه، ثم سمع الطبيب الذي تلا الأسماء وهو يعرب عن شكوى بالنيابة عنه: «أشعر أنه ليس من العدل مطلقا أن نرسل رجلا حقق إنجازات رائعة مثل ماكفارلين وهو في حالته الضعيفة تلك إلى البؤرة المعروفة بأنها منفى للمصابين بمرض السل.»
أجابه الصوت الآخر: «إذا لم يجعله قضاء عام هنا في حال أفضل، فلماذا نتوقع أن يفعل ذلك عام آخر، كل ما سنحصل عليه هو أنه سيشغل مكان ذي حالة بدنية أفضل كان سيأتي ويتعافى إن تسنت له الفرصة مثل ماكفارلين؟»
عند إدراكه للعدالة القاسية في ذلك القول انهار جيمي ماكفارلين على الأريكة، واستلقى على الوسادة، ولم يحسب الوقت الذي مر عليه مستلقيا هناك. كل ما أدركه أن الأصوات ظلت تتصاعد من النافذة وأن الرجال كان يتخذ بشأنهم القرارات، حيث ترسل الحالات الميئوس منها إلى ما بدا له مكان بلا أمل، وأما الذين لديهم فرصة فقد كانوا يمنحون أفضل فرصة للتعافي. وكان ذلك عدلا؛ كان ذلك إنصافا. لكن نظرا إلى كونه اسكتلندي الأصل، ولد مع روح القتال تجري في دمائه، وحب أبدي وطيد للجبال والنجوم والسماء والبحر وأبناء جلدته؛ فقد قرر ألا يصير تابعا لأي رجل أو حكومة بعد الآن. لقد كان وحيدا ومنبوذا. لكنه سيصبح سيد قراره. إن كان لا بد أن يموت، فلماذا يموت في كامب كيرني حيث ينخر في صدر كل من الرجال الهالكين أفظع الأوبئة التي فتكت بالبشرية؟ من دون أن يستغرق وقتا للتأمل الواعي، من دون أي استعداد على الإطلاق، نهض جيمس لويس ماكفارلين وتشبث بحافة النافذة بيد، وبالأخرى استمسك بذراع الأريكة، وتمكن من حمل نفسه على الوقوف. عاد أدراجه هابطا إلى الطريق، وهناك اتجه يمينا، بحيث أصبح يواجه اتجاه الشمال، وبخطوات وئيدة حذرة، بدأ مغامرته الكبرى.
الفصل الثاني
المغامرة الكبرى
قد تكون المغامرة الكبرى لأحد الرجال هي صيد أفراس النهر البيضاء في أفريقيا، ولرجل آخر هي السيطرة على روحه لمدة ساعة. أما لجيمي ماكفارلين، فبعد سنوات من تلقي الأوامر باستمرار من ضباط أعلى رتبة، كان ثمة شيء مثير في أن يتخذ موقفا مستقلا ويقرر لنفسه لأول مرة إذا ما كان سيسعى وراء حظه شمالا أو جنوبا. فلماذا قرر الذهاب شمالا، هو شيء لم يدر له سببا على الإطلاق، لكن ربما كان السبب أن الطريق المؤدي لتلك الوجهة كان ينحدر إلى أسفل، وهو قد وجد أن صعود الجبل أكثر مما يسعه احتماله. لذلك بدأ المسير باتجاه الشمال على الطريق المنحدر. ومن ثم سار ببطء شديد، وظل يتطلع إلى السماء والأشجار، وبدا له أن بساتين البرتقال المزدهرة التي مر بها والليمون والبشملة كان عطرها أهدأ، وأن الهواء قد صار منعشا أكثر. بدأ يتساءل إذا ما كان بإمكانه مطلقا الوصول إلى البحر، وإن كانت قد تهب عليه رائحة ملح قوية في الهواء، وإن كان سيجدها منعشة. التقط عصا من جانب الطريق واستخدمها عكازا ليتكئ عليه. بعد برهة بلغ مفترق طرق وهناك توقف موجها اهتمامه لتفحص كل من الاتجاهات الثلاثة، التي قد يسلك منها واحدا إن وقع عليه اختياره. لقد كان يخوض مغامرة مثيرة بحق!
بينما هو واقف هناك أقبلت سيارة من الشرق، ولما لاحظ السائق الزي الرسمي لجيمي، ووجهه ويديه الهزيلتين، توقف، مثلما يتوقف كل السائقين في تلك الأيام، وهو ما كان جيمي وحده لا يعلمه، نظرا إلى احتجازه في المستشفيات، وسأله إذا كان يبتغي الركوب. كانت السيارة متجهة شمالا، فقال جيمي إنه يسره للغاية أن يركب. وهكذا تصادف أن حملته السيارة بعيدا عن منطقة المستشفى؛ لذا حين لاحظوا غيابه فعلا وأرسلت الممرضات للخارج للبحث عنه، كان هو على بعد مائة ميل متجها شمالا بسرعة ظلت تزيد أكثر فأكثر، ليحرز جيمي تقدما عظيما في مغامرته الكبرى.
راق له الطريق المؤدي إلى الشمال. راق له كثيرا حتى إنه حين أخبره السائق أخيرا أنه سيتجه غربا في مفترق الطرق التالي، حيث لديه أعمال في أحد المدن الكبرى، ارتأى جيمي أنه لما كان من المحتمل لرجل يرتدي الزي الرسمي أن يبحث عنه مسئولو الحكومة فمن الأفضل له أن يبقى في الريف؛ لذلك خرج من السيارة وسار ببطء نحو الشمال.
في استراحة اضطر إليها، بدأ يدرك أن الليل قد اقترب وأنه كان جائعا. لم يكن لديه ولو سنت واحد في جيوبه، وكان الاستلقاء على الأرض في برد ليل كاليفورنيا من الممكن أن يقضي عليه في أسرع وقت. وهنا أدرك أنه من الجائز جدا أن يكون الموت هو المغامرة الكبرى التي يسعى إليها، وأنه بتوليه زمام مصيره وخروجه من المستشفى بعيدا عن المؤن التي كانت توفرها له الحكومة، سوف ينهك نفسه حثيثا حتى يبلغ المرحلة التي تنتهي فيها مشكلاته بأسرع طريقة. ظل بضع دقائق يتساءل ما إن كانت مشكلاته سوف تنتهي أم أنها قد بدأت للتو؛ إذ إن الاسكتلنديين لديهم طريقة في الوعظ بشأن الجحيم والنار وعذاب الآخرة؛ ونظرا إلى أنه شارك في آخر الحروب العالمية، فقد كان جيمي ماكفارلين أكثر علما بالجحيم من أي قس اسكتلندي وصفه من منبره، ونظرا إلى أنه ظل يحمل جرحا مفتوحا في صدره طوال عامين، فلم يكن بإمكان أحد أن يحدثه عن النار، فحتى الكبريت الذي في الينابيع لم ينفع معه.
هكذا مضى في عتمة المساء حتى لم يعد قادرا على الاستمرار؛ فجلس على جلمود مريح كبير دافئ على جانب الطريق، وجلس القرفصاء، وانتظر ليرى ما سيحدث. فحدث الشيء نفسه الذي كان يجدر به أن يتوقعه، لو كان يعيش قبل ذلك بين رجال أصحاء. إذ جاءت سيارة أخرى، ولما لاحظ مالكها شحوبه وزيه الرسمي، ولما كان لديه مقعد شاغر؛ فقد توقف، وسئل جيمي مرة أخرى إن كان يريد الركوب. «رائع!» قال جيمي لنفسه. «ربما لن يصبح الأمر في غاية السوء رغم كل شيء.»
نظر إلى السيارة التي كانت محملة حتى الدواسات الجانبية بمعدات التخييم. استطاع أن يرى المفارش الملفوفة، واستطاع أن يشم رائحة الطعام. كان الرجل ذا وجه سمح، والفتاة الجالسة على المقعد بجانبه صغيرة وجميلة. أما السيدة التي دعي لمشاركتها المقعد الخلفي فقد دل مظهرها على أنها الأم. كان وجهها المستدير قويا وجذابا، وتحت تأثيره، اضطر جيمي إلى الكذب. إذ قال إنه قد غادر المستشفى لتوه حيث أقام طوال عام. وأعطاهم الانطباع بأن الأطباء قد سمحوا له بالخروج. لم يقل إنه هو من أعطى نفسه حق الخروج، وإنه كان هاربا. لكنه قال إنه يبحث عن عمل وإنه سيسره كثيرا الركوب معهم حتى يصل إلى موقع يقدم شيئا مبشرا للرجال الذين سرحوا مؤخرا من الجيش وأعياهم المرض.
قال السائق إنه يدعى ويليام برونسون من ولاية آيوا، وكان هو وزوجته وابنته يتجولون في كاليفورنيا بسيارتهم أثناء الشتاء، لكنهم الآن متجهون إلى الجزء الشمالي من الولاية لزيارة أصدقاء حتى يحين وقت العودة إلى الديار؛ إذ لا بد أن يصلوا إلى ألبيون في الوقت المناسب لزراعة المحاصيل.
وخوفا من أن يذيع أمره وهو ما زال في بداية مغامرته الكبرى، فقد أغفل جيمي ذكر اسمه، لكنه قال إنه يسعده للغاية الاستمرار في الركوب معهم ما داموا ماضين في وجهته.
كان مسرورا بالركوب، لكن ليس بقدر سعادته حين توقفت السيارة ونصب مخيم عند مدخل أحد الأودية بجوار الطريق. تمنى ألا يلاحظ أحد أنه يترنح في سيره أو كم أخذ يلهث حين حاول المساعدة في إنزال حمولة السيارة. كان عليه توخي الحذر لأن الشيء الهام الذي جعله من الامتنان في غاية قد حدث. ومن ثم نظر فقط نحو التلال. ولم يكن قد خطر له سوى أن يطلب العون من الله. وتساءل نوعا ما إن كان ربما من المحتمل أن الله ينظر إليه في تلك اللحظة، إن كان قد رأى حاجته، إن كان قد أرسل هؤلاء الناس الطيبين المؤنسين الذين قدموا له غداء، ومرتبة مخيم لقضاء الليل، وتوصيلة في رحلته خلال اليوم التالي. فقد كان أمرا جللا. وهكذا تظاهر بقدر ما استطاع بأنه رجل معافى وبكامل صحته وهو يجمع الحطب لإشعال النار ليلا، ويبحث عن مكان ليفرشوا فيه مراتب المخيم ويلتمسوا الراحة. وقد راوده شعور أنه لا يستحق ذلك الشيء الذي يحدث له. لقد راح يتساءل إن كان سيضطر إلى الزحف بين الشجيرات مثل كلب ضرب بالسوط حتى يجد ملاذا أكيدا في برودة الليل وإن كان مؤلما. لكن ما يحدث له الآن ليس بالضبط ما قد توقعه. فها هو سيحصل على غداء من طعام ساخن ودثار. ومراعاة لوجهه الشاحب ويديه المرتعشتين؛ سمح له باختيار موقع قريب من نار المخيم، ومن ثم لم يكن هناك سبب يجعله أسوأ حالا في مغامرة اليوم التالي.
كانت آن برونسون شخصية مرحة. وهي ممن يأنس بصحبتها الكل. وقد راحت تنادي جيمي «أيها السيد الجندي»، وحين رأت كم كان شديد الشحوب ومضطرب الخطوات، أشفقت عليه وأعطته مقعدا وجعلته يقشر البطاطا، بينما تركت ابنتها وزوجها يتوليان مهام إتمام المخيم الأشد مشقة.
حين مضى في سبيله هابطا الدرب من المستشفى إلى الطريق، خطر لجيمي ماكفارلين أن خروج رجل في حالته من المأوى الوحيد المكفول له على وجه الأرض من دون قرش في جيوبه كان مغامرة كبرى. وبينما هو جالس يقشر البطاطا من أجل آن برونسون في الوقت الذي راحت فيه ابنتها وزوجها يريانه كل الحيل التي يمكن بها إخفاء أشياء داخل وحول جسم سيارة تتسع فقط لخمسة ركاب - من الخزانة الصغيرة المرتبة عند الدواسات الجانبية من أجل الصحون والطعام، والثلاجة الصغيرة، وموقد الغاز ذي الصفيحتين من أجل تسخين القهوة وطهي اللحم والبطاطا، وإمكانية وضع الأشياء في حيز صغير لدرجة مذهلة - خطر على باله أن مغامرته ستكون مؤنسة وعادية، وأن البلد مليء بالناس الطيبين الذين لم ينسوا أبناءهم الجنود. كان هناك أمل ضئيل في أن يجد عملا خفيفا يقوى على القيام به، وفي أن يحدث شيء ما أفضل على الأقل من الانعزال إلى الأبد في مدينة الطاعون الأبيض. وهكذا حاول توخي الحذر بشدة وقشر البطاطا تقشيرا رفيعا وتفحصها كما علمته أمه المدبرة حين كان يساعدها في المطبخ صغيرا. أثناء عمله لم يخطر له احتمال أنه مع كل دقيقة كانت ثمة مغامرة تقترب أكثر فأكثر. لقد اتخذ احتياطه بالجلوس خلف السيارة حتى لا يراه أي مار، وبعد الانتهاء من الغداء وإعداد الأفرشة، ارتفع بعينيه المدربتين على الاستكشاف فرأى ضوءا وامضا بعيدا في الأفق، لكنه كان يهبط ببطء، فقال إنه سوف يذهب في تمشية قصيرة.
ومن ثم ترك عائلة برونسون وسلك طريقه عائدا على مهل وفي هدوء، متوغلا في الوادي بين أجمة أشجار البلوط الأخضر والحي، باحثا عن بقعة يمكنه الخلود فيها للراحة ولو مدة قصيرة، ومراقبة ذلك الضوء الغامض، والانفراد بنفسه ومحاولة التخطيط لليوم التالي. وقد أدرك أن هناك شيئا ضروريا يجب فعله من أجل نجاح عملية هروبه، هو التخلص من زيه الرسمي بأسرع ما يمكن. فإذا لاحظ المسئولون غيابه من المستشفى بالفعل، وإذا وزعوا استدعاء عاما، فسوف يصبح زيه هو الشيء الذي سيفصح عن هويته سريعا. سوف يخضع كل رجل يرتدي زيا رسميا لنظرات متفحصة، وسوف تلاحقه محطات إذاعية واتصالات هاتفية وصحف. لا بد أن يفكر فيما يمكنه فعله وكيف عساه أن يفعله.
وهكذا ارتقى جانب الوادي حتى غاب عنه ضوء المخيم الواقع وراءه والأصوات الآتية منه، وحين وجد نفسه متعبا، جلس في ضوء القمر الأبيض وتطلع ببصره باحثا عن الضوء لكنه اختفى. كان من الحماقة أن يجزع. فعلى ما يبدو كان ذلك أحد الأشخاص ضل السبيل وقد وجدها الآن. لم يدرك أن الصخرة التي جلس عليها كانت متداخلة جدا مع الفروع المتدلية لشجرة بلوط حي مما جعله غير ظاهر. لم يدرك ذلك حتى وجد نفسه، بعد هبوب نسمة خفيفة واحدة على الجبل القائم خلفه، وجها لوجه مع مغامرة عظيمة وبالخطورة التي ترضيه. لم يدرك كم أمضى جالسا يفكر فيما قد يسعه فعله. ما نبهه كان شيئا ما، راح يهبط الأخدود على يمينه، وحين أدام النظر في ذلك الاتجاه، رأى خيال رجل ضخم يخرج من بين الشجيرات ويهم بشق طريقه في حذر، محدثا أقل صوت ممكن، متجها إليه مباشرة.
لما صار الرجل واضحا للعيان ودخل في ضوء القمر الساطع استطاع جيمي رؤية أنه كان طويلا، وعاري الرأس، يرتدي قميصا من دون معطف، وينتعل حذاء برقبة ويرتدي سروالا حتى الركبة. وقد أحاط بخصره حزام سميك مليء بطلقات الخرطوش، وحين استدار ليلقي نظرة على المسار الذي قد قطعه وليصغي السمع، استطاع جيمي ماكفارلين أن يرى المسدس الكبير المعلق على الفخذ اليمنى في متناول يد الرجل. هنا انخفض صوت أنفاسه جدا، وبالهدوء نفسه الذي يسود المناطق المحرمة ظل يتسلل للخلف بين الفروع المتدلية.
السبب الذي يجعل من مغامرة كبرى مغامرة من الأساس هو أن الأشياء التي تحدث بسيطة للغاية وطبيعية للغاية. أما ما يجعلها كبرى فهو مجرد أن الشخص لم يتوقعها، وليس لأنها من الأشياء التي من الممكن أن يتوقعها المرء وهو في كامل وعيه. ظن جيمي أن نزول رجل ضخم بمسدس كبير متجها نحوه قد يشكل مغامرة نوعا ما. وتطور الاحتمال إلى احتمالات كثيرة حين أدرك جيمي بأذنه، وهو الذي له باع طويل في الاستطلاع والزحف على بطنه بين خطوط إطلاق النار، أن ثمة شيئا آخر حيا يتحرك إلى أسفل الجبل على يساره، شيء ينزلق، متوخيا أقصى حذره، ومتجها نحوه ببطء وثقة.
بدت المغامرة خطيرة خطورة تليق بأكثر أفكار جيمي جموحا عن المغامرات حين باعد بين الشجيرات ببطء رجل ثان، ليس بنفس ضخامة الرجل الأول لكنه ضخم أيضا، وقد بدت هيئته أكثر قتامة نظرا إلى أنه يرتدي معطفا وقبعة، وهو يحمل مسدسا قبيحا في يده اليمنى، وخطا نحو الوادي من جهة اليسار قليلا.
حينئذ جلس جيمي فاغرا فاه في حيرة أثناء لقاء هذين الرجلين بناء على إشارة الضوء التي قد رآها، حيث أخبر الرجل الضخم الرجل الآخر أنه قد نزل نحو الطريق ليرى ما وراء الدخان والنار، وأن هناك مجموعة من السائحين، مجرد رجل ضئيل الحجم يستطيعان إلحاق الأذى به لكونه غير مسلح، ويستطيع أي منهما تولي أمره بيد واحدة. بدا في نهاية المطاف أنه من المؤكد وجود بضع مئات من الدولارات في مكان ما مع الرجل، أو إحدى المرأتين، أو في السيارة.
اعتدل الرجل الثاني وقال على مهل: «رجل وامرأتان. هل المرأتان صغيرتان وحسناوان؟»
اندفع كل دم جيمس ماكفارلين إلى رأسه، ثم عاد إلى يديه وقدميه، حيث المكان الأمثل لوجود الدم أثناء العراك. وإذ به لم يعد جنديا مريضا يتكل على عطف الأغراب العابرين. كانت معدته قد تقوتت بالبطاطس واللحم والقهوة والخبز الذي قاسمته إياها آن برونسون الباسمة. كما قد شرب المياه التي أتته بها سوزان الصغيرة المرحة، وغسل وجهه المنهك بها. لم يكن لديه أدنى شك أن النقود التي ستسدد بها نفقات الرحلة كانت في جيب أحد أفراد المجموعة. لقد اكتسبوها بالعمل الشاق في مزرعة. وقد خرجوا في نزهة ترفيهية وهذا يحق لهم، وقد حظوا بوقت ممتع حتى الآن، لكن إن كانوا سيجردون من مالهم، وإن كان ويليام برونسون سوف يضرب حتى يفقد الوعي أو يقتل، وإن كانت المرأتان اللتان عطفتا على جيمي ستتركان تحت رحمة هذين الشخصين الواقفين في الوادي أمام عينيه، فما زال في العالم شيء عظيم الشأن ليفعله، أو حتى يبذل ما تبقى له من عمره محاولا القيام به.
ومن ثم، مثل ثعبان فوق الأحجار، استجمع قواه ومد يده متلمسا قطعة كبيرة من صخرة سائبة، وحين حانت اللحظة الحاسمة عندما اقترب الرجل الضخم من الأصغر حجما ليسمع وصفه لنساء المخيم، عندئذ بهدوء، وقد تستر بفرع البلوط، فعل جيمي ماكفارلين شيئين في الوقت نفسه. مد يده اليمنى إلى المسدس الذي في الجراب على ظهر الرجل الضخم، وبيده اليسرى هشم الصخرة المثلمة مباشرة في وجه الرجل الذي كان لعابه يسيل من وصف فتاة صغيرة رقيقة. حين استدار الرجل الضخم وجد مسدسه وقد أشهر في وجهه، ولم يكن أمامه سوى التراجع رافعا يديه في الهواء كما أمر، بينما نزل جيمي ماكفارلين من فوق الصخرة، وقد شعر بأنه الأطول قامة والأضخم بنيانا، وخلص السلاح من أصابع المجرم الذي راح ينزف وكاد يفقد وعيه. وبعد أن استحوذ على السلاحين، ابتعد جيمي بنفسه عن الرجلين مسافة كافية من أجل سلامته.
ثم قال للرجل الأضخم جثة: «ارم لي حزام الخرطوش وحذاءك وسروالك.» وبخصوص الرجل الأصغر قال له: «اخلع عنه هذا المعطف وارمه لي، وقبعته أيضا.» حين صارت هذه الملابس بحوزته، ظل يتراجع مبتعدا أكثر، ثم وضع أحد السلاحين على مقربة شديدة منه، وبدل الآخر من يده اليمنى إلى يسراه، وهكذا تمكن من خلع زيه الرسمي كجندي في جيش الولايات المتحدة. ونزع عنه الحذاء ذا الرقبة والسروال والمعطف، ولم يحتفظ سوى بصفيحته المعدنية التعريفية وميدالية الشجاعة، ثم ارتدى الأشياء التي جمعها.
ثم أزاح الأشياء التي كان سيتركها بقدمه مجمعا إياها، وتراجع ومعه الأسلحة وحزام الخرطوش بحوزته هابطا نحو الوادي حتى صارت بينه وبين المجرمين مسافة كافية ليجرؤ على أن يوليهما ظهره ويمضي في سبيله بأسرع ما يمكن للرجوع إلى المخيم.
في عتمة ظل أحد الفروع، أيقظ ويليام برونسون بأقصى ما استطاع من الهدوء وشرح له لماذا غير ملبسه، ودس في يد مضيفه أحد السلاحين اللذين كان يحملهما. وخشية أن يكون هناك شركاء ربما يتبعون المجرمين، فض المخيم على عجل، وكوم كل شيء في السيارة، وسرعان ما ابتعدوا أميالا عن الرجلين اللذين ينهبان من دون تمييز أموال الآخرين وسعادتهم.
حين ابتعدت السيارة بحملها، استلقى جيمي ماكفارلين وأسند رأسه إلى دعائم غطاء السيارة وضحك ضحكة واهنة.
وقال لآل برونسون: «ليست تدريبات الجيش بالغة السوء، على أي حال. فإنني أشك حقا أنني كنت سأتمكن من الاختباء أو أستطيع سلب أحد الرجال سلاحه وتحطيم وجه الآخر في آن واحد، لو لم أكن جنديا قط. وبالنسبة إلى أخذ ملابسهم، فإنني أعلم أن حكومتنا لا تريد أن يستخدم جنودنا الذين سرحوا من الجيش ملابسهم الرسمية لمزيد من الوقت؛ لذا فمن المستحسن أن أتخلص من الزي الرسمي منذ اليوم الأول الذي أعود فيه مواطنا أمريكيا عاديا.»
إن ما قد يدور بخلد ويليام برونسون وزوجته وابنته بشأن هذا الأمر وهم في أمان في مزرعة داخل ولاية آيوا، حيث هناك متسع من الوقت للتفكير، هو أنه أمر عادي. لكن ما خطر ببالهم وهم يهربون على طريق كاليفورنيا مع سلاحين في سيارتهم، وخلفهم اثنان من المجرمين الحانقين اللذين قد يلحقان بهم في سيارة أسرع في أي لحظة، بصحبة مجرم ثالث ربما، فقد كان مسألة مختلفة تماما. جلست سوزي برونسون في المقعد الأمامي وهي تحمل المسدس الذي أعطي لأبيها ليكون في متناول يده. وجلست السيدة برونسون في المقعد الخلفي بعينين متسعتين وقلب ملؤه الارتياع. داس ويليام برونسون على دواسة الوقود وانعطف مع كل مفترق طرق قابله. لم يأبه البتة إلى أين سيذهب. فقد كان كل ما يريده هو الابتعاد عن المكان الذي كان فيه. انتابه شعور أن رؤية أضواء أي بلدة صغيرة في كاليفورنيا ستبدو له غاية المراد في تلك اللحظة.
أما جيمي ماكفارلين، فكان قد استمتع بغدائه، وحصل على ملابس لا تدل على أنه الرجل الذي اختفى من مستشفى آروهيد؛ كان يعلم أين يتوقع أن يحصل على فطوره، واعتبر علاقته منتهية بعالم المستشفيات، وما دام استطاع القيام بهذه المغامرة في أول يوم من أيام حريته، فقد كان الأمل كبيرا في أن يظل على الأقل قادرا على الاحتفاظ ببأسه في اليوم التالي. وهكذا، في ظل ما اعتراه من إنهاك تام، بدأ رأسه يسقط بطيئا على صدره واستغرق في النوم. ظلت السيدة برونسون، التي اعتراها الشك إزاء مسألة الملابس، تتفحصه بتمعن بقدر ما استطاعت في ضوء الليل. وقد بدا تماما مثل أي أمريكي محترم ذي أصول اسكتلندية، أعياه المرض. وأخيرا همست لابنتها قائلة: «سوزي، هل تستطيعين البحث عن وسادة لهذا الفتى المسكين؟ فإنه كما ترين كان معتلا للغاية وقد بلغ منه الإنهاك مبلغه.»
تمكنت سوزي من إحضار وسادة من طرف مرتبة المخيم الموضوعة على الدواسة الجانبية، فوضعتها السيدة برونسون على كتفها وعلى الجزء الخلفي من السيارة، وشدت رأس جيمي عليها، بينما جثت سوزي على ركبتيها في المقعد الأمامي، وشدت ملاءة على كتفي جيمي ماكفارلين، ودموع الامتنان لا تزال تبلل وجهها الغض، وهي تقول: «أعتقد، يا أماه، مما حكاه لأبي، أننا نجونا بأعجوبة، وأعتقد أنه من الأفضل أن نشحن السيارة ونستقل القطار، لنتجه شمالا بأسرع الطرق وأكثرها أمنا.»
أجابتها الأم برونسون، التي كانت أقوى شكيمة: «أوه، لا أظن ذلك. إنما سنقترب أكثر من البلدات عند حلول الليل. وسنتوقف عن النوم على جانب الطريق. سنحتفظ بالسلاح الذي حصل عليه أبوك ونحصل له على بعض طلقات الخرطوش من أول بلدة نتوقف فيها. أعتقد أن بإمكاننا أن ننجو وننتهي من رحلتنا.»
الفصل الثالث
سيد النحل
قال ويليام برونسون متسائلا وهو ينظر من فوق كتفه في الساعات الباردة، الساكنة بين الثالثة والرابعة من صباح اليوم التالي: «هل تعتقدين أننا قد تخلصنا منهما، يا عزيزتي؟» «هل تعلم كم ميلا قطعنا؟» سألته زوجته، لكن ويليام قال إنه لا يدري. فقد نسي أن يلقي نظرة على عداد السرعة حين توقفوا لإقامة المخيم، لكنه متأكد من أنه دار مع مائة منعطف وانحرف مع كل مفترقات الطرق التي قابلها، وبدا ممكنا أن تحتوي البلدة الصغيرة التي كانوا سيدخلونها على مكان يجدون فيه فراشا نظيفا وينعمون ببضع ساعات من الراحة. وبينما هم يسيرون في الشارع الرئيسي رأوا باب فندق مفتوحا وأنواره مضاءة، ومن ثم قرروا النزول فيه كي ينعموا بقسط من الراحة، ثم يتحمموا ويفطروا، وبعد ذلك يتشاوروا ويقرروا ما سيفعلونه.
حين هموا بمغادرة السيارة، وجدوا ضيفهم عابر السبيل يغط في نوم عميق حتى إنه عز عليهم أن يوقظوه، فأوصدوا السيارة، وبسطوا عليه دثارا آخر وتركوه يحظى برفاهية المقعد الخلفي بالكامل. ومن ثم حين بدأت الحياة تدب في شوارع البلدة، استيقظ جيمس ماكفارلين يغلبه شعور مرتبك بأنه قد ضل. لم يدر ماذا حدث لعائلة برونسون أو أين كان، لكنه سريعا ما عرف، بقراءة لافتات الشوارع من حوله، وأدرك عدم إمكان حدوث شيء لعائلة برونسون في بلدة بها عدة آلاف من السكان؛ ومن ثم كان شاغله الأول الفطور. لقد تمنى في الليلة السابقة أن يظل مع عائلة برونسون، ربما في الموقع الذي كانوا يخيمون فيه قبل أن تبدأ أحداث اليوم. أما الآن، فمن الواضح أن خططهم قد تغيرت. من المحتمل أن يخرجوا من الفندق الذي تقف السيارة أمامه، وقد أنعشهم النوم والاستحمام والطعام. رأى أنه قد استمتع بنوم مريح، وأن بإمكانه تأجيل الاغتسال، لكن كان هناك حاجة ملحة إلى الطعام في وهدة معدته. لم يكن تواقا لاختيار شيء على وجه التحديد. فهو جائع جوعا شديدا حتى لقد شعر أن بإمكانه التهام أي شيء تقريبا، وقد انبعثت روائح فواكه ناضجة من المطاعم، ومن مبنى الفندق، والمقاهي والأكشاك حوله فأثارت شهيته. بعد ذلك، هاجمت رائحة القهوة والطعام المخبوز أنفه، فبدأ يفكر كيف يستطيع جعل فطوره حقيقة ملموسة.
خطر له أن يخرج من السيارة ويتمشى قليلا على الرصيف ليرى إن كان بإمكانه تنشيط دورته الدموية قليلا. وجد نفسه يتشمم رائحة اللحم المشوي والبطاطا المقلية والخبز المحمص والقهوة واللحم المقدد وحلوى الوافل في مكان ما قريب، وبدافع العادة وحدها، إذ كان يعلم أنه لا يوجد بنس واحد في جيوبه، أدخل يديه حيث المكان الذي تقع فيه جيوب الذكور عادة ووقف في دهشة مذهولا؛ لأنه عاد بيده إلى الضوء وفيها تشكيلة كبيرة من العملات المعدنية؛ فئة الخمسة والعشرة سنتات، وربع دولار أو ربعين، وقطعة من فئة الخمسين سنتا. انفرج فاه بطيئا واتسعت عيناه، ودون أن يعرف السبب البتة لما قام به، نظر أعلى صف المباني القائمة على سلسلة الجبال بعيدا في أنحاء سماء كاليفورنيا الخالية من الغيوم داكنة الزرقة وقال، بتأدب شديد: «أحمدك، يا رب.»
لم يكن يدري كم مضى منذ قال بخشوع: «أحمدك يا رب.» ظل يعتقد أنه لم يحدث له خلال السنوات القليلة الماضية أشياء كثيرة يشكر عليها الله، لم يشكره على الأقل منذ أخذت النار تتقد في صدره والضعف يغير على أعضائه ويصيب يديه الكبيرتين القويتين بالرجفة. لم يتوقف ليتفكر أن الله قد لا يرضيه ارتداؤه سروال رجل آخر، لكن، في نهاية الأمر، شعر جيمي أنه بحاجة إلى السروال؛ كان في أشد الحاجة إليه، وقد تخلى عن سرواله، الذي كان أفضل بكثير وأنظف بمراحل، مقابل هذا السروال الذي حصل عليه، الذي كان مجرد النظر إليه يملأ روحه ذات الذوق الرفيع نفورا. تصور أنه لو كان في موقف يسمح له برؤية هذا السروال قبل الحصول عليه من المجرم لجازف بارتداء زيه الرسمي يوما آخر.
نظرا إلى أنه لم يكن لديه أي فكرة متى قد ترجع عائلة برونسون إلى سيارتهم، ونظرا إلى أن جوعه يزداد منذ صار لديه نقود في يديه ولم يعد بحاجة إلى إيهام نفسه بأنه ليس جائعا، فقد رفع منكبيه ونظر حوله ليرى إن كان بإمكان أنفه مرهف الحساسية تعيين المكان الذي انبعثت منه أطيب رائحة من بين الأماكن المحيطة التي يطهى فيها الطعام. أعاده ذلك إلى الفكة التي يحملها في راحة يده. فرد يده اليمنى أمام مجال رؤيته وعلى مهل راح يباعد بين العملات بسبابته اليسرى. كان في غاية الفرح بما وجده لدرجة أنه كاد أن يصيح مهللا مثل صبي صغير. كان مجموع نصف الدولار والأرباع يساوي دولارا؛ علاوة على العملات فئات الخمسة والعشرة سنتات وبعض البنسات التي بلغ مجموعها سبعة وثمانين سنتا.
رأى أنه بالتنظيم الرشيد، بالاقتصار على القهوة مع القليل من الخبز المحمص واللحم المقدد ليقيم أوده، لن يصبح في احتياج إلى أحد ليوم آخر على الأقل. وحيث إنه قد حمد الله لمجرد شعوره بالفكة القليلة في يده، فقد خطر لجيمي، حتى أثناء شعوره بالجوع وحاجته إلى البقاء على مقربة من السيارة، لعله يركبها لنحو أبعد إن أمكن، أنه من المستحسن أن يعرب عن امتنانه ثانية. فنظر إلى السماء مرة أخرى، وقال مشددا هذه المرة على حرف الراء، بلكنة ربما ورثها من لسان أحد جدوده من أسرة أبيه أو أمه، بصوت مدو على رصيف تلك البلدة في كاليفورنيا: «هذا كرم بالغ منك، يا رب.» وحين التقطت أذناه أنه يتكلم مثل الاسكتلنديين أبرقتا إلى دماغه تصرفه الغريب، فضحك جيمي مقهقها، وهو الذي كان يشعر قبل بضع دقائق بحزن لا مراء فيه، واستدار، واتجه عبر الشارع نحو أقوى رائحة للحم المقدد والقهوة استطاع تحديدها.
أثناء جلوسه على مقعد مرتفع واضعا قدميه على قضيب قبالة منضدة، صارت الملابس التي استعارها أكثر التصاقا بجسمه، فأدرك أن لديه جيبا خلفيا في سرواله يحتوي على شيء أحس من ملمسه أنه قد يكون عدة أشياء؛ لكن في المحاولة الأولى استقر تخمين جيمي على أنه محفظة نقود. ثم خطر له أنه قد يكون من المستحسن، ما دام جيب واحد قد أثمر عن قوت يوم على الأقل، أن يفتش في الجيوب كلها. ومن ثم بدأ بجيب الصدر الخارجي في المعطف، فوجد فيه سيجارين من النوع الرخيص. وفي الجيوب الأخرى بعض الخيوط وبضعة أزرار ومنديل متسخ، والمسدس الكبير وحفنة من طلقات الخرطوش. ثم بحث في الجيوب الداخلية ووجد خطابين، قرر الانتباه إليهما فيما بعد. ثم وضع يده في الجيب الأيسر لسرواله وأخرجها خاوية. وبعد ذلك، ولينتهي من الأمر، مد يده إلى الجيب الخلفي وأخرج محفظة النقود. فوجدها محفظة نقود فعلا، وتصادف أنها تحتوي على بعض النقود الورقية، وما لبث أن داهم الحذر الاسكتلندي ذهن جيمي. حيث سمع كثيرا عن مجرمين ونشالين خفيفي اليد واستيلائهم على أملاك من يجاورهم من دون علمهم أو موافقتهم. وبمجرد أن علم بوجود ورقتين نقديتين أو ثلاث بفئات قد تكون معقولة، أغلق المحفظة ودسها ثانية في جيبه، ثم مال بمرفقيه على المنضدة وراح في تفكير عميق وسريع.
إنه ليس لصا. ولم يكن كذلك قط. لكنه في وسط مغامرة كبرى. تزداد أبعادها في كل لحظة. وقد تخيل أنه لو كانت أمه المسكينة، وهي في السماء قرب العرش، تنظر إليه وتصلي بكل طاقتها من أجل سلامته وفلاحه في مسعاه، ولو أن الله يتقبل منها ويستجيب لصلواتها بكل الحب والاهتمام، ما كان جيمي ليوفق أكثر من ذلك حتى الآن. لم يمض سوى نصف يوم، فقط ليلة واحدة، وبفضل ما حظي به من سيارة - أو سيارتين، على وجه الدقة - صار على بعد أكثر من مائتي ميل من حيث بدأ، وحيث إن ذينك المائتي ميل يؤديان إلى الشمال، والغرب؛ فلا بد أنه اقترب من البحر بدرجة كبيرة. لم يعلم جيمي السبب المحدد، الذي جعل كيانه بأكمله يصخب مطالبا بالبحر منذ اللحظة التي وقف فيها على قدميه وبدأ رحلته. ولم يضع وقتا في استجلاء نفسه أو محاولة الوقوف على أسباب رغبته في المياه، عوالم من المياه، مياه نقية، بلون أخضر مائل إلى الزرقة وأزرق سماوي وأزرق نيلي، مياه مالحة، وزبد، مساحات شاسعة من الزبد الأشبه بالثلج. أراد أن يرى أمواجا، أمواجا هائلة، تتلاطم على الشاطئ، وعندئذ استحوذ عليه ذلك الشعور الساذج، ربما لأنه لم يستحم هذا الصباح، بأنه يريد الخوض في تلك المياه. كما أراد الاستلقاء على الرمال والتشبع من الشمس والاستغراق في النوم، ثم العودة إلى مياه البحر مجددا. قد لا تكون المياه المغلية القادمة من ينبوع في باطن الأرض هي ما يلزم لعلاج حالته الخاصة. قد يكون الماء البارد، الماء المالح، ماء البحر هو الذي سيحدث الأثر المطلوب.
كان يفكر باستغراق شديد في احتمال أن البحر قد يفعل له شيئا لم تفعله الينابيع حتى إنه كاد ينسى روائح الطعام حوله. كان بإمكانه النسيان، ما دام لن يصبح مجبورا على الزهد. خلال دقيقة واحدة فقط، سيحصل على كوب قهوة، عليها طبقة كثيفة، من القشدة الغنية، وخبز محمص هش ولحم مقدد من النوع الجيد. فيما يخص النقود التي في جيبه؛ فهو لم يعلم على وجه التحديد ما الذي يدين به الرجل، الذي يرتدي هو سرواله الآن، للمجتمع عامة، لكنه أدرك من الواقعة التي رآه منخرطا فيها، ومن حديثه وألفته للموقف، أن ذلك الرجل قد يكون مدينا للمجتمع بدين كبير جدا. راود جيمي شعور بأنه، ما دام استحوذ على سلاحين وأثنى الهمجيين كليهما عما سمعهما يقولانه جهارا بلغة واضحة من نيتهما إلحاق الأذى برجل بدا واضحا أنه شديد الاحترام، واستحق عن جدارة، من خلال سنوات طويلة من الاقتصاد والعمل الشاق، الإجازة التي كان ينعم بها؛ إذن يحق له الحصول على محتويات جيوبهما. أما بالنسبة إلى الفتاة الصغيرة النشيطة وأمها الرصينة واللطيفة على حد سواء، فقد اجتاح كيان جيمي (لدى تذكر ما كان سيحدث لهما) غثيان مفاجئ، ودون أن يعبأ بمن قد يراه، أخرج المحفظة من جيبه الخلفي وفتحها على اتساعها وأفرغها، فوجد في أصابعه المذهولة تسعة وأربعين دولارا بالتمام والكمال، وبأوراق من فئة الدولار والخمسة دولارات والعشرة دولارات. كان هذه المرة مشدوها فعلا، ولم يكن سقف المطعم مشجعا مطلقا، فإن كان قد نظر لأعلى حقا، حتى ولو لا إراديا، إلا أنه نسي الإعراب عن امتنانه. في الحال اتخذ قرارا جريئا وملحا؛ أنه بعد أن يأكل الطعام الذي طلبه، سوف يذهب للاستحمام، وسوف يحصل على ملابس داخلية نظيفة وجديدة، وسيحصل على سروال ومعطف على مقاسه، ولا يملآنه نفورا، وسوف يحصل على قبعة يمكن أن يبدو فيها على الأقل جذابا بقدر الإمكان.
لم يعر الجانب الأخلاقي للمسألة اهتماما كبيرا. فقد أحبط الهجوم على المخيم، وهرب من رجلين بأسلحتهما. لقد كان مفيدا فائدة كبيرة لويليام برونسون وزوجته وابنته؛ فلا بد أن يرحبوا بحصوله على التسعة والأربعين دولارا كمكافأة له، وقد شعر من أعماق روحه والوجع الدائم الناجم عن الجرح في يسار صدره أن الله سيغفر له شراء ملابس جديدة ونظيفة. ما الذي كان قد قاله الطبيب؟ أن جسده قد أصبح أفضل بيئة ممكنة لنمو الجراثيم، أليس كذلك؟ ومن ثم فإن نظرة واحدة على ساقي السروال الذي يرتديه جعلته يشعر كأنه المصنع الأصلي الذي اخترعت فيه الجراثيم. لذا أخرج ذراعيه الطويلتين من كمي المعطف بعيدا بقدر ما استطاع، وأزاح تلابيب المعطف بقدر ما أمكن، وتجرع القهوة التي كانت ساخنة جدا حتى إنها كادت تلسعه، وأكل اللحم المقدد الذي كان هشا حقا والخبز المحمص الذي اكتسب لونا بنيا كما ينبغي. ودفع فاتورته، وعاد إلى الرصيف حاملا ثروة من العملات في حوزته، وبحث عن سيارة برونسون.
كانت واقفة حيث تركها، فمضى وسار إلى مكتب الفندق. لم ير أثرا لأي من أفراد عائلة برونسون، فذهب إلى الموظف وطلب الاطلاع على السجل. حين وجد ما كان يبحث عنه، طلب من الموظف أن يخبر أصدقاءه، إذا نزلوا قبل عودته، أنه قد ذهب للحلاقة والحصول على بعض الملابس الجديدة. انتابه على نحو ما شعور حاسم بالكبرياء نبع من حقيقة أنه ليس مضطرا إلى إخبار ويليام برونسون وزوجته وابنته أنه كان منهكا وحانقا، حطام إنسان لا يملك بنسا في جيبه يولي الفرار من حكومة لا علم له حتى بلوائحها، مع أمل ضعيف جدا في الفرج. لم يكن قد خطر له قط أن يفعل شيئا مثل الخروج عن رعاية الحكومة دون أدنى فكرة عن المكان الذي سيتجه إليه أو ما سيحدث له، حتى بين الاحتمالات الخيالية، أما الآن وقد أقدم على ذلك، فعليه الإقرار بأنه لا يعلم ما إن كان فارا من الجندية أم لا. لا يمكن قطعا أن يكون فارا من الجندية؛ لأن الحرب وضعت أوزارها منذ شهور طويلة عديدة. لا شك أنه قد خضع لإجراء ما غالبا ليظل مقيدا في السجلات وفي عهدة الحكومة. لم يكن الاحتمال معدوما أن يأتي اليوم الذي قد يحتاج فيه إلى المطالبة بالسجل الرسمي المتعلق بالأوسمة التي يحملها.
غادر الفندق بعد أن حصل على إرشادات من الموظف عن السبيل للوصول إلى أفضل متجر ملابس في البلدة، فابتاع لنفسه الملابس اللازمة لينعم بالنظافة والراحة. متوخيا الاقتصاد، اشترى ما شعر أنه يلزمه من بين أرخص الأشياء التي وجد أنها قد تفي باحتياجاته، ثم ذهب إلى الحلاق، وبعد قص شعره وحصوله على حلاقة منعشة، دفع نقودا مقابل الحصول على حمام، وتبع هذا بارتداء ملابسه الجديدة. حين ارتدى قبعته الجديدة قبالة المرآة في الحمام، تصور أنه ما دام النشاط يدب في أوصاله والطعام يملأ معدته فإنه قد لا يكون بالرجل قبيح المنظر. فهو طويل القامة، وعريض البنيان مثل أسلافه الاسكتلنديين، وذراعاه المشدودتان مستدقتا الطرف، وملامحه متناسقة، وعيناه الواسعتان ذات اللون الرمادي الممتزج بزرقة تبدوان رغم كل شيء عينين صريحتين، عينين طيبتين، عينين آسرتين.
ومن ثم عاد جيمي إلى الفندق حاملا صرة ملفوفة بعناية احتوت على معطف رجل آخر وسروال رجل آخر أيضا. انتوى أن يلقي بها على جانب الطريق في مكان ما أثناء رحلته، فقط تحسبا لاحتمال أن يكون هناك رجل في عوز شديد مثلما كان، فيجدها وتسد حاجته، كما قضيت حاجته.
حين سار ويليام برونسون إلى الاستقبال، نهض جيمي مبتسما، وقد استمد الثقة من سروال رمادي مهندم والمعطف الذي جاء على مقاسه بالضبط والقميص الذي كان نظيفا وجديدا، فمد يده، لكنه بدلا من التعرف عليه قوبل بنظرة باردة. كان عليه أن يخلع قبعته ويتكلم بلكنته الاسكتلندية حتى يعلم ويليام برونسون أنه المسافر الذي قابله في اليوم السابق، وعندئذ تلاشى من ذهنه تماما التساؤل الذي ظل يدور فيه إلى أن خلد للنوم عما إذا كان قد ترك سيارته في حوزة مجرم ثالث. فلم يكن هناك ولو شبح مجرم طوال عشرة أجيال من أسلاف الرجل الماثل أمامه. كان ويليام برونسون يستطيع أن يقسم على ذلك. وبينما وقف يصافح يد جيمي، راح ينظر إليه ضاحكا وقال: «مهلا، يا للعجب! لم أتعرف عليك، وأراهن أن زوجتي وسوزي أيضا لن تعرفاك، إن وقفت بعيدا عنك!»
ضحك جيمي بدوره. ثم قال: «لقد أقدمت على ذلك التغيير المفاجئ في العتمة ليلة أمس. إن ضوء القمر مخادع كبير. لم أرد سوى أن أخلع الزي الرسمي للعم سام (الجيش الأمريكي) سريعا، فانتهزت أول ما عرض لي، لكن حين استيقظت هذا الصباح وجدت ملابسي شديدة الاتساخ ومليئة بالجراثيم حتى إنها تكاد تسير وحدها، فقررت أن أرى كيف لي أن أغيرها سريعا.»
قال ويليام برونسون: «هلم للفطور!»
قال جيمي ماكفارلين: «شكرا، لقد تناولت فطوري.» ثم أضاف: «إذا تكرمت بالسماح لي بالركوب معك ما دمت متجها شمالا وغربا، فسوف أصبح ممتنا لك.»
قال رب عائلة برونسون وعائلها: «لا يشغلك البتة كم من الوقت يمكنك الاستمرار في مواصلة رحلتك مع عائلة برونسون.» وتابع: «يمكنك البقاء مثلما شئت. لن أبالي بتاتا إن لبثت طوال الطريق حتى ولاية آيوا!»
وبعد ذلك التقط جيمي الجريدة الصباحية وراح يقرؤها حتى جاءت السيدة برونسون وسوزي إلى الاستقبال، وبالفعل لم تتعرفا عليه، فكان عليه أن يستخدم لكنته المشددة على حرف الراء متحدثا معهما حتى صدقتا أنه المسافر الذي كان معهما الليلة السابقة. اتفق كلاهما تماما مع رأي الزوج والأب. حيث لم تأبها كم سيبقى هذا الرجل معهما في السيارة وهو أيضا لم يأبه. وهكذا قطعوا مسافة طويلة في ذلك اليوم، وتناولوا العشاء على جانب الطريق وقضوا الليل في فندق صغير، ثم شعر جيمي أن الوقت قد حان للاتجاه غربا. كان بإمكانه السفر على مسافات قصيرة. حيث لديه في جيبه ما يكفي من النقود ليتكفل بالطعام والمبيت لعدة أيام، حسبما يظن، ومن ثم، فقد اتجه غربا، أثناء النهار الطويل، المشمس، متقدما على مهل. ثم اكتشف أنه قد توغل بعيدا للغاية في اتجاه الشمال، فعزم على المضي غربا عن طريق الجنوب.
لم يكن لديه رغبة في الذهاب حيث قد تتعذب عظامه المتألمة بفعل البرد. أراد البقاء حيث تظل أشعة الشمس نافذة ودون انقطاع. أخذ يمشي وئيدا ويجلس من حين لآخر، وفي الظهيرة يستريح، وحين شعر أن الوقت قد أوشك للتفكير في الغداء، غط في نوم عميق، في ظل شجرة بلوط حي تخللته خيوط من أشعة الشمس، متوسدا ذراعه على حجر، وحين أيقظه أخيرا مرور قطيع من الماشية، التقط العصا التي كان يحملها وتمطى استعدادا لرحلته. بينما يفعل ذلك شعر بفقدان شيء. استغرقه التفكير مدة دقيقة ليتذكر ماذا قد يكون. لاحظ أن سرواله ليس بالضبط على نفس وضعه الذي كان عليه حين غفا، وعندما تفحص بيديه على جسده وجد جيب سرواله الخلفي خاليا، وكذلك جيب المعطف؛ كما سرق السلاح، أيضا.
عاد جيمي للجلوس على الصخرة، في شبه إعياء من الصدمة وخيبة الأمل، وأخذ ينظر حوله. استطاع أن يرى المحفظة التي استولى عليها ملقاة على الأرض على بعد عدة ياردات فوق جانب الجبل. لم يكن هناك جدوى من إجهاد نفسه بالصعود لتفقدها. فقد كانت مفتوحة وقد سلبت بالطبع، وبذلك عاد مرة أخرى من حيث قد بدأ. كان لا يزال لديه في سرواله القصير من الفكة فئة الخمسة والعشرة سنتات ما يكفيه لآخر اليوم وربما لفطور الصباح التالي، لكن المبيت الذي كادت حاجته إليه أن تكون أشد من الطعام قد ذهب أدراج الرياح في غموض كما جاء.
بدا جيمي أقرب إلى الاسكتلنديين من الأمريكيين في جلوسه عابسا متجهما، على الصخرة. لم يفهم مطلقا أي سبب على وجه التحديد جعله لا يضع المحفظة في جيب صدره ويغلق عليه المعطف. كان قد وجدها في الجيب الخلفي للسروال، حيث يناسبها حجمه، وقد وضعها فيه تلقائيا. وفكر في أنه لو كان قد استخدم عقله، لتوخى الحذر. وفكر، أيضا، في حقيقة فقد قطاع كبير من الناس في العالم لحسهم القديم بالشرف وأن هذه الحقيقة تحمل في طياتها بعض الوجاهة. لم تكن مسألة الشرف قائمة بين المجرمين اللذين انتويا الهجوم على عائلة برونسون. فقد كانا يتحدثان كأنه يجوز لهما شرعا امتلاك أي شيء يخص عائلة برونسون. وتذكر جيمي حقيقة أنه لم يعان من أي تأنيب ضمير إزاء أخذ ما وجده في سروال ذلك المجرم. قضى دقيقة يفكر في الأمر وظل على اقتناعه الراسخ بأنه كان لديه حق مكتسب فيه؛ ولذلك السبب أحس بضيق شديد أنه لم يوله رعاية أفضل. لماذا كان في غاية الإهمال إزاء ما كان سيضمن له الضروريات والضمادات الجديدة التي سيحتاج إليها قريبا، في الوقت الذي كان تأجيره لمكان يبيت فيه هو ما سيقرر إن كان سيعيش أطول قليلا أم يموت سريعا، وربما ميتة مؤلمة جدا؟
بعد برهة هب جيمي واقفا ليستكمل طريقه ويستمر في الاتجاه إلى الجنوب الغربي. ومن ثم تحول الجوع الشديد الذي كان قد أحس به في معدته قبل ساعة إلى غثيان خالص، ولم يكد يبتعد حتى وجد أن العرق البارد راح يسيل من راحتيه، وعلى صدغيه، ومن جسده. لم يرفع نظره إلى السماء حتى ليقرر ما إن كان سيعرب عن رجائه أم لا. إنما سار بأناة تحت أشعة الشمس بقدر ما تيسر له، فقد اعتقد، من تجربته المبيت في الخارج، أنه سيحتاج إلى تخزين كل الدفء الذي يستطيع جمعه.
وفي آخر الأماكن التي استراح فيها أخرج كل الفكة من جيبه وقسمها بعناية. قد يبلغ في مسيره بلدة حيث يستطيع استئجار فراش في فندق رخيص. وسيتعين عليه تقسيم المتبقي بين الغداء والفطور. وبعد ذلك سيصبح تحت رحمة الدنيا مرة أخرى، وقد شعر في تلك اللحظة أن احتمال وقوف الدنيا ضده مساو لوقوفها معه. كان العزاء الوحيد الذي جعله مطمئنا هو أنه إذا نشر المستشفى إعلانا عن هروبه متضمنا أوصافه، فلن يشعر أحد أنه الرجل الذي تنطبق عليه الأوصاف المذكورة حيث إنها قد تغيرت بدرجة كبيرة، والفضل في ذلك يعود إلى قاطع الطريق. وهكذا اتبع جيمي البرنامج الذي وضعه حتى بعد فطور الصباح التالي، وعندئذ، وبينما هو ما زال متجها غربا عن طريق الجنوب، وليس لديه سوى بضعة سنتات متبقية، تعثر في مشيه. فأدرك أنه كاد يبلغ أقصى درجات احتماله. فقد أنهك السير المستمر قدميه وساقيه إلى أن بدأت تتورم حتى ضاق حذاؤه جدا عليها. وتسلطت الشمس بأشعتها على رأسه الذي لم يعتدها حتى شعر بدوار. وأصبحت عيناه متعبتين بشدة حتى كاد أن يصرخ للحصول على نظارة شمس تريحهما، وقد فقد أمس النقود التي كان من الممكن أن يشتريها بها وهو في أمس الحاجة إليها اليوم.
لم تبق لجيمي ذكرى بالغة الوضوح عن الجزء الأكبر من ذلك اليوم. جل ما يتذكره أنه ظل يناوب بين السير إن استطاع وبين الارتماء في أي مكان حيث يستطيع الجلوس أو الاستلقاء حين لا يقوى على الاستمرار. أما كيف وصل إلى الطريق الذي أودى به إلى أحد الوديان فهو لا يدري. فقد واصل السير حتى كاد لا يشعر بأي شيء مما حوله لدرجة عدم إدراكه أن الطريق قد ضاق فصار مسارا للخيل، وأن مسار الخيل قد ضاق فصار مدقا، وأن المدق راح يلتف حول قاعدة أحد جوانب الجبل الذي انشق من أعلاه لأسفله مع الاضطراب الذي أدى إلى نشوء الجبال على وجه الأرض. ومن ثم دار مع منحنى فوجد نفسه فجأة في مواجهة مشهد واسع، وفي الوقت نفسه أدرك أمرين. حيث سمع صوت مياه تغني. صوت مياه تتدفق وتنساب وتتناثر وتضحك وتفعل شتى الأشياء المحبوبة التي تعلم المياه كيف تفعلها حين يتاح لها الانسياب في قاع صخري أسفل أحد الوديان.
وقف جيمي ساكنا ونظر عن يمينه وعن يساره وإلى موضع قدميه. رأى عن يمينه جدرانا متشعبة بدأت بارتفاع عادي ثم ارتفعت لتبلغ آفاقا أعلى وأعلى حتى بلغت مئات الأقدام ثم آلاف الأقدام. صمدت تلك الجدران طوال عصور طوال حتى إن الشقوق والنتوءات امتلأت بأشجار البلوط الحي والبهشية والمريمية، مع نبات اليوكا وزهرة الشمس، ونبات أذن الخنزير بلونه الأزرق في الأخضر. وقد تدلت السراخس قرب الأماكن التي نضحت فيها الجدران الشاهقة بالمياه. وعلى اليسار امتد أمامه المنظر الخلاب نفسه، وعند قدميه امتد مسار واضح المعالم، ممهد في سلاسة، مسار بدا له أنه قد ارتادته أقدام عدد لا حصر لهم من المسافرين، حتى إن عينيه، وإن كانتا متعبتين للغاية، استطاعتا أن تتعرفا على أثر حافر حصان ظن أنه قد يكون حصان حارس المنطقة.
بدت المياه عند قدميه نظيفة. لا بد أنها باردة. إذ كانت تتدفق على الصخور. منحدرة على منحدرات صغيرة. وتنساب أمام كهوف، حفتها السراخس، بديعة الجمال، بينما راحت تنطلق طيور دج صغيرة رشيقة من خلال الرذاذ، غالبا متجهة إلى أعشاشها المستترة بالمياه المتدفقة.
جلس جيمي من فوره في أشد الأماكن إشراقا بأشعة الشمس على أدفأ الصخور التي أمكنه العثور عليها وجعل يتأمل الموقف، وبعد أن استراح برهة نزل وشرب مغترفا المياه بيديه. ثم نفض الغبار عن ملابسه الجديدة، التي استخدمت استخداما قاسيا بعض الشيء، وتناول عصاه وسلك المدق. لم يكن السير عبره صعبا، حيث ينحدر لأسفل حتى نهايته، وقبل أن يقطع مسافة كبيرة بدأ يسمع أصواتا. فأدرك أن مكانا بذلك الجمال الفريد لا بد أن يجذب الناس، فلعلهم مخيمون أو متنزهون يرفهون عن أنفسهم بجوار المياه التي تتدفق بسرعة شديدة لم ير لها مثيلا قط. خطر لجيمي أنه ربما قد أخطأ بالتخلص من ملابسه الرسمية. فقد استنتج من عدد المرات التي عرض عليه فيها الركوب حين كان يرتديه، ومن التجاهل التام الذي لقيه من مئات السيارات التي مرقت بجانبه ذلك اليوم، حتى حين وقف مقتربا جدا ورفع يده طالبا فرصة للركوب معهم، أن الرجل الذي يرتدي زيا رسميا يلقى المساعدة. أما الرجل الذي يرتدي ملابس مدنية فقد يكون محملا بالأسلحة وتملأ رأسه النوايا الشريرة. بدا الوقت متأخرا حتى إن أي مسافر لديه مقعد شاغر سيحتقر نفسه إن لم يتفضل على أي شخص مسافر على قدميه بميزة الركوب.
صار الركوب ضروريا الآن. تقدم بقدمه اليمنى، ثم اليسرى، ثم اليمنى مرة أخرى، يا للألم! كانتا متيبستين من الورم، وآه كم كانتا تؤلمانه! ما إن قرر جيمي خلع حذائه وجواربه وغسل قدميه في المياه الباردة ليرى إن كان سيستطيع الحد من الألم والورم، حتى صار وجها لوجه مع لوحة كبيرة طليت حديثا جاء فيها أن المنطقة الممتدة أمامه تمد بالمياه مدينة كليفتون، التي لا بد أنها مدينة قريبة، وأن ثمة حارسا يطوف الوادي لحمايته، وأن أي شخص يلوث المياه بأي طريقة سيقبض عليه في الحال. فابتسم جيمي ابتسامة جافة ونظر إلى قدميه المتوجعتين فأدرك أنه من المفضل أن يترك حذاءه كما هو، فمن الوارد جدا ألا يستطيع العودة بقدميه إلى الحجم الذي يتسع له الحذاء إذا خلعه.
كان يسير في الاتجاه الصحيح، على كل حال. كانت كل خطوة يجبر نفسه على اتخاذها تحمله للغرب والجنوب. في البداية، رغم تعبه لم يستطع أن يتغافل عن جمال الوادي الذي سلكه. فقد كان نبات مخلدة السطوح مزدهرا على مرمى يده. وهناك سراخس وطحالب، ونباتات العائق والخزامى، وترمس أزرق وأصفر، وخماسية الأسدية حمراء والعديد منها صفراء، وكانت هناك بركة صغيرة امتلأت باللون الأبيض اللؤلؤي لنباتات ذيل السحلية المزدهرة، بأوراقها الكثيفة، وزهورها الفاتنة. لم يكن جيمي على دراية بأسماء هذه النباتات؛ فهي لم تكن ضمن المعلومات المذكورة في منهج علم النباتات الذي درسه أثناء نشأته في شرق البلاد.
ظل جيمي ماضيا في هبوطه نحو قاع الوادي. لم يلحظ كم كان بطيئا في سيره، لكنه بدأ يرى ناسا بعد مدة قصيرة. هنا أدرك أنه كان على صواب حين تخيل سماع أصوات. كان الدخان يتصاعد من بعض الأماكن، فشعر جيمي فجأة على نحو مبهج أن مشكلته فيما تبقى من ذلك اليوم قد حلت. فكل ما كان عليه فعله هو الانتظار لحين مغادرة المتنزهين للوادي وعندئذ يبحث في مكان تجمعهم فيجمع الخشب الجاف من الفروع والأغصان الميتة التي جمعوها أو سقطت، وفي أحد الأماكن التي كانوا يطهون فيها يضرم نارا كبيرة ودافئة جدا حتى يمكن له قضاء الليل دافئا. فجلس وظل ينتظر حتى اقتصرت الأصوات الصادرة من الوادي على شدو الطيور والمياه المتساقطة، المياه الجارية، المياه الضاحكة، المياه الصادحة بالغناء. ثم شرع يلتقط كل ما كبر حجمه بدرجة مناسبة للاحتراق، وراح يكومه في ثنية ذراعه اليسرى أثناء سيره، حتى بلغت حمولته أقصى ما يمكنه حمله. وبعد برهة وجد كهفا حجريا في جدار جانبي من الجدول، حيث كان الناس يطهون، وبعد التفتيش في قاع الرماد الذي صب عليه الماء وجد القليل من الجمرات المشتعلة. فكشط الرماد المبتل وأخذ الجمرات إلى المقدمة وحكها بالأغصان الصغيرة والحشائش الجافة، وبعد قليل حصل على شعلة ضعيفة، فظل يغذيها حتى حصل، مع غروب الشمس ونزوع الهواء للبرودة، على الحرارة التي يريح بها جسده المتعب.
وبعد ذلك، في إحدى جولاته بحثا عن الحطب، عبر الجدول وشق طريقه بمحاذاة الضفة اليمنى القريبة من قاعدة الجدار الهائل الذي مال مقطبا فوقه. وهناك وصل إلى هضبة صغيرة منبسطة من الحجر، فرأى ما جعله يضج بالضحك. كان المتنزهون الذين قضوا يوما سعيدا هناك قد تركوا بقايا غدائهم. وقد وضعوها على الصخور من أجل الطيور والسناجب، ولم تكن السناجب قد عثرت عليها بعد، كما أن الطيور قد رحلت منذ وقت طويل للخلود للراحة. فوجد هناك عدة شرائح من الخبز والزبد. وشطيرة لسان بارد، وبيضة مسلوقة ونصف خيارة مخللة بالشبت، فضلا عن قطع مفتتة من الجبن.
من ثم جلس جندي الحكومة، الذي أضحى جنديا مغامرا حقا، على الصخرة الكبيرة التي كانت لا تزال دافئة من حرارة النهار، وتناول كل ما أراد لغدائه من طعام ممتاز جدا. حين نهض ليذهب قال الأب الكامن بداخله: «اترك ما تبقى للكائنات الصغيرة كما وجدته.» وخاطبه صوت الأم بداخله فقال: «خذ معك كل فتاتة تتبقى من أجل الغد. فإن الكائنات البرية تعرف كيف تعتني بنفسها. أما أنت فمريض وكدت تبلغ حدود قدرتك على التحمل، وسوف تحتاج، وبشدة، إلى شريحة الخبز من أجل فطورك في الصباح.»
تأمل جيمي في الأمر. لم يكن قد وجد أي غضاضة حين أخذ سروال قاطع الطريق. كما أنه لم ينزعج الانزعاج الذي يثنيه عن استخدام محتويات المحفظة. وقد ملأ معدته إلى حد التخمة بما كان متروكا للكائنات البرية، فلم يعتد عليه أي من الكائنات البرية أو يحرمه من أي شيء. قد يكون في كل تلك النباتات التي تسلقت الجدران التي أحاطت به هناك وتدلت منها وكللتها طعام أشهى لذائقة الحيوانات البرية مما قد ترك لها. بيد أن جيمي كان به مسحة من خصلة ما، نفس المسحة التي أخذته إلى الغابات والأحراش، والتي أرسلته أميالا لا تحصى على امتداد ضفاف جداول أسماك التراوت في طفولته، مسحة من اللياقة والنقاء في روحه، وإنها تلك المسحة التي تقول له الآن: «فلتغامر مثلما تغامر تلك الكائنات البرية الصغيرة.»
هكذا جثا جيمي مرة أخرى وفتت الخبز وقطع حوافه. وبحركة عفوية وضع قطعة أخيرة من حواف الخبز في فمه، ثم ذهب للبحث عن حطب. حين شعر أنه قد جمع كمية كافية، زاد من اشتعال النار، فصارت باعثة على الدفء والراحة بقدر ما استدعت حاجته، فتكور أمامها، ومتوسدا ذراعه ومستندا إلى حجر، راح في النوم خلال دقائق قليلة جدا. لم يشعر البتة بالسحالي الصغيرة التي أخذت تجري على قدميه، ولم ير جرذ الغابة الذي جلس على فخذيه وظل يتفحصه بعينين متسائلتين ليرى ما إن كان معه أي شيء قد يريد أن يبادله بنصف الزرار المصنوع من اللؤلؤ الذي كان يحمله في خده الأيسر. استيقظ في الليل من صلابة فراشه قبل أن تنطفئ النار، فحشد عليها ما تبقى من الحطب وتحول بجنبه البارد تجاه النار والدفء ونام على جنبه الدافئ وعاد للنوم مجددا.
حين أقبل الصباح غسل وجهه ويديه بأن بلل منديله في الجدول، وبعد ذلك بلل منديله عدة مرات واعتصر ماءه على الجمرات التي كان قد تركها، مبعثرا بعضها بعيدا عن بعض، وماحيا أي أثر للنار يحتمل أن ينتشر. ثم، بقدميه اللتين كانتا لا تزالان تؤلمانه في الحذاء الذي لم يقدم على خلعه، بدأ السير هابطا نحو قاع الوادي.
في نحو الساعة العاشرة ذلك الصباح التقى بالحارس. لم يكن حارس هذا الوادي على وجه الخصوص منعزلا تماما شأن حراس الجبال؛ لذا كان ودودا. فقد توقف للتحدث معه مدة دقيقة، وبينما كان ينظر إلى جيمي نظرة عابرة لاحظ ضعف جسده، وشحوب يديه، وكيف أن بشرة وجهه مشدودة على عظام هزيلة، ولأنه شاب ومفعم بالحيوية، ويجري في دمائه عطف جارف على أخيه الإنسان، فقد قال لجيمي: «تقول لي أمي إنني إذا أفرطت في امتطاء الخيل فسأصاب بالنقرس في قدمي. ما رأيك أن تركب الحصان خلال الأميال القليلة القادمة وتسمح لي أنا بالسير؟»
قال جيمي إنه يسره ركوب الحصان إن كان هذا يناسب الحارس، لكنه لم يكن قد وضع في اعتباره ما سوف يفعله خطو الحصان بالجزء الأيسر من صدره. ورغم أنه استقر على السرج في وضع مريح بقدر ما استطاع، فقد كان الركوب مؤلما حتى إنه لم يستطع تحمله طويلا، ومن ثم، بعد ميل أو اثنين، اضطر إلى السير مرة أخرى. لكنه كان ممتنا بالعرض، وقد بدأ يستنبط في ذهنه على نحو مبهم الشعور بأن العالم يتكون من أشرار وأخيار، من أشخاص أنانيين وأشخاص يراعون الآخرين، من أشخاص قساة وأشخاص رحماء، وأي النوعين ستقابل حين تضطلع بمغامرة كبرى ما هي إلا مسألة حظ فحسب.
منذ التقى بالحارس فصاعدا، صارت مغامرة جيمي أميالا بطيئة من العذاب، وهو لا يزال متجها نحو الجنوب الغربي، حتى صارت الساعة الثالثة تقريبا من عصر ذلك اليوم. لم يكن أحد قد ترك علبة طعام ولم يكن هناك مكان يمكنه أن يشتري منه طعاما بالبنسات القليلة التي يحملها. كان قد غادر الوادي واتبع طريقا راح يتسع حتى صار مستوعبا للخيل والمركبات، فكانت تمر به سيارة من وقت لآخر؛ لكنه ليس طريقا كثير المسافرين؛ ليس من الطرق المزدحمة، ولا المعتنى بها، وقد صار من الصعب على جيمي مواصلته أكثر فأكثر؛ لأن قدميه كانتا قد تحملتا كل ما يمكن لقدم بشرية تحمله حين تتصل بشخص مريض يدفع نفسه ببسالة لأقصى حدود طاقته.
قرب الساعة الرابعة بدأ الجوع الذي كان معلقا منذ الليلة السابقة يعذبه مجددا. كان الإرهاق قد بلغ به درجة أنه وجد نفسه يحيد عن دربه خطوتين أو ثلاثا؛ لكيلا يضطر إلى رفع قدميه ولو قليلا ليخطو فوق نتوء صغير على الطريق. وقد بدأ يدرك أن فرصة الحصول على مأوى لقضاء هذه الليلة قد أصبحت ضئيلة. وكذلك فرصة العثور على طعام ضئيلة بالمثل. حتى الآن أسفرت مغامرته عن نقاط مضيئة، ومواقف مثيرة، ومواقف مؤلمة. أما في تلك اللحظة، بين الشعور بالوجع المتأجج في صدره والالتهاب المشتعل في حذائه والألم الذي عم جميع أنحاء جسده المعذب، فإنه لم يستطع أن يرى جدواها. شرع يتساءل ما إن كان يستطيع أن يعود أدراجه إلى المستشفى وما إن كانوا سيقبلونه، ثم خطر على ذهنه أمر الطاعون الأبيض الذي قالوا إنه لم يصبه بعد، فأغلق شفتيه بإحكام شديد بينما وقف مترنحا وهو يحدق مثل رجل شبه مخمور في الطريق الممتد أمامه، محاولا أن يحدد ما إن كان مسار العربات على يمينه يبدو أكثر سلاسة ولو قليلا من مسار العربات الذي على اليسار. حين قرر أن الذي على اليمين هو المناسب له ليسلكه سار مترنحا بخطوات واسعة وبدأ التقدم، وراحت عيناه تتفقدان الطريق خلسة على الجانبين بحثا عن البقعة التي سينهار فيها أخيرا. وتساءل، ما إن كان سيعثر عليه أحد إذا تعثر وسقط ولم يستطع النهوض، إذا استلقى غائبا عن الوعي في منتصف الطريق، وماذا سيفعلون به إن عثروا عليه.
إن البحث في جانبي الطريق جعل جيمي لا يلاحظ النقطة التي تحول فيها الطريق حتى وجد قدميه تتبعانه، ثم نظر قبالته فاتسعت عيناه وشهق شهقة خفيفة. إذ تسنى له أن يرى على الطريق، على بعد بضع قصبات (وحدة قديمة لقياس الطول تساوي خمس يارادات ونصفا) فحسب عن اليمين، منزلا صغيرا، ومن بين كل المنازل التي قد حلم بها من قبل، واعتقد أنه يود للغاية أن يمتلكها ويعيش فيها، بدا له ذلك المنزل الأكثر جاذبية.
كان قائما على مقربة من الطريق. وقد امتد بحذاء واجهته سور أبيض من الأوتاد الخشبية. وحجبه عن الطريق بوابة بيضاء أنيقة. وبدت واجهته المطلية رقيقة وساحرة. وقد تجلت سمات نيو إنجلاند في أرجائه. وتسلقت زواياه نباتات معترشة مزهرة واعتلت شرفاته الصغيرة الأمامية. خارج البوابة استطاع أن يرى دائرة من الصدف المجروش، وخيل إليه أن الممشى المؤدي إلى الباب الأمامي قد يكون مصنوعا من الأصداف. بدا واقعا في موقع قريب جدا من الطريق ولم يكن هناك مساحات كبيرة من التربة الخالية على جانبيه. حيث بدت كلها مليئة بالزهور نفسها التي كان جيمي يساعد في العناية بها في حديقة أمه في نيو إنجلاند. أمكنه أن يرى زهور الخطمية، التي استطالت حتى طالت أفاريز المنزل، وتعددت ألوانها، وعن اليمين واليسار استطاع أن يلحظ تدرج ألوان الكبوسين والزينيا والمخملية، واستطاع أنفه الحساس التقاط الرائحة النفاذة لزهور رقيب الشمس والبليحاء وأذن الفأر والبنفسج، لكن ما طغى على كل شيء آخر كان الانطباع لديه بوجود سحابة زرقاء، زرقة لطيفة جميلة تبعث على السكينة.
ظل جيمي يتمايل محملقا في المنزل في لهفة. وحمله نظره لما وراءه، فرأى أنه على الجانب الآخر من السور الفاصل يوجد فناء آخر ومنزل آخر، ثم أخذت المنازل تتجمع على نحو يبث الألفة على جانبي الطريق، وظلت المنازل تنتشر على مرمى بصره هنا وهناك، كدلالات أخرى على الحياة. وفي تلك اللحظة بلغ أذنيه على نحو رقيق ارتداد الأمواج ببطء، وانتظام فيما ربما كان أدنى مستويات المد والجزر للبحر.
في ظل ما انتابه من إنهاك، خدر الألم حواسه؛ إذ كان قد سار طوال الجزء الأكبر من وقت ما بعد الظهر، مثقلا، شبه واع، أما الآن وقد مسه اقتراب البشر، ومسه جمال منزل أحد الأشخاص، فقد تحمس لوجود احتمال ما أنه قد يجد المأوى والطعام، فتدفق دمه الراكد، ورفع رأسه، ولمعت قليلا عيناه المطفأتان، واتجه أنفه القوي نحو الغرب وتشمم مستطلعا. ثم قال جيمي، بصوت جهوري، من أغوار المجهول: «إن لم يكن أنفي الخبير يكذبني،
فيبدو أنني أشم ...
ما لا بد أنه المحيط «الهادر»!»
لم يدر البتة لماذا سماه المحيط «الهادر». ربما فعل ذلك لأنه كان في غاية من الإنهاك لدرجة أنه إذا لم يتدبر أن يضحك في نفسه بشأن شيء ما، فمن الوارد جدا أن ينهار على الطريق ويرقد بلا حراك دون أن يعبأ البتة بملابسه الجديدة، أو أي شيء آخر في العالم بأسره .
في تلك اللحظة انفتح الباب السلكي المؤدي من الشرفة إلى داخل المنزل الجميل، الذي كان خارجه بأكمله بمثابة دعوة رقيقة تستميل الزوار، وخرج منه رجل طويل القامة نحيل القد، أرستقراطي الهيئة من رأسه إلى قدميه، ممشوق القوام، ذو شعر أبيض طويل مثل الحرير مسترسل إلى الوراء بداية من جبهته، ولحية ناعمة قصيرة من حرير أبيض فضي متموج ممتدة حتى صدره، رجل ذو أنف طويل نحيف، وعينين واسعتين غائرتين، وشفتين شاحبتين. راح يترنح وهو يعبر الشرفة، وقد قبض على جانبه الأيسر بكلتا يديه وظل يتهادى يمينا ويسارا حتى بلغ البوابة. فرفع يديه عن جنبه وتشبث بالبوابة. فمال إليها وتعلق بها وجال ببصره في الطريق من أقصاه إلى أدناه، وهناك لمح جيمي. فرفع إحدى يديه ولوح بها.
ظل جيمي واقفا هناك يحدق إليه، وببطء وتأن، أنزل قدمه المتورمة على الطريق الصلب ثم تبعها بالأخرى، وأخذ بضع خطوات في اتجاه الرجل. توقف مرة أخرى ليحدق فيه، فلاحظ الخطوط الدقيقة في الوجه الهرم المكروب للبدن المتعلق بالبوابة، وملابسه المهندمة، وسلوكه المضطرب. ومن ثم، بكل ما استطاع حشده من قوته، أخذ جيمي بضع خطوات أخرى وصار على مرمى سمعه، فنزل على أذنيه المذهولتين والمرتابتين صيحته المكتومة إذ قال: «النجدة! أنقذني أيها الفتى أستحلفك بالله!»
قبل دقيقة لم يكن جيمي ليصدق أن باستطاعته مساعدة أي شخص أو أي شيء. فقد كان يتصور أنه قد بلغ حدود طاقته، وأنه إن لم يجد من ينجده هو نفسه في غضون دقائق قليلة فسوف يفوت أوان نجدته. لكن كان ثمة شيء في بياض الرأس العجوز الطيب، شيء ما في عرض منكبيه ونحول جسده ذكر جيمي بأبيه، وربما لأنه تذكر أباه، رفع جيمي عينيه أعلى المنزل الأبيض البديع، وفوق الأشجار المتشابكة المحيطة به، وفوق كرومه التي سترته، لأعلى نحو السماء، وفي أعماق قلبه أعطى أمرا حاسما. «لا بد أن تساعدني الآن، يا رباه! لا بد أن تساعدني الآن!»
ثم كور قبضتيه بإحكام شديد إلى جنبيه وعبر الخطوات الثلاث الأخرى نحو البوابة . واستجمع قواه ليفتحها، ووضع ذراعه حول الجسد العجوز المستند إليها، وسمع نفسه يقول بصوت جاف لاهث: «مهلا، بالطبع، سوف أساعدك!» ولم يكن لديه أدنى فكرة إن كان هو نفسه يستطيع السير ثلاث خطوات أخرى أم لا.
لكنه بالفعل خطا الخطوات الثلاث الأخرى، وفتح الباب السلكي، واتجه بالرجل المتعب الذي يحاول إسعافه نحو أريكة كبيرة وأنزله عليها، موفرا له الراحة على الوسائد التي ضغطها سريعا. ثم هبط إلى ركبتيه، وتشبث بجانب الأريكة، وتكلم مرة أخرى بصوته الجاف منقطع الأنفاس: «ماذا أفعل؟»
في حركة عفوية لمست يدا الرجل المتعب منطقة قلبه. فحدث جيمي نفسه، وقد صفا ذهنه إزاء مصاب رجل آخر قائلا: «إن ألمه قريب جدا من مكان ألمي.» فكرر سؤاله مرة أخرى: «ماذا أفعل؟»
فجاء الرد: «الهاتف. يجب أن تتصل بطبيبي. يجب أن تصل بي إلى مستشفى.»
نهض جيمي بالاتكاء على الأريكة ونظر حوله. ثم رأى هاتفا على الجدار ومنضدة صغيرة أمامه وعليها دليل هاتف مفتوح، فجلس على المقعد وتنفس بعمق مرة أو مرتين. ثم سأل من فوق كتفه: «هل تستطيع إعطائي الرقم؟»
بعد نوبة من الألم جلبت العرق للجبهة البيضاء المرتفعة فوق الحاجبين الأبيضين اللذين ظللا عينين كبيرتين بدتا مثل بركتين من السواد، جاءت الإجابة: «ستجد الرقم والاسم في القائمة الموجودة بجانب الهاتف. دكتور جرايسون.»
بحث جيمي عن السطر ووجد الاسم والرقم، ثم أجرى الاتصال، وأثناء انتظاره أن يرد سأل مرة أخرى من فوق كتفه: «ما اسمك حتى أخبر الطبيب به؟»
فكانت الإجابة اللاهثة: «سيد النحل.»
ومن فوره وجد جيمي نفسه يلح على أن يأتي الدكتور جرايسون إلى الهاتف بنفسه، وحين أكد له أن الدكتور جرايسون هو الذي يتحدث، وجد نفسه يستجمع قوته ليقول: «لقد أصيب سيد النحل بنوبة قلبية خطيرة جدا. ويريدك أن تأتي وتحضر عربة إسعاف. فهو يريد أن يؤخذ إلى المستشفى في الحال.»
فكان الرد: «حسنا. يمكنني أن أصل إليه خلال ساعة.»
عندئذ صاح جيمي عبر الهاتف قائلا: «تعليمات! أعطني تعليمات! ماذا يجب أن أفعل له؟»
فجاء الرد: «روح الأمونيا العطرية. اغسل وجهه ويديه. وأعطه بضع نقاط. اجعله في وضع شبه منتصب. وأنا سآتي سريعا بقدر ما أستطيع.»
هكذا عاد جيمي إلى الأريكة، وهمس وهو يضع يديه على الرجل المأزوم فقال: «فلتساعدني، يا رب، الآن!» واستمد القوة من حيث لا يدري ليشد سيد النحل لوضع أقرب إلى الجلوس وليكوم الوسائد عاليا وراءه. ثم بدأ ينظر حوله ليرى من أي مكان يمكنه استحضار روح الأمونيا العطرية. لقد تحدث الطبيب عنها كما لو كان ذلك العلاج موجودا في مكان قريب ومعتادا استخدامه. حين لم يستطع أن يرى أي شيء يفيد بمكان الزجاجة، أقدم على السؤال، فوجهته إشارة باليد إلى غرفة ملحقة حيث وضعت، على منضدة بجوار الفراش، زجاجة عليها ملصق كتب فيه «أرواح عطرية». فأخذها جيمي، ثم سار بخطوات متعثرة لمؤخرة المنزل وفي بحث سريع للمطبخ الذي وجد نفسه فيه التقط منشفة. لبرهة قصيرة من الوقت ألقى نظرة من الباب الخلفي، حيث يؤدي ذلك الباب الخلفي إلى شرفة، امتدت الأرض بعده مستوية لبضعة أقدام، بعدها بدأ ممشى على منحدر غير ممهد بالمرة وقد بدا أنه يؤدي لأسفل، أكثر فأكثر، وبنظرة سريعة تهلل جيمي بهدوء: «يا إلهي، لقد بلغت البحر!»
التقط المنشفة وعاد مسرعا ليبلل أحد أطرافها بالزجاجة، وبينما هو يمدها تجاه الرجل المريض مر بها خلسة أمام وجهه واستنشقها ملء رئتيه. ظل قريبا جدا بحيث يتمكن من غسل يديه ووجهه، وقد استمد من الأمونيا قوة كافية للوقوف والرجوع إلى المطبخ. ثم سمح لنفسه بنزع الغطاء الورقي عن زجاجة الحليب التي كان قد رآها عند الباب الخلفي، وببطء، وبتأن، تجرع نصف محتوياتها. أعطاه ذلك همة عالية حتى إنه استطاع العثور على حقيبة كانت فوق خزانة في غرفة نوم، واستطاع أن يفتح صندوقا وينقل في الحقيبة أوراقا معينة، ويعيد غلق الصندوق ويعطي المفتاح للرجل المعتل. ثم عثر على معطف وخفين وغيرها من الأشياء الصغيرة التي أمر بجمعها، وحين صار كل شيء جاهزا جلس بالمنشفة المشبعة بالأمونيا لينتظر الإسعاف. ثم طلب منه البقاء في المنزل، ورعاية النحل حتى التحقق من درجة مرض مربيها، ومتى يصبح قادرا على العودة إلى عمله.
قال جيمي معترضا: «إنني لا أعلم أي شيء عن النحل.» وتابع: «لا يمكنني رعايتها. ألا تستطيع أن ترشدني إلى شخص يمكنه رعاية أملاكك بأسلوب حكيم؟»
قال سيد النحل: «الأعمال ليست كثيرة.» وأضاف: «املأ الأحواض بالماء باستمرار. أما طعامي فتأتي به جارتي في البيت المجاور. ويمكنك النوم في فراشي. أنت نفسك تبدو متعبا ومريضا. وأنا لا أخشى أن أثق في رجل لديه لمستك ووجهك وصوتك. عدني أنك ستأخذ مكاني حتى أعود.»
هنا مد جيمي يده في جيبه وأخرج وسام الشجاعة ليحمله قبالة عيني الرجل المريض. وقال إنه قد سرح مؤخرا من الجيش، وإنه ليس لديه منزل في الوقت الحالي، وسيسره أن يبقى في ذلك المنزل الدافئ ويفعل ما في وسعه، لكن لا بد أن يحصل على توجيهات، توجيهات كاملة، بخصوص ما عليه أن يفعله للنحل.
ابتسم سيد النحل ابتسامة نادرة ومضيئة، واستلقى على الوسائد كما لو كان راضيا، ثم قال: «في أي يوم قد يأتي الكشافة الصغير، إنه مساعدي، ويمكنك أن تسأله أي شيء تريد معرفته وستحصل على إجابة سديدة. ومن الممكن أن تخبرك جارتي مارجريت كاميرون بالكثير، كما أنها طاهية ممتازة. أخبرها بما تحبه ويمكنك أن تستخدم ملابسي وفراشي.»
وهنا أغمض عينيه وسقط غائبا عن الوعي.
بعد دقائق قليلة جاءت سيارة الإسعاف ومضى في طريقه نحو المستشفى جسد الرجل العجوز ذي الوجه الذي يمثل نموذجا رائعا لتجسيد أي من القديسين القدماء. في غضون ما لا يزيد عن دقيقة حصل جيمي على عنوان المستشفى من الطبيب الذي كان قد جاء من أجله، وعلى وعد باتصال هاتفي بعد إجراء الفحص. وقد راق له الدكتور جرايسون، وراقت له اللمسة التي وضع بها يده على حطام الرجل العجوز الطيب الراقد على الأريكة، والطريقة العطوفة التي انحنى بها على الجسد العليل، وكل نبرة في الصوت الذي شرح به الحالة. «ظل سيد النحل يتحاشى انهياره حتى داهمه. لا بد أن يذهب إلى المستشفى. ولا بد أن يبقى لإجراء عملية ظل يتجنبها طوال عام أو عامين. أرجو أن تستطيع أن تعد العدة للإقامة هنا، ما دمت الرجل الذي اختاره، لعدة شهور على الأقل.»
رفع جيمي يده المرتعشة إلى شفتيه الجافتين وقال مكررا ومرددا: «لكنني لا أعرف شيئا عن النحل! لا أعرف أي شيء عن النحل مطلقا!»
بعد أن تحركت سيارة الإسعاف بعيدا، عاد مترنحا إلى المنزل ودخل المطبخ مباشرة، حيث أنهى ما تبقى من الحليب، وقد أكسبه هذا بعض القوة حتى إنه تخطى الباب الخلفي ونظر باتجاه سفح جبل صغير حيث بدا العالم كله نابضا بالحياة ومتألقا بالزهور تلو الزهور من الأنواع قديمة الطراز نفسها التي ازدهرت حول الواجهة، وعلى الجانبين على امتداد الخط الخارجي لأرض واسعة لا بد أن مساحتها بلغت فدانين على الأقل، كان هناك حرفيا مئات القفائر البيضاء المقببة التي أخذ النحل المثقل يطير نحوها بطنين خفيض. ثم أمكنه أن يرى مساحة من الرمال الذي بدا مثل الفضة، بعدها استطاع رؤية وسماع الحركة المنتظمة للمحيط الهادئ عند انخفاض المد.
ظل واقفا هناك إلى أن لم يعد قادرا على الوقوف؛ ثم أغلق الباب وأوصده وعاد إلى الأريكة. هوى عليها، وتخلص من حذائه، وخلع معطفه عن كتفيه، وسحب دثارا هنديا فوق صدره، وأنزل الوسائد أكثر، ثم غاب عن الوعي كما غاب عن الوعي سيد النحل قبل قليل.
الفصل الرابع
في حديقة النحل
لم يستيقظ جيمس ماكفارلين قبل عصر اليوم التالي، ولم يستعد وعيه شاعرا بالانتعاش أو النشاط. حين حاول اتخاذ وضع الجلوس اكتشف أنه كان يشعر بالألم في كل موضع، أن كل عظمة في جسده تتوجع وجعا غير محتمل، وحين وضع قدميه على الأرض وفحصهما بدقة ثم نظر إلى حذائه، أدرك أن الحذاء سيظل ضيقا على قدميه لبعض الوقت.
وحين تذكر أن سيد النحل قد عرض عليه استخدام ملابسه وفراشه، راح يجوب المنزل وهو يعرج حتى وجد غرفة النوم، وقد ندت عنه صيحة امتنان حين دخل بالمصادفة الحمام الملحق بها. فقد ساعد الاستنقاع التام في المياه الساخنة ثم الاستحمام بالمياه الباردة بعد ذلك على تخفيف الوجع والألم إلى حد كبير. كما أنه استعار ملابس داخلية وجدها في خزانة أدراج داخل غرفة النوم ليمنح نفسه شعورا بالراحة، ووجد على أحد الرفوف خفين مناسبين لقدميه.
ثم هبت على أنفه رائحة طعام مطهو، وحين دخل غرفة المعيشة كانت المرة الأولى التي يرى فيها مارجريت كاميرون لدى الباب.
لم تكن مارجريت كاميرون تشبه أم جيمي مطلقا، لكن بدا عليها سيماء امرأة يجوز أن تكون نموذجا للأم في المطلق، بل النوع الأمثل من الأمهات. كان وجهها جميلا الجمال البسيط الذي دائما ما يدل على روح لا تقهر. من نظرة واحدة إلى مارجريت كاميرون يمكن للمرء أن يعتقد مطمئنا أنها تفضل الغرق وتقطيع أوصالها على التخلي عن دينها أو بلدها أو آرائها السياسية أو أسرتها. كانت امرأة طويلة، وهي رشيقة إذ لم يكن بها أوقية من لحم زائد. وشعرها أبيض وعيناها زرقاوان. مع بعض الحمرة في شفتيها ووجنتيها. وقد بدت لجيمي رائعة حين ابتسمت له.
قالت له: «لقد تلقيت اتصالا من الدكتور جرايسون هذا الصباح. حيث اعتقد أنك ستكون نائما ولم يرد أن يوقظك. وأخبرني أنك سترعى الأمور هنا حتى يعود إلينا سيد النحل. لشد ما يؤسفني أنني كنت غائبة أثناء مصابه. كانت شابة من أقاربي بحاجة ماسة إلي؛ فقد وقعت وفاة في أسرتها واضطررت إلى الذهاب إليها.»
قال جيمي: «أعتقد أنني وفرت كل ما احتاج إليه سيد النحل، وأعتقد أنني لم أضع وقتا.»
كان ثمة إيحاء بالحسم في الحركة البسيطة التي مدت بها مارجريت يديها.
قالت بلا مواربة: «ليس لدي شك أن سيد النحل حصل على كل ما يحتاج إليه. لا يوجد على وجه الأرض من يرفض أن يفعل أي شيء يطلبه منه مايكل ورذينجتون. إن قصدي هو أنه اضطر إلى الاستغاثة بغريب، من أجل النجدة التي كنت سأود تقديمها له، بصفتي صديقة قديمة العهد.»
قال جيمي بهدوء: «أدركت مقصدك.» وتابع: «يؤسفني أنك لم تكوني هنا. وأعتقد أنك محقة أنه لا يمكن لأي شخص أن يرفض له أي طلب؛ فها أنا ذا، رغم أنه لا يمكن أن يوجد في الولاية شخص أقل أهلية للقيام بما طلبه مني. لكن لأنه طلب ذلك، فإنني هنا لأحاول.»
عبرت وجه مارجريت كاميرون ابتسامة باهتة. وضاقت عيناها وهما تتابعان خط رؤية امتد في حجرة المعيشة، مرورا بالمطبخ وحجرة الطعام المدمجتين، عابرا الرواق الخلفي خارجا نحو الفراسخ الممتدة بلا عدد للبحر بعيدا؛ البحر الهادئ، المحيط الآمن الذي يبتسم ويستميل ويدعو، ونادرا جدا ما يكشف عن أنياب وفكي الوحش المتربص في أعماقه.
قالت بهدوء: «أعلم ذلك.» وأضافت: «أعلم سبب وجودك هنا، وأستطيع أن أرى أنك لست أهلا للعمل. لقد ذكر لي الدكتور جرايسون أنك بدوت في غاية التعب. لقد اعتقد أنك ربما تكون أحد جنودنا، الذين كانوا في الخارج.»
أدخل جيمي أصابعه في جيبه وأخرج وسام خدمة ووسامين للشجاعة ومدها إليها، فتقدمت مارجريت كاميرون وضمت يديه المرتعتشتين الشاحبتين بيديها وقالت: «فليباركك الله، يا بني! إنني أحفظ روتين سيد النحل عن ظهر قلب، ورغم أنني ليس لدي معرفة كبيرة بالنحل؛ لأن كل اهتمام سيد النحل كان تعليم الكشافة الصغير، لكن لدي معلومات كافية لأدلك على مكان أحواض المياه وكيف تجعلها باستمرار ممتلئة بالخليط المناسب من المياه، ولا تتعجب، فهي تحب أن يوضع فيها رشة ملح، وأستطيع أن أستعرض معك الزهور وأريك أيها تحتاج إلى ماء أكثر ومتى. أعتقد أنك إذا استرحت بضعة أيام فستستطيع أن تنجز الأمر على أكمل وجه، وسوف أطهو وجباتك كما كنت أطهوها دائما لسيد النحل. أرجو فقط أن تخبرني بما تحبه تحديدا وكيف تريده. فكل شخص له ذوق خاص.»
قال جيمي: «هذا كرم بالغ منك.» وتابع: «إنني على استعداد للإقرار بأنني أتضور جوعا الآن، وإنني متأكد أن أيا ما أتيت به فسيكون مناسبا.»
ومن ثم ذهب إلى المطبخ وتناول الطعام الذي أحضرته له مارجريت كاميرون. وقد تعلم كيف يشغل موقد الغاز في حال أراد شرابا ساخنا في أي وقت من الأوقات. كما أنه أخبر بالمكان الذي يوجد فيه صندوق الثلج الصغير في الشرفة الخلفية حيث يوضع يوميا زجاجة قشدة وزجاجة حليب، ولاحظ سلة بيض وبعض الفاكهة، ثم ذهبا معا إلى الحديقة وعرف أماكن وصلات الخراطيم المختلفة وأعطي توجيهات مفصلة حول ري الزهور.
وحين لاحظت كم كانت حركته مضطربة جدا وكم كانت قدماه متورمتين للغاية، وحين رأت يديه الهزيلتين الشاحبتين وقد نتأت فيهما العروق الزرقاء، توصلت مارجريت كاميرون إلى قراراتها الخاصة. حين اقتربا من الجدران الخلفية تقدمت ببطء شديد لتمهل جيمي الوقت لمجاراتها، وحين وصلا إلى الباب الخلفي سألته قائلة: «هل لديك مناعة من النحل؟»
نظر جيمي إليها لوهلة في صمت متسائل، متفكرا في ذلك السؤال، ثم قال: «لا أعتقد البتة أنني أعرف قصدك بعبارة «المناعة من النحل».»
قالت مارجريت كاميرون: «عجبا، أقصد أن هناك أناسا في هذا العالم لا يحبهم النحل. هناك أناس إن ساروا عبر أي من الخطين الجانبيين لهذه الحديقة فسيلاقون موتا محققا في غاية البشاعة. هناك أناس يكرههم النحل بالفطرة، وهناك آخرون يكتسبهم أصدقاء على الفور. هناك نوع من البشر يمكنه أن يرفع سقف القفير ويغترف حفنة من النحلات العاملات. ومنهم رجل يأتي أحيانا لمساعدة سيد النحل فيتجول حاملا النحل في قمة قبعته. لكن هذا لا يثبت أنها قد تكون آمنة لكل شخص.»
تفكر جيمي في الأمر. «كيف لي أن أكتشف ما إن كان لدي «مناعة من النحل»؟» تساءل، وهو يستند إلى إطار الباب مواجها المرأة الواقفة قبالته وقد لاحظ أنها تكاد تكون بنفس طوله.
قالت مارجريت كاميرون: «هنا بالضبط، يأتي دور الكشافة الصغير. لم يترك سيد النحل أي شيء يعلمه عن النحل دون أن ينقله بعناية لمساعده؛ معاونه الأول. أعتقد أنك سيأتيك زائر اليوم أو غدا. إن لم يأت فسوف أهاتفه. اسمع نصيحتي وابتعد عن القفائر حتى تحصل على إرشاداتك.»
بعد ذلك جمعت مارجريت كاميرون الصحون التي استخدمها جيمي في سلة، وعبرت الفناء الجانبي، ودخلت حديقة منزلها من خلال بوابة صغيرة.
وقف جيمي يشاهدها وهي تذهب إلى منزل أبيض من دور واحد بدا مبهجا ودافئا، بدا أنه ربما احتاج إلى القدر نفسه من العمل والمدة الزمنية نفسها في بنائه، لكنه، بطريقة ما، افتقر إلى السحر الجذاب الذي تمتع به منزل سيد النحل.
بعد أن أكسبه الطعام بعض النشاط، ذهب جيمي إلى منتصف الطريق ووقف ينظر إلى المنزل والأرض. كان هناك تفاوت طفيف جدا في عرض الأفاريز وزاوية السطح، حتى إنه يصعب على المرء أن يحدد أين يكمن الفرق بينه وبين المنازل الأخرى الممتدة حتى آخر الشارع.
وبينما ظل واقفا يتفحصه، وجد جيمي صعوبة في تحديد الاختلاف لنفسه. ربما كان الموقع، وسياج الأوتاد الخشبية المطلي بالكلس، والشرفة المنحدرة الأنيقة. ربما كان اللون المميز للطلاء الذي حفظ الخشب. ربما كانت الكروم النادرة، والشجيرات ذات الرائحة العطرة، والزهور المبهجة التي احتشدت في كل مكان من دون أي نظام أو دقة. على أي حال، كان ثمة شيء مميز في المنزل، وقد ظللته أشجار أوكالبتوس باسقة وشجرة جاكرندا رقيقة، أحاط بها غطاء زاه من سحر الزهور الزرقاء، أعطته - لم يجد جيمي تعبيرا آخر - واجهة مرحبة. فقد بدا كأن له طابعا آدميا وبدا كأنه يبتسم ابتسامة ترحيب غاية في الدفء.
ثم نظر جيمي وراءه إلى زرقة البحر المتلألئة وزرقة السماء المشابهة، ثم ارتقى ببصره نحو مستوى أعلى. وقف هناك وقد استغرق في التفكير، وقبل أن يدرك ما كان يفعله كرر بلكنة أبيه العبارة التي استخدمها قبل بضعة أيام: «كم أنت كريم معي، يا رب!»
ثم ابتسم جيمي بعينين حالمتين للمنزل، واتجه إلى داخله، ملاحظا باهتمام المقاعد الجانبية والكروم الرقيقة التي شذبت فوق الشرفة. نظر إلى الأبسطة التي على الأرضيات وخمن أنها فارسية عتيقة وثمينة. فلم يكن ضليعا في أصول عالم الأبسطة. كما أدرك أن الأثاث عتيق وثمين أيضا. حيث مر بأصابعه في إعجاب على قطع من خشب الورد والماهوجني قديمة ولامعة من الاستخدام، وقد صممها حرفيون مهرة منذ زمن بعيد على الجانب الآخر من البحار البعيدة.
استحوذت خزانات الكتب ، الممتدة من الأرض للسقف، في جميع أنحاء الحجرة تقريبا، على انتباهه بضع لحظات، ثم توقف أمام طاولة للكتابة، مفتوحة، حيث كانت ريشة سيد النحل في حامل صغير للحبر مصنوع من قرون الحيوانات، وأوراق خطاب لم يكتمل ملقاة على الدفتر. وبدافع الرقي الأصيل في قلب رجل نبيل من اسكتلندا، التقط جيمي الأوراق، ورفع الدفتر، وقلبها على وجهها على الخشب الماهوجني لطاولة الكتابة، وأعاد الدفتر إلى مكانه. سيظل الخطاب هناك دون أن يمس إلى حين عودة سيد النحل.
بعد ذلك انتقلت عينا جيمي إلى الخزانة فوق طاولة الكتابة. كان من البداية قد قرأ أسماء بارزة في الأدب، لكن بدا أن كل مجلد في تلك الخزانة الصغيرة كان إما خاصا بالنحل كلية أو متعلقا به بطريقة ما. وعلى الفور ارتفعت يد جيمي لفتح أحد المجلدات. قد تكون ضخامة المجلد هي ما نبهه إلى واقع أنه من الأفضل له أن ينعم بالراحة بضعة أيام أخرى قبل أن يشرع في مهمة قد تنتهي سريعا أو تستغرق وقتا طويلا. بعد ذلك تفقد غرفة النوم المجاورة بالتفصيل، ملاحظا تنظيمها، ودقة ترتيبها، وبهاء النقوش والزخارف ودقتها، وندرة الكتب الملقاة هنا وهناك، والأناقة البسيطة للمفروشات.
وعاد من خلال المطبخ والرواق الخلفي وخرج إلى الضوء المنبلج لشمس بعد الظهيرة. كان في حال من الهزال والبرد تجعله يحب دفئها.
بينما كان واقفا هناك يجول ببصره في المساحة الممتدة من الحديقة إلى البحر، أحس أنها ضمت أجمل صورة رآها على الإطلاق. كانت تغطي فدانين من جبال سييرا مادري حيث تلتقي بالمحيط الهادئ. ويمتد عبرها ممشى وعر، مرصوف بأحجار جمعت من جانب الجبل، وبه درجات تهبط حتى الشاطئ بالأسفل. كما توجد عريشة عامرة بالأعناب مثل تلك الموجودة في حدائق الشرق، لكن ينمو بينها بوفرة زهور الوستريا والياسمين البري، والورود والكروم، وهي كروم لم يكن يعلم بأسمائها ولا عاداتها ولا أوان إزهارها. ونبتت على الجانبين، أحيانا على ما نتأ من صخور كبيرة منحدرة، وأحيانا على هضاب صغيرة خصبة، وأحيانا أخرى على منحدرات سهلة، كل أشجار الفاكهة التي يحلو لها الازدهار في تربة كاليفورنيا وشمسها - البشملة والتين، والبرتقال والليمون، والبرقوق والخوخ، والكمثرى والنكتارين، والتمر والجريب فروت - شجرة أو شجرتان فقط من كل نوع، وقد زرع بينها وأسفلها أحواض صغيرة للخضراوات.
ثم استرعى انتباه جيمي وهج أحمر أرجواني حيث نبتت بوفرة، على أوتاد لافتة للنظر، بمحاذاة الممشى حتى منتصف الطريق الهابط على جانب الجبل سيقان الطماطم حاملة ثمارا ضخمة، منها ما نضج حتى امتلأ عن آخره، وانتشرت في كل ناحية الأشجار القصيرة والشجيرات والكروم والزهور، والمزيد من الزهور، ولما تعرف جيمي على كل منها تقريبا، أدرك أنها كانت الزهور الساحرة القديمة التي كانت أمه وجدته تزرعانها. كما وجد هناك زنابق مادونا، التي تفتحت مزدهرة في التربة الدافئة وأشعة الشمس المغرية، بارتفاع أقل قدمين أو ثلاثة عن ارتفاعها في حدائق الشرق الباردة. افترش الأرض حولها أحواض زهور القرنفل، التي مست الهواء المالح المنعش بحلاوتها النفاذة، وزهور البليحاء ورقيب الشمس، وزهور أذن الفأر وزهور الآس الزرقاء الرائعة التي لم ير جيمي مثيلا لها قط؛ عالم كامل من الزهور والفاكهة.
وتصاعد من كل جهة، باطراد وبطء، طنين منخفض من ملايين النحلات العاملات؛ نحلات تسكن في قفائر، ليست مثل البيوت المسطحة القبيحة المستخدمة في عدد لا حصر له من المناحل التي مر بها أثناء رحلته، وإنما قفائر وضع كل منها في بقعة منفصلة ارتفعت فوق الأرض على منصة منخفضة ولها سقف مستدير مدبب أعطاها جمالا وجاذبية وانسجاما مع المكان. عند إمعان النظر اكتشف جيمي أن كل قفير وضع في حوض من زهور الآس الزرقاء مثل زرقة السماء. ثم رأى أن السياج القائم خلف القفائر كان جدارا من نبات البلمباجو الأزرق، صفوف رقيقة منها. وبالأعلى، توجد أشجار جاكرندا الرقيقة الرائعة، واحدة تلو الأخرى، حاملة سحبا من الزهور الزرقاء امتدت إلى عنان السماء. ثم أدرك أن هناك عالما من اللون الأزرق، في مواجهة القفائر وحولها وقربها: بنفسج أزرق ورقيب الشمس وأذن الفأر والفيربينا الزرقاء والزنابق الزرقاء وزهور العائق وزهور عشبة الجريس والفلوكس ورعي الحمام الأزرق، وأيضا المزيد من اللون الأزرق؛ إذ مرت فوق رأسه ووجهه طيور الطنان المزدانة رقابها والمتوجة رءوسها، وقد اجتذبتها الألوان الحمراء والزاهية حول المنزل، أما النحل فقد عاش في عالم كامل من اللون الأزرق. حيث بدا كأن الزهور الزرقاء تحب بشدة أن تتسلق هذه القفائر البيضاء، لتعترش حولها، وتتشبث بها، وتزدهر فوقها. ولما اقترب جيمي من الممشى الخلفي وحيدا، لاحظ عدة قفائر كبيرة قائمة بمفردها على مساحة عدة أقدام كان عليه أن يمر بها في أول رحلة له بامتداد الحديقة؛ ليخرج من البوابة، ويعبر شريط الرمال حيث كان المحيط يأتي متوثبا على الشاطئ، في خليج فسيح، لينزلق متراجعا مرة أخرى، على مهل وبرقة، ناشدا أغنية هامسة خفيضة فحسب هي أفضل شيء في العالم لتهدهد رجلا متعبا حتى ينام.
ببطء، وبقدمين مضطربتين، شق جيمي طريقه عابرا الطرف الخلفي من المنزل. تحت شجرة جاكرندا على الجانب الشرقي رأى مقعدا غاية في الجاذبية. فذهب وجلس عليه تحديدا في الموقع الذي ألقت فيه فروع الشجرة فوق رأسه ظلا مخلخلا تاركة جسده النحيل ممدودا في ضوء الشمس. جلس وحاول أن يفكر. ولأن السماء كانت جميلة جدا، والبحر جميل جدا، والحديقة جميلة لكن جمالا يثير القلق، فقد راودته الفكرة القديمة التي ظل يجترها أينما ذهب طوال العامين الماضيين: حتى متى؟ وما الوقت المتاح له، على أي حال؟ متى ستفقد السماء واقعها الأبدي ويتوقف البحر عن الابتسام، ومنظر الزهور وشدو الطيور وطنين النحل وصرير صراصير الليل؛ متى ستصبح في طي الماضي بالنسبة إليه؟
ولأنه قد أجهد نفسه جهدا مؤلما جدا، ولأنه كان منهكا أشد الإنهاك ومتعبا بدرجة مفرطة من رحلته، فهو لم يكن متفائلا جدا. فقد بدا كل شيء يخصه كئيبا أكثر من أي وقت مضى. كانت الضمادات التي نزعها من أجل الاستحمام ملطخة بصديد فاقع، لتخبره مجددا بقصة الجروح الساخطة التي تأبى الاندمال. هكذا بدا لجيمي أن حالته الخاصة في عصر ذلك اليوم ميئوس منها أكثر مما بدت له حين نهض في تمرد محموم وخرج من كنف حكومته. لكن كانت المفارقة في الموقف برمته أنه في الوقت الذي يرى فيه أن الأمور قد بلغت درجة غير مسبوقة من القتامة، كان قد حل بأحد المواقع الأروع جمالا على وجه الأرض.
قليلة هي الأماكن التي يبني فيها الحب والصنعة منزلا صغيرا بواجهة مرحبة. وقليلة هي الأماكن التي يقيم فيها الحب والفطرة السليمة حديقة، نصفها نباتات برية ونصفها الآخر أشياء قديمة ساحرة تطورت من دون مساعدة التهجين والتسميد وغيرهما من البدائل التي تؤدي إلى نمو شديد التفشي والضخامة حتى ليصعب على المرء أن يصدق أن الزهور كائنات حية. قليلة هي الأماكن التي ينخفض فيها ارتفاع جانب جبل ما سيرا وانزلاقا وقفزا، ويتعرج في مسارات ملتفة مزدانة بالزهور حتى يصل إلى الرمال البيضاء لبحر أزرق متلألئ، ويسهل تصديق أن مكانا كهذا بالطبع يصبح مأوى لبيوت صغيرة مستديرة بيضاء ذات أسقف مستديرة حيث تصنع ملايين النحلات العسل لتحلية الطعام لعالم بأكمله.
ومن الطبيعي توقع أن يجذب طنين النحل وأريج الزهور الطيور إلى مكان كهذا، فلا بد عبر أي مساحة من شاطئ المحيط أن تجد مساحات شاسعة ممتلئة بطيور البجع الرمادية الكبيرة والزقة الأمريكية سوداء الجناح، والبط البري، وطيور النوارس ناصعة البياض وسنونو البحر معقوفة الأجنحة، كأنها طيور من العاج المنحوت، تحلق وتطوف فوق المياه مدفوعة بالحب الخالص للسماء الزرقاء والمياه الزرقاء، وللاستمتاع بقدرتها على الطيران. ولا بد أن ترى طيور النوء وطيور الطيطوي الصغيرة طويلة السيقان وطيور الزقزاق وهي تميل على امتداد الشاطئ، ولا بد من وجود أطفال صغار يحفرون في الرمال، وأشخاص كبار ينعمون بساعة من البهجة ممددين في أشعة الشمس، سائلين الأرض أن تبرئ أجسادهم وخالق الشمس أن يشفي قلوبهم.
حين جلس جيمي على المقعد تحت شجرة الجاكرندا شاعرا بسقم شديد حتى إن دموع رثائه لحاله راحت تلهب عينيه الرماديتين النجلاوين، تساءل تساؤلا مبهما عما قد يحدث له إن نزل إلى البحر ونقع جسده في المياه الباردة المالحة وترك الشمس تنفذ داخل جسده كل الخواص الطبية التي تحتوي عليها مياه البحر. لقد ظل عاما يجرب الاستشفاء بالمياه الساخنة القادمة من أحشاء الأرض المستعرة. فكيف سيكون الأمر إن جرب عاما من الاستشفاء بالمياه الباردة القادمة من بحار سطح الأرض مع شمس السماء؟
التوت شفتا جيمي في أسى. ربما هو الآن أقرب ما يمكن له على الإطلاق من النعيم إلى أن يحين وقت خروجه من هذه الجنة، وربما تنتهي مدة توليه مهام المنزل الأبيض الصغير والحديقة الجبلية بعد بضعة أيام فحسب، ويصبح نصيبه أن يواصل الترحال إلى أن تزداد حالته بؤسا حتى عما كانت في تلك اللحظة.
الفصل الخامس
الكشافة الصغير
في اليوم التالي، بينما كان جيمي جالسا على المقعد نفسه، وذهنه مشغول بالموضوع نفسه، قفز طفل رشيق نوعا ما عاليا من فوق السياج وحط بمهارة على ممشى الحديقة المغطى بالرمال. حين استعاد الجسد الضئيل توازنه، قبضت إحدى يديه على حزام سروال قصير غاية في القذارة ودست فيه اليد الأخرى إمعانا في تثبيته طرف قميص لم يكن بالغ النظافة. وبينما يقف على قدم واحدة، خلع الفتى حذاء قماشيا من القدم الأخرى، ونفض عنه الرمل، ثم ارتدى الحذاء مرة أخرى على قدم حافية. أخذ الطفل نفسا عميقا ووقف للحظة بلا حراك يجول بنظره متفحصا الحديقة.
خلال لحظة الثبات تلك، راح جيمي يتأمل في ذهنه هذا الجسم النحيف المسطح. حيث ربطت إحدى ساقي السروال عند الركبة. بينما فقدت الساق الأخرى ربطتها وتدلت حتى منتصف الكاحل بحزام سائب ومشبك متخبط. وكان كما القميص الأخضر الكاكي ممزقين عند المرفقين وقد شق أحدهما بالطول حتى المنكب. كما كشفت اليدان والذراعان والساقان عن آثار تسلق وأنشطة عنيفة. وكان الوجه الصغير مسطحا بعض الشيء؛ فالأنف أفطس صغير، والفم واسع. ولم تبد العينان بالغتي الاتساع. لم يستطع جيمي أن يحدد وهو على ذلك البعد ماذا كان لونهما. ربما كان الشعر سيصبح بنيا لو لم تبهته شمس كاليفورنيا الحارة حتى صارت الطبقة الخارجية ذات لون أصفر باهت؛ أما المواضع التي افترق فيها شعره فقد ظهرت فيها خصلات داكنة أكثر. كان مقصوصا بطول واحد على شكل دائرة عند الأذنين مع غرة بامتداد الجبهة. «إنه من أصول هولندية» هكذا افترض جيمي، وبينما هو جالس يشاهده، شرع الطفل يدور بحركة غاية في الرشاقة والخفة، ويرقص تحت أشعة الشمس.
راح الجسد الصغير يجول في أنحاء الممشى وهو يقوس ذراعيه فوق رأسه حتى تتلامس أصابعهما أحيانا، وأحيانا أخرى يمد الذراع اليمنى ويرفعها باسطا اليسرى خلفها مثل كوكب عطارد في مداره، وهو يدور، ويشب كأنه يلتقط فراشات من الهواء، راقصا وحده تماما في منتصف وقت بعد الظهر تحت شمس كاليفورنيا. وبعد ذلك، عندما اعتراه التعب، تحول الفتى فجأة من الرقص إلى السير في اتجاه جيمي مباشرة. حيث يوجد في منتصف الطريق حوض زنابق مادونا. فتوقف الطفل أمامه وانحنى، وأخذ يحدق في وجوه الزنابق، وعندئذ اتسعت عينا جيمي وارتسمت على وجهه ابتسامة غريبة متعجبة. فما رآه كان شخصا صغيرا جدا جاثيا على ركبتيه، وقد اتجه مرفقاه للخارج، ووضع يديه على جنبيه، وانحنى نصف انحناء، واتجهت عيناه نحو السماء، وهو يمتص بنشوة ميسم زنبقة مادونا، الواحدة تلو الأخرى!
اتسعت ابتسامة جيمي فصارت ضحكة مكتومة حين لاحظ أن إحدى المياسم التي فاضت بالرحيق قد أسالت قطرة على البتلة، فدعم الطفل الجزء السفلي من البتلة، ولعق القطرة مستحسنا المذاق ثم نهض وسار عبر الممشى متكاسلا حتى سحب جيمي أصابع قدمه؛ إذ إنها كانت في ألم ووهن بالغ، ولم يكن يريد أن تداس.
توقف الفتى ونظر إلى جيمي، من قمة رأسه المتعب المريض إلى أخمص قدميه المتورمتين تورما بالغ السوء، فارتسمت الدهشة على الوجه الصغير، لكن لم يكن هناك أدنى علامة على الخوف ولم يكن هناك حركة تراجع. فقد ظل ثابتا في مكانه.
قال الطفل: «أوه، مرحبا!»
أجابه جيمي: «مرحبا!» بقدر ما استطاع من الود بصوت خشن مؤخرا من الشعور بالشفقة على الذات.
تساءل الشخص الصغير: «أين سيد النحل؟»
تردد جيمي. كان قد صار قريبا بما يكفي لينظر في أعماق العينين الموجهتين إليه، وقد أدهشه أن وجدهما أشد عمقا ، وأقوى إفصاحا، وأكثر فهما، من أي عينين شهدهما قط في شخص قريب من ذلك العمر. كان ثمة أشياء قابعة في أغوار العينين الرماديتين الضاربتين للون البني اللتين التقتا بعينيه جعلت جيمي يتوخى حذره.
قال جيمي: «لقد رحل بضعة أيام وكلفني بتولي أعماله.»
فاحتج الصغير قائلا: «مهلا! لكننا لا نعرفك.»
فقال جيمي: «لكن ها أنا ذا.»
فقال الصغير: «إنك كذلك، وربما ما كنت لتكون هنا لو لم يسمح سيد النحل بذلك، وأيا كان ما يأمر به، ينفذ!»
مع قوله «ينفذ» مد يديه على مستوى خصره ملوحا بهما في حركة تأكيدية معبرة بدقة متناهية.
قال جيمي: «يسرني أنك تعتقد أنني سأفلح في المهمة.»
قال الشخص الصغير: «لم يتح لي وقت للتفكير في أي شيء.» وتابع: «لست متقد الذهن. ولا أستطيع التفكير سريعا. ما دام سيد النحل قد طلب منك المجيء إلى هنا والبقاء هنا، فلا بد أن تأتي ولا بد أن تبقى، ولا بد أن تفلح في عملك. هذا جل ما في الأمر. إنني مساعد سيد النحل. وكما تراني. إنني طفل! الأمر واضح كالشمس!»
ابتسم جيمي، وحين يبتسم جيمي، وهو شيء ليس كثير الحدوث بالمرة، تتراقص نقاط صغيرة من الضوء في عينيه، ويتمدد جلده على وجهه النحيف وتختلج شفتاه؛ مما يعطيه جاذبية لم تفقد تأثيرها حتى الآن. تقدم الطفل خطوة ووضع يده على ذراع جيمي فيما ارتسمت ابتسامة مشاكسة على الملامح الصغيرة. وانطلق صوبه بالسؤال فجأة. «هل رأيتني وأنا أدور؟»
هز جيمي رأسه بالإيجاب. «هل أحسنت أداء الحركة؟»
فقال جيمي: «أعتقد أنك أديتها ببراعة.»
قال الشخص الصغير: «نضطر إلى القيام بتلك الأشياء البغيضة في المدرسة. إنها هراء! لكنني أتدرب عليها، حين أذهب إلى مكان أشعر فيه أنني بمفردي. أعتقد أنني أؤديها بصورة أفضل على صوت النحل والأمواج أكثر من أي شيء آخر. إنها سخيفة حتما. ليت بإمكانك أن ترى بيل السمين الطيب وهو يدور! لكن حين تجعلك مدرستك تقوم بها، فمن الأفضل أن تظل تثابر باستمرار حتى تؤدي الحركة أفضل من زملائك .»
قال جيمي: «هذا منطق سليم.» وتابع: «إذا مضيت في الحياة وفي رأسك مبدأ من هذا القبيل و«ظللت تثابر باستمرار»، فلا يمكن أن ينتهي بك المطاف إلا على القمة.»
قال الشخص الصغير بعفوية: «هكذا تصورت الأمر». وأضاف: «وقد تعلمت، على ما أنا فيه من ضآلة حجمي وصغر سني الآن، أنني لا يمكن أن أكون قائد فريق كشافة وزعيم وكر اللصوص والمساعد الأول لسيد النحل إلا إذا ثابرت واجتهدت.»
هنا حسم جيمي رأيه في أن الشخص الضئيل قبالته هو بالقطع طفل.
اقترب الشخص الصغير أكثر، وخفض صوته، وسأل في سرية: «متى أخذوه إلى المستشفى؟»
تراجع جيمي للوراء ونظر إلى الطفل متسائلا.
وقال محتجا: «لم أقل إن أحدا أخذ إلى المستشفى.»
أقر الشخص الصغير: «كلا. لم تقل.» وتابع: «لكن لو كنت تعرف سيد النحل مثلما عرفته أنا، طوال الوقت الذي كنا نتعاون فيه، أي منذ كبرت بما فيه الكفاية لتسلق السياج، كنت ستعلم أنه لا يمكن لأي شخص أن يبعده عن حديقته هذه إلى أي مكان إلا المستشفى، وكنت ستعرف أنه لا توجد طريقة ليأخذه بها إلا وهو غير قادر على الحركة.»
قال جيمي: «أظن أن ذلك قريب من الحقيقة.»
في حركة سريعة، أرسل الصبي ذراعيه، مباعدا بينهما وفرق بين أصابعه وهز رأسه على سبيل التوكيد. «إنها الحقيقة بالضبط؛ لأنه ظل شهورا وشهورا بحاجة إلى الذهاب ومن لدى الدكتور جرايسون طلبوا منه الذهاب، وحثوه على الذهاب، وحاولوا أن يرغموه على الذهاب، لكن لم يستطع أي منهم أن يجعله يذهب. كان يظن أنه سيفعل أي شيء في العالم من أجلي. كان يقول إنه سيفعل. ومن ثم حين أدركت أنه لن يذهب ولن يمكن إرغامه على الذهاب» استقام الجسد الصغير فجأة وشد منكبيه للوراء «لم أطلب منه أن يذهب إلى المستشفى. طلبت منه أن يبقى في المنزل ويفعل ما يحلو له»، وهنا ضحك الصغير ضحكة مكتومة؛ «لأنني كنت أعلم جيدا جدا أن هذا ما سوف يفعله على أي حال، فلم أرد أن أفسد امتياز معزتي عنده! فإنك حين تحصل على موقع يجوز لك الاحتفاظ به، يجدر بك الاهتمام قليلا بحماية حدودك.»
لم ير جيمي سببا يمنعه من الضحك، وقد ضحك قبل أن ينتبه لذلك، على أي حال. لكن لم يربك ضحكه الشخص الصغير، ولو قليلا. «متى سيجرون له الجراحة؟»
انزعج جيمي من السؤال. فهز رأسه بطيئا.
وقال: «لا أعلم حتى مما يعاني.»
قال الطفل: «ولا أنا.» وتابع: «أعتقد أنه الشيء الوحيد في العالم الذي يوجع قلبه حقا ولم يخبرني به. لقد أخبرني بكل الأشياء التي يتألم منها وأقصته عن دياره في الشرق، وحدثني عن الفتاة الصغيرة ذات الشعر الذهبي التي اضطر إلى فراقها فراقا غاية في البشاعة، واطلعت على كل ما في الصندوق الماهوجني المنقوش الكبير ورتبت كل ما فيه من أوراق ورأيت كل ما فيه من صور. أعلم كم أحب ماري، وأعلم بشأن الدار التي فقدها. بل إنني أعلم حتى السر الذي حطم قلبه، وأعرف كل ما استطاع أن يعلمني إياه بشأن النحل.»
أمسك الصغير عن الكلام ثم تحول إلى نبرة اتسمت بالموضوعية الصرفة لمناقشة العمل. «والآن، فلنعد إلى ما يخص النحل. هناك الكثير من الأشياء كي نتعلمها عنه، والتي لم يكتشفها كلها بعد أولئك الرجال الذين ألفوا عنه الكتب، من ثم لم يستطع سيد النحل أن يعلمني كل شيء، بالطبع. لكنني أعرف كل ما تيسر له أن يريني إياه بشأن القفائر وعن خبز النحل ومرض تعفن الحضنة وبشأن الملكات واليرقات والعاملات والذكور والممرضات. أما المعلومات التي عن الممرضات فهي بلا حدود! لم تكن لتتخيل أن يوجد في قفير النحل ممرضات، أليس كذلك؟»
جال في بال جيمي تجارب حديثة العهد، إذ أجاب متمهلا: «إن الممرضات من أروع المخلوقات على وجه الأرض، وقد سمعت أن النحل مخلوقات غاية في الروعة؛ لذلك أعتقد أنه من الوارد أن يكون لديه بالفعل ممرضات.» «أنت محق، تماما!» قال الصغير. ثم أضاف: «من الممكن أن أصطحبك إلى أي من هذه القفائر لأفتحها وأريك ما قد يصل إلى أربعين ألف ممرضة وهي ترعى اليرقات البيضاء.»
وعندئذ، للمرة الثانية، واجه جيمي السؤال: «هل لديك مناعة من النحل؟»
ومرة أخرى أجاب جيمي قائلا: «لا أعلم. لم أختبر الأمر من قبل.»
ضحك الصغير ضحك من تفهم الموقف. «ولا أنا؛ إلى أن حصلت على تجربتي. بعد أن لازمت المكان منذ أول مرة رأيت فيها رأسه الأبيض وظللت أتردد عليه حتى قال إنني من الممكن أن أصبح مساعده وأعاونه في أمور النحل، لم يكن لدي أي خبرة؛ لذلك عدت ذات صباح، إلى الجهة الشرقية هناك، لأرى ما إن كان لدي مناعة من النحل، وقد اعتقدنا دائما فيما بعد أنني قد ارتكبت خطأ. لم تكن رائحتي مناسبة.»
عض جيمي على شفته وازدرد لعابه بصعوبة، حيث تفوح من الشخص الصغير قبالته، في واقع الأمر، رائحة خيل أشد مما سواها من روائح، يليها بالضبط رائحة كلاب، وقد اختلط بروائح الخيل والكلاب رائحة نفاذة لزنابق مادونا وكذلك البصل. وقد أثار المزيج بطريقة خاصة حاسة الشم المرهفة لدى جيمي. ورغم أنه لم يكن قد مضى وقت طويل منذ ألهبت عينيه دموع الشفقة على نفسه، فقد انتابته رغبة في تلك اللحظة بالذات في التهليل. ولم يكن ثمة سبب وجيه مطلقا يمنعه من ذلك. ومن دون أن يدرك البتة ما يدور في ذهنه، استأنف الشخص الصغير حديثه بجدية. «لم تكن رائحتي مناسبة. أتعلم، إن للنحل تجاويف للشم بدلا من الأنوف. إنها موجودة في أنبوبين صغيرين ناتئين حيث مكان الأنف في الكائنات الأخرى بخلاف النحل، وكل واحدة من النحلات العاملات (وهي النحلات التي تؤدي الأعمال في أنحاء الخلية)، كل واحدة من النحلات العاملات لديها خمسة آلاف تجويف للشم. ورغم ذلك فالنحلة العاملة لا تقارن بالذكر. إذ إن الذكر لديه سبعة وثلاثون ألفا وثمانمائة تجويف للشم، بحيث يضمن ألا يضل عن رائحة الملكة حين يخرج للتزاوج معها. وهكذا، حين اقترب مني أحد الذكور، كنت غالبا مغطى تماما برائحة الخيل والكلاب. تلك كانت المشكلة برمتها؛ لم تكن رائحتي مناسبة. قال سيد النحل إنه كان عدوانيا جدا. كنت قد امتطيت الحصان كوين ولهوت مع كلب أمي، وعندما أدخل في عراك مع الكلب تشام، يكون فوقي نصف الوقت وأكون فوقه النصف الآخر؛ لذا كنت ملطخا تماما برائحة كلب وحصان وأشياء من هذا القبيل، وهي روائح لا يحبها النحل. وقد ظل سيد النحل يقول إنه لو كان قد احتكم لأي منطق لما حدث ذلك. فطالما شعر بالذنب حيال الأمر، لكنني لم أكترث كثيرا. فمن الجيد أن تعلم بالضبط ما أنت موشك عليه، وحينئذ، إذا اعتقدت أنك تستطيع احتماله، فبالقطع ستستطيع. على أي حال، قلت إنني سوف أذهب قبالة القفائر التي في الصف الشرقي بينما ذهب سيد النحل لملء أحواض المياه وللتأكد من عدم وقوع سرقات وللاطمئنان من أن الملكات كلهن على ما يرام ويضعن بعض الملايين من البيض أو نحو ذلك، وقد مضيت إلى هناك متسكعا، ومن ثم أول شيء أدركته، هو خروج نحلة عاملة كبيرة لتؤز فوق رأسي مباشرة، وجاء خلفها اثنتان أو ثلاث أخريات، وكانت تطير بيني وبين السيد، ولم أرد أنا المرور وسط زهوره - فهو أشد خلق الله حرصا على الزهور - ولم أدر بالضبط كيف يمكنني إبعادها؛ لأنني ليس لدي سوى عينين بينما كل منها لديها ربما ستة آلاف عين في كل ناحية من رأسها.
هنا صاح بي سيد النحل وقال: «سر في خط متعرج!» وكان أجدر به أن يقول ذلك بالإسبانية أو بالفرنسية أو أي شيء، فلم يكن هناك أي جدوى من التحدث بالإنجليزية أمام نحلاته؛ لأنها فهمته كما فهمته تماما! وقد حاولت قدر جهدي أن أفعل ما أخبرني به، لكنني كلما انحرفت فإن النحلة اللعينة تنحرف خلفي كذلك، وكلما وثبت إلى ناحية وحاولت أن أميل إليها، فإن النحلة تميل قبل أن أفعل بقليل، وبالطبع، لما سار الأمر على ذلك المنوال، فقد تصادمنا. أخبرني، هل سبق أن لاحقتك نحلة من السلاسة الألمانية السوداء؟»
اسود وجه جيمي للحظة، ثم نظر إلى الوجه الصغير المتحمس أمامه وترك الموقف يمر وهو يقول بهدوء: «لم أجرب لسع النحل . كلا. لكنني جربت بضع مرات لسع الدبابير والزنابير في الوديان والغابات حين كنت صبيا. أي لدي فكرة عامة عن الأمر.»
قال الصغير: «لا أعتقد ذلك.» وتابع: «لا أعتقد أن هناك، في عالم الحشرات اللاسعة، أي شيء له ست أرجل، بها إبر حادة وطويلة وجاهزة للاستخدام مثل التي لدى النحلة الألمانية السوداء. أقسم إنها تستطيع اختراقك حتى تصل لأحشائك، وحين يهاجمك نحو ثلاث منها من مؤخرة عنقك وحول أذنيك وعضلات ذراعيك؛ ويحي!»
شبك يديه ثم فصلهما وأرسلهما بعيدا ملوحا بهما. «حين عدت إلى سيد النحل، كنت أرتجف كأنما أصابتني قشعريرة، وأعتقد أن الماء المالح الذي سال منهمرا على وجهي كان كافيا لتغترف منه ملء ملعقة كبيرة من الملح. يقول سيد النحل إن كل دلو ماء تأخذه من المحيط به ثلاثة ونصف في المائة من الملح، لكنني أراهن بربع دولار على أن الملح الذي سال من دموعي كان أكثر من ذلك. فحتى لو أنني مت لظلت دموعي تنهمر. قال سيد النحل إنها لسعات سيئة، وأمسك بي بإحكام وراح يفرك الإبر؛ لأن هذا ما يجب فعله؛ فإن شددتها فستزيد الطين بلة. ثم فتح الخرطوم على أرض طينية وخلط لبخة باردة من الوحل وبسطها على اللسعات وقال إنه لا بد أن يركل عقابا له على السماح لي بالذهاب وسط النحل بينما تفوح مني رائحة الكلاب والخيل.
فمسحت عيني وقلت إنني أعتقد أن تلك هي المشكلة. ما كان علي القيام به هو ارتداء معطف النحل القديم الخاص به ودعك رأسي ببعض الزنابق وسروالي القصير ببعض القرنفل. هكذا ذهبت إلى الرواق الخلفي وأخذت معطفه، وحين شرعت أرتديه سألني ماذا أنا فاعل. فأخبرته أنني سأجعل رائحتي مناسبة و«أحاول، أحاول مرة أخرى». فجلس هناك وأخذ ينظر إلي، فلم أر قط عينيه وقد اتسعت حدقتهما وازدادتا سوادا مثل تلك المرة، ولم أر قط وجهه وقد زاد شحوبا عن شحوبه حين يبلغ به الألم مداه، ثم همس بصوت منخفض للغاية، حتى إنني استطعت بصعوبة سماعه، وهو يقول: «هلا أقسمت بالرب أنك لن تفعل ذلك، أيها الكشافة الصغير؟»
فقلت: «لا دخل للرب بهذا الأمر. إن المسألة بيني وبينك، وإنني ذاهب!»
وهكذا عقدت أزرار المعطف وذهبت إلى حوض القرنفل وتقلبت فيه. أعتقد أنني كنت أكثر غلظة مع القرنفل مما أراد السيد، لكنك إن حدث ولسعتك نحلة ألمانية سوداء فستدرك لماذا كنت متلهفا للاستزادة من القرنفل. ثم سحقت أطيب زنبقة استطعت العثور عليها وفركت بها شعري كله. ثم مضيت في الممشى الشرقي. خطر لي أن أحاول مع النحل الإيطالي أولا. فهو أكثر لطفا بكثير من الألماني. ورغم أنني لا أجيد التصفير، فقد صفرت متغنيا بأغنية «هايلاند ماري» بأفضل ما استطعت ومشيت، برفق وخفة، ولست على يقين لكن أعتقد أنني حملت في يدي آخر زنبقة، والتزمت الهدوء - فعليك بالتزام الهدوء بطبيعة الحال عند الاقتراب من النحل، فلا يجوز الاضطراب، لكنني لم أكن أسير ببطء شديد على نحو ملحوظ - توقفت عند كل قفير من قفائر النحل الإيطالي فلم يفعل بي أي شيء. لقد كان السيد محقا. حيث تلقيت عقابي لأن رائحتي كانت مزعجة. ومن ثم فركت الزنبقة قليلا حين توجهت إلى النحل الألماني الأسود، وذهبت ووقفت أمامه وعددت حتى عشرة. ثم تحديته أكثر أن يأتي ويلسعني. فهاج قليلا نوعا ما واقتربت اثنتان منه بعض الشيء، لكن حين وجدتا رائحة الزهور قوية، رجعتا مرة أخرى. لقد واجهته بجسارة، على أي حال. وحين عدت إلى سيد النحل، رفعني وضمني بين ذراعيه وقال إنه تمنى من الله أن يعيش حتى يشهد اليوم الذي تصبح فيه صغيرته ماري بذلك الإقدام، وضمني بشدة حتى كاد يحطم عظامي جميعا، وقبلني أول قبلة أحصل عليها منه على الإطلاق. وهو لم يقبلني سوى بضع مرات بعد ذلك. إنه ليس كثير التقبيل، صدقني! وقد قال إنني من الممكن أن أصبح مساعده وأعاونه في رعاية النحل. دعني أخبرك بشيء، إنك ستنهض وستؤدي عملا مفيدا، وتشحذ ذهنك لأقصى درجة، قبل أن يعود سيد النحل! إن معطفه معلق في الرواق الخلفي وتوجد هنا في الحديقة زهور كثيرة. متى أردت أن تعرف شعور النحل نحوك، فبوسعك أن تقدم على الأمر في الحال، رغم ما يشمله الأمر من ضريبة المخاطرة. لكن، مهلا، دعني أخبرك بشيء! قبل أن تقترب من خلايا النحل الألماني الأسود، اكتسب رائحة مناسبة!» «لكن كيف أكتسب رائحة مناسبة؟» تساءل جيمي. «حسنا، سوف أريك المعطف المناسب، من ناحية. ضعه عليك ثم اذهب لتدس رأسك وسط زهور القرنفل وافرك نفسك بها كما فعلت، ثم خذ واحدة من زنابق مادونا واسحقها وافرك يديك بها، وربما من الأفضل أن تذهب بالقرب من صنبور المياه حيث ستجد مساحة صغيرة من الأرض رخوة كالإسفنج واقتلع حفنة من النعناع وافرك بها سروالك كلية. ومهما فعلت فلا تضعف! ومن الأفضل أن تصفر لحنا مناسبا. هل تستطيع أن تصفر لحن «هايلاند ماري»، ببطء ورقة؟ إنه أحب الألحان للنحل. كان اسمها ماري. إذا استطعت أن تترنم بها بعذوبة ورقة حقيقية وبحب جارف، والكثير من الملاطفة، والكثير من الشجن، إذا توصلت للطريقة الصحيحة بالضبط - إنك في نفس طوله تقريبا - فمن الجائز ألا يلاحظ النحل الفرق. أجل، أظن أنه لن يلاحظ. ربما لم تسمع من قبل عن عيون كالتي لدى النحل. فالنحلة العاملة التي تلاحقك لديها ستة آلاف عين في كل جانب من رأسها، أما الذكر - من أجل ملاحقة الملكة كما أخبرتك، حين تطير بعيدا حتى تكاد تبلغ عنان السماء، أعلى كثيرا من الطيور وكل شيء - فلدى الذكر ثلاثة عشر ألف عين في كل جانب من رأسه. لذلك من الأفضل أن تصدق، أنه في حال هاج أحدهم فوقك، فسوف يرى أن رأسك ليس أبيض. كل النحل يترك رأس سيد النحل الأبيض. فهو دائما حاسر الرأس. وكان النحل يترك لحيته وعينيه الواسعتين الداكنتين دون أن يصيبها. أليس رائعا؟» «نعم، تولد لدي هذا الانطباع، في الدقائق المعدودة التي رأيته خلالها ومن منزله ومكتبته ومهنته، أجل، أعتقد أنه رائع حقا.»
قال الصغير وهو يلوح لأسفل آتيا بالحركة التي بدأ جيمي يعتادها: «إنه بحق فريد من نوعه.»
ثم سأل على نحو مفاجئ: «هل كان مريضا مرضا شديدا؟»
نظر جيمي إلى العينين المتسعتين في استيعاب أمامه، ولم يخطر له الكذب أو المراوغة.
إذ أجاب قائلا: «أجل.» وأضاف: «لقد كان أكثر الرجال الذين رأيتهم إعياء على الإطلاق، وقد رأيت الكثير من المرضى!»
قال الشخص الصغير: «إنني أدرى الناس بحاله.» وتابع: «فقد ساعدته على عبور الممشى الخلفي وصولا إلى الأريكة وجئته بالأمونيا عدة مرات وأنا أظن أنني لن أتمكن من إنقاذه مطلقا. لقد رأيته يتألم حتى يتصبب عرقا، ويتساقط العرق من طرف أنفه، قطرة قطرة، ببطء، فيسقط على مقدمة قميصه نقطة نقطة! ويمكنني إخبار الجميع أن حالته كانت في غاية السوء! وإذا كان متوعكا إلى تلك الدرجة مرة أخرى، فربما من الأفضل له أن يمضي قدما ويموت.»
إثر النبرة غير المبالية التي نطق بها الاقتراح، تراجع جيمي في مقعده وحدق بإمعان في الوجه الخالي من التعبير للشخص الصغير الواقف أمامه. كان لديه انطباع أن هذا الطفل يعشق سيد النحل. أما في تلك اللحظة فقد شعر أنه يواجه وثنيا صغيرا لا يعشق أي شيء ولا يدرك ولو بقدر معقول ما قد تعنيه كلمة من الكلمات. لكنه كان يدرك إلى حد كبير ما قد تعنيه الكلمة فيما يخص التعليمات مثل طريقة تصفير أغنية «هايلاند ماري»؛ لذلك نظر جيمي بثبات إلى الكشافة الصغير، وقد ضيق عينيه، ثم قال مترددا: «كنت أعتقد أنك تحبه.» «أحبه؟» قال فتى الكشافة الصغير. واستأنف: «حسنا، فلتعرني انتباهك!»
اندفعت أمام عيني جيمي يده اليمنى المتسخة. ومثل شفرة السكين هوت اليسرى ومرت على الرسغ. وببطء انفتحت أصابع اليد اليمنى وانضمت.
قال الكشافة الصغير: «إنني بحاجة إلى هذه اليد لأداء كل مهام حياتي.» وتابع: «إذ لا يمكنني امتطاء كوين، ولا يمكنني قيادة فريق الكشافة، ولا يمكنني التجديف بزورقي، ولا يمكنني مساعدة سيد النحل من دونها، لكن إن كانت ستزيل الألم من جسد سيد النحل، فسوف أعطيها له بمنتهى البساطة!»
ومن ثم بتر اليد اليمنى ورماها في تمثيل إيمائي مؤثر للغاية.
صعدت إلى حلق جيمي غصة كبيرة جدا، كادت أن تهدد بخنقه.
بينما وقف الشخص الصغير على إحدى قدميه ووضع الأخرى على المقعد، وشبك يديه المتسختين حول ركبته المثنية ومال ناحية جيمي. «أعتقد أنك أخطأت فهمي»، سقط القول على أذنيه المذهولتين. وعلى نحو مفاجئ عدل الصبي من وضعه وشعر جيمي بالجسد الصغير بجانبه وبالرأس الصغير يميل متقلقلا قرب الجرح الذي ترك بقعا حمراء على صدره، ويده الصغيرة التي أنهكها العمل وهي توضع على يده، ثم وجه الصغير وهو يرتفع إلى وجهه، ليقول لجيمي بهدوء وبصوت خفيض ورقيق ذي نبرة غاية في العذوبة: «هل تعلم كم من الممكن أن يكون الموت جميلا؟»
قد يكون هذا أقسى ما صدم جيمي على الإطلاق؛ إذ إنه لم يكن يفكر في أن الموت شيء جميل، وقد ظل يفكر فيه ليلا ونهارا من أجل الرجال الآخرين طوال سنوات أكثر مما يود إحصاءها. أما في حالته فقد ظل يفكر فيه طوال عامين وهي مدة طويلة. لم يقو على الكلام؛ لذلك هز رأسه نافيا.
قال الشخص الصغير: «مثلي تماما.» وأضاف: «لم أكن أعرف أي شيء عنه مطلقا، لكن نانيت عرفت. نانيت هي شقيقتي الكبرى. لقد صادفها حظ غاية في السوء. فقد غرق أحد الرجال في البحيرة التي ذهبنا إليها الصيف الماضي، وفي اليوم التالي كانت نانيت تلعب على الشاطئ مع بعض الأطفال الآخرين حين رأته بالمصادفة في اللحظة نفسها التي كانوا يخرجونه فيها من المياه، بعد أن لبث في المياه مدة طويلة جدا دون أن تفعل السلاحف به أي شيء. وعادت إلى المنزل وقالت أمي إنها مصابة بنوبة هستيرية، وقد ظلت تأتيها ليلا أثناء نومها حتى تسنى لي مواجهة ما كانت قد رأته. إذ إنه منذ وقت ليس ببعيد، صعدت إلى السماء عمة أمي، العمة بيث العجوز، وفي البداية قالت أمي إننا لا نستطيع الذهاب ووداعها. لقد توفيت ليلا وهي نائمة، ويداها مضمومتان على صدرها وعلى وجهها ابتسامة صغيرة غامضة غاية في الغرابة. بدا كأنها تعرف سرا جميلا تود البوح به، وكانت تبتسم بسببه وهي تقرر إذا ما كانت ستبوح به أم لا. وقال أبي إنه ربما من الأفضل أن نذهب. فقد ترى نانيت شيئا يجعلها أفضل حالا. ولم ترد نانيت الذهاب، لكن بعد أن قال أبي ذلك، جعلتها أمي تذهب. فذهبنا بعد العشاء، بعد عودتنا من المدرسة. حيث حممتنا أمي وألبستنا أفضل ملابسنا وأخذنا أبي في السيارة، وعند الباب الأمامي بالضبط بدأ الجزء الجميل.
حيث وضع هناك إكليل كبير من الزهور كاد يغطي الباب وبداخله القليل من زهور أذن الفأر زرقاء وبنفسج ورقيب الشمس، ثم ياقوتية بيضاء وياقوتية ذهبية وزرقاء، وباقات من خلنج الخزامى وورود بيضاء وورود بلون زهري فاتح، وفي أسفله، حيث ربط بشيفون بنفسجي تدلى على باب الرواق بالكامل، وضعت زنابق بيضاء غاية في البهاء. لم أر قط شيئا بذلك الجمال.»
ارتفع الوجه الصغير إلى وجه جيمي.
وسأله: «هل رأيت قط شيئا بمثل ذلك الجمال؟»
هز جيمي رأسه بالنفي. «في غرفة المعيشة، حيث كانت العمة بيث تجلس على كرسي متحرك، منذ عرفتها، وضعت الزهور في كل مكان. إذ أرسلها كل أفراد أسرتنا، وأرسلها كل الجيران، وأرسلتها كنيستها، وأرسلها أناس لم نسمع عنهم قط؛ لأن الكل كان يحب العمة بيث. قالت أمي إنها كانت أكبر من يكذب كذبات بريئة في العالم بأسره. فقد كانت في الأيام التي تراها فيها وهي تتلوى من الألم، تنظر في عينيك مباشرة وتقول إنها بخير. كانت دائما بخير. وكان لديها منزل غاية في الطرافة. فكلما ذهبت لزيارتها تمنحني كعكة بها قطع الحلوى، أو عيدان نعناع حمراء، ولديها دائما أفضل زبيب. يا للروعة، لا يوجد قط زبيب بحلاوة مذاق الذي كان لديها! وأحيانا ما تجد فشارا أو فطائر الدونات، وحين كنت هناك آخر مرة، منحتني كعك زنجبيل توابله قوية جدا؛ حتى تذكرك رائحته بمنطقة مضائق الهند!
ومن ثم دخلنا إلى غرفة نوم العمة بيث، حيث وضع على فراشها غطاء ساتان أرجواني، بينما هي مستلقية على وسادتها وكان شعرها ناعما ومموجا؛ وهو شعر مموج كثيف ولونه بني لامع. وقد بلغت من العمر السابعة والثمانين ويمكنك أن تجد في رأسها شعرا رمادي اللون. كانت خصلاته ناعمة حريرية ملتفة منسابة على نحو بديع جدا.
وقد مضى الموت وأضفى عليها سحرا. فلم يكن ثمة تجعيدة في وجهها، وعنقها ممتلئ، وشفتاها باسمتين. يا للروعة، لقد كانت بديعة للغاية! وبدا ثوبها كأنه قد فصل من سحب رمادية ناعمة، والكمان وواجهة الثوب حتى أسفله من الدانتيلا الرقيقة، والمعصمان مربوطان في عقدتين صغيرتين أنيقتين.
وقد وقفت نانيت تنظر إليها وأخذت تتسلل مقتربة وهي تنظر وتنظر، ثم أمسكت بذراعي وقالت: «عجبا، لقد ظننت أنها ستبدو مثل الرجل الذي رأيته!»
عندئذ اكتشف أبي واكتشفنا كلنا لأول مرة أن نانيت كانت تعتقد أن كل الموتى في كل مكان يبدون مثل الرجل الذي لبث في الماء بين السلاحف وما إلى ذلك، ودعني أخبرك بشيء، لقد كنا سعداء حينذاك أننا قد أحضرنا نانيت لترى العمة بيث! فقد كانت جميلة جدا، حتى إن نانيت أرادت أن تفك العقد التي في معصميها وتربطها بالطريقة التي أحبتها، وقد جعلني ذلك أريد القيام بشيء من أجلها، فسألت ما الذي يمكنني فعله، فقالوا إن بإمكاني إلباسها خفيها. ومن ثم أزاحوا الغطاء الدانتيلا ذا البطانة الأرجوانية الذي كان يغطيها، فوضعت في قدميها خفيها الرماديين الصغيرين ذوي الفراء الأبيض. كانا صغيرين وفي غاية الروعة! ثم هندمت تنانيرها الداخلية، وتنورتها الساتان الرمادية التحتانية، وثوبها الدانتيلا، وأصلحت نانيت هندام كميها ودثرناها وقبلناها قبلة الوداع، وغادرنا ولم يعد بمقدور أحد أن يخيفنا من الموت!
ومنذ ذلك الحين لم تنتفض نانيت ليلا، ولو مرة واحدة. فقد عرفنا أن هناك أنواعا متعددة من الموت. فهناك من كان قلبه شريرا وتحدث بغير الحق وأخذ أشياء لا تخصه، ولم يطع الله، ولم يحترم حكومته البتة، وبالطبع، لا يمكن أن يبدو مثل ذلك الشخص بمظهر جيد سواء كان حيا أو ميتا بينما بداخله مثل تلك الأشياء. علاوة على ذلك، ثمة حوادث من الوراد أن تحدث لأي شخص؛ منها البقاء في الماء مدة طويلة مع السلاحف، أو الاحتراق إثر اندلاع حريق أو انفجار مصنع. إن هذا لمن سوء الحظ. أما إن مت في المنزل، بأن تخلد للنوم في هدوء في فراشك ليلا لا غير، في وداعة شديدة حتى إنك لا ترفع يديك عن صدرك أبدا، وحين ترى الرب تزحف إلى وجهك ابتسامة صغيرة عذبة؛ مرحى! إنني على يقين أن الرب وكل الملائكة كانوا في غاية من البهجة لرؤية العمة بيث حين جاءتهم تسير بجسد ممشوق ومستقيم وشاب تماما في ثوبها الرقيق الشبيه بالسحاب! لقد وضعت نانيت في يديها زهور أذن الفأر وبنفسج بارما ورقيب الشمس وهي تربط معصميها ربطة مناسبة. إن ظلت تحملها معها عند بلوغها السماء، فلا بد أن الهواء حولها سيعبق برائحة الزهور. لم يرد أحد منا أن تذهب. فقد كنا جميعا نحب أن نرعاها. كنا جميعا نحب أن نأخذ إليها الفاكهة والزهور والكتب والصحف. كان كل منا يدخر كل ما يصادفه من قصص طريفة ليخبرها بها، لكننا رغم ذلك كنا مسرورين نوعا ما برحيلها؛ لأن عظامها كانت تؤلمها بالطبع، ولم تكن تقول الحقيقة حين تخبرنا دائما أنها بخير؛ لأنها كانت تضطر إلى الاستسلام وترى الطبيب أحيانا على كراهة ذلك لها.»
وقف الكشافة الصغير بيدين ممدودتين إشارة إلى النهاية. «بعد ما أخبرتك به، لك أن تتخيل كيف قد يبدو سيد النحل في حال قرر الرب أن يخلد إلى النوم ليلا، وألا يعاني مزيدا من الألم في جانبه ولا يتساقط المزيد من العرق من أنفه. إنني متأكد أن كل الآلات الموسيقية من هارب وأبواق في السماء سوف تعزف «زووم! زووم!» وكل الملائكة ستأتي محتشدة إذا دخل سيد النحل من البوابات! أراهن أن الرب نفسه سوف ينهض واقفا حين يأتي سيد النحل بقامته شديدة الاستقامة فارعة الطول ليؤدي له التحية؛ إذ كان ممن شاركوا في الحرب يوما ما، في مكان ما. فلديه زي رسمي رائع ويستطيع أداء التحية بأسرع ما يمكن! لقد كان جنديا وأراهن أنك أيضا كنت جنديا؛ لأنك تبدو مثل الجنود وتمشي مثل الجنود، وأعتقد أنه من السيئ أنك لا ترتدي بذلتك الرسمية. كم تروق لي البذل الرسمية!»
وعندئذ فغر جيمي فمه واتسعت عيناه. ثم اندفعت يد محذرة إلى الوراء ناحيته. وباغت أذنيه هسهسة صفير يراد به التنبيه على التزام الصمت. ثم مال الكشافة الصغير إلى الأمام، في هدوء، وخطوة خطوة، باسطا ذراعه أمامه من أجل التوازن، ودافعا الأخرى إلى الوراء لتوخي الحذر، زحف منحنيا في الممشى، وقد تطلع بعينيه بثبات إلى الأمام. وحين انحنى جيمي ليصبح بمحاذاته، رأى نحلة طنانة كبيرة وهي تتسلق البتلة الخارجية المؤدية إلى بوق إحدى الزهور البوقية. ورأى الكشافة الصغير وهو يقيس مسافة معينة، ويجثو، ثم سريعا، أسرع من قدرته على استيعاب ماذا يجري، انطلق سيل من اللعاب مباشرة وأصاب النحلة، ليوقعها من حيث استقرت. وثب الكشافة الصغير في الهواء وأطلق صيحة كان بمقدورها أن تثير الرعب في واحد من قبيلة الأباتشي وهو في طريقه للقتال. وبينما هو يدور ويصيح في اندفاع، ملوحا بيديه، صاح الصغير، بصوت صبياني حاد: «أصبتها؟ يا للهول! لقد أصبتها! لقد ضربتها طاخ!»
ثم استدار الجسد الصغير، وهرع تجاه جيمي وأمسك كلا من ركبتيه بيد من يديه. «اسمع، هل ستخبر بيل السمين الطيب والطفل المطيع وذا الوجه الملائكي، إذا جئت بهم؟ هل ستخبرهم أنني فعلتها؟ إذ إن بيننا رهانا. وسوف أفوز بموجبه بخمسة وعشرين سنتا. سوف أوسعهم ضربا إن لم يصدقوني، لكن سيصبح بإمكاني التفاخر أكثر بمراحل إن أخبرتهم أنك رأيتني.»
أخيرا هيأ جيمي فمه ليقول قولا إنجليزيا مفهوما.
ثم قال: «بالتأكيد! في أي يوم تريد مني ذلك، سوف ألتقي برفاقك وأشهد أنك أصبت النحلة بنزاهة وأمانة.»
تباهى الشخص الصغير مزهوا وهو يقول: «لقد ظللت أتدرب على ذلك طيلة أسبوع.» وتابع: «ظللت أحاول، وراهنت بربع دولار على فعلها، والحق أن خمسة وعشرين سنتا هو مبلغ كبير! فثمة أشياء كثيرة يمكنك فعلها بخمسة وعشرين سنتا!»
تفكر جيمي في الأوقات التي كان لا يملك فيها حتى خمسة وعشرين سنتا في يده خلال الأيام القليلة الماضية، وأقر بصحة الزعم . إذ يبدو أن الحديث عن المال قد أثار في ذهنه سلسلة جديدة من الأفكار. وبعينين متسائلتين راح الصغير يتفرسه. «هل ستذهب إلى المستشفى في أي وقت قريب لزيارة سيد النحل؟»
قال جيمي: «أنتظر اتصالا هاتفيا.» وأضاف: «لقد أخبرني الدكتور جرايسون أنه سيهاتفني ويبلغني بتطور حالته، وحالما يصبح السيد في حالة تمكنه من مقابلتي، فسأذهب بالطبع.»
دس الكشافة الصغير يده في جيب سرواله القصير وأخرج إلى الضوء حفنة من أشياء متعددة، والتقط بيده اليسرى، من بين الخيوط والأزرار والمشابك والحصى، عملة معدنية من فئة عشرة سنتات وعملتين من فئة خمسة سنتات وناولها جيمي. «عندما تذهب، هل يمكنك المرور على أقرب مطعم للشطائر وشراء شطيرة سجق وزجاجة مياه غازية بنكهة الفراولة من أجله وتعطيهما له بالنيابة عني مع حضن قوي وقبلة؟»
تقبل جيمي النقود بوجه جاد.
وقال متحمسا: «بالطبع.»
قال الصغير: «سأعطيك القبلة التي ستنقلها له في الحال» ومن دون مقدمات، طبع على خد جيمي أقوى وأحر وأحلى قبلة صغيرة ذاقها في حياته. ووجد يديه على كتفي الشخص الصغير وعينيه مثبتتين على وجهه. «مهلا!» قال جيمي. «هل أنت فتاة أم صبي؟»
بحركة رشيقة، انسل الشخص الصغير من بين أصابعه مثل رمال متحركة وتراجع خطوة أو خطوتين للوراء. «ما دمت لا تستطيع أن تعرف، فلا يوجد أي فرق، أليس كذلك؟»
واضطر جيمي لأن يقر بأنه لا فرق.
قال الكشافة الصغير: «أعتقد أنه من الأفضل أن أرحل. أرجو أن تنجز مهمة شطيرة السجق على خير وجه. يحب السيد الخبز محمصا والسجق المسلوق مشقوقا ومقليا ومخططا بصلصة المستردة وعليه طبقة سميكة من البصل المقلي وشريحة من الخيار المخلل بالشبت. هل يمكنك تذكر ذلك؟ هل تحبه بتلك الطريقة؟» «يا إلهي!» قال جيمي، وهو يلعق شفتيه. «لم أحظ بواحد منذ زمن! سأتذكر بالطبع!»
قال الشخص الصغير: «اتفقنا إذن! هل لديك ثقة إزاء توليك المهمة وهل أنت متأكد أنك ستستطيع رعاية الأمور هنا؟»
قال جيمي: «سأبذل قصارى جهدي.» وتابع: «لكن علي أن أخبرك كما أخبرت شريكك، أنني لا أعلم أي شيء عن النحل.»
قال الشخص الصغير: «كما أنك لا تبدو بالنشاط الكافي لتهبط بلا مشقة عبر الجانب الشرقي وتتسلق الجانب الغربي على امتداد فدانين من خلايا النحل. اجلس أنت لا تتحرك وسأذهب أنا بنفسي لأرى إذا كان على ما يرام.»
ومن ثم جلس جيمي تحت شجرة الجاكرندا وانتظر بينما ذهب الكشافة الصغير إلى الجهة الشرقية، ليفحص كل قفير من قفائر النحل بعناية، ويعود بالخبر بأن أحواض المياه على ما يرام، وأن الملكات كلهن يضعن بيضا، وأن كل العاملات مشغولات، وأن الذكور تطن، كدأبها ككائنات بغيضة غير منظمة. ولم يكن هناك أي أثر لفقس ملوث، ولم يكن هناك أي أثر للصوص.
قال الشخص الصغير: «فقط نحل عادي، مخلص، يعمل بجد ليجمع كل ما يستطيع من رحيق في حدائق الزهور حيث تخترق جبال سييرا مادري جبال سانتا مونيكا لتنفذ إلى البحر مباشرة.»
أصر الشخص الصغير على أن يقتاد جيمي إلى المنزل ويريه المكتبة الحافلة بكتب عن النحل. فأشار إلى كل المجلدات التي يمكن قراءتها بهدف معرفة طريقة رعاية النحل، ثم مر بإصبع خفيفة على مجلدات وضعت وحدها على أحد الرفوف قائلا: «أما هذه فهي الكتب الطريفة.»
اختار مجلدا أزرق صغيرا انفتح من تلقاء نفسه، وراح يقرأ منه بصوت مستمتع: ««هناك أنواع متعددة من النحل؛ أفضلها النحل الصغير المستدير المبرقش.» أليس مدهشا؟» تساءل الصغير.
حين ألقى جيمي نظرة عابرة من فوق كتف الكشافة الصغير، لمح اسم «أرسطو» على الغلاف فذهل ربما للمرة المائة منذ عصر ذلك اليوم. بعد أن أغلق المجلد وأعاده إلى الرف، التفت الطفل ناحيته: «ويقول بلينيوس إن النحل حين يهاجر عابرا البحر المتوسط تأخذ كل واحدة حصاة صغيرة وتحملها بقدميها حتى يصبح وزنها ثقيلا فلا تعصف بها الرياح!» ثم اخترقت ضحكة صافية ورنانة أذني جيمي. «أليس ذلك هراء؟ لا بد أن تسمع سيد النحل وهو يضحك عند قراءة كلام بلينيوس عن النحل! وهناك المزيد من الكتب الطريفة مثلها، أما هذه فليست طريفة على الإطلاق. هذه أكثر ما عليك معرفته لتثير اهتمامك بحق.»
مرت الإصبع الصغيرة على كتب لوبوك وزفامردام، معلقا أثناء ذلك، فقال: «إن لديه صورا رائعة لشكل النحل من الداخل»، وتوقف عند هوبير. ثم قال الكشافة الصغير: «ستحتاج إلى قراءة كتب هوبير.» وتابع: «لقد كان كفيفا، لكنه خطط كل التجارب وأجرى كل البحوث، وسجلها من أجله رجل مبصر. إنه رائع أيضا. وقد وضع عنوانا لكتابه هو «ملاحظات جديدة عن النحل.» أرى أنه عمل جيد جدا بالنسبة إلى رجل كفيف. فلتعلم أن مربي النحل، لا بد أن يتحلى بأشياء كثيرة أخرى بجانب معرفته بالنحل.»
وقدم التفسير مرتجلا، من دون أن يطلبه منه أحد. «يحتاج الأمر إلى البقاء في الخارج أغلب الوقت. ومعرفة الزهور وأحب الزهور للنحل. من المهم أن تكون سريع الملاحظة ورابط الجأش، وفي رأيي أنك لا بد أن تكون على خلق. ومن الأفضل أن تتأكد من قدرتك على العمل جهد طاقتك قبل أن تقترب من النحل. يقول سيد النحل إن النحل لديه بصيرة، وإن دنا منه شخص كاذب وغشاش وتفوح منه رائحة الخطيئة والأنانية؛ فسيحدث ما لا يحمد عقباه! إذ يعلم النحل من فوره الشخص الوضيع، وعندئذ لا تأخذه به رحمة. بمجرد أن يستشعر حقيقتك، يلحق بك الأذى. فإذا كنت تعلم، في أعماقك، أنك لست صالحا، وأن الله لن يقبلك في ملكوت السماء يوم يأتيك الموت، فمن الأفضل أن تتخلى عن هذا العمل وتدعني أبحث عن شخص آخر ليرعى النحل.»
نهض جيمي ووقف ناصبا قامته في اعتداد. وأخرج من جيبه كل أوسمة الخدمة المتميزة وأنزلها إلى مستوى عيني الشخص الصغير.
وقال بجدية شديدة: «على حد معلوماتي، لا يوجد سبب يجعل النحل يستاء من أي روائح قد تنبعث من خارجي أو حتى من أكثر الأماكن سرية في باطن روحي.»
قال الشخص الصغير: «حسنا إذن، هذا يبشر بالخير.» وتابع: «كل ما في الأمر أنك تبدو لي أحيانا كأنك لست متأكدا ما إن كنت ستبقى أم سترحل.»
قال جيمي: «أقر أنه كان صعبا علي أن أقرر، ما إن كنت سأبقى أو أرحل، لكن إذا ساعدتني، فمن الأفضل لي على ما أظن أن أجرب على الأقل ما أقوى على عمله.»
وقف جيمي ساكنا وشاهد الشخص الصغير وهو يسير عبر الممشى متجها إلى السياج الذي كان قد استخدمه سبيلا للدخول. وبينما هو على وشك القفز من فوقه وقد اعتلاه، بلغت أذنيه نصيحة واضحة: «من الأفضل أن تبقى، يا رجل! سيروق لك الأمر!»
الفصل السادس
«ماذا أفعل، يا إلهي؟»
بعد رحيل مساعد سيد النحل، الذي كان السيد قد أشار إليه بحنان بالغ باسم «الكشافة الصغير»، ظل جيمس ماكفارلين طوال ساعة جالسا يحملق في ألواح السياج المطلية بالكلس التي اختفى الطفل من فوقها. في البداية تراقصت على أساريره ابتسامة عفوية وهو يتذكر المرح البسيط، والسلوك العملي، ولحظات الرقة، وتقبل الواقع بلا اكتراث التي تتابعت واحدة تلو الأخرى بسرعة شديدة في عقلية الصغير. ثم أخذ يتفكر باهتمام، لبضع دقائق، فيما إذا كان الشخص الصغير الغريب صبيا حقا أم فتاة فعلا. فكان الاستنتاج الأكيد الوحيد الذي توصل له أنه كان صبيا أحيانا وفتاة أحيانا أخرى.
ثم انتقل ذهنه إلى الشيء الذي كان دائما في الصدارة. ما الذي قاله الصغير عن الموت؟ إن هناك سبلا عدة؟ كان الموت هو ما ظل يواجهه طوال العامين الماضيين، لكن المثير للشفقة في الأمر بالنسبة إليه أنه لم يشعر به قريبا ولا أكيدا كما شعر به في تلك اللحظة. كانت عظامه الموجوعة تذكره بضعفه كلما تحرك. وقدماه المتورمتان تصرخان كلما أثقل بحمله عليهما، وأما الألم المضطرم في جانبه الأيسر، فقد ظل يحمله طويلا جدا حتى إنه بات مثل كرب لا شفاء منه أو إجهاد ذهني لا يستريح منه المرء أبدا. شعر جيمي بيقين أن بإمكانه استبعاد الموت بالغرق والحريق والانفجار. إذ لم يشعر أن أيا من هذه الأشياء قد تحدث له. بذلك صار هناك نوعان متبقيان من الموت؛ لا بد أن يواجه واحدا منهما.
جعله ذلك يعود بذهنه إلى أيام كان صبيا صغيرا حين يتلو صلواته بلا تمييز عند ركبتي أمه أو أبيه؛ إذ كان أبوه في رقة النساء مع طفله الوحيد. وقد ظل سنوات يجثو بجانب فراشه ليكرر ما تعلمه مع بضع إضافات من عنده. كما ظل سنوات بعدها يذهب إلى الفراش ليتمتم بصلاة مرتجلة. ثم توالت سنوات أخرى، كان خلالها، في خيلائه بقوته واهتماماته المتعددة طوال اليوم، لديه من العافية في بدنه وذهنه ما يغنيه عن الانزعاج بأي حاجة حيث لم يكتف بأنه لم يكن يصلي صلاة سؤال - لأنه كان في أفضل حال من دون أن يسأل أي شيء - بل لم يعد يصلي حتى صلاة شكر. وبينما كان جالسا هناك ذلك العصر، أرسل نظره إلى الحديقة الزرقاء التي هي عبارة عن مجرد جبل صغير منحدر باتجاه البحر، متأملا جمال الزهور والزرع والفاكهة، وبينما يجول ببصره في المساحات البيضاء من الرمل، والزرقاء من المحيط والسماء الممتدة بعيدا حتى آخر العالم، هاجمه شعور حاد بالأسى، شعور بالندم على توقفه عن صلاته الليلية. فحتى لو كان جسده قويا وكان عقله عفيا، ولو لم يكن بحاجة إلى طلب المساعدة البدنية، فربما هو في حاجة إلى طلب حماية عقله من تكرار الشيء نفسه الذي حدث وهو ترك الصلاة، كما أن هناك دائما صلاة الشكر. منذ أن انقشع الضباب في البداية وسطع ضوء الشمس في الأنحاء فاستحث الأرض لتنبت الزروع والفاكهة، وتطورت الحيوانات والإنسان وفقا للنظام المقدر للأشياء، لطالما وجد بقدر ما الجمال الخلاب نفسه الكائن أمامه الآن. ولطالما وجد في صدر كل إنسان يولد ليستمتع به قلب لا بد أن يبتهج ولا بد أن يرفع الشكر على ذلك الإرث. ولطالما وجدت شفاه تجاهر بالقول وتخبر الخالق كم هو رائع غموض الأرض وعظمة البحر ونعمة أشعة الشمس وقدرة ساعات العتمة وقد أضاءها ضوء القمر على أن تبرئ الجراح. ولطالما وجد الواجب الذي التزم به والده بشجاعة، من اعتراف بالتزاماته، بأن يدل على السبيل الرجال الآخرين الأقل وعيا لنداء الرب والطبيعة.
استغرق جيمي في التساؤل كيف سيجعل طريقة الموت التي مرح بها الكشافة الصغير وقبلها وابتهج بها، ورآها جميلة، تصبح واقعا بالنسبة إليه. حين تذكر ما قاله الطفل، شعر جيمي بامتنان بالغ أنه مهما كانت أخطاؤه، ومهما كانت زلاته، ومهما كانت الخطايا التي ارتكبها، فإنه لم يظلم بشرا، ولا لطخ سمعة امرأة بريئة أو ألحق بها الخزي، ولا كذب ولا غش ولا دنس روحه بالاحتيال والصفقات التجارية المجحفة. كان قد انتوى دراسة زراعة الغابات حين غادر الكلية. فقد أراد أن يكون خادما للأشجار. إذ إنه لطالما أحب الغابات والحقول والزهور؛ حيث يرى أن الشجرة كائن حي، كائن له مشاعر، كائن له قدم في الأرض ورأس في السماء وأذرع كريمة ممتدة بشكل متسع لتمنح إما الظل وإما الثمرات وإما بهجة الزهور ليستفيد منها العالم. كان ينوي الذهاب إلى أعظم طبيب أشجار، ويأخذ دورة تدريبية شاملة في جراحة الأشجار، تحت توجيهه وإشرافه، وانتوى عندئذ أن يبدأ مهمة كبرى بإنقاذ كل ما يمكن من أشجار في الوجود.
ومن ثم اعتقد أن العمل مربيا للنحل ليس بالشيء السيئ. فبوسعه دائما أن يفعل ما في إمكانه من أجل الأشجار، وفي الوقت نفسه لا بد من توفر الزهور لتوفير الغذاء الحلو الذي ظل يسعد الإنسان منذ فجر التاريخ، وكان بلسما شافيا. فإن العمل الذي تقوم به الأجنحة الشفافة الطنانة التي عجت بها أنحاء الحديقة أمامه من العناصر المهمة في ثروة العالم. وإن كان مقدرا له العيش، وتوفرت لديه فرصة البقاء لأي مدة في مكان كهذا، واستطاع تعلم الحرفة من دون تعليمات متعبة، ومن دون تدريب طويل، فقد تصبح وسيلة أسرع لكسب العيش، وربما بالمتعة نفسها وأشد تسلية. ومن المحتمل أن تحتوي المجلدات التي على الرفوف أعلى مكتب سيد النحل على معلومات تجعل النحل النشيط، القادر على فعل أشياء قريبة قربا ملحوظا من التفكير والعمل المنسق مسبقا، مثيرا للاهتمام تماما مثل الشجرة الساكنة، التي لا يمكن قطعا أن نخلع عليها ملكة التفكير مهما جمح بنا الخيال.
حين قرر جيمي أنه في حال عودة سيد النحل من المستشفى ضعيفا وعاجزا واستحسن الطريقة التي بها اعتنى بمنزله وروى الحديقة والأشجار ورعى النحل، فقط إذا استطاع أن يجعل نفسه مفيدا ومهما ثم طلب منه البقاء - بالضبط حين قرر أن يكتشف بنفسه إذا ما كان التكهن بأنه «بالمكوث» سوف تروق له حديقة سيد النحل - عندئذ طرأت على ذهنه الفكرة الكئيبة السابقة: كم تبقى لك من وقت حتى تروق لك خلاله؟ حتى متى تظل مثل كفيف يقود كفيفا، وأنت تحاول أن تفعل شيئا لسيد النحل؟ إن لم يستعد هو عافيته، وإن لم تستعد أنت قوتك، وإن أصبح النحل بطنينه وصراصير الليل بصرصرتها والطيور بشدوها والمياه بجريانها، وزرقة الحديقة والبحر والسماء، وكل ذلك في طي الماضي بالنسبة إليه خلال بضعة أشهر، فما الجدوى؟
واستطاع أن يرى بالأسفل كيف أن أبراجا وجبالا من الصخور قد نهشها وأكلها المد المرتفع والأمواج المتلاطمة. وحين يعود سيد النحل وتنتهي الثقة التي كان قد اكتسبها، لماذا عساها الصدفة لا تؤدي به إلى الوقوع من أحد تلك الجروف الناتئة إلى تيار معاكس تحت الماء ربما يحمله إلى الصين دون أن يدري؟
وعندئذ مثلت أمامه في لقطة حية الصورة الذهنية التي استحضرها الكشافة الصغير حين أخبره بفتور شديد بأمر الرجل الغارق والسلاحف؛ غالبا أسماك القرش هي التي ستتجاذب جيفته الهزيلة. كانت الابتسامة التي التوى لها وجهه مروعة بعض الشيء حين تصور أن القروش لن تجد ما تقتات به في عظامه وعضلاته. ثم تمادى في التفكير أكثر قليلا وتخيل أن اللحم سيكون طريا إلى حد ما. من الممكن أن يجد فيه أحد الكائنات ما يملأ فمه.
وبعد ذلك، لاح فجأة أمام عينيه، طاغيا وجليا، ذلك السرد الطفولي لأنواع الموت، ووصف السيدة العجوز الضئيلة التي تمددت على ملاءة ساتان أرجوانية مغطاة بالدانتيلا الرقيقة، السيدة المحبوبة التي خلدت للنوم ليلا في هدوء ورفق من دون حتى أن ترفع يديها المضمومتين، والتي حملت معها إلى القبر نظرة على وجهها وصفها الكشافة الصغير ب «السر الذي يدعو للابتسام». كان في هذا الطفل فطرة الطفولة وصراحتها وقسوتها. (ما الذي قاله لافونتين عن الأطفال؟ إن كلهم صرحاء لحد الغلظة، وقساة قسوة وحشية؟) لقد بدت خصال القسوة واضحة في الكشافة الصغير، لكنها ليست في وضوح الكرم والحنان وحب الأمانة. استطاع جيمي أن يرى ذلك في الكف المتسخة التي تبعثرت فيها الأزرار والخيوط والثقالات والفلين والمشابك بحثا عن العملات المعدنية التي قدمها لشراء طعام شهي للسيد.
كذلك، أيضا، توجد لدى الكشافة الصغير في عقله الباطن بصيرة نافذة أدرك بها النظرة التي لاحت على وجه السيدة النائمة. تصور جيمي أنه إذا ذهب عامدا إلى جروف المحيط الهادئ وألقى بنفسه إلى أسماك القرش، فإنه حين يمثل أمام الله ويقابل أباه وأمه، فلن يتمكن من أن يحمل على وجهه مثل تلك الابتسامة الغامضة. فلن يصبح بذلك قد أخلص الإيمان. إذ سيخالف شرائع الله وقوانين الإنسان. وبذلك سيسمح للنساء الضعاف بالتفوق عليه في الشجاعة والقدرة على التحمل. ومن ثم أغمض عينيه ليتحاشى النظرة التي تخيل أنها قد ترتسم على وجه أمه. وهنا حذف جيمي فكرة إلقاء نفسه في المحيط من مخططه للخلاص، وحلف يمينا مغلظة في قلبه أنه مهما حدث، حتى إن عاد لتقلبات الحظ على الطرق، إلى قسوة الجفاء التي يلقاها الكثير جدا من عابري السبيل، مهما حدث، حتى إن كان أبعد ما قد يخطر على الخيال، فإنه لن يجازف بمواجهة الخالق بروح جبانة. أقسم بكل ما أحبه وأجله طيلة حياته أنه سوف يحاول، يحاول بكل قوته خلال ما قد يتبقى له من وقت قصير، أن يتمكن من السر الذي بعث على الابتسام، وإنه أيا كان المعروف الذي قد يتمكن من فعله لسيد النحل أو أي شخص يلقاه في الوقت المتبقي له، فإنه بقدر ما يستطيع، سينسى نفسه، وينحي جانبا ألمه وكدره وخيبة رجائه، ومشاعره بالانهزام والخيبة، وتوقه للحب والصحبة الذهنية، وسيرى إذا ما كان جسده الذي يربو عن ست أقدام من العظام واللحم بإمكانه أن يسدي أي خدمة صغيرة ربما تصادفه من أجل الله ومن أجل رفيقه سيد النحل قبل أن يرحل. ربما إن استطاع إنجاز شيء صغير، شيء من شأنه أن يخفف ولو ألم قلب واحد ألمه مثل الألم الذي يعتصر قلبه في تلك اللحظة، فربما تكون تلك المعلومة هي السر الذي قد يحمله في صدره، فيطبع على وجهه ابتسامة لا تمحى لدرجة أنه حتى مجرد طفل صغير يمكنه أن يرى عظمة الباعث الذي وراءها، ولا يساوره هو خزي حين تحين النهاية.
وهكذا نهض وبعزيمة، لكن متألما، وهبط وهو يعرج على السلم الجبلي طويل الامتداد ذي المنحنيات والنتوءات حتى وصل إلى البوابة. وهناك جلس وتطلع إلى طول الدرجات المتبقية وفي أنحاء الشاطئ. وعلى يساره، غير بعيد جدا، اكتشف جبلا حجريا صغيرا وجذابا للغاية. انتصب بجسارة وكبرياء، وشموخ أشم على حافة المحيط الهادئ، وبدا أنه ثمة طريق يمكن بسلوكه تسلقه من الخلف. تخيل جيمي أنه في مكان ما على قمته قد يكون هناك بقعة ممهدة حيث يمكن الجلوس والتطلع إلى الشمال والغرب والجنوب، عبر أميال لا حد لها من واجهة البحر، وإلى فضاء عالم السماء اللامتناهي، وإلى بساتين السماء العامرة بالنجوم. وتساءل إن كان أي ملك من الملوك قد حكم من عرش مثل ذلك، ثم خلص إلى أنه لم يحدث قط. هكذا قرر أن يجعل ذلك الموضع هدفا له. لكنه لن يبتعد اليوم أكثر من ذلك؛ لأنه قد تعلم أن نزول الجبل أسهل كثيرا من تسلقه. لكنه سيفتح البوابة غدا، وسيذهب بالتحديد إلى المكان حيث زهور بوق الملاك والأحواض الأرجوانية اللون التي اعترشتها زهرة رقيقة هي رعي الحمام الرملي - لم يكن جيمي قد سمع عن نبات رعي الحمام الرملي قط، لكنه يملك أنفا حساسا جدا، فاستطاع في تلك الساعة من المساء أن يلتقط عبيرا أخاذا، كما أنه شاهد بضع نحلات متأخرة وهي تذهب إلى الأحواض الرقيقة الملونة وتجيء منها - تحديدا عند الخط الذي تتفتح فيه للشمس زهور رعي الحمام بلونها الأرجواني المائل للوردي وزهور الربيع المسائية بلونها الذهبي؛ سيبتعد حتى ذلك الحد اليوم التالي. وفي اليوم الذي يليه سيسير متقدما مباشرة حتى يصل إلى قمة الصخرة الجسور.
وحتى يبلغها لا بد أن يجتاز مسافة طويلة من الأمواج المتكسرة، التي بدت كأن كل واحدة منها تقول له: «أتحداك! أتحداك أن تتقدم!» جلس جيمي هناك وجعل يتأمل قدميه وتفكر في حالتهما من تورم وألم، فاجتاحه توق شديد لدسهما في مياه المحيط المالحة الباردة. وبمجرد أن أوشك على النهوض، راودته الأفكار فتساءل ماذا لو شعر بالبرد وارتجف، ماذا لو أصيب بنزلة برد شديدة، ماذا لو أصابه سعال، فوضع جيمي يده على يسار صدره وجلس ساكنا. من شأن ذلك أن يعجل جدا بالنهاية، وهو قد انتوى إن كان ذلك ممكنا أن يقاوم حتى يأتي سيد النحل ويعفيه من الواجب الذي أخذه على عاتقه حين وافق على البقاء مع النحل. لكن اللهفة، الرغبة في النزول إلى المياه المالحة الباردة كانت قد استيقظت.
حين سمع النداء لتناول العشاء، مضى على مهل، متألما، في صعود السلم المتعرج. كان يتوقف كل بضع درجات ويلتفت لينظر إلى الأمواج المتباطئة وهي تزحف على الرمال وتتراجع عائدة مرة أخرى، ثم قال في نفسه، إنه واثق ثقة مطلقة أنه سينزل إلى هناك ذات يوم ويضع ولو قدميه على الأقل في المحيط، وسوف يتسلق الجبل الصخري ويجلس على قمته المرتفعة في وقت متأخر من الليل كيفما يريد. وسوف يشاهد المحيط الهادئ وقد نسج فيه القمر بضوئه مليون مسار فضي. قد تهب عاصفة في وقت من الأوقات. وقد تهيج الأمواج حتى تكاد تصل إلى قمة ذلك الجبل الحجري الشاهق، وقد يدوي الرعد وقد يطلق البرق ألسنته المتشعبة، وقد تجن الأمواج فتأتي بأسوأ أفعالها في هيجان خارج عن السيطرة. عندئذ سيحرص على أن يقف على قمة تلك الصخرة، وسوف يشاهد عاصفة عناصر الطبيعة في ثورتها ويرى كم تتشابه مع العاصفة التي ظلت ثائرة في قلبه وعقله زمنا طويلا. إن مجرد بلوغ قمة تلك الصخرة العالية سيصبح شيئا لينشغل فيه، شيئا يعمل في سبيله، هدفا محددا نصب عينيه.
صعد بضع درجات أخرى وتوقف ثانية ليتفحص وجه البحر والقمة الباسقة التي أسماها في رأسه العرش. كانت عرشا، مكانا يسيطر فيه الإنسان على روحه. حيث يصبح الإنسان ملكا على كل ما يمكنه استعراض دقائقه ولو لوقت قصير على تلك القمة، وإنه من الأفضل أن تصبح ملكا ولو لساعة من ألا يكون لديك تطلع للملك قط.
ومن ثم ذهب جيمي إلى العشاء الذي أعدته مارجريت كاميرون من أجله، ولأن التسلق كان قد أنهكه للغاية، ولأن قدميه كانتا ترتجفان ألما لدرجة كادت تفوق احتماله من المسير الطويل غير المعتاد الذي أجبرهما عليه، فقد أقر بأنه لم يعد على ما يرام كما كان حين غادر المستشفى. وقد كان مخطئا خطأ كبيرا في ذلك. فمن الوارد أن يكون جسده قد أنهك إلى الحد الذي جعله خائرا، أما قلبه وعقله فقد خضعا لبعض التمارين التي أفادتهما بالتأكيد.
وبينما يتناول عشاءه، مرت مارجريت كاميرون على الحجرات، لتضع لمسة على إحدى الستائر هنا وهناك، وتمسح ذرات الغبار عن قطع الأثاث العتيقة الجميلة، مستطلعة بعينين غيورتين لترى إن كان الغريب قد أحدث أي ضرر بأملاك جارها الذي اعتادت، على مر السنوات، ليس فقط أن تحترمه ولكن أن ترعى وده بإخلاص عميق ودائم.
وسرعان ما جاءت من غرفة المعيشة وخرت جالسة في الحال على مقعد بجانب المنضدة التي كان جيمي يأكل عشاءه عليها.
وقالت: «أوتدري، لقد عانيت اليوم ما يكفي من المشكلات. إذ لدي أمور خاصة تشغل بالي. لدي ابنة واحدة فقط وطالما كانت فتاة مطيعة. فهي تؤدي فروضها المدرسية على أكمل وجه وكذلك برنامجها التدريبي، ولم تواجهها أي صعوبة في الالتحاق بمدرسة حين أرادت ذلك، لكنني لا أعلم سبب عزمها الذهاب بعيدا جدا عن الديار بينما كان بإمكانها الالتحاق بمكان هنا حيث تستطيع البقاء معي. ربما سئمت من المنزل الصغير والسيدة العجوز الصارمة دائمة التنظيف والتلميع، دائمة التذمر من أن الشباب مصيرهم أن يفسدوا. لا أدري إذا ما كنت أنا من دفعها إلى الابتعاد، لكنني متأكدة أن ابنة عمها مولي زينت لها الابتعاد. لست متأكدة إذا كان من المنطقي التفكير في أن الجيل الحالي مصيره أن يفسد. كانت أمي لديها الرأي نفسه بالضبط في بنات جيلي. حين كنت أريد الذهاب مع الفتى الذي تزوجته إلى حفل راقص أو لأحد تجمعات تقشير الذرة أو لنمتطي الخيل ذاهبين إلى نزهة أو حشد، كانت تظن بالطبع أننا نفعل شيئا لم يفعله الشباب من قبل قط، وأننا ماضون إلى هوة الجحيم. ربما كان الأمر كذلك، فما أدراني. إنني حزينة على لولي، على أي حال. فقد بدا لي أن ذهنها مشغول بشيء لا تريد إخباري بها. وليس هذا كل ما في الأمر.
وإنني لأقر صراحة بأنه في حال لم ينج سيد النحل من هذه الجراحة ويعد إلى منزله وجيرانه، فسوف يصبح سائر هذا العالم بلا طعم قطعا بالنسبة إلي. فقد عشنا هنا، جنبا إلى جنب، سنوات طويلة. فقد كنت آتيه وأساعده في إصلاح مسكنه، ويأتيني هو ويساعدني في إصلاح مسكني، وحين كان الصغار يخرجون في المساء ويمر الوقت رتيبا، كان يأتيني فنلعب الكريبيج (أحد ألعاب الكوتشينة) أو الداما. لم أتمتع قط بالذهن المتقد للعب الشطرنج بالأسلوب الذي قد يثير اهتمامه. كنت أحيانا آتي هنا ويجلس هو بجانب المدفأة ويقرأ بصوت عال من بعض تلك الكتب القديمة اللطيفة.» ثم أمسكت عن الكلام ونظرت إلى جيمي. وسألته: «هل تعرف كتاب «تبتلات» لجون دون؟»
فهز جيمي رأسه بالإيجاب.
وقال: «لقد كان في مكتبة أبي، لكن لم يخطر حتى لأحد أن يحتفظ بكتبه من أجلي. لقد قضى نحبه وأنا في الحرب، وفاضت روح أمي بعده بمدة قصيرة، وقد باع الجيران كل شيء؛ لم يحتفظوا لي ولو بقطعة من الملابس أو الأثاث. وبيع كتاب «تبتلات» دون مع بقية الأشياء. لا أعلم إلى أين، وقد حال المرض الشديد بيني وبين البحث عنها، كما أنني لم أمتلك المال الكافي. فاضطررت إلى البقاء حيث كانت الحكومة سترعاني. لكن يمكنني أن أتخيل كيف يصبح شعور من يشاهد سيد النحل وقد انعكس ضوء المدفأة على وجهه العجوز الجميل وهو يمسك كتاب جون دون بأصابعه الرشيقة.»
هزت مارجريت كاميرون رأسها بأناة.
وقالت مبهورة الأنفاس بعض الشيء: «أجل، أجل، كان يبدو في صورة بديعة. لم أر في حياتي بأسرها ولو لوحة لرجل بارع الحسن جسدا وروحا مثل سيد النحل. أرجو أن تمكث عند عودته حتى تستقي من نقاء روحه. فسوف تجد ما يعينك على ما تبقى من حياتك عند اطلاعك على مدى لطف وطيبة وحسن خلق مايكل ورذينجتون. إن الصحف اليوم تفيض بأخبار عن أفعال يجب ألا يقدم عليها الرجال. أتمنى لو كان بإمكان كل شاب في العالم بأسره أن يعيش سنة واحدة مع رجل مثل سيد النحل ليتعلم صبره وتسامحه، وسعة أفقه، ونظرته المحبة للحياة، وعدم خوفه من الآخرة.»
سأل جيمي: «لماذا، إذن، كان يعارض إجراء الجراحة أشد المعارضة؟»
تسللت حمرة داكنة إلى وجنتي مارجريت كاميرون.
وأجابته قائلة: «حسنا، من بين الأسباب، أنه جاء إلى هنا بقلب مفطور. إنه لم يحدثني عن الأمر بالتفصيل قط، لكنني قد أتيت هنا مرتين بينما كان يتحدث مع الكشافة الصغير، وأعتقد أن ذلك الطفل يعلم من الشخص أو ما الشيء الذي فطر قلبه. أعتقد أن ذلك الطفل يعلم مما كان فراره حين جاء إلى هنا وحده فقط مع أثاث لمكتبته ومخدعه. ثمة صورة في مخدعه، ربما صورة زوجته. سألته مرة عنها فقال إنها ماتت منذ عدة سنوات وإنه فقد، أيضا، طفلتها التي كان متيما بها. لكن كان ثمة شيء أكبر من ذلك. الموت ليس من الأشياء التي يصعب تجاوزها إذا صاحبه الأمل، ويمكن اعتبار وجه المرأة المعلقة صورتها في مخدع سيد النحل تجسيدا نموذجيا للأمل، للنقاء، للشجاعة التي لا تلين، أي صفة طيبة يمكن لأي امرأة التحلي بها. وقد فقدها، وفقد طفلتها، كما يساورني يقين أنه قد فقد منزله وأصدقاءه. أعتقد أن قدرته على التحمل نفدت شيئا فشيئا، وحين لم يعد قادرا على الاستمرار استسلم وسلم أمره لرب كريم.»
هكذا استرسلا في الكلام حتى الغسق. وبعد أن جمعت بقايا عشائه في السلة الصغيرة وقبل أن تعود مارجريت كاميرون إلى منزلها، دعته ليأتي إليها متى شعر بالوحدة، ووعدته أن تساعده في عمله الصباحي حتى تتأكد أنه قد تعلم ري الزرع بالطريقة الصحيحة؛ لأن الزنابق لا بد ألا تروى للدرجة التي تجعل بصيلاتها تتعفن، ولا بد من حماية الورود من الإصابة بالعفن الفطري، ولا بد أن يظل النخل جافا من دون إفراط، وأن تروى أشجار السنط من دون مغالاة. شعر جيمي، بعد أن انتهت من إحصاء الأسباب التي تحتم قدومها، أن وجودها ضرورة حقا عندما يبدأ العمل.
بعد ذلك ذهب إلى حجرة المعيشة، ولأن دمه كان مليئا بالسموم ويدور ببطء، فقد أشعل عود ثقاب وأوقد الحطب الموضوع في المدفأة. وظل وقتا طويلا ينظر إلى الكرسي بجانبها، وهو ذو ظهر مرتفع بمسندين عريضين للذارعين، ويغري بالجلوس. من دون حتى أن يغمض عينيه استطاع أن يرى الشعر الحريري واللحية والجبهة البيضاء والعينين الجميلتين للرجل العجوز المهيب الذي كانت روحه مسيطرة على النحل ومسيطرة على المنزل ومسيطرة على روحه، وكان ثمة وازع بداخل جيمي، جزء مهم من شخصيته جعله يرفض أن يأخذ مقعد السيد. لذا نحاه جانبا واختار واحدا آخر رأى أنه سيناسب هو الآخر قامته الفارعة إلى حد كبير. ثم فتح الخزانة المعلقة فوق طاولة الكتابة والتقط أحد المجلدات التي كان الكشافة الصغير قد أشار إليها. وقد انفتح وحده على إحدى الصفحات، وكانت أولى الفقرات التي وقعت عليها عينا جيمي تقول: «هناك نوعان من الحكام بين النحل، فإنه يهلك إن كثر عدد الحكام؛ لأنه يصير بذلك مشتتا. يتكاثر الزيتون وأسراب النحل في الوقت نفسه. وهم يبدءون بصناعة القرص، الذي يضعون فيه ذريتهم. ينتقل القرص في أفواههم، كما يقول أولئك الذين يؤكدون أنهم يجمعونه من مصادر خارجية. يصنع الشمع من الزهور. فإنهم يأتون بالمادة الخام للشمع مما يتساقط من الأشجار، أما العسل فيسقط من الهواء، بالأخص حين ترتفع النجوم وحين يسقط قوس قزح على الأرض.»
حين قرأ جيمي تلك الفقرة اهتز منكباه ضاحكا ضحكة سخرية. توقف عن القراءة وبدأ يناجي النار.
فقال: «أما وقد أسندت إلي مهمة رعاية النحل هذه، فإن علي الذهاب حيث الكتب المفيدة وانتقاء مجلد به تعليمات للمبتدئين لأكتشف بنفسي بضعا من تلك الأشياء التي ذكرها الكشافة الصغير، كيف أعرف الملكة من العاملة، والذكر من الممرضة. أعتقد أنني سأشعر بأنني حاد الذكاء إذا استطعت أن أرى النحلة وهي تتسلق الزهرة فأعرف ما إن كانت نحلة عاملة أم ممرضة. ترى هل يعلم الكشافة الصغير تلك الأشياء؟»
نظر جيمي إلى النار.
قال لنفسه: «لا ينبغي أن أندهش البتة.» وتابع: «أرى أن ما علي هو فهم الجزء العملي من حياة النحل أولا وقراءة الخيالي فيما بعد، لكنني، بحق قوسي وبلطتي، أقسم إن هذه الكتب الخيالية عن النحل تغري بالقراءة!»
قرب جيمي المصباح إليه أكثر وألقى قطعة أخرى من الحطب في النار واستلقى مسترخيا على المقعد وظل يقرأ حتى أحس بعينيه مجهدتين وصارت النار خافتة، وعندئذ ذهب إلى الفراش.
حين استيقظ في الصباح التالي من نوم طويل وعميق وتمكن من الاستحمام ثم وضع الأربطة التي تربط اللفافات على صدره وفوق كتفيه وحول ظهره لتثبيت الضمادات في مكانها، أحرز تقدما ملحوظا لأنه لم يكن يفكر في جرحه أو متى سيقضي عليه. وإنما كان يفكر إذا ما كان الكشافة الصغير سيأتي مرة أخرى ذلك اليوم؛ إذا ما كان، بعد أن يفرغ من العمل الواجب عليه القيام به، سيبقى لديه قوة ليحمل نفسه إلى الحدود الأرجوانية والصفراء على الشاطئ، والعسل الذي تساقط من السماء بكرم شديد حتى يجمعه نحل الأزمنة الغابرة ويملأ به الخلايا. كان يفكر في أي شيء تقريبا، إلا نفسه، وكان ذلك من أفضل الأشياء التي حدثت له خلال سنتين طويلتين.
في ذلك اليوم، بعد أن فرغ من الري وغفا بعد الغداء، ذهب في الرحلة التي كان قد انتوى القيام بها وجلس على الرمال الساخنة، فسحره بشدة الشذا المسائي لزهور الخزامى الصغيرة التي تنمو هناك، وفتنه للغاية جمال اللون الذهبي، حتى إنه قرر أن يبحث بين كتب سيد النحل ليرى إن كان بإمكانه العثور على كتاب عن الزهور ليعرف منه طبيعة هذه الأشياء الغريبة الجميلة. وحين نظر من أعلى موقع للمشاهدة بعينين تواقتين نحو مياه البحر المالحة الصافية ونحو المساحة الواقعة بينه وبين العرش، أدرك احتمالية أنه يستطيع خلال أسبوع الذهاب حتى ذلك الحد؛ لأن قدميه كانتا قد تحسنتا كثيرا، بعد ليلة من الراحة، وبعد نقعهما في الماء مدة طويلة، ولم تكن عضلاته بالغة التيبس ولا ألم عظامه يفوق احتماله.
في الساعة السادسة ذلك المساء رن جرس الهاتف وأبلغه الدكتور جرايسون أن الجراحة قد انتهت، وعاد سيد النحل إلى حجرته، واستعاد وعيه. وكان أول الأسئلة التي سألها تقريبا هو إذا ما كانت ثمة أي رسالة له بخصوص النحل، وقد أخبره الطبيب أن كل شيء على ما يرام، لكن إن كان هناك أي خبر خاص ليخبره به وهو يغير على جرحه في الصباح فقد يكون مفيدا له. هنا أعاد جيمي القول بأن كل شيء على ما يرام وأضاف بعض التفاصيل الخاصة بالري واستفسر متى يمكنه رؤية سيد النحل.
أجاب الدكتور جرايسون قائلا: «إنه لا يدرك كم هي خطيرة حالته ولا كم هو ضعيف، لكن أعتقد أنك قد تستطيع أن تأتي لزيارته أول زيارة خلال أسبوع أو عشرة أيام. في الوقت نفسه، سوف أتصل بك وأعطيك تقريرا كل مساء، ليصبح لديك علم بحالته، كذلك يهمني أن أعرف كيف أصبحت أنت نفسك.»
تردد جيمي أمام ذلك الأمر. فلم يدر ماذا يقول على وجه التحديد. لكن قبل أن يتمكن من قول أي شيء، واصل الطبيب حديثه فقال: «لم يكن هناك وقت لأوليك أي عناية حين كانت حياة سيد النحل في خطر، لكن تبدو لي واحدا من أبنائنا الذين يعانون من مشكلة خطيرة بعض الشيء في مكان ما من جسده، وقد تشككت فيما إن كنت مناسبا للمهمة التي ستضطلع بها. لذا متى أردت فلتأت كي أتمكن من فحص حالتك، هات قلما وسأعطيك إرشادات للوصول للمستشفى، إن كنت غريبا عن المدينة.»
فقال جيمي إنه غريب، وإنه يود جدا الحصول على عنوان المستشفى، وإنه إذا تكرم الطبيب بإتاحة ذلك العرض إلى أن يأتي لزيارة سيد النحل، فسيصبح ذلك ممتازا للغاية.
هكذا مر يوم ومر بعده يوم آخر، وكان جيمي في كل يوم ينتهي من ري الزهور والفاكهة وخلط الشراب للنحل وفحصه للقفائر في مدة أقل قليلا من اليوم السابق. حيث اتبع نصيحة الكشافة الصغير. فحين ذهب وسط النحل ارتدى المعطف الذي كان سيد النحل يرتديه وفرك يديه وشعره بزنابق مادونا وزار حوض القرنفل أكثر من مرة. كان ثمة سؤال في ذهنه، نتج عما قاله الطفل، بشأن ما إن كانت الأعضاء الحساسة لدى النحل قد تتبين الرائحة الخافتة للضمادات وتستاء منها لأنها غير مألوفة، لكن لم يحدث شيء من ذلك. فهو يقارب سيد النحل جدا طولا وهيئة، وقد ارتدى معطفه المألوف، وتدرب كثيرا على أغنية «هايلاند ماري»، فلم ينتبه له النحل البتة حين اقترب منه. أما قفائر النحل الألماني الأسود المعزولة فقد ابتعد عنها. حيث شعر في أعماق روحه أنه إن اقترب من قفير نحل يسمى ألمانيا أسود، فسوف يستجمع ما تبقى لديه من قوة ويركله في وسط المحيط الهادئ بغض النظر عما قد يحدث على سبيل الانتقام.
بعد أن علق المعطف على المشجب الذي وجده عليه، اصطدمت أصابعه بشيء خشن ودافئ حين تفحصه تبين أنه ثوب سباحة من الصوف، ثوب ثقيل دافئ. أنزله جيمي وتحسسه متحمسا ثم سار إلى الرواق الخلفي وأطل على مياه البحر الزرقاء. رفع ثوب السباحة إلى كتفيه ولفه حول نفسه، وتساءل إن كان سيغطي الأربطة أم لا وما سيحدث إن ابتلت الضمادات بالماء المالح.
خشي ألا يكون مناسبا، فاستدار آسفا وعلق ثوب السباحة الصوف ببطء، ليس حيث كان، ولكن على المشجب الأول الأقرب إلى إطار الباب الخلفي، علقه في موقع واضح حيث لا بد أن يراه كلما دخل من الباب أو خرج منه، وكان كلما رآه وقف ونظر إليه، وفي غضون بضعة أيام قرر أنه لا بأس من ارتدائه والسير بقدمين حافيتين على الرمال الساخنة. لن يكون هناك برودة في الجو خلال حرارة النهار، ويمكنه عندئذ السير حيث تتكسر الأمواج الصغيرة بحيث تبل قدميه، لمجرد الشعور بالبهجة التي تصور أنها ستغشاه حين تزحف تلك الأمواج الباردة المالحة مقتربة وتمر عليهما. وبإمكانه العودة إلى الرمال الساخنة وتجفيفهما سريعا، أوليس من الوارد أن تحفز تلك العملية دورته الدموية؟ أليس من الممكن أن تجذب الرمال الساخنة الدم الخامل المسمم في أوردته نحو قدميه؟ أليس من الممكن أن تدفعه المياه المالحة الباردة مرة أخرى؟ أليس من الممكن أن يؤدي النشاط الناشئ عن ذلك إلى التخلص من السم الناجم عن الجرح الذي في صدره؟
هكذا ظل جيمي، خلال أيام الدفء العامرة، محافظا على أمانة سيد النحل على قدر استطاعته، بمساعدة مارجريت كاميرون، وقد بذل ذهنه أيضا نشاطا بقدر ما بذله جسده. وأسرع مما توقع بلغ سفح العرش. لم يكن التسلق سيئا على الإطلاق وقد وجد بالفعل، قريبا على الجانب المواجه للبحر من الصخرة الكبيرة، أخدودا طويلا على شكل مقعد رائع، مقعد يناسب منحنيات جسده، مقعد يمكن عند فرشه بمعطف العمل الخاص بسيد النحل أن يكون رائعا للاستلقاء عليه، والاستجمام، والتشبع من الشمس، وتنفس الهواء المشبع بالملح عند هبوبه من غرب القمة.
لم يكن قد وصل إلى مرحلة أن يقرر إن كان سيصمد. كان ذهنه مضطربا فحسب تتنازعه الأفكار والتخمينات والاحتمالات. فإن سأله أي شخص، شخص له الحق أن يسأله، ورد عليه ردا صريحا، كان سيقول إن ستة شهور، دون أي شك مطلقا، ستكون مدة توليه تلك المهمة. فقد صار في أسوأ حال بعد عام من الحصول على أفضل علاج استطاعت الحكومة توفيره له. فكان يعتقد أن ستة شهور تقريبا ستكون النهاية. كان أحيانا ينتابه بعض القلق لأنه لم يتلق الدعوة لزيارة المستشفى. وظل في الساعة السادسة كل ليلة يرد على الهاتف ويبلغ بأن سيد النحل يتعافى بصعوبة. وأنه لم يكن قادرا بعد على الحديث أو التفكير في العمل.
وكان في كل مرة يتلقى واحدا من هذه التقارير، يتصل بالكشافة الصغير على الرقم الذي أعطاه له ويخبره بالتقرير . وقد جاء الكشافة الصغير إلى الحديقة مرتين في زيارة قصيرة بعد المدرسة. وكان جيمي في كل مرة يفترق عن صديقه الجديد بأسف أشد. حيث يتجلى له جانب جديد من عقلية الصغير فيدهشه، وأحيانا يصدمه، وأحيانا أخرى يسعده، وأما مسألة جنسه، فلم يقترب من التحقق منها قيد أنملة عما كان في اليوم الأول.
بعد عشاء اليوم التاسع، سلك جيمي سبيله للمرة الثانية بامتداد الجدار الخلفي، عابرا الشاطئ، وتسلق ليصل إلى العرش. كان متزودا بقبعة قديمة عريضة الحواف متدلية ومعطف قديم. تسلق العرش ولبث عند مقعد خاص به تمكن من صنعه بجهد كبير وقوة فاقت ما كان يظن أن باستطاعته استجماعها. كان قد جمع بعض القطع المهشمة من الصخور ورتبها ترتيبا مختلفا متنحيا أكثر جهة اليسار، وهكذا صار لديه مقعد. متلفعا بالمعطف، جلس على المقعد ليواجه السماء والبحر بحقيقتهما السرمدية. لم تكن الأرض ظاهرة في المشهد على الإطلاق. كانت صفحة السماء تقترب: وأمواج البحر الهادئة تتدافع، وبعيدا في الأفق توهج لون أحمر خافت علامة على موقع الشمس التي ألقت بأشعتها على العالم الذي راح يتحول عنها شيئا فشيئا.
عندئذ استغرق جيمي أكثر في التفكير. فقد كان ذهنه يعمل كثيرا تلك الأيام. فهو ما زال يتأمل الموت، لكنه على الأقل صار لديه تصور أكثر شجاعة في مواجهته. وحين أخذ يتأمل الحياة، لم يكن يفكر في نفسه، أو يلقي باللوم على حكومته، أو يشفق على سائر الرجال المصابين. إنما كان يفكر في ذلك الشيء الوحيد الذي ربما يمكنه فعله وماذا قد يكون ذلك الشيء الذي سيشفع له بعض الشيء، حين يواجه خالقه، على استنفاده أيامه الأخيرة.
الفصل السابع
سيدة العاصفة
أتى اليوم الجديد غارقا في الضباب والسكون ثم هبت رياح باردة لم يأبه جيمي بمجابهتها. وفي المساء فقط، حين نظر من الشرفة الخلفية وجال ببصره في المنظر الممتد أمامه، أدرك أن الشيء الذي كان يريد أن يراه سيحدث. فقد بدت ومضات البرق في الأفق. وبدأت ألسنة متشعبة من الضوء تومض في السماء وساد سكون مشئوم، وبعيدا في اتجاه الشمال والغرب أمكنه أن يرى سحبا سوداء كبيرة وقد أخذت تتكتل وتتجمع.
شد جيمي قامته. وقال لنفسه: «إنها عاصفة!» وأضاف: «العاصفة! أقسم بكل ما في الكون من خير وسلام، أن أراها من العرش ولو كان ذلك آخر شيء أفعله في حياتي!»
تفحص الحديقة، وأزاح عدة أشياء يمكن للرياح العاتية أن تتلفها، وبحرص أغلق النوافذ وأوصد الأبواب، ثم ذهب إلى الخزانة التي عند الرواق الخلفي وفتش بين متعلقات سيد النحل عن ملابس مناسبة. بسط معطف النحل والمعطف القديم، ثم وجد معطفا واقيا من المطر ثقيلا كان هو ما يحتاج إليه بالضبط.
ارتدى معطف النحل، وحمل المعطف الخارجي ومعطف المطر واعتمر القبعة عريضة الحواف القديمة، وأوصد الباب الخلفي وراءه وسلك سبيله بتأن عابرا الممشى الخلفي، ومجتازا الرمال؛ ليصعد العرش. ومن ثم جلس في الموضع المريح الذي أعده لنفسه، مرتديا المعطف الخارجي وباسطا معطف المطر حتى يستطيع أن يضمه حوله، وضم إليه أغطيته بطريقة محكمة بحيث لا يصيبه برد. ثم جلس يشاهد العاصفة المقبلة بشغف شديد.
لم يكن يعلم أنه يضع قوى الطبيعة في مقارنة. لم يكن مدركا أن العاصفة التي من شأنها أن تزلزل روح الإنسان وجسده حتى تدمره ظلت محتدمة طوال سنتين في صدره المصاب، وفي قلبه، وفي عقله. لم يعلم أنه لا يدرك قوتها وعنفها وعدم جدواها. لم يعلم لماذا أراد أن يرى السماء وهي تهبط والبحر وهو يرتفع ثم يصلان إلى أقصى حدود ثورتهما. لم يعلم أنه أراد أن يقارن بين العاصفة التي يمكنها اكتساح قلب إنسان مع العاصفة التي يمكنها اكتساح العالم. لقد حاول بحق أن يحمي نفسه حتى لا يعجل بشيء قد يكون مقدرا له. لم يرد أن يخفق، وقد ائتمنه سيد النحل على منزله وأملاكه وعمله وهي كل ما يملك من حطام الدنيا، ولم يعلم أنه مع اقتراب العاصفة أكثر، واشتداد سواد الغيوم، وتحول موجات الحرارة إلى ومضات واضحة من البرق، ومع هبوط المساء بلونه الأسود مثل المخمل حوله؛ لم يدرك أن عزيمته المعنوية والذهنية كانت ترتفع مع مد العاصفة، وأن كل ما تبقى في جسده المتداعي من بقايا رجولة كانت تحتشد معا لتبلغ قمة من نوع ما، تماما كما كانت العاصفة ستبلغ ذروتها في الحال ثم تتراجع.
من دون أن يحرك ساكنا، وبأنفاس تكاد تنقطع من اللهفة، استلقى في مقعده الصخري وتساءل كم سيبلغ ارتفاع المد على وجه التحديد. لم يتبين إذا ما كان الماء قد يحيط بالنتوء الصخري. اعتقد أنها ستكون عاصفة غير مسبوقة وأنها ستغمره. على أي حال، قرر أن يخوض المغامرة. وربما كان يجدر به أن يسأل مارجريت كاميرون هل غمر الماء ذلك النتوء تماما من قبل. لكنه متأكد أنه أعلى من أي مستوى رأى الإنسان المحيط يرتفع إليه؛ ومن ثم فلا بد أنه آمن.
في اللحظة التي أدرك فيها جيمي أنه يحظى بأفضل وقت مر عليه منذ كانت المدافع تدوي وكان القتال في المعركة محتدما وكان هو قادرا على تسديد ما اعتبره ضربات قليلة مؤثرة، مصاحبا كلا منها بصيحة مدوية قائلا: «باسم فوج المرتفعات الثاني والأربعين!» وحين شعر بدمه يضطرب وروحه تتجاوب مع تكسر الأمواج التي ترش الرذاذ على قدميه، وهزيم الرعد وتألق البرق، بالضبط مثلما سار القتال في صالحه وكان جيمي جندي فوج المرتفعات الثاني والأربعين وبسيف سحري يقطع رءوس عدد لا يحصى من الألمان مع كل ضربة سيف سريعة كالبرق، حدث له أغرب شيء رآه طوال السنوات التي عاشها. إذ انبعثت رائحة غريبة بطيئة وخافتة حتى أحاطت به تماما واكتنفته.
هبط جيمي من المعركة التي في خياله إلى واقع يومه والتفت برأسه إلى اليمين. متحريا الرفق كما كان يفعل حين يزحف على بطنه نحو الألمان في الأرض المتنازع عليها، باحثا عن رفيق مفقود أو مستكشفا مواقع العدو، راح يتشمم هواء الليل. وأول معلومة مؤكدة شعر أنه يستطيع الاعتماد عليها من المعلومات التي أرسلها أنفه إلى دماغه كانت رائحة «المريمية». وتشمم مرة أخرى فأدرك زهرة خزامى الشواطئ؛ «رعي الحمام الرملي»، واحدة من أرق وأروع الروائح الخفيفة في الطبيعة بأسرها، ثم تسللت نفحة من زهور الربيع. وعندئذ، بالضبط حين أعقب الصدع الذي بدا كأنه شق السماء هزيم الرعد المدوي، بلغ أذني جيمي بكاء ملتاع كان أكثر ما قد سمعه في حياته إثارة للشفقة. وبينما هو ساكن سكون الموت وجالس بين أغطيته، التفت رأسه، وتيقظ أنفه وأذناه، وبعد برهة، وهو ما زال يتشمم وينصت، توصل إلى استنتاج: إن العرش الذي كان يظنه غاية في الروعة، الذي سابق إلى الاستحواذ عليه، الذي انتوى أن يشغله في عدة ليال من التواصل الوجداني في سعيه للتقرب إلى الله، لم يكن عرشه الشخصي. لقد كان متطفلا عليه. إذ كان هناك شخص آخر على معرفة بالطريق المتعرج المؤدي إلى القمة من الخلف. شخص يخوض صراعا وبحاجة إلى أن يداويه الله من خلال الطبيعة ليقوى على خوضه. حيث وقف بجانبه شخص تفوح منه رائحة مريمية الجبال، رائحة الخزامى وزهور الشاطئ الذهبية، وكان لهذا الشخص صوت امرأة، ليس بالصوت المبحوح، وليس بالصوت اللاهث لامرأة عجوز. يعلم الله أن جيمي قد سمع نساء كثيرات يبكين؛ نساء من فرنسا، ونساء من بلجيكا، ونساء من إنجلترا. لقد كان خبيرا بكل أنواع وألوان نشيج الأسى الذي قد يعتصر جسد الأم، الزوجة، الأخت، الحبيبة.
على مهل، وبرفق، من دون أن يحدث صوتا بقدر ما استطاع، التفت ليواجه هذه المرأة. كانت قد وصلت إلى مقعدها حيث جلس هو في البداية. من الجائز أنها لم تعلم أن مقعدا آخر قد صنع، وراء المكان الذي لا بد أنها قد اعتادت عليه، وإلا ما كان من الممكن أبدا أن تجده في ظلمة العاصفة. لا بد أنها اعتادت الجلوس في ذلك الموقع خلال عواصف أخرى، وإلا ما كانت سعت إليه وقد بلغت تلك العاصفة أشدها.
وبعد أن تمكن الإجهاد من الطبيعة وبدأت تخف من حدة العاصفة التي شنتها، حدث لجيمي شيء عجيب آخر. إذ راحت الريح الهائجة التي كانت تهب من الغرب تتحول تدريجيا إلى الشمال وبدأت تطير شيئا على وجهه، وهو شيء ناعم، شيء حريري، شيء راح ينسحب وينشد، ويلتصق به مع الرذاذ المتدافع والمطر الغزير. ووسط ارتباك مشوب بذهول أخرج يده ولمس وجنتيه برفق، فوجد عليهما خصلة حريرية من شعر امرأة. أدرك جيمي أنه إذا علمت المرأة بوجود رجل هناك، فقد تذعر ذعرا شديدا حتى إنها ربما تلقي بنفسها إلى البحر الهائج تحتهما على بعد بضع أقدام. لذا تخوف من أن يتكلم، من أن يتحرك، ولم يخطر له أنه قد يكون بجانبه أنف في مثل حساسية أنفه، وأنه قد تفوح منه في التو واللحظة رائحة يميزها شخص آخر.
لم يعلم جيمي قط كيف ستتوالى الأحداث؛ لأنه في اللحظة التي تسللت فيها يده لتزيح عن عينيه الشعر الذي حجب عنهما الرؤية، ضرب وميض ممتد ومنخفض من البرق قلب المحيط وأضاء الصخرة للحظة بنور كالنهار. في تلك اللحظة رأى جيمي وجها أبيض وعينين كبيرتين نجلاوين لامرأة، وجها سيظل يتذكره ما دامت له ذاكرة، وجها لا يمكن بحال من الأحوال أن ينساه أبدا. التقطت أذنه المرهفة شهقة الدهشة الحادة من وجوده هناك، حيث يجوز جدا لأي شخص معتاد على الصخرة أن يفترض أنه لا يجد أحدا، فعرف أنها صادرة عن امرأة معتادة على ضبط النفس. فهي لم تصرخ. ولم تقفز. إنما التقطت أنفاسها فقط.
كان جيمي مستعدا إلى حد ما. فقد حاول تدبر أمره. ولم يؤخذ على حين غرة مثلها. أما ما كان قد انتوى أن يقوله، وما ظن أنه سيكون قولا عاقلا، فلم ينطق به قط.
لكنه وجد نفسه يقول: «لا تجزعي! ما الذي يؤلمك؟ دعيني أساعدك.»
حينئذ أجابه الصوت الذي سيأخذ مكانه في ذاكرة جيمي مع العينين والوجه - صوت رنان خفيض قوي يتخلله تهدج حزين مؤثر، صوت يهتز بالمشاعر ومشدد بنبرات مألوفة لأذنيه - قائلا: «ما الذي جاء بك إلى هنا؟»
أجاب جيمي: «ربما للسبب نفسه الذي جاء بك.»
أجابه الصوت: «أوه!»
أزاح جيمي الخصلات المسترسلة عن وجنتيه وشفتيه بأصابعه وجلس ممسكا بها في يده بإحكام. وقد نسي حاله تماما وهو الذي كان قد خرج ليقارن بين معركة الطبيعة ومعركة روحه؛ إذ قال للفتاة التي بجانبه: «هل أخبرك أحد من قبل أن المشكلة حين يتقاسمها اثنان يصبح أمرها هينا؟»
ثم ضحك ضحكة اسكتلندية خفيضة. وأرسل ذراعه اليمنى وتحسس شمالا حتى طوق منكبي المرأة التي بجواره.
وقال: «ملابسك ليست كافية، كما أنك مبتلة! تعالي هنا للاحتماء بمعطفي. وبعد ذلك؛ لأننا ليلا، ولأنني أعلم أن روحك محطمة وربما جسدك معذب، فلتخبريني بالحقيقة. إنني على يقين أن باستطاعتي مساعدتك. فكل مأزق له مخرج. وبإمكاني أن أفكر لك في حل.»
لم ينس جيمي قط أنه حين بلغ بذراعه الكتف التي بجانبه لم يقابله انكماش ولا نفور ولا تردد. وعندما لمع البرق مرة أخرى رأى أن المرأة التي كان يحاول مواساتها كانت شابة. لم تكن جميلة، لكنها كانت جذابة جاذبية إنسانية. ولما كانت مبتلة بالمطر، مفعمة بالأسى، لم يكن له حق أن ينتقدها.
قال ملتقطا حبل أفكاره مجددا: «إنني جاد.» وتابع: «إنني جاد. أعدك أن أساعدك إذا أخبرتني.» «لكن ... لكن كيف يمكنك مساعدتي؟» قال الصوت الذي سجل جيمي كل نبرة من نبراته وهو يبلغ مسمعه.
قال جيمي: «لا أعلم.» وأضاف: «لا أعلم كيف أستطيع مساعدتك؛ لأنني لا أعلم ما تحتاجين إليه. أعلم فقط أن بوسعي مساعدتك، وأنني سوف أساعدك إذا أخبرتني ما الذي يزعجك.»
أثناء الصمت الطويل الذي أعقب قوله، هيأ جيمي معطف سيد النحل الواقي من المطر ليستفيد منه أقصى استفادة ممكنة وأحكم قبضة ذراعه اليمنى. وأخيرا، وسط هدير العاصفة المنحسرة، ووسط تكسر الأمواج تحتهما، سمع مرة أخرى الصوت الذي كان ينتظره.
قالت المرأة، التي كان صدرها ما زال يعلو ويهبط، وكتفاها ما زالتا ترتجفان: «لا أستطيع إخبارك. لا أستطيع أن أخبر غريبا في الظلام، وسط العاصفة، بذلك الذي يؤلمني!»
قال جيمي مهونا الأمر: «بل تستطيعين.» وأضاف: «الآن أفضل من أي وقت آخر. إن كان شيئا لا تفخرين به، فسوف يكون في الظلام ستارا لك. وإن كان شيئا تخافينه، فيمكنك الاعتماد على قوى ساعدي الأيمن. وإن كان أي شيء أستطيع كرجل أن أفعله لك، فأريدك أن تعلمي أنك لي بمثابة أم أو شقيقة، أو أي قرابة ترين أن الرجل الذي يحاول التصرف بالقدر المعقول من اللياقة لن يخل بها. سوف أعدك وعد شرف ألا أتبعك، ولن أبذل أي مجهود في معرفة من أنت أو من أين أتيت. إن كنت جئت هنا الليلة بنية إلقاء نفسك من هذه الصخور إلى التيار المبتلع، فثقي تماما أنني جئت بالنية نفسها. أقر بأنه خطر لي. فلدي في صدري عاصفتي الخاصة بي. لدي جروح ما زالت مفتوحة وتنزف. ليس بي ما يجعلك بحاجة إلى التردد. إنما أقول لك إن صوتك فتي، ووجهك يافع، وجسدك قوي، ومن الممكن بطريقة ما تدبر علاج للقلوب الشابة المنفطرة، وإنني أعتقد بحق أن المشكلة عند البوح بها تخف وطأتها. فلتخبريني.»
كاد جيمي أن يشعر بالإمعان في التفكير الذي جرى في ذهن المرأة التي كان يحاول حمايتها ومساعدتها.
قال الصوت العميق أخيرا: «إنها قصة طويلة، وإنها قصة تشتمل على ما يدعوه الناس خزيا. وإن الناس محقون إذ دعوه خزيا؛ لأنني أشعر بالخزي. فأنا لا أستطيع أن أجلس هنا في وضح النهار وأتركك لتسترني، وتنظر إلي، وأحكي لك. لا يمكنني أن أحكي لك إلا في عتمة واضطراب مثل ذلك، والمؤكد أنك لن تستطيع أن تقدم أي عون، لكن إليك المهم: ما دمت جئت وصمدت أمام العاصفة وعقدت العزم على مواصلة السعي على الرغم مما قلت إنه جرح مفتوح في صدرك، فإنني أعدك ألا ألقي بنفسي من فوق الصخرة. أعدك أن ألتمس سبيل العودة إلى الأصدقاء الذين تركتهم، أن أعود لدياري، أن أواصل عملي، أن أفعل أفضل ما في وسعي.»
قال جيمي: «هذا أمر جيد، لكن ليس كافيا. فليس منه جدوى سوى أنك ستبقين على قيد الحياة؛ لأننا لا نحصل على الحياة في هذا العالم بمشيئتنا، وليس من حقنا أن نفرط فيها إلى أن يتوفانا الله. إنني أعرض عليك أن أحمل عن قلبك العبء الذي يعتصرك. أليس في الذراع المبسوطة حول كتفيك القليل من الأمان؟ ألا يبدو صوتي صادقا؟ ليس لدي أي مانع مطلقا في إخبارك من أنا، أو من أين جئت، أو أين سأذهب بعد مغادرة هذه الصخرة. لقد أخبرتك أنني لن أتبعك. إن كان فيما ستقولينه الليلة شيء يحمر له وجهك خجلا غدا، فإنني لن أتطفل، لكنني أرجوك أن تصدقيني حين أقول إنني متأكد من قدرتي على مساعدتك، إن أخبرتني.»
وكان ذلك كلاما جريئا وجسورا جدا أن ينطق به جيمي لأي امرأة في محنة، وهو لديه ستة شهور ليعيشها وليس لديه نقود في جيبه. إلا أنه نطق به بثقة تامة، وكان ثمة شيء في صوته يوحي بالاقتناع. وقبل أن يعرف ما الذي حدث له بالضبط، حصل الشيء الذي كان يسعى إليه. إذ شعر على امتداد جسده بانبساط العضلات المشدودة بجانبه. فانحنى ليمد ستار معطف المطر.
فقال بالنبرة نفسها التي كان سيستخدمها مع طفل في السادسة من عمره: «أحسنت يا فتاة.» ثم أضاف: «والآن، هيا أخبريني بما حدث لك. لست بحاجة إلى أن تحكي القصة بأكملها. لك أن تحكيها في عشر كلمات إن أردت. ما الذي يؤلمك؟ كيف يمكن إصلاحه؟»
استطاع مرة أخرى أن يشعر باجتهادها في التفكير.
قالت صاحبة الصوت المجاور له: «حسنا.» وتابعت: «أكثر ما أحتاج إليه من الدنيا في هذه اللحظة هو عقد زواج وخاتم زواج، واسم لوالد طفل لم يولد بعد. وإنني في حاجة ملحة إلى ذلك. هذا كل ما في الأمر. والآن أوف بما وعدت به!»
قال جيمي في الحال بسلاسة: «حسنا.» وأضاف: «إن الاقتراح الذي عرضته علي لهو أسهل شيء يمكنني تدبره. فلدي اسم وليس منه أي فائدة لي، وليس أمامي وقت كاف لأستخدمه فيه. ولدي قوة كافية لتدبر إذن الزواج ومراسم عقد القران إن لزم الأمر. إن تعهدت لي بكلمة شرف أن يعالج البلاء الذي في قلبك بإعطائك الاسم الذي سأكف عن استخدامه بعد قليل، فسوف تتأكدين أنني كنت محقا حين أخبرتك أن باستطاعتي حل مشكلتك. لقد ظللت طوال الأيام الماضية أتساءل ما هو الشيء الصالح والمشرق الذي أستطيع أن أقابل به الله حين يتوفاني، حيث إنني سأتوفى بعد مدة قصيرة، وقد أتحت لي السبيل. أعتقد أنه سيصبح تصرفا كريما جدا، أعتقد أنه سيكون شيئا يرضى عنه الله، إن تركت اسمي لطفل صغير سيخطو خطواته نحو الأرض ليواجه ميراثا لا تريدينه له.»
وعندئذ على نحو مفاجئ شعر جيمي بالسيدة بين ذراعيه تلتصق به. شعر بيديها على صدره. شعر بهما تلتمسان وجهه. وشعر بالأنفاس الحارة الصادرة عن صوتها.
قالت بأنفاس لاهثة: «أنا لا أصدق!» وأضافت: «ويحي، أنا لا أصدق! هل ستحصل على رخصة زواج بي! هل ستقف معي في المراسم! هل ستتركني أحمل اسمك!»
بلغ جيمي اليد التي على وجهه وأمسكها بإحكام بيده اليسرى. كان سريع الخاطر فأحكم قبضته حول الكتفين المستسلمتين له. كان لديه من صفات الرجل الاسكتلندي ما جعله يسيطر على الموقف.
قال: «أنت على حق تماما، سوف أفعل!» وتابع: «إنني أحدثك بالحقيقة. انظري، إن كنت لا تصدقينني. سوف أقنعك.» وانتقل باليد التي أمسكها حتى لمست أصابعها الأربطة التي على صدره. ثم سألها: «هل أحسست بها؟» وأضاف: «إنك لا تلمسين جسد رجل. إنها أربطة تغطي جسد رجل، وتحت تلك الأربطة يوجد جرح مفتوح لن يندمل أبدا. أنا أحدثك بالحقيقة. لا يوجد على وجه الأرض شخص يمت لي بصلة قرابة. لا يوجد من يهتم بما أفعله باسمي أو الشهور القليلة المتبقية من حياتي. أقرب من كان لي من أسرتي هما أمي وأبي، وكلاهما قد توفيا، ولو كان أي منهما موجودا في هذه اللحظة، لقال: «تستر على عار الطفل باسمك، يا جيمي»!» «جيمي!» قالت صاحبة الصوت المجاورة له لاهثة قليلا. وتابعت: «لا يوجد في العالم بأسره اسم أحلى من ذلك لتعطيه لطفل صغير، إذا كان صبيا. لكنها تضحية كبيرة جدا! إنه شيء لا ينبغي أن يطلب من أي رجل، مهما كان حرا، ومهما كان راغبا!»
قال جيمي: «حسنا، أؤكد لك أنني حر. سوف أثبت ذلك بذكر وثائق يمكنك العثور عليها. أنا جزء من تداعيات الحرب . تستطيعين العثور على اسمي إذا بحثت عنه في المكان المناسب. وها أنا أخبرك الآن أنه جيمس لويس ماكفارلين، ومنذ وعيت الدنيا وأمي وأبي ينادياني جيمي. وقد هربت من المستشفى منذ بضعة أيام لأن حالتي ميئوس منها ولم أرد الذهاب حيث أرادوا أن يرسلوني. هل تعرفين كامب كيرني؟ هل تعرفين قرية الخيام المخصصة للطاعون الأبيض؟ لم أكن مصابا به ولم أرد الذهاب إلى هناك؛ لذلك وليت الفرار. ابتعدت حتى المنحل القائم تحت بالضبط على سفح الجبل، ولم أقو على الابتعاد أكثر من ذلك. كنت أسير مترنحا نحو سيد النحل حتى ينجدني، لكنه سبقني إلى ذلك، وطلب مني أن أنجده. ظننت أنني لن أستطيع، لكنني استطعت. ساعدته على بلوغ المستشفى في الوقت المناسب لإجراء الجراحة له. وإنني الآن مقيم في منزله، أرعى أملاكه. لقد أخبرتك باسمي بكل صدق، وأين تستطيعين العثور علي. وأقول لك إن بإمكانك الحصول على اسمي وقتما أردت الحصول عليه.» «غدا؟» قالت الفتاة لاهثة الأنفاس. «هل تسمح لي بالحصول عليه غدا؟»
قال جيمي: «وقتما تريدين، وأينما تريدين.» وتابع: «أخبريني أين تريدين أن أذهب وماذا تريدين أن أفعل.»
وعندئذ، قبل أن يدرك جيمي مطلقا ماذا كان يحدث له أو ما الذي على وشك الحدوث، شعر بتحول آخر في وضع المرأة التي بين ذراعيه، وفي اللحظة التالية طوقته بذراعيها. ثم أمسكت يداها بجانبي رأسه، ورفع وجهه لأعلى، ومال إلى وجهه وجه مبلل بارد مالح، ولمست شفتان باردتان وجنتيه، وقال صوت لاهث: «أوه، كم أنت طيب! كم أنت طيب! لم أكن أعلم أن هناك في العالم كله رجلا مثلك! هل تقابلني غدا عند الساعة الثالثة في مكتب الزواج في لوس أنجلوس؟ هل ستعمل حقا على استخراج رخصة الزواج؟ هل ستقف معي خلال المراسم التي فيها إنقاذ حياتي ورفع عبء أسود عني؟»
قال جيمي: «سوف أفعل!» أجابها جيمي. ثم أضاف قائلا: «لا تشغلي بالك ولو دقيقة أخرى. جففي عينيك وابتهجي! سأكون هناك ويشهد على ذلك الله من فوق عرشه وتأكدي أنه ما زال في هذا العالم عدالة للنساء. وإن لم تجديني هناك، فاعلمي أن النمر الأحمر (أسد الجبال الأمريكي) قد التهمني حتى الأحشاء فلم يعد بمقدوري الوصول، لكن لا تقلقي، لأنني سأكون هناك. فلا يمكن أن يمنحني الله هذه الفرصة المشرقة ثم ينتزعها مني.» «هلا جلست هنا، في هذا المكان، بضع دقائق أخرى؟» سألته الفتاة. «سأبقى الليل بطوله إذا طلبت مني ذلك»، قال جيمي رابط الجأش، بيد أنه لم يكن رابط الجأش تماما؛ إذ كان قلبه يتمزق حتى إنه خاف أن يسقط من الفتحة التي تعلوه، وكان دمه يندفع في عروقه كما لم يعهده من قبل قط. ربما كانت الفتاة بين ذراعيه باردة ومبتلة وملطخة بالملح، لكنه لم يكن باردا ولا مبتلا. ومن ثم عانقته عناقا قويا آخر وقبلته قبلة أخرى - تصادف أن تأتي على طرف أنفه بالضبط، وليس المكان الذي أراده على الإطلاق - ثم رحلت وسمع خطوات سريعة تهبط مؤخرة الصخرة، واستطاعت أذناه المدربتان أن تسمعا أول وقع أقدام على الشاطئ المعتم.
جلس هناك وانتظر بينما ينظر على الأمواج المتكسرة وعبر البحر المتلاطم، وما لبث أن هدأ من روعه حتى يتسنى له التفكير بمنطق وهدوء، ثم قال: «مثل هذا الحدث السريع يدل على ما يبدو على أن ما تبقى لي من العمر هو وقت قصير، وإن كان لدي فرصة فعل شيء عظيم في هذا العالم فعلي أن أفعله وبسرعة. لذلك سأشرع في الساعة الثالثة من عصر الغد فيما يبدو لي أنه الجزء المشرق من مغامرتي الكبرى.»
الفصل الثامن
زفاف من نوع جديد
حين تلاشى أخف صوت لوقع الأقدام، عاد جيمي للاستقرار في موضعه على الصخرة، وشد عليه أغطيته، وحول وجهه صوب البحر، الوجه الذي كان قد ضمته يدان قويتان مندفعتان لامرأة، الوجه الذي كان قد أمطرته قبلات منزهة تماما تعبيرا فقط عن التحرر من عبودية العار. لقد كوفئ بأكثر العملات التي يرومها الرجال في عالم النساء، ومن ثم تجزل النساء في عطائها في أغلب الأحيان.
بحث جيمي بين ملابسه ووجد منديلا. فأخرجه ومسح وجهه بحرص. لم يكن هناك في القبلات المبللة المالحة التي تلقاها ما أراد الاحتفاظ به، ولا حتى ذكراها؛ لأن الفتاة التي منحته إياها لم تقصد بها شخصه. فقد منحت قبلاتها الحقيقية لشخص آخر. أما هذه القبلات فما هي إلا التعبير الأول المتاح عن الامتنان على الحرية؛ حرية أن ترفع رأسها، حرية أن تواجه العالم، حرية أن تمضي في حياتها من دون أن يوجه إليها «إصبع الاحتقار» الجاهز دائما.
ابتسم جيمي ابتسامة متجهمة وهو يدعك وجهه.
ثم قال للأمواج المتكسرة تحته: «أرجو ألا تظن أنها قد خدعتني البتة بتلك القبلات. لا بأس. هنيئا لها اسمي. هنيئا لها الخاتم - ما دامت ستشتريه بنفسها - وهنيئا لها عقد الزواج. لم أرها جيدا، لكنها لم تبد امرأة لعوبا مما رأيته.
سوف أقول لها ذلك. كما أنها لم تتصرف كمن اعتاد على الاستعانة بالناس لتلقي على كاهلهم الكثير من أعبائها. من المؤكد أنها لم تكن خائفة على جسدها، وإلا ما كانت ستأتي إلى هذه الصخرة قرب منتصف الليل في هذه العاصفة، غير خائفة خوفا ماديا؛ لكن أعتقد أن الضغط النفسي هو ما يصل بالناس إلى الحضيض. أعتقد أنه الخوف المعنوي أو الضغط العصبي، أو سمه ما شئت، هو ما ظل يضنيني طوال العامين الماضيين. وليس خوفي من الموت جسديا. وحده الله يعلم أنني رأيته كثيرا لدرجة أنني قد أخضع له كما رأيت آلاف الصبيان يخضعون له! إنما حيث إنني على قيد الحياة، وحيث إنني أتنفس، وحيث إن هناك شبح احتمال أنه قد يصبح لي حظ قليل في النجاة، فإنني أكره أن أقف ساكنا وأشاهد حياتي وهي تذوي شيئا فشيئا. وإن سبب كراهتي للرحيل هو أنني لم أعش قط، لم أحصل قط على الأشياء التي تمثل الحياة الحقيقية للرجال، وإنني أريد أن أتذوق طعم الحياة! أعرف عن السماء والبحر والأرض ما يكفي ليجعلني راغبا في بدء عمل العناية بالأشجار وأنقل خبرتي به كما كان هدفي دائما.»
وبعد ذلك، ظل جيمي جالسا، بعض الوقت، متجاوزا الوقت المحدد بكثير، وشاهد السماء وهي تصفو، والبحر وهو يعود إلى سكونه تدريجيا. وما لبث أن استطاع أن يرى النجوم مرة أخرى، وطالما ارتبطت رؤية النجوم في ذهن جيمي ببصيص من الأمل. منذ أن قرأ خطبة كتبها أحد أكبر ملحدي زمانه حيث قال عند قبر شقيقه الحبيب، حين واجه الاختبار الأكبر بنفسه: «في ليل اليأس، يرى الأمل نجما وعند الإصغاء يستطيع الحب أن يسمع حفيف الريح»، وقد اعتقد جيمي أنه ربما لم تنطق شفتا إنسان كلمات أكثر جمالا من تلك. ربما كان هذا «ليل اليأس» بالنسبة إلى الفتاة المسكينة التي ضمها بين ذراعيه بضع دقائق وجيزة. وبالنسبة إليه فقد ظل كل ليل يمر عليه هو ليل يأس لزمن طويل. كان آسفا، آسفا حتى أعماق قلبه على الحزن الذي عصف بفتاة لطيفة وقوية تفوح منها رائحة الغابات، ومريمية الجبال والخزامى وزهور الشواطئ الذهبية مثل البخور، فمزقها، ودفعها للجنون. كان هذا ما يدعو للشفقة في الأمر. كيف حاق العار بفتاة من الغابات؟ أيقن جيمي أنه ما دام حيا فسيظل في أنفه العبير الذي غشيه أول الأمر، حين حملته إليه رياح العاصفة، كما سيظل شاعرا بخصلات الشعر الحرير التي تعلقت به كأنها لم تنزع عنه. لا بد أن لديها شعرا كثيفا طويلا رائعا. وحينئذ تساءل كيف أنه كان بلا رباط. ثم تذكر شيئا آخر، وميض البرق الكاشف الذي جعله يرى الفتاة بوضوح. لم يفكر في الأمر حينذاك، لكنه تذكره الآن. كشف ذلك الوميض عن قدمين حافيتين ولون أبيض فوقهما. «يا إلهي!» خاطب جيمي بصوت خفيض روح البحر الذي راح يقترب منه بشدة في تلك الساعة. «يا إلهي! لقد كانت ترتدي ثوب نوم وفوقه أحد تلك الأثواب الفضفاضة الخفيفة. أتذكر ذلك من ملمسها ومن قدميها الحافيتين. لقد استسمحتني الانتظار بضع دقائق قبل أن أمضي. هذا معناه أنها كانت قد ذهبت للفراش ثم سيطرت عليها رغبة ملحة فقررت أن تبيت في قاع البحر، فارتدت ثوبا خفيفا وجاءت كما هي إلى هذا الموقع الذي تعرف السبيل إليه جيدا . فما كان من الممكن أن تصعد هذه الصخور في سكون مثل سكون الأفكار، وما كانت ستقدر أن تهبطها بسرعة وسلاسة كما فعلت إن لم تكن على معرفة جيدة بها، وما كانت ستبتعد خلال دقائق قليلة عبر رمال هذا الشاطئ الغارق. هذا معناه أنها جاءت من مكان قريب جدا من هنا.»
وهنا، كما لو أن شخصا تخيليا يتحدث معه، أردف جيمي: «لعلك تتذكر ما قلته لها، أيها الرجل الطيب، لقد وعدتها وعد شرف ألا تحاول البحث عنها.»
فأجاب جيمي وقال: «لكن كيف سأحافظ على ذلك الوعد؟ كيف سأتزوج فتاة بذلك الوجه النبيل، والشعر الحرير، ويدين تعطيان شعورا بالغا بالأمان؛ كيف سأقف وأتعهد بأن أحبها وأرعاها ما دمنا حيين، ثم لا أعمل من أجلها، ولا أتساءل أين هي وماذا سيحدث لها، وما إذا لم يكن بإمكاني أن أفعل لها شيئا غير إعطائها اسمي من أجل تفريج كربها؟»
وعندئذ، للمرة الثانية في تلك الليلة، فكر جيمي في مغامرته الكبرى، وقال للبحر وللشخصية التخيلية التي بدأت معه الحديث: «لست متأكدا فربما ما أسميته مازحا مغامرة كبرى بهدف استنهاض عزيمتي فحسب يتمخض عن مغامرة أعظم شأنا مما توقعت.»
حينئذ رد الصوت التخيلي على جيمي مرة أخرى، وكان صوتا ساخرا ضحك منه واستهزأ به. إذ قال: «حسنا، أيها السيد المقبل على الزواج، من الأفضل أن تعود للمنزل وتشد من عضدك بالراحة والنوم. يفضل أن تكوي سروالك وترى إن كان لدى السيد ربطة عنق لائقة يمكنك اقتراضها. ما دمت ستصبح عروسا يجدر بك أن تفكر في الشروع في الاستعداد.»
ولما أحس جيمي بالسخرية في الصوت، دافع عن نفسه. فقال: «حسنا، ماذا كنت ستفعل أنت؟ إذا لم يكن لديك من قريب على وجه الأرض، وإذا كنت تعلم أنك لن تحيا لترى العواقب، وإذا أوشكت امرأة، شابة وجذابة، أن تلقي بنفسها في البحر أمامك، ألم تكن ستنقذها بأي وسيلة في إمكانك؟ ألم تكن ستمنحها اسما لن يضر منحك إياه لها أحدا وربما يساعدها طوال حياتها المتبقية؟»
لم يسمع أي رد على ذلك، فصرف انتباهه إلى البحر مجددا. ثم قال متجهما: «أود أن أعرف ما الذي تفعله الكثير من الأمهات في هذا العالم. ما دام لديهن معرفة كافية عن التأثير الشديد لجاذبية الجنس حتى إنهن تزوجن رجالا وأنجبن أطفالا، فكيف، بحق الله، لا يعلمن ما الذي يجعلن الشباب يواجهونه حين يطلقن لهم اللجام في حرية تامة لا يحدها حد في الجبال ووسط الوديان وعلى الشواطئ وفي المتنزهات وقاعات الرقص والشوارع؟ أليس بمقدورهن أن يرين أنه مهما تغير الزمن والعادات، فإن رغبات القلب واندفاع الجسد لا تتغير؟ بل إنها لا تزداد إلا إلحاحا مع الحرية والانفلات والاتصال الجسدي المتاح في هذه الأيام العجيبة.»
ثم نهض جيمي مترنحا وارتدى معطف المطر وراح يتحسس الطريق بقدميه، في هبوطه المسار المنحدر الذي ألفه خلال المرات القليلة التي تسلقه فيها للحد الذي يكفل له اجتيازه بأمان. ومضى في سبيله مجتازا الشاطئ بالالتفاف بين الأمواج المتدافعة وزهور الربيع المتشابكة. فحين يجد نفسه بين شباك زهور الربيع التي تنذر بتعثره، ينحرف نحو المياه. وحين تتناثر عليه المياه، ينعطف نحو زهور الربيع، وبذلك وصل أخيرا حيث تلقي مصابيح منزل سيد النحل ضوءا مرحبا على سفح الجبل. فتحسس السياج الخلفي حتى بلغ البوابة، وبعد ذلك كان من السهل الوصول إلى الباب الخلفي، وقد كان متهيئا تماما للباب الخلفي حين فتحه. حيث ارتمى على أول مقعد قابله ليستريح بعض الوقت.
قال جيمي: «لا أعلم بالمرة حتى إن كان القران الذي سينعقد غدا، أم هو اليوم؟» رمق الساعة ورأى لدهشته أنه اليوم «لن يقتصر على جهد يوم واحد.» إلا أن تلك الكلمة التي ألقيت إليه بسخرية هناك على الصخرة، «عروس»، ظلت تتردد في أذنيه. أن يصبح الرجل عروسا لهو أمر جلل مهما كانت الظروف. من المفترض أن يكون أروع شيء في العالم بأسره. وفي الظروف العادية، لا يفترض أن يكون في قلب الرجل شيء أكبر ولا أسمى ولا أقدس من أن يكون عروسا للعروس التي اختارها، إلا حب الله. لكن الظروف التي اتفق فيها على أن يصبح عروسا لم تكن عادية بالمرة. كلا، مطلقا. فقد ثارت عاصفة في الطبيعة، وعاصفة في قلبه، وعاصفة في قلب الفتاة.
قال جيمي: «يا للهول!» وتابع: «يا لها من عاصفة! إعصار شديد! إنني ذاهب إلى الفراش، على أي حال، لوضع الأمور في نصابها غدا وسأرى إن كنت سأستطيع النوم أم لا. فإن استطعت، ترى إلى كم من الوقت سأحتاج، وكيف سأجد المكان الذي وعدت أن أوجد فيه.»
هنا خطرت على باله مارجريت كاميرون. من الممكن أن تخبره بخطوط العربات الواجب أن يستقلها، وعند الوصول إلى وسط المدينة لن يصبح من الصعب العثور على المكتب المختص الذي تعقد فيه معاملات المقاطعة.
ومن ثم استلقى جيمي وأغمض عينيه، ولفه سواد الليل المخملي وبلغته حركة البحر المنتظمة وهو يتكسر على الشاطئ القريب جدا بإيقاع منسجم. وهبت ريح شديدة بعض الشيء حتى لتسمع لها صفيرا منخفضا. كان مرهقا جدا، لكنه فعل ما يجعله يزهو بنفسه حتى الآن. فقد قال للفتاة إنه سيساعدها إذا أخبرته بمشكلتها، من دون أن يكون في رأسه فكرة عن الطريقة التي سيساعدها بها. ومن شدة حزنها استطاع أن يقيس شدة شعورها بالفرج، فرج جعل شفتيها تلثمه، ويديها تتشبثان به في جموح. فقد أنقذ كرامتها ربما أمام العالم. لقد عرض عليها ما لم يحمل له نفعا كثيرا، بدلا من الرجل الذي كان أنذل من أن يفي بالتزاماته. وفي النهاية، سيصبح لديه شيء جميل ليتأمله حين تأتي الساعة الأخيرة. ربما كان الكشافة الصغير محقا بشأن أنواع الموت المختلفة. ربما حين تأتي ساعة جيمي سيمكنه التفكير في فرحة النجاة، والخلاص، والبهجة المفرطة، التي قضت على الشعور بالخوف والمذلة لدى الفتاة التي يحاول مساعدتها. ربما سيتمكن من أن يضم يديه ويستغرق وادعا في النوم، وربما سيحمل وجهه على الأقل الابتسامة الغامضة التي تحدث عنها الكشافة الصغير، إذا تسنت له فرصة الدخول من البوابات ومقابلة أمه.
وفي اليوم التالي انطلق دوي المنبه الذي كان قد ضبطه على الساعة السابعة، فاستيقظ من سبات عميق وذهب لتناول الفطور وري الزرع. اكتفى بإخبار مارجريت كاميرون بأنه لديه بعض المصالح في البلدة. لا، لم يكن ذاهبا إلى المستشفى، لأنه رأى في عينيها الرغبة في الذهاب معه. لم يكن سيذهب إلى المستشفى قبل أن يطلبه الدكتور جرايسون. سوف يعود في المساء في ميعاد تناول العشاء، وربما قبل ذلك. ليست إذن في حاجة إلى إعداد غدائه.
قام جيمي بأهم الأعمال التي ظل يؤديها يوميا خارج المنزل، مؤجلا منها بقدر ما استطاع لليوم التالي. ثم دخل ليستريح بعض الوقت. بعد ذلك راح ينظف ملابسه ويبحث في الأدراج والخزانات، فقد أخبره سيد النحل أن باستطاعته استخدام ملابسه إذا أراد تغيير ملبسه، نظرا إلى الحقيقة الساطعة أنه قد قابله على الطريق وليس لديه سوى الملابس التي يرتديها. أمعن جيمي التفكير ثم اختار قميصا حريريا رماديا في غاية الأناقة وربطة عنق ذات لون أزرق فاتح. ونظر إلى سرواله مستنكرا. إذ كان قد نام به واستخدمه استخداما قاسيا، وأدى بعض الأعمال وهو مرتد إياه. لذا فهو ليس بالسروال المناسب لعروس. كان مقاربا جدا لسيد النحل في طوله وبنيته حتى إن السروال الرمادي الذي وجده مبسوطا في درج خزانة الأدراج كان مناسبا له تماما. واصل البحث، حتى كاد يغطي الفراش بالملابس التي بدت له لائقة إلى حد كبير بعروس حقيقي.
ثم ذهب للاغتسال، وعندما تمكن من وضع ضمادة جديدة على صدره الأيسر، انتابه تردد بشأن المطهرات، فأغفلها. لم يرد أن يذهب إلى عروسه بينما تفوح منه رائحة الدواء. حيث إنها هي نفسها كانت تفوح منها رائحة الزهور، فسوف يحذو حذو أعظم حبيب عرفه العالم على الإطلاق بأن يجعل الرائحة المنبعثة منه رائحة الملابس الجديدة فحسب، رائحة النظافة المطلقة.
كان جيمي في جوهره رجلا نبيلا. وحين أوصد الباب الأمامي وسار الممشى من أجل رحلة قصيرة إلى خط الترام الواقعة نهايته على بعد ما يقرب من العشرين مترا، كان شاحب الوجه واليدين كما حتمت حالته. أما فيما عدا ذلك، فقد كان رجلا جذابا. وقد شمخ برأسه عاليا. وجعل قامته منتصبة، كما كانت تقتضي التدريبات العسكرية الكثيرة. وخرج مرتديا أفضل حذاء لدى سيد النحل وسرواله الرمادي ومعطفه الأسود، وبقميصه الحرير الرمادي وربطة عنقه ذات اللون الأزرق الفاتح، وقبعة سوداء عريضة الحواف؛ خرج مرتديا الملابس اللائقة التي قد يرتديها أي سيد محترم وهو ذاهب إلى عرسه. ومن ثم سار متوخيا بالغ الحذر لئلا يتراكم الغبار على حذائه قبل أن يبلغ الترام؛ وإذ هو متخذ حذره خطر على ذهنه أن يتساءل أين توجد الفتاة التي سيتزوجها في تلك اللحظة؟ وماذا كانت تفعل؟ وهل ستأتي في المكان المحدد لملاقاته؟ وكيف ستبدو؟ وماذا ستقول له؟ وبأي كلمات ستتركه وقد حصلت منه على الأشياء التي أقرت بأنها في أمس الحاجة إليها، اسم، وعقد زواج، وخاتم.
حين خطرت له مسألة الخاتم، اشتعلت وجنتا جيمي بحمرة باهتة. فقد ساوره هاجس أنه بالغ في الشطط. حيث قبل أن يحمل سيد النحل من منزله كان قد أشار إلى درج صغير في مكتبه سيجد فيه جيمي نقودا للطوارئ، من أجل الحليب، أو الثلج، أو أي شيء قد يحتاج إليه إلى حين عودة سيد النحل. وقد أخذ جيمي عشرة دولارات، حفظا لكرامته من ذلك الدرج، في هذا الصباح. لم يكن متأكدا إن كانت العشرة الدولارات ستفي بتكلفة إذن الزواج. إذ كان إذن الزواج من السلع التي لم يفكر فيها من قبل. فلم يكن لديه فكرة عن تكلفة ذلك الشيء، لكن ساوره يقين بأنها لن تزيد عن عشرة دولارات. القليل من الفكة من أجل أجرة الترام، ولشطيرة يتغدى بها والنقود من أجل الإذن. من الوارد أن تكون الفتاة قد توقعت سداد ثمنها من مالها الخاص، لكن لن يقبل جيمي البتة مبدأ أن تدفع امرأة تكلفة إذن زواجه. وما دام قد انبرى للأمر على كل حال وسيتزوج الفتاة، والعرس عرسه، العرس الوحيد الذي قد يحظى به؛ لذا أراد أن تكون ملابسه لائقة وأنيقة، حتى إن اقترض الملابس، وأراد أن يسدد نفقات عرسه حتى إن اقترض النقود. لو لم يكن قد مكث هناك واعتنى بالنحل، كان سيطلب من شخص آخر القيام بذلك ويتقاضى نقودا، كما أنه سوف يعيد العشرة الدولارات حين يستلم أول أجر له. فقد اقترض ذلك المبلغ.
أما بخصوص حلقة الذهب الرفيعة الصغيرة المنقوشة التي بدت كما لو كانت تناسب إصبع امرأة، بخصوص الخاتم الصغير الذي صادفه بين أزرار ياقات سيد النحل وأغراضه الصغيرة، فقد كان بحوزته. كان في جيب سترته. قد يكون تذكارا، قد يكون شيئا ثمينا، ربما لم يكن بين أغراض سيد النحل شيء أعز منه عليه. لم يكن قد قرر بعد إن كان سيستخدمه أم لا، لكنه كان بحوزته على أي حال. وبذلك استمد القوة من الملابس والنقود والخاتم، إذا حمل نفسه على استخدامه.
وعندئذ خطرت له فكرة. كان احتمال تحقيق فكرته ضئيلا، وهكذا تشاور مع السائق، وبعد عدة تغييرات نزل أمام دار القضاء القديمة بينما ما زالت لديه بضعة دقائق قبل الموعد. فذهب مسرعا إلى مكتب أذون الزواج في الطابق الأرضي. وأخبر الموظف أنه سيعود بعد قليل مع سيدة شابة للحصول على إذن زواج، وسأل عن تكلفته، فوجد أن لديه فائضا من النقود مما بث فيه شعورا بالراحة. وحينئذ بأقصى سرعة تلائم حالة ركبتيه، غادر دار القضاء وعاد إلى الشارع. ونظر حوله، عن يمينه وعن يساره وأمامه، وأثناء ذلك البحث وجد متجر مجوهرات.
بدا له متواضع المظهر، فدخله واتجه نحو البائع الذي أمامه صندوق مليء بالخواتم. فوضع النقود التي يستطيع الاستغناء عنها على المنضدة وقال: «هل من الممكن أن تعطيني خاتما بسيطا ومتواضعا مقابل هذا المبلغ؟»
لم يكن البائع معتادا على بيع خواتم مقابل ذلك المبلغ من المال، لكنه كان من أصل عبراني؛ فكان فطنا، لقد أدرك أن النقود التي على المنضدة هي كل ما ينوي الرجل الماثل أمامه إنفاقه. وإن لم يأخذها فسوف تضيع عليه. وهكذا بعد بعض البحث وجد خاتما رأى جيمي أن حجمه سيكون مناسبا. وقد بدا مقبولا إلى حد ما، وبذلك حصل السيد العبراني على المال وحصل جيمي على الخاتم . ومن ثم نقل الخاتم الذهبي اللامع الذي اقترضه من سيد النحل إلى الجيب الأيسر للسترة التي يرتديها، وفي الجيب الأيمن، في متناول أصابعه، دس الخاتم، الذي كان له ميزة اللمعان على الأقل.
بعد ذلك عاد أدراجه إلى دار القضاء، وبمجرد أن دخل المكتب وجد قبالته امرأة تعرف عليها في الحال. عرفها من طولها، وعرفها من عينيها؛ تعرف عليها من دون أن يعلم كيف عرفها أو السبب على وجه الدقة. كان هو عروسا، أما المرأة التي أمامه فلم تكن عروسا. إنما بدت كأرملة، هكذا دلت عنها ملابسها. فقد كانت فتاة العاصفة متشحة بالسواد من رأسها إلى قدميها. حيث ارتدت على رأسها قبعة محكمة صغيرة وقد أخفضت بشدة حتى إنه بالكاد استطاع أن يلمح العينين اللتين كان على يقين أثناء وهج البرق من أنهما سوداوان أو بنيتان. وقد بدتا في إضاءة المكتب بنيتين، بنيتين يخالطهما لون رمادي. كان الشيء المثير للدهشة في الزي الذي ارتدته الفتاة هو الطرحة. إذ يمكنه القول إنها طرحة أرملة. فقد كانت سميكة وسوداء، وتنتهي أطرافها بشريط ستان عريض. وغطى الشريط فمها وذقنها، وأظلت القبعة العينين فكانت عينين خاليتين من التعبير وخط من الوجنتين والأنف هم كل ما سمح لجيمي أن يراه من عروسه المرتقبة.
اعتراه شعور بالصدمة لمدة دقيقة، ثم أدرك أن الموت بطريقة ما تجسد في المغامرة التي هو مقدم عليها في ذلك اليوم. كانت الفتاة في حالة حداد. من الجائز إذن، على كل حال، أن الرجل الذي سيحل هو محله رجل ميت ربما كان سيؤدي واجبه لو منح الفرصة؛ لكن مهما يكن من أمر لقد قالت الفتاة بالحرف إنه يجب إنقاذها من العار. وإن كان الرجل الضالع في المسألة قد مات، فإنه لم يكن رجلا بحق، إذ كان من المخجل أن يترك مراسم الزواج تتعرض لأي كارثة.
كانت هذه الأشياء تجول في دماغ جيمي بسرعة البرق، فيما رفع جيمي نفسه قبعة سيد النحل وضم قدميه وتقدم بهيئته التي تستحق أن تنظر إليها أي امرأة بعين الاعتبار على أي حال. ويمكن القول إن اندفاعه الملهوف بحثا عن الخاتم بهدف إنقاذ كرامته، والذي توجه بشيء من الكبرياء في زفافه الوحيد، قد جعل قلبه يخفق بشدة، فلم تعد وجنتاه شديدتي الشحوب كما كانتا، ولم تعد شفتاه بالغتي الزرقة. إذ تدفقت حمرة الدماء في وجهه، فبدا إلى حد كبير رشيقا ومعتزا بنفسه وأنيقا كما قد يبدو أي رجل اسكتلندي الأصل وأمريكي النشأة والتعليم. من تأثير العادة، حين استقام من انحنائه، مد جيمي يده، وتعرف على لمسة اليد التي قابلت يده، ثم وقف قريبا منها وقال بعفوية: «كأننا نعرف الوقت من الساعة نفسها، أليس كذلك؟»
لم تزد الفتاة الواقفة بجواره على مجرد الموافقة. تولى جيمي مسئولية الإجراءات بكل الثقة بالنفس التي يتحلى بها رجل اعتاد على تولي زمام أموره. بغض النظر عما كانت المرأة الواقفة بجواره ستجنيه من هذا، عزم جيمي على أن يحصل على زفاف، وسوف يتم وفقا لطريقته. ومن ثم أخذ ذراع الفتاة الواقفة بجواره وقادها إلى مكتب الموظف. وسواء وصل لديها الانطباع الصحيح الآن أم لا، لم يدر جيمي، لكنه افترض أنها بعد الانتهاء من ذلك الزفاف ومضيها في حال سبيلها بالخاتم والوثيقة اللتين ستنقذان لها كرامتها، لا بد أنها ستمضي معتقدة على الأقل أنها قد تزوجت رجلا. كان قد نسي تماما أن يخبرها أنه قريبا جدا لن يعود موجودا؛ لكنه عزم على أن يتحلى بكل صفات الرجولة خلال الدقائق القليلة المقبلة.
هكذا تقدم بها إلى الموظف وأعلن أنهما أرادا ملء الاستمارات اللازمة للحصول على إذن زواج. وبينما كان جيمي يكتب اسمي أبيه وأمه وتاريخ ميلاده ومحل إقامته ومهنته وسائر الأشياء المطلوبة، وقفت إلى جانبه فتاة فارعة الطول، معتمدة على نفسها، وراحت تملأ فراغات الوثيقة التي أعطيت لها. بعد ملء هذه الوثائق كما يقتضي القانون، ليؤكد لفتاة العاصفة انطباع أنه رجل يفي بكلمته، التقطها جيمي ووقعها أولا، ثم ناولها إياها لتوقعها. ولما فرغ الموظف من حصته من الإجراءات وتقدم بالظرف الطويل إلى جيمي، أشار جيمي ناحية الفتاة التي تزوجها، فأعطاها الموظف الظرف. وجه الاثنان إلى مكتب قاضي الوصايا، ولم يمر وقت طويل مطلقا حتى وقعت الأوراق اللازمة وختمت وسلمت لجيمي، الذي ناولها لفتاة العاصفة، من دون أن يلقي عليها نظرة تفحص واحدة. سدد جيمي الرسوم وسار معها إلى الشارع من دون أن يعلم حتى لقب المرأة التي تزوجها. قد يكون سميث أو جونز أو براون. إنه لشيء غير منطقي، لكنه حقيقي أن لمسة يد، ولمحة من وجه أبيض زينته عينان داكنتان، و«أنا، أليس لويز، أتخذك، يا جيمس لويس، لتصبح زوجي شرعا وقانونا»، كانت كل المعلومات التي لديه عنها.
لقد تزوج «أليس لويز» إذن. لكنه لم يكن راضيا عن الاسم بالمرة. إذ لم يلق بها اسم أليس، ولم يناسبها البتة اسم لويز. لقد عرف عشرات باسم لويز على امتداد حياته، وكن دائما ذوات شعر أشقر، ودائما بعيون زرقاء، وكن دائما شخصيات ضعيفة متشبثة ومتواكلة. لم يعرف قط منذ أن وعى في الحياة امرأة بإمكانها أن تكافئ رجلا طوله ست أقدام طولا وتشمخ برأسها مثل إمبراطورة، وتمد يدا قوية تكاد تماثل يده ضخامة وتفوقها ثباتا بجلاء، وبصوت عذب رنان نابع من أعماق صدرها تجيب حين تنادى باسم لويز!
أمسك جيمي بيده مرفق أليس لويز فقط ليظهر لها أنه يعتبر نفسه رجلا جديرا برعايتها إذا احتاجته، فاقتادها إلى الشارع، وهناك، أثناء وقوفهما على الرصيف، نظر كل منهما إلى الآخر لأول مرة. تعمد جيمي أن ينتظر ليسمع ما لدى السيدة لتقوله، وبينما هو منتظر، أمعن النظر، محاولا اختراق الزي الأسود سواد الغراب ليثبت في ذاكرته هيئة المرأة التي أمامه وكل ما يستطيع رؤيته من وجهها.
كان قد وعدها بأنه لن يبحث عنها، لكنه لم يعد متأكدا أنه سيحافظ على وعده. لم يعد متأكدا من أنه لن يتبين من تكون، وأين تعيش، ولماذا لجأت إليه ليطيب قلبها وخاطرها، وينقذ جسدها من المحيط. بينما هو منتظر، ناظرا مباشرة في عيني الفتاة قبالته، رأى أن عضلات وجنتيها وشفتيها كانت ترتعش وأن العينين اللتين تنظران بثبات في عينيه كانتا ستنهاران في أي لحظة في سيل جامح من الدموع. وكانت الدموع تفعل بجيمي الشيء نفسه الذي تفعله بأي رجل حين تقر امرأة جذابة بأنها تواجه شيئا يفوق طاقتها، وأنها بحاجة إلى عونه. كان قد انتوى أن يحملها على الكلام، لكنه وجد نفسه غير قادر على مواجهتها. فقد وقف بجوارها وقال لها بنبرات خفيضة: «تمالكي نفسك! سوف تصبحين على ما يرام خلال بضع دقائق. هل ستستقلين الترام من هذه الناصية؟»
أومأت برأسها إيجابا فحسب، فقادها جيمي وسط الحشود، وما زال كفه يحيط بمرفقها، وساعدها على الوصول إلى الترام، بينما تدفق الناس بينهما. وأثناء مشاهدتها وهي تركب الترام وتمضي نحو أحد المقاعد أدرك أن «أليس لويز» و«قبلت» كان كل ما سمعها تقوله. لم يستمر في عزمه على حملها على الكلام. فقد شعر بأسف بالغ حيالها، وحين أدرك أنها على شفا انهيار قرر عدم الضغط عليها. لقد أثبت لها، على أي حال، أنه رجل قادر على تسيير أموره. حيث ساعدها على الوصول إلى ترام، والابتعاد عنه. وترفعا لم يرد ركوب نفس الترام. ومن ثم تراجع، وخلع قبعته، ورفع ذقنه، ونظر إلى الترام، لعلها تلقي صوبه نظرة عابرة قبل أن يمضي الترام ويحملها بعيدا عن النظر.
بعد ذلك ارتدى جيمي قبعته وعاد إلى الرصيف وقال محدثا نفسه بنبرات حزينة: «حسنا، يا للعجب!»
لم يكن يتوقع الكثير، لكنه توقع كلمة أو كلمتين، فلم يقتصر الأمر على عدم النطق بالكلمات، بل لم تلتفت السيدة برأسها حتى لترى إن كان سيركب الترام نفسه أم لا. لقد سارت في الممر، واتخذت مقعدا مولية إياه ظهرها، وجلست من دون حراك حتى ابتعدت عن النظر. لن يفيده في شيء معرفة خط الترام الذي ركبته أو في أي اتجاه ذهبت. فربما تستقل أي ترام وربما تتركه بعد ميدان أو ميدانين لتنتهز أسرع فرصة للهروب منه. لقد رحلت وهي السيدة جيمس لويس ماكفارلين، ومعها الوثائق اللازمة والخاتم الذي قدمه في اللحظة المناسبة لإصبع تردد في قبوله ، وها هو الآن قد ترك واقفا على الرصيف، وأفضل تصرف يمكن فعله هو تدبر الوسيلة التي يستطيع بها الوصول إلى المنزل سريعا وإعادة ملابس سيد النحل إلى مكانها المعتاد. لقد أدى دور العروس من دون شيء في المقابل، ولا حتى كلمة «شكرا». إذا أراد انتزاع أي مشاعر رومانسية من الأمر، فعليه أن يتذكرها من القبلات المالحة التي اجتاحت وجهه الليلة الماضية. وبكل أمانة، عليه أن يقر بأنه لو كانت الصخرة التي جلسا عليها هي وسيلة إنقاذ الفتاة، لربما كانت قبلتها بالقدر نفسه من الإقبال، أو ربما أكثر.
وقف جيمي على الرصيف وانتظر حتى قويت ركبتاه قليلا قبل أن يبدأ البحث عن الترام الذي سيستقله عائدا إلى حديقة النحل. وحين وجده وركبه وجلس على أحد المقاعد، قال على الملأ: «حسنا، تبا لكل الأعراس!» أدرك أنه قد نطق بها؛ لأنه سمع الكلمات، لكن لم يبد أن أحدا قد سمعها لأن الكل كان مشغولا بصحفه أو أصدقائه، أو إلى أين هو ذاهب.
وهكذا عاد جيمي إلى المنزل وأعاد الثياب المستعارة وارتدى ملابسه. ثم خرج إلى ضوء الشمس وجلس ليتفكر في الأمور. كان ميالا إلى إخبار مارجريت كاميرون بأن هذا اليوم هو يوم زفافه وأن بمقدورها أن تعد له وليمة من أي نوع تراه مناسبا للتقديم في مثل تلك المناسبة. وقد عبرت وجنتيه ابتسامة سخرية حين تخيل النظرة التي ستغشى وجهها إن أخبرها بذلك، وبعد ذلك ستتكلم وستسأل أين عروسه، وقد كان مكان العروس لغزا وكذلك قصة العروس نفسها. جال في ذهنه أنها إن كانت في المكان الذي عادت إليه في منتصف الليلة الفائتة فإنها ليست بعيدة جدا عنه في اللحظة الراهنة. اجتاحته رغبة عارمة في النزول والسير في الشاطئ ذهابا وإيابا، ليتفحص كل منزل قريب من الشاطئ ليرى إن بدا في أي منها طيف فتاة متشحة بأشد ملابس الحداد سوادا.
لم يستطع جيمي أن يحدد مقدار ما يضمره ذلك الحداد. تذكر أن الفتاة كانت قد عرضت أن تبدأ من البداية وتحكي له القصة . لكن هو الذي طلب منها أن تستخدم كلمات قليلة، بهدف توضيح ما تريده ليس إلا. إن كانت دماؤها اسكتلندية مثله، لما أمكنها أن تصدق كلامه سريعا أو مطلقا هكذا. لقد صرحت بالحقائق المحضة، أما هو، تفكر جيمي بابتسامة متبرمة أخرى، فجسد الحقائق. قالت السيدة إنها بحاجة إلى خاتم وعقد زواج واسم، ووقفت بجواره، وسمحت للخاتم بأن يوضع في إصبعها، وحصلت على العقد. وثمة شيء يتذكره تحديدا. لقد وضعت الورقة على صدرها وضمت يديها عليها كما لو كانت أغلى ما لديها في العالم بأسره. أما بالنسبة إلى اسمه. لقد قبلت به في الزواج على الأقل، سواء كانت تنوي استخدامه أم لا.
شعر جيمي أنه أحمق نوعا ما لأنه لم يمد يده حتى لالتقاط السجل الذي سجلت فيه الفتاة اسمها وقراءته. لم يكن تصرفه تصرف رجل بحق، ولم يسير عرسه على هواه تماما كما ظن أنه سيفعل. كل ذلك لأنه قد أعطاها وعدا؛ لأنه قال إنه لن يتطفل، وإنه لن يبذل جهدا في العثور عليها. لقد قال إنه سيسره مجرد تقديم ما يقدر عليه من عون، وقد حدد له حجم العون الذي احتاجت إليه الفتاة، ونوعه بوضوح شديد. وقبل هو الاتفاق. وخاضه. ما عليه فعله الآن هو الخروج إلى الرواق الخلفي، وارتداء معطف النحل القديم الخاص بسيد النحل، ومداهمة أحواض الزنابق والقرنفل، وحيث إن جسده كان خاليا من أثر الضمادات الجراحية، فليتقدم ويواجه النحل الألماني الأسود ويكتشف بنفسه ما إن كان لديه مناعة من النحل حقا. كانت تلك معلومة أراد الحصول عليها قبل أن يظهر الكشافة الصغير مرة أخرى.
من ثم ارتدى جيمي المعطف ووضع على نفسه الزنابق وفرك رأسه بالقرنفل، وببطء، وتأن، واثقا من خطواته بقدر ما استطاع، سار مسافة طويلة في الصف الشرقي، متوقفا أمام قفير تلو الآخر، لينظر إلى الأشياء الصغيرة التي كانت تذهب وتجيء شديدة النشاط بأجنحتها الطنانة، مدركا أنه لا يعرف الذكر من العاملة، ولا الممرضة من الملكة.
كما قرر، بينما يقف أمام إحدى القفائر، أن يسأل الدكتور جرايسون، عندما يتصل به هذا المساء لإبلاغه بتقريره اليومي، حول إمكانية أن يزور سيد النحل لدقائق معدودات، وسيسأله حول المدة التي سيقضيها في المستشفى. ثم أدرك أنه ما دام لم يستدع بعد لزيارة سيد النحل فمن الوارد جدا أنه في حالة شديدة من الضعف والسقم حتى إنه قد يغيب طيلة أسابيع، وربما شهور. علاوة على ذلك، فإن النحل مرتبط ارتباطا وثيقا جدا بالأشجار، وما أشار إليه الكشافة الصغير بشأن عادات النحل كان جذابا للغاية حتى إنه من الوارد أن يتوغل فيه أكثر؛ من الوارد أن يقرأ بعض الكتب المختصة ويرى ما تحويه. فما زال أمامه بعض الوقت قبل أن يتحدد مصيره، وربما ليس هناك في حدود إمكانياته، خلال هذه المدة، شيء أكثر إثارة للاهتمام، شيء أكبر فائدة، ليوجه إليه اهتمامه، سوى النحل وحده.
وهكذا، محسنا الترنم بأغنية «هايلاند ماري»، مضى جيمي ببطء متجولا بين القفائر وحين وصل الممشى الخلفي ولمح قفير النحل الألماني الأسود الكبير تذكر شيئا آخر. بحث عن صنبور المياه الذي ينمو حوله النعناع. اقتلع حفنة منه ودعك بها سرواله وكميه وسحقها في يديه، ثم، مترنما باللحن الموصوف بأفضل ما وسعه، اقترب على مهل من النحل الألماني الأسود. ثم وقف أمام أول قفائره. ظل واقفا هناك كما راق له. وجثا على ركبتيه ونظر من الفتحة. وراح يدرسه بتمعن شديد فلاحظ أنه يفتقر إلى اللون الذهبي الذي لدى النحل الإيطالي. كما أن شكله مختلف. وحين سار مبتعدا عنه على مهل شعر أنه في المرة القادمة حين يسأله أحد الأشخاص عما إذا كانت لديه مناعة من النحل فسيتمكن من أن يجيبه بكل ثقة. واعتقد أنه في المرة القادمة التي تحط فيها نحلة على إحدى الزهور أمامه سيصبح قادرا على الأقل أن يعرف إذا ما كانت إيطالية أم ألمانية سوداء.
كان بغضه للاسم بالغا، حتى إنه قال في نفسه أثناء صعوده الممشى الخلفي إنه لو كان ذلك النحل ملكه فسيلتقط قفائر النحل الألماني الأسود ويحملها هابطا ويلقي بها في المحيط الهادئ. ما كان سيمتلك أي شيء يحمل اسم ألماني أسود، ولا حتى نحلة، ليذكره يوميا بما فعله الألمان السود الحقيقيون بالرجال المنتمين لعرق أبيه وبلده، للرجال الذين جرت في عروقهم الدماء نفسها. كان من الحماقة بالطبع أن ينقل الازدراء البغيض الذي يشعر به حيال عرق من البشر تجاه خلية نحل. لم يكن تصرفا منطقيا بالمرة، لكنه أدرك، وهو يرتقي الممشى على مهل، بينما يأكل ثمرة طماطم حمراء كبيرة قطفها من كرمة مر بها، أن أغلب ما نشعر به من حب وبغض في هذا العالم يفتقر إلى المنطق إلى حد كبير. فإن ما نحبه هو مسألة هوى شخصي بدرجة كبيرة، والهوى يتوقف غالبا على الأسلوب الذي تربينا به، وعلى البيئة، وعلى الذوق الشخصي، ومن ثم لا بد أن يحتل الهوى الشخصي مساحة كبيرة من الشخصية.
مسح جيمي أصابعه ورمى لب الطماطم بعيدا بقدر ما استطاع أسفل جانب الجبل، ودخل المنزل. وفي الرواق الخلفي غير ملابسه وارتدى معطفه، ودخل حجرة المعيشة لانتقاء كتاب معين انتوى قراءته، وقد تصدرت ذهنه فكرتان دون غيرهما. لقد نتج عن توليه مسئولية حديقة سيد النحل ثلاثة أشياء؛ لقد أصبح عروسا، وأصبح يعرف النحل الألماني الأسود من الإيطالي، واكتشف أن الطماطم الكبيرة تامة النضج تتمتع بمقدرة هائلة، وخاصة على الإشباع. سوف يجرب حيلة الطماطم تلك بين الوجبات كل يوم. فقد انزلقت الثمرة في جوفه واستقرت في معدته محدثة أثرا مرطبا منعشا نوعا ما أفضل من أي كأس نبيذ تناوله من قبل. فلم تحدث حموضة، ولا كانت صعبة الهضم. لقد أدت الغرض وكان مذاقها رائعا تاركة لهفة للمزيد.
ثم وقف العروس أمام طاولة الكتابة الصغيرة، وفتح الخزانة التي فوقها، ومر بإصبعه على عناوين العديد من الكتب مستكشفا. ثم اختار أحدها وجلس على المقعد الذي قرر استخدامه كمقعده الخاص، وحاول أن يركز كل ذهنه في موضوع ما هو ضروري للمبتدئين لرعاية النحل. وقد وجد نفسه يقرأ فقرة تلو الأخرى حول الخلايا المناسبة وأقراص العسل ومداخن النحل وسائر اللوازم التي بإمكانه أن يجدها في صندوق كبير في الرواق الخلفي إن فتحه وعرف ما يلزمه البحث عنه. كانت عيناه تقرآن الكلمات وذهنه يركز بعناد عجيب - وإن كان، في نهاية الأمر، ليس عجيبا جدا في شخص ذي أصل اسكتلندي - إذ ظل ذهنه يفكر في اليد المبهوتة التي سحبت ثم مدت لتزين بخاتم زواج، وفي وثيقة الزواج التي احتضنت بحرص فوق صدر بدا مكتملا وغاية في الجاذبية. بعدها راح ذهنه يركز على زوج العيون البنية الحادة التي باحت بتوتر عصبي بالغ. وظل ذهنه يعرض أمام عينيه صورة الشفتين المرتعشتين وعضلات الوجنتين المرتجفة.
إن الشيء الذي أقدم عليه سيظل معه مدة. ولن يستطيع أن يغض طرفه عنه ويركز تفكيره على أي شيء، ولا حتى شيء مثير للاهتمام مثل النحل كما قال الكشافة الصغير عنه. أراد بحق أن يطالع كتابا حقيقيا عن النحل. أما ذلك فكان عن ممرضات النحل. من ذا الذي يدرب نحلة لتصبح ممرضة؟ هل يصاب النحل بالمرض؟ هل يحتاج إلى ممرضات؟ هل يقرص بعضهم الآخر فيصابون بجروح لا تشفى في أجسامهم الصغيرة؟ لا بد أن يتبين ذلك سريعا، لكنه لا يستطيع أن يتبينه في تلك الساعة لأن ثمة أشياء عديدة تحمل على التفكير فيها. وتلك الأشياء، رغم كل شيء، مهمة. فلا يمكن تبديل واقع أن الأحداث قد ساقته ليصبح رجلا متزوجا قانونا، ولا يمكن تغيير واقع أن امرأة جذابة للغاية قد وقفت بجانبه وجعلت نفسها امرأة متزوجة قانونا، ولا يوجد أي سبب يجعله يحاول التهرب من حقيقة أنها أصبحت أكثر نفعا بكثير للعالم، ولأسرتها، ولطفل صغير ما زال في علم الغيب، حين وقفت تلك الوقفة، رغم ردائها الأسود، وهدوئها المكره، عما كان سيحدث لو أصبحت جثة بلا شكل يبددها تيار الماء على بعد فراسخ وتنهشها كلاب البحر الجائعة فلا تبقي فيها شيئا. كان إنقاذ حياة امرأة على ذلك النحو شيئا يستحق التأمل. وقد خطر له الليلة الماضية أنه قد يكون الشيء المفيد الوحيد الذي يستطيع فعله قبل النهاية. وحيث إنه لم يكن لديه شيء آخر ليفعله، وحيث إنه ظل يلاحقه، فلا يمكن لومه البتة على التفكير فيه. من الواضح أن لا أحد غيره سيفكر في الأمر. كان يتوق لسماع أي كلمة. فلم يتلق ولو كلمة «شكرا». لكن لا بأس. فهو لم يطلب أو يتوقع أي شيء.
عندئذ أغلق جيمي الكتاب واضعا إصبعه حيث توقف وذهب ليفتح الباب الأمامي. سلمه صبي مرسال طردا وخطابا واختفى بسرعة عجيبة، فكان الاستنتاج الوحيد أمام جيمي أنه قد طلب منه إتمام مهمة التوصيل وأن يجد أسرع وسيلة يستطيع بها الاختفاء أيضا.
وضع جيمي الكتاب دون أن ينظر أي صفحة كان يقرأ وفك الخطاب من الشريط الذي ربط الصندوق المستطيل الصغير بأصابعه. وقف ممسكا بالخطاب في يد والصندوق في اليد الأخرى وراح يتأملهما. ثم ظل يتفحصهما. وقلبهما من جانب لآخر، حتى شم رائحة يعرفها منبعثة من الصندوق.
وقبل أن يفتحه أدرك ماذا سيرى. كان مرهف الحس للغاية تجاه الروائح حتى إن عقله أخبره، بينما أصابعه لا تزال تعمل للتأكد من الرسالة، أنه حين يزيح الورقة ويرفع غطاء الصندوق الذي كان بالحجم نفسه الذي يستخدمه بائعو الزهور مع البنفسج، سوف يجد باقة كبيرة من زهور الخزامى الوردية التي تنمو على الرمال التي تحد المحيط الهادئ. سيأتي الآن بكتاب الزهور. وحين يأتي به، كما فعل لاحقا، سيتسنى له معرفة زهرة رعي الحمام الرملي باسمها الحقيقي، وسيعرف أن العبير المنبعث من هذه الزهرة في الساعة السادسة طيب لدرجة أن رائحته قد تسر أنف أي محب للعطور سريعة الزوال. هكذا حمل الزهور الرقيقة وراح يبحث في أغراض سيد النحل حتى عثر على وعاء صغير من النحاس العتيق، فملأه بالماء، ووضع الزهور بحرص.
بعد ذلك أخذ الخطاب وجلس على المقعد وجعل ينزع الختم بتأن وترو. ومرة أخرى شعر جيمي أنه على علم بما سيراه. إن الشيء الذي عجزت العينان والشفتان عن قوله لأن الجهد المبذول في الكلام كان سيطلق شلالا من الدموع، ذلك الشيء هو ما كتب في الخطاب. ولذلك لم يعتره أي شعور بالمفاجأة، وإنما كان سعيدا من أعماق قلبه حين رفع غطاء الظرف المستطيل الثقيل وأخرج ورقة ثقيلة بالمثل ليفتحها ويقرأ ما فيها:
عزيزي السيد ماكفارلين
إن السبب الذي جعلني أتركك من دون أن أقول كلمة واحدة، ومن دون أن أنظر ورائي، هو اضطرار جسدي للحفاظ على شفتي مغلقتين بإحكام وعيني مفتوحتين عن آخرهما حتى لا أجذب انتباه المارة وأسبب لك الخزي بافتعال فضيحة أمام الناس.
أريدك أن تعلم أن ما فعلته لي منحني الحياة، والفرصة للاستمرار في عملي بالثقة نفسها المبنية على الاعتزاز بالنفس التي طالما تمتعت بها. لقد طمأنت قلب امرأة كانت تموت ببطء من الخوف والجزع.
سوف أظل ممتنة لك طوال حياتي على عطفك الليلة الماضية، وتصرفك الفريد اليوم. إذا كنت محقا فيما صرحت به من أنه لم يتبق لك كثير من الوقت لتحياه، فلتطمئن إذن أنني في كل ليلة قبل أن أذهب إلى الفراش سأسأل الله أن يبسط عليك أقصى درجات رأفته ويسبغ عليك أعمق آيات رحمته وأعلاها.
من المستحيل بأي حال أن أعبر عن الشكر المناسب على ما فعلته لي، كما أنني أجده مستحيلا بالقدر نفسه الآن أن يعبر أي شيء أخطه على هذه الورقة عن خالص شكري على المعروف الذي أدين لك به. من كل قلبي أشكرك، وأرجو من الله أن يباركك ويحفظك. أرجو أن تكون مخطئا، وأن تصبح في انتظارك حياة مديدة وسعيدة.
وبعد ستة أسطر، قرأ جيمي المكتوب، فصدم مثل من تلقى لكمة في وجهه. كان مكتوبا بخط مضبوط وواضح وجميل، الخط نفسه الذي تخيل جيمي أن تكتبه اليد التي أمسكها الليلة الماضية، ورآها وهي تكتب بعد ظهر هذا اليوم:
لك امتناني إلى الأبد،
أليس لويز ماكفارلين
قال جيمي: «يا للهول!» ثم أضاف: «أحقا ما حدث؟ هل ستحمل اسمي فعلا؟ هل حقا ستستخدمه في أمر ما؟ هل حقيقي أنها ستحضر طفلا إلى العالم وتسميه «ماكفارلين»؟»
ثم شرع جيمي في عملية قراءة الخطاب مرة أخرى، وما لبث أن أصبح باستطاعته ترديده كلمة كلمة بالعكس. أما لماذا ظل يخرجه ويحمله بين أصابعه ويقلبه ويفحص الورقة ويستقرئ المكتوب، فلم يدر. كان رائعا، وكان منصفا، وكان كل ما قد يتمناه قلبه. بدا لائقا تماما بالفتاة المتمتعة بالصفات نفسها التي طالما تخيل جيمي أنه سيرغب فيها حين يلتقي بالمرأة التي ستصبح أهم امرأة في العالم بأسره له؛ من طول، وقوة بدنية، وشعر كثيف حرير، وعينين بنيتين حادتين، وصدر مكتنز، ويدين قويتين، وصوت عذب آسر.
الفصل التاسع
فيتامينات وكشافة
كان آخر ما فعله جيمي ليلا هو قراءة خطابه مرة أخرى. حيث فتح الظرف وبسط الورقة، وباهتمام شديد راح يتمعن في كل كلمة مكتوبة. ولم يكن ضروريا بالمرة أن يفعل ذلك لمعرفة فحوى الخطاب. لكنه نوعا ما أحب ملمس الورقة بين أصابعه. إن كان سيشتري أدوات مكتبية لسيدة العاصفة التي وقفت بجانبه أثناء مراسم الزواج الرسمية، كان سيشتري ذلك النوع من الورق. وقد ظن أنه من المرجح جدا أن تفضل هذه المرأة المميزة استخدام الحبر الأخضر حتى إنه على استعداد للمراهنة على ذلك. لأن المرأة التي تلفها رائحة مميزة تآلفت من عبير المريمية ورعي الحمام الرملي وزهور الربيع لا بد أن تستخدم حبرا أخضر. واعتقد أن يدا كاليد التي أمسك بها ستنظم حروف التهجي كما كانت منظومة في هذا الخطاب. وظن أنها ستعبر عن نفسها بوضوح وإيجاز وبإنجليزية رفيعة مثل تلك التي استخدمت.
بينما أخذ يقرؤه ويعيد قراءته ويردده من الذاكرة، حين ينشغل بالري أو يعمل بيديه شيئا يمنعه من إخراجه من جيبه لئلا يلطخه، بدأ شك ينشأ في ذهنه. لم يكن للشك أدنى علاقة بالفتاة التي كتبت الخطاب. لكن ما بدأ يشك فيه بعض الشيء هو قدرته على التمييز. فلا يمكنه البتة أن يجمع بين العار وبين ملمس المرأة التي ضمها بين ذراعيه، ونبرات صوتها، وشعرها الطويل الحريري، والعذاب الذي بدا على وجهها البارد المغطى بملح الدموع حين استند إلى وجهه، ولا يمكنه مطلقا أن يجمع بينه وبين الحاجبين والعينين والفم الواسع والذقن المتماسك التي كشفت عنها ألسنة البرق الواهنة ؛ لا يمكنه أن يجمع بينه وبين الشفتين المرتعشتين والوجنتين المختلجتين والعينين اللتين كانتا تحبسان الدموع. ولا يمكنه مطلقا أن يظل، يوما بعد آخر، وساعة تلو ساعة، يفكر مرارا وتكرارا في كل تفصيلة صغيرة من تفاصيل مغامرته الأخيرة ويشعر بأن هذه الفتاة المهمومة المجهولة كانت بغيا. الحقيقة الواقعة أنه لم يرد أن تلطخ صورتها. لم يرد تصديق أن ثمة عاطفة جامحة سيطرت عليها قط. لم يرد الشعور بأنه يوجد في أي مكان في العالم كله رجل استطاع تلطيخ شرفها. حاول أحيانا أن يتخيل صفات الرجل الذي استطاع أن يجلب تلك المتاعب في حياة الفتاة التي غذت خياله بالصورة التي يجب أن تكون عليها الفتاة بالضبط. وظل يتأمل كم ستكون رفيقة رائعة، وكيف ستصبح الرحلة عبر وادي المياه المتدفقة حين تكون هي رفيقته.
من دون أدنى فكرة عما حدث له، اتخذت أفكار جيمي منحى جديدا. حين استيقظ ليلا وغير وضعه ليريح جانبه المصاب، استجاب لمطالب الألم ثم استغرق في الحال في التفكير في فتاة العاصفة.
من المرجح ألا يختلف الأطباء إذا سألتهم إن كانت الرحلة التي خاضها جيمي وما تلاها من تجارب هي أفضل ما يناسب رجلا مريضا. فهم ببساطة يعلمون من خلال كتبهم، وتعاليمهم، ومزاولة عملهم، أن مثل تلك التجربة ستقتل أي رجل في حالة جيمي، لكن جيمي، في مرات قليلة من الليل، تمدد بقامته الفارعة على فراش سيد النحل، محركا كلتا ساقيه وكلتا ذراعيه، مديرا عموده الفقري، وقد شعر أن الوجع قد زال عنه تماما. لقد غادر ألم السير الطويل قدميه وساقيه، وبدا أن يديه وذراعيه لديها القوة الكافية لمواجهة يوم آخر. وعندئذ جذب انتباهه الحركة المنتظمة للأمواج إذ راحت تأتي غاسلة الرمال أسفل نافذته وتنسحب عائدة إلى خضم البحر مرة أخرى.
أدار جيمي رأسه وأصغى لأغنية المحيط الهادئ. وتصور أن هناك سببا لتسميته المحيط الهادئ، المحيط الوديع. من النافذة التي رقد بجانبها امتد بصره لأميال فوق المياه التي صبغها القمر بلون فضي، مياه ساكنة للغاية حتى إنها نادرا ما تضطرب من الأمواج التي ظلت تتتابع في انتظام يكاد يضاهي انتظام التنفس. وفي اللحظة نفسها التي قرر فيها جيمي أن المحيط الهادئ اسم على مسمى تذكر فتاة العاصفة. فأعاد ذلك إلى ذهنه العاصفة، وذهب في تأمله إلى أن المحيط قد يكون مثله مثل المرأة، وأن المياه الهادئة عميقة الغور، وأنه بعد عدة أيام من السلام، حين هبت العاصفة أخيرا كانت عاصفة عاتية تجعل حتى إله العواصف يطل من عليائه وينتبه.
أما الشيء الذي ما كان ليتوقعه أي طبيب أو يخطر له على بال أبدا في الواقعة برمتها فهو الشيء الذي حدث. متنفسا في انسجام مع حركة الأمواج، ما لبث جيمي أن عاد إلى النوم مرة أخرى. لم تكن آخر الأفكار التي وعى لها عن نفسه. كانت تداخلا بين أمواج متباطئة أضاءتها أشعة الشمس، والشعور بأنه يسحب إلى مكان ما بحبل من شعر على وجهه. ثم انطلق في عالم أحلام نسجه خياله ممسكا بخطاب في إحدى يديه، وفي آخر استغراق له في عالم اللاوعي كانت آخر فكرة استشعرها في رأسه لها علاقة ما بثوب سباحة وثمرة طماطم حمراء كبيرة رائعة.
حين فرغت مارجريت كاميرون من التنظيف ودخلت المطبخ لتجمع الصحون التي تناول منها جيمي فطوره، وجدت ذلك الشخص الطويل النحيف جالسا إلى الطاولة وينظر إليها نظرات مترقبة. كان ثمة سؤال في عينيه، فيما انزوى فمه في ابتسامة. وكانت أصابعه تنقر الطاولة. وبعد ذلك تكلم.
إذ سألها: «مارجريت كاميرون، هل أنت سيدة مرفهة؟»
وضعت مارجريت كاميرون يدها على الظهر الخشبي لأحد المقاعد، ومالت إلى الأمام وراحت تتأمل جيمي بتمعن، لكنها أجابته بهدوء وسريعا جدا: «أحاول أن أكون كذلك.»
قال جيمي: «أوه، لا أقصد إن كنت سليلة سلف عريق المجد، أو إن كنت ماهرة في فنون المجتمع الرفيعة، أو ترتدين ملابس أنيقة وتعيشين حياة فراغ مترف. ما أردت معرفته، بإيجاز وصراحة، هو ما إن كنت قد تفقدين الوعي عند رؤية قطرة دم، إذا كان دم إنسان؟»
أدارت مارجريت المقعد وجلست عليه.
ثم سألته بهدوء: «ألا تستطيع أن تتدبر ربط ضماداتك؟»
هنا كان جيمي هو من ارتبك.
قالت مارجريت: «حسنا، حين تنحني لالتقاط الخرطوم، وأثناء تجولك في الحديقة، تظهر الضمادات حول ظهرك والأربطة فوق كتفك، وقد بدت لي أشياء غير مريحة. ظللت طوال أسبوع أريد أن أتحدث إليك. أعتقد أن بإمكاني إحضار بعض الشاش غير المبيض وإعداد شيء شبيه بالسترة، وأطوي بعض الدعامات حول كتفيك لتثبيتها بالكفاءة نفسها بالضبط ومن دون أن تكون غير مريحة هكذا.»
جلس جيمي يحدق فيها صامتا.
وأخيرا قال: «أعتقد أن ما كان في بالي هو هذا: كنت سأسألك إن كنت ستطيقين أن تنظري نظرة متفحصة نحو جرح قائم على يسار صدري، وبعد ذلك سأطبق برنامج عمل وضعته لنفسي لمدة شهر مثلا، ثم سأسألك أن تلقي نظرة مرة أخرى وتلاحظي ما إن كان قد حدث أي تحسن. إذ إنني مصاب بجرح إثر شظية ولا بد أنها كانت شظية خبيثة للغاية. إذ كانت تحمل سما لعينا من نوع ما، أعيا أفضل الأطباء في مستشفيات القاعدة، فأرسلوني إلى لندن ثم إلى هذا البلد وبعيدا إلى الجهة الأخرى من القارة. ظللت طوال عام أعالج بالماء الساخن وأجادل مع الممرضات والأطباء وأصبحت أسوأ حالا عما كنت عليه حين بدأت علاجهم. وسوف أخبرك بسر صغير، بيني وبينك فقط. لقد كانوا ينوون إيداعي في مكان مخصص لمرضى السل، بينما هم يعلمون ويعترفون أنني لم أصب بعد بالسل، لكنني لم أقبل. فنهضت وغادرت المكان، وابتعدت حتى وصلت هنا. ومنذ اللحظة التي بدأت فيها السير، وقبلها بكثير، حين كانت تغمرني مياه النبع الساخنة المشبعة بالكيماويات المتأججة، وأنا يخالجني شعور لا أقوى على مقاومته بأنها تغذي الجراثيم وتجعلها تتكاثر أكثر. ظللت طوال ستة شهور أستيقظ ليلا وأنا أفكر في البحر، وحين قررت المغادرة، اتجهت إلى موقع أكثر برودة وإلى المحيط. وها أنا هنا الآن وقد عقدت العزم على أن أخوض التجربة. أريد أن أستعرض معك قائمة طعام، أريد أن تطهي لي طعاما سهلا وبسيطا ومغذيا، شيئا غنيا بالحديد، شيئا لديه القدرة على التطهير وتنقية دم مشبع بالسم.
وحين أنتهي من أعمالي الصباحية مع النحل سأرتدي ثوب السباحة الموجود عند الباب الخلفي، وسوف أسير عبر الممشى الخلفي وأعتصر ملء كوب من بضع ثمار تلك الطماطم الحمراء الكبيرة وأشربه، ثم أمضي نازلا إلى البحر وأتوغل حتى تقترب المياه لأقصى حد من حافة تلك الضمادات. وإن كنت لست واثقا تماما من أنني لن أسقط. بعد ذلك سأخرج وأستلقي على أسخن رمال في أسخن بقعة من أثر حرارة الشمس أستطيع العثور عليها، وسأغطي الأجزاء العارية إلى أن أكتسب الخشونة المناسبة حتى لا يتقرح جلدي. سأترك الشمس تجفف الماء المالح على جسدي. ولن أشطفه. وعندئذ سأصعد وأتناول أيا ما كان الذي ستعدينه لي حسب الوصفات التي سنتفق عليها كي تعمل على بناء جسد قوي. بعدها سأخلد لقيلولة. ثم أستيقظ وأحتسي عصير برتقال. بعد ذلك سأخرج إلى الحديقة وأرى ما يمكنني فعله للزهور. فهناك بعض الأوراق الميتة في الزنابق يجب نزعها وأخرى بحاجة إلى دعمها. بإمكاني أن أقص قرون البذور من الورود التي تفتحت للمساعدة في الحفاظ على استمرارها. بإمكاني أن أجد مئات الأشياء لأفعلها. بعد ذلك سنعد عشاء يتمتع على الأقل بخاصية ما يمكن أن نقول إنه خطوة في طريق صنع رجل بحق من عظام ناخرة للغاية وعضلات بالغة الترهل. وسوف أسير إلى مكان على الشاطئ أسميه العرش وسأجلس هناك، ومتلحفا تماما بالرداء المنزلي الخفيف لسيد النحل فوقه معطف العمل الخارجي القديم حتى لا أشعر بالبرد مطلقا، سأظل أستنشق الضباب والرذاذ والماء المالح حتى أشعر بمذاق الملح في فمي. سأضطجع هناك وأستغرق في النوم إذا رغبت.»
هنا مدت مارجريت كاميرون يدها نحوه.
وقالت: «فلتصغ إلي، يا جيمي، لا بأس بكل ما سبق، لكن من الأفضل أن تصرف النظر تماما عن ذلك. يجدر بك ألا تحاول النوم في الخارج وسط الضباب والرذاذ. ربما لا بأس بالخروج واستنشاقه لمدة ساعة، لكن لا تذهب للنوم فتهبط دورتك الدموية ويستقر الضباب فوقك وتبتل حتى يصل البرد إلى عظامك . إنها فكرة خاطئة. فلتغير ذلك الجزء من برنامجك، وأما بالنسبة إلى الباقي، فسوف أجتهد في التفكير طوال اليوم، وتجتهد أنت في التفكير، ونتناقش هذا المساء لنرى إن كنا سنستطيع تحضير قائمة الطعام التي تريد اتباعها. فلتحاول بكل قوتك وسأحاول أنا بكل قوتي وسنرى ما نستطيع عمله، ولندع الله أن يسخر لنا قوى الطبيعة، حتى تستعيد عافيتك. أما الآن، فلنلق نظرة على جنبك المصاب.»
هنا تمدد جيمي على الفراش وكشف عن صدره. فشعرت مارجريت كاميرون، وقد انحنت فوقه، بالدماء تنسحب بطيئا من وجهها.
ثم قالت بعد مدة: «ويحي، يا له من جرح ملتهب!» ثم أضافت: «يبدو اللحم كأنه احترق. إنه جرح ملتهب للغاية حتى إنه يكاد يماثل ما اعتدنا أن ندعوه «لحم متقيح». وإنه عميق وواسع.»
ظلت برهة واقفة تحدق. ثم حولت عينيها إلى عيني جيمي.
وسألته: «هل لديك استعداد لاتباع نظام غذائي صارم وبذل جهد شاق؟»
قال جيمي: «إذا كان قصدك هل لدي الشجاعة، أجل.» وتابع: «وإذا كنت تقصدين هل لدي القوة أو هل لدي فرصة، فلا أعلم. كل ما أعلمه أنني سأنزل المحيط. كل ما أعلمه أنني سأستلقي في أشعة الشمس حتى أتشبع منها. كل ما أعلمه أنني سأصبح نكبة على رقعة الأرض المزروعة بالطماطم. أما سبب رغبتي في هذه الأشياء فلا أعلمه. إلا أنني متلهف عليها كلها، وحيث إنها هنا، فلم لا أحصل عليها؟»
سألته مارجريت كاميرون: «من أين جاءتك فكرة الطماطم هذه؟» «أكلت واحدة أمس فبدا أنها أشبعت جوعا شعرت به طويلا. بدا أنها ما كنت أحتاج إليه بالضبط. شعرت لها بتأثير مطهر ومرطب. فخطر لي أنني إن عصرت بضع ثمرات منها واحتسيت عصيرها حين تكون معدتي خاوية، فربما تفعل بي شيئا جذريا عجزت الأدوية والينابيع الحارة عن تحقيقه.»
قالت مارجريت كاميرون: «إنه لأمر غريب، لكن ربما فيه شيء من الصواب. ثمة مجلة عن التدبير المنزلي أتابعها وبها باب للصحة لا زلت أقرؤه منذ سنوات، وخلال السنة أو السنتين الماضيتين ظلوا يركزون على شيء واحد دون غيره ، وهو الشيء نفسه الذي خطر لك. الطماطم فحسب. لم يخطر لي ببال أنني قد أهتم مطلقا بما قد يدعوه الكشافة الصغير «هراء» بشأن الفيتامينات والسعرات الحرارية وما شابه، لكن منذ بضعة أيام مررت بموقف مضحك. حيث ذهبت إلى المدينة لتبضع بعض الأشياء وزيارة ابنة صهري التي تعمل مدرسة في إحدى المدارس هناك، فاصطحبتني لتناول الغداء في قاعة جميلة كبيرة في أحد تلك المتاجر متعددة الأقسام الضخمة. على الطاولة المجاورة لنا بالضبط جلست امرأة همست لي مولي باسمها عبر الطاولة، فتذكرت أن أغانيها تردد في كل الأماكن التي يتحدث فيها الناس باللغة الإنجليزية في جميع أنحاء العالم. كان وجهها موقرا، وجها حنونا، وجها ذكيا. لم أستطع أن أشيح ببصري عن مهارة يديها، وجمال ملابسها وتميزها. كان معها فتاة صغيرة ممتلئة. لا يمكن أن تتخيل كم بدت متمتعة بالصحة، لا يمكن أن تتخيل كم كانت جميلة وجذابة. وبينما كنت أمتع عيني بمنظر الطفلة، فقد ذكرتني للغاية بابنتي حين كانت شيئا صغيرا ممتلئا مثلها، وبينما أنا أنظر إليها مباشرة، وقد أوقفت ملعقتها في منتصف الطريق إلى فمها وبدت عيناها جادتين جدا، تساءلت قائلة بلثغة واضحة: «كم عدد السعرات الموجودة في هذا الهلام يا جدتي؟»
مالت (الجدة) برأسها للخلف وراحت تضحك حتى نظر نصف رواد المطعم الموجودين في القاعة في اتجاهها. ثم خلعت نظارتها ومسحت عينيها وقالت: «حفظك الله يا صغيرتي، جدتك العجوز لا تعرف السعر الحراري من الغليون! عليك أن تسألي أمك العصرية.»
عندئذ وضعت الصغيرة ملعقتها وأعلنت بإصرار شديد باللثغة نفسها: «لا أستطيع أن آكل هذا الهلام إلا إن عرفت أنه يحتوي على العدد المناسب من السعرات!»
فأجابتها السيدة ذات الشعر الأبيض قائلة: «حسنا، يا عزيزتي، أنا نفسي مثال على الجسم السليم إلى حد كبير، وقد عشت حياتي كلها دون أن أعلم إن كنت آكل سعرات حرارية أو فيتامينات أو أفاعي جرسية. وإنما أقبل على الطعام فآكل ما أريده ويروق لي مذاقه، ولا شيء يحدث لي. وأنت لن يحدث لك شيء إذا أكلت ما تريدينه يوما واحدا بينما تتناولين غداءك معي، وغدا يمكن أن تخبرك أمك بأي شيء تودين معرفته.»
فكرت الصغيرة في الأمر ثم قالت بمرح: «حسنا. سوف آكله وأرى ما سيفعله بي! ربما يجعل وركي تنحفان. ألا تعتقدين أنهما بارزتان أكثر من اللازم؟»
نظرت إلى الطفلة الصغيرة نظرة متمعنة. كانت عيناها في غاية اللمعان وبشرتها في غاية الصفاء. تكاد وجنتاها أن تشفا من فرط الرقة. وكانت شفتاها شديدتي الحمرة فيما بدا جلدها مشدودا جدا حتى إنني قلت في نفسي: «حسنا، لتكن السعرات الحرارية والفيتامينات ما تكون، لا شك أنها أفادتك أعظم فائدة. لو كنت أمك، كنت سأجعلك تلزمين المسار نفسه الذي اتخذته.»
ثم طلبت من مولي أن تشرح لي الأمر فأخبرتني بأنها أخذت إجازة قصيرة من عملها المدرسي العام الماضي وذهبت في رحلة إلى دنفر. وهناك سمعت عن طبيب يعالجك من أي شيء يتعبك من خلال ما تأكله. يبدو أن هناك مجموعات معينة من الطعام التي تصبح غير آمنة عند الجمع بينها. فقد أوضحت مولي أن الفطور الأمريكي الرائع، البيض والخبز المحمص واللحم المقدد والقهوة، يكاد يكون مجموعة مميتة. قالت مولي إن الطبيب أثبت أن الخميرة التي في الخبز والزلال الذي في البيض والدهن الذي في اللحم المقدد وأي كافيين موجود في القهوة بوسعها أن تقتل كائن تجارب مثل خنزير غينيا خلال وقت قصير. يبدو أنه من الممكن أن تأكل ما شئت من البيض مطهوا بأي طريقة تريدها، لكن يجب ألا تأكله مجتمعا مع خميرة الخبز وأحماض اللحم. بوسعك أن تأكل ما شئت من النشويات في وجبة واحدة، لكن يجب ألا تأكلها مع أحماض اللحم أو الزلال. لا بد أن تحصر الخبز والبطاطس والأطعمة النشوية في وجبة واحدة. وفي العشاء بإمكانك تناول أي نوع تريده من اللحم؛ لكن لا بد أن تتناوله مع خضراوات غير نشوية. ولا بد أن تمتنع عن تناول الخبز والفاصوليا والبطاطس وأي نشويات. ويجب أن تقتصر في التحلية على الفاكهة والهلام وتتجنب المعجنات. الأمر بسيط، الأمر سهل. مجرد ترتيب مختلف قليلا في الجمع بين الأشياء نفسها التي ظللت تأكلها طوال حياتك. لكن تقول مولي إنه يحدث اختلافا عظيما. فما زالت تتبعه منذ عام وتقول إن جسدها أصبح قويا جدا وعضلاتها شديدة النشاط، وذهنها يعمل بشكل أفضل ولم تعد تعاني من أي متاعب في معدتها. فهي تعتقد أنه رائع. لذلك سأحرص على زيارتها وأجعلها تدون نظام الوجبات، وبعدها سأجربها على نفسي ومن الممكن أن أجربها معك في الوقت نفسه. ومن جانبك تستطيع أن تجرب الرمال وأشعة الشمس والماء المالح وضباب البحر والطماطم والبرتقال، ولنر ماذا سينتج عن ذلك.»
قال جيمي: «على أي حال، إن قضاء الوقت في التخطيط لمعركة من أجل الحياة هو أكثر متعة من قضاء الشهور مغتما بينما أحسب متى يحين أجلي. وفي الوقت نفسه، سأصبح في غاية الامتنان إن تكرمت بتحضير تلك القطعة التي تحدثت عنها من أجل تضميد الجرح. إن استطعت التخلص من ثقل كل هذا السرج سأشعر كأن روحي قد تحررت فضلا عن جسدي.»
ومن ثم ذهبت مارجريت إلى منزلها لتحضر سلة الخياطة وشريط القياس، وجلس جيمي على مقعد بينما راحت هي تأخذ قياساته من أجل طول الضمادات وعرضها، وقدرت حمالات الكتف التي ستدعمها. بعد ذلك عاد جيمي إلى عمله.
وفي الساعة العاشرة بالضبط صعد الممشى الخلفي وانتقى اثنتين من أكبر ثمرات الطماطم وأكثرها نضجا من بين التي رآها في حديقة سيد النحل. وحملهما إلى المطبخ واستخرج منهما العصارة مستخدما مصفاة صغيرة مستديرة وجدها معلقة على الحائط، وحين فاض القدح رفعه وشربه متلذذا لأقصى درجة.
قال جيمي: «لا شك أن هذا يفي بالغرض!»
وبعدئذ؛ لأنه جيمي، ولأن تنشئته الأولى متأصلة فيه، فقد أفرغ اللب في سلة الحوض وفتح الصنبور على المصفاة، وحين صارت نظيفة تماما مسحها بمنشفة معلقة فوق الحوض ووضعها في أشعة الشمس عند عتبة النافذة؛ ليتأكد تماما من أنها جفت كلية من دون أن تصدأ. ثم تناول ثوب سباحة سيد النحل من فوق المشجب المجاور للباب، وذهب إلى حجرته، فتجرد من ملابسه وأدخل قدميه في الثوب، وحين رفعه لعقد أزراره فوق كتفيه لم يكن واضعا أي شيء على سبيل الضمادات لجرحه سوى طبقة من الشاش ثبتها في مكانها على نحو بسيط بمنشفة وجه شبكها بدبابيس أمان. شعرت كتفاه العاريتان شعورا رائعا بالانعتاق. فكان مبتهجا بهجة امرأة قصت شعرها قصة جديدة.
منتعلا خفين قديمين لحماية قدميه الحساستين، ومتخذا دثارا هنديا لحماية جسده غير المعتاد على الشمس أن تلفحه، مع حفنة من المناشف، مضى جيمي في الممشى الخلفي، يمشي الهوينى، فخرج من البوابة، وبينما هو واقف هناك اختار موقعا بدت فيه أمواج الخليج الممتد أمامه نظيفة للغاية وبيضاء رغوية. ثم سلك طريقه بين أكمة زهور الربيع الذهبية ورعي الحمام التي كانت في انتظار برودة المساء لتكشف عن جمال وجوهها وتنشر في الهواء عبقها الرقيق.
متوخيا الحذر خطا جيمي بقدميه الحافيتين على الرمال الندية. وعلى مهل سار متقدما في المحيط. حين تكسرت أول الأمواج الباردة فوق قدميه كاد يصيح من البهجة. لم تكن شديدة البرودة كما تخيل أن تكون بالمرة. إنما كانت باردة بالقدر الذي يمنح شعورا منعشا بالبهجة. توغل قليلا، وتوغل قليلا، حتى وصل الماء إلى ركبتيه، ثم إلى خصره، ثم وصل لمرحلة شعر فيها أنه مثقل، فأدرك أنه يجب إما أن يسبح أو يعود أدراجه. إلا أنه لم يشعر أن السباحة هي أنسب ما عليه فعله؛ لذلك اكتفى كبداية بالتجول في أعمق أغوار استطاع الوصول إليها والحفاظ على توازنه فيها. لم يكن دوما باستطاعته أن يعرف كيف ستجري الأمواج، وكان أحيانا يتعثر في صخرة مستترة. وفي إحدى المرات انقلب على رأسه وشعر بموجة باردة، أثارت شيئا من الرعب، وشيئا من البهجة، تسري في دمه فيما اجتاحته تماما موجة أشد برودة من الماء المالح. نهض متعثرا على قدميه ونفض رأسه. ثم غاص واغترف ملء كفيه من الماء ودعك بها ذراعيه صعودا وهبوطا وكتفيه. وراح يطوح ذراعيه الطويلتين في المياه ويركلها بقدميه، وحين وجد نفسه يلهث، سار متجها نحو الشاطئ، ثم تعمد أن يغمر نفسه بالكامل في المكان الأشد نظافة والأكثر نقاء الذي تيسر له العثور عليه. لينهض بعد ذلك ويعود إلى دثاره. حيث هيأه، والمناشف التي أحضرها، بحيث تغطي ذراعيه وساقيه ورأسه، وتترك جذعه المغطى بالثوب المبلل مكشوفا، وتمدد على الرمال الساخنة وترك شمس كاليفورنيا تنشر أشعتها حتى جففت الماء المالح في الضمادة وثوب السباحة الذي علا جرح صدره وأحاط به. المذهل أنه لم يشعر فيها بوخز شديد كما تخيل مطلقا، فلم تضاه البتة ألم العديد من الضمادات المختلفة التي ظل يستخدمها حتى اكتوى لحمه فلم يعد يتحمل المزيد من التعذيب.
وهنا وجد جيمي نفسه يقول: «ملح، محلول ملحي.» تذكر فجأة أنه قد سمع عن استخدام السكان الأصليين في بلدان غير متحضرة الملح في علاج الجروح. تذكر بعض المؤسسات التي تروج للحمامات الملحية. لا بد أن الملح له خاصية مفيدة بعض الشيء ذات استخدام طبي. ثم تذكر أن الكشافة الصغير كان قد أخبره أن كل جالون مياه يغترف من المحيط الهادئ يحتوي على ثلاثة ونصف في المائة من الملح.
بعد الاستلقاء ساعة في الشمس، نهض جيمي وذهب لتناول غدائه، بعدها ظل واقفا عشرين دقيقة في الحديقة، ثم خلد لقيلولة. بعد ذلك شرب عصير برتقالتين ناضجتين، شربه باردا من تأثير ثلج الثلاجة الصغيرة. وفجأة خطر له، وهو يغلق الثلاجة، أنه قد يكون من المستحسن أن يعصر من الطماطم ملء كوبين أو ثلاثة أكواب ويودعه للثلج بحيث يشربه باردا. من ثم نزل إلى الحديقة وجمع الطماطم وهم بتنفيذ تلك الفكرة.
وبينما وقف في المطبخ يعصر الطماطم تصاعد من أسفل النافذة صوت أقدام مندفعة وتعالت في الجو سلسلة صيحات مفزعة. سقطت الطماطم التي كان جيمي حريصا أشد الحرص ألا تسقط، فتمتم متعجبا وهو يستعيدها، ليغمرها بالماء تحت الصنبور ويضعها في صحن. ثم ذهب إلى الباب الخلفي ليرى ماذا عساها تكون تلك الجلبة.
وقف أمامه الكشافة الصغير منتصب القامة في زاوية قائمة بشكل مبالغ فيه، مؤديا تحية سريعة كما اعتاد أن يرى في كل مكان. واصطف على الممشى ثلاثة أطفال لم يكن ثمة أدنى شك بشأن جنسهم.
أشار الكشافة الصغير إلى الطفل الأول في الصف.
قال جيمي محدثا نفسه: «أحد عشر، وربما اثنا عشر عاما.»
وقدمه الكشافة لجيمي من خلال المقدمة، التي صاحبها تلويح باليد وبسيف خشبي، على النحو التالي: «بيل السمين الطيب!»
ذهبت عينا جيمي الحادتان إلى وجه الصغير. لم يكن لدى بيل السمين الطيب أدنى اعتراض على كونه «بيل السمين الطيب». فقد ابتسم، وأدى التحية كأفضل ما يكون، وتنحى جانبا.
لوح الكشافة الصغير بالسيف، فتقدم صبي - حدث جيمي نفسه عنه معلقا: «يبدو في العاشرة» - رشيق وممشوق القوام، ذو بشرة قمحية اللون فاتحة وشفتين حمراوين، وشعر أسود وعينين سوداوين صافيتين واسعتين، صبي وسيم للغاية، حيا الكشافة الصغير ثم حيا جيمي تحية موجزة. كانت المقدمة المصاحبة له هي: «طفل أبيه وأمه المطيع.»
مرة أخرى تفحصت عينا جيمي الصغير، فبدا جليا أن «الطفل المطيع» لم يأبه البتة للاسم الذي نعته به الكشافة الصغير.
لوح بالسيف للمرة الثالثة إذ تنحى الطفل المطيع جانبا وجاء الدور على الصبي التالي - «قد يكون في الثالثة عشرة وربما في الرابعة عشرة»، أسر جيمي في نفسه - صبي أطول من أي من الآخرين، ضخم، ذو شعر أحمر، وعينين زرقاوين، وملابس مهندمة وباهظة على غير المألوف ومنتقاة بعناية. كانت شفتا الفتى مقوستين بشكل فريد، فيما برزت أسنانه بروزا طفيفا، وتألقت عيناه بشعاع ضوء راقص. دار السيف الخشبي دورة كبيرة في الهواء وحط على الأرض. وأدى الفتى الأصهب التحية للكشافة الصغير بلياقة شديدة حتى إن المشهد كان ممتعا للأنظار. فقد ضم كعبيه، ورفع ذقنه، وانتصبت قامته. كانت تحية رائعة. لوح الكشافة الصغير ليقدمه إلى جيمي قائلا: «ذو الوجه الملائكي.»
للمرة الثالثة نظر جيمي على سبيل الفضول فوجد أن ذا الوجه الملائكي كان معتادا جدا على التسمية حتى إنه ربما سيستاء لو لم تستخدم.
وحينئذ، بقليل من مشاعر الحنق في عينيه الرماديتين، شد جيمي قامته وأدى للصغار تحية حقيقية صادقة، تحية حرب شنيعة لعينة قضى فيها أربع سنوات، فأرهفوا السمع وأدركوا أنه هكذا يجب أن تكون التحية.
قال جيمي: «أيها السادة أعضاء فرقة الكشافة؛ يشرفني للغاية التعرف بكم. لا شك أن سيد النحل اعتاد الترحيب بكم في حديقته. وفي غيابه، أرحب بكم الترحيب نفسه.» واتجه إلى ذي الوجه الملائكي. وقال: «هلا تكرمت بتقديمي إلى قائد الكشافة؟»
فتح الفتى الأصهب عينيه على اتساعهما. «لكن قائد الكشافة يعرفك!» قال محتجا.
قال جيمي: «بالتأكيد!» وتابع: «مشكلتي أنني لا أعرف قائد الكشافة.»
في تلك اللحظة دار سيف خشبي شديد البلى في الهواء. «انتباه! ليصطف الكشافة!»
اصطف الصبية وأدوا التحية بأسلوب جميل. «استعدوا!» جاء أمر القائد. «أخبروا العالم باسم قائد فريق الكشافة الخاص بكم!»
شد الفتيان قاماتهم وثبتوا متأهبين. كانت عينا كل منهم مسلطتين على حد السيف. «هيا معا!» قال قائد الكشافة. ودار السيف في الهواء، وبدأ الفتيان، في انسجام وبأعلى صوت، يرددون مع فصل كل حرف على حدة كأنهم يرشقونه في وجه جيمي: «ألف لام، ميم، زاي، عين، جيم؛ المزعج!»
أدوا التحية، وتراجعوا مرة أخرى، وتقدم قائد الكشافة أمام جيمي، فأغمد السيف وأخفض يده اليمنى مستقيمة على خياطة سرواله، ووضع اليسرى على صدره، ومال للأمام منحنيا بشدة. أدرك جيمي ما أدركه بالضبط في البداية، أو أكثر قليلا، إذ رأى أن فتيان الكشافة كانوا مطيعين بحق ومدربين جيدا فعلا.
هنا توجه قائد الكشافة إلى جيمي بالكلام فقال: «يسمح لنا سيد النحل بلعب لعبة مقاتلة الهنود هنا.»
فقال جيمي: «حسنا. أوافق على أي شيء كان يسمح به.»
تحول قائد الكشافة إلى الفتيان. «تفرقوا!» جاء الأمر صارخا. «استعدوا للهجوم!»
تأمل جيمي قائد الكشافة. لم يدر متى مشط شعره القصير. الذي علقت به مجموعة كبيرة من شوفان كاليفورنيا البري والقليل من الأغصان الصغيرة والأوراق. أما وجهه الصغير فربما كان نظيفا في وقت ما ذلك الصباح. لكنه ليس نظيفا الآن بالتأكيد. ورآه مرتديا قميصا مختلفا، لكنه بالحالة المزرية نفسها، والسروال القصير والحذاء نفسهما اللذين كان يرتديهما في الزيارة الأولى. سار قائد الكشافة إلى نهاية الممشى، متجها مباشرة نحو فتحة في سياج الأوتاد الخشبية المطلي بالكلس، الفاصل بين أرض سيد النحل وأرض مارجريت كاميرون. شاهد جيمي قائد الكشافة وهو يدس يده اليمنى في جيبه المنتفخ، وينتقي، من الأشياء الكثيرة التي احتواها، قطعة من الطبشور الأحمر. في هذه الأثناء اتخذ جيمي مجلسه على المقعد أسفل الجاكرندا وركز انتباهه على قائد الكشافة. كان قد نسي فتيان الكشافة. بل إنه نسي حتى أن يتساءل لماذا اختفوا وأين ذهبوا. بلمسات بارعة، سريعة وواثقة، جعل قائد الكشافة يرسم على السياج المطلي بالأبيض، بمهارة كافية لمعرفة نيته، أشكال أربعة هنود. رسم الأول مائلا إلى الأمام محدقا فيما يواجهه. وكان الثاني أكثر انتصابا. أما الثالث فكان وجهه للأمام، والرابع يتبعه.
وحين يبلغ قائد الكشافة العوارض التي ثبتت الأوتاد فيها بمسامير، يكتفي برفع الطبشور، ويرسم خطا على الحافة، ثم ينزل مرة أخرى إلى الأوتاد. ما إن اكتمل رسم الأشكال الأربعة بحيث صارت مميزة، عاد قائد الكشافة إلى جيمي وأخرج من جيب قميصه صافرة شرطي حقيقية، عقد حول حلقتها سلسلة جلدية أحاطت برقبته. رفع الكشافة الصغير الصافرة وأطلق صافرة حادة، فجاء فتية الكشافة يتقافزون بين الشجيرات وفوق الزهور من جهات مختلفة. وقد تسلح كل منهم بقوس مبهرج، وجعبة من الجلد على ظهره مليئة بأسهم غير متقنة الصنع. أغلبها شظايا خشب غير مصقولة.
أدى قائد الكشافة التحية. «فتى الكشافة رقم واحد، إلي بأسلحتي!»
لبى ذو الوجه الملائكي الأمر المكلف به على الفور. فأدى التحية أمام قائد الكشافة وقدم قوسا إضافيا وجعبة من السهام. بحزم علق جعبة السهام على كتفه وشد حزامها على صدره. وبحزم استحوذ على القوس ووضع السيف في غمده. «فتى الكشافة رقم اثنين!»
ابتسم بيل السمين الطيب على سبيل التحية التي لم يستطع أداءها وهو يظهر من خلف شجيرات نبات الليلك، وقد جمع على ذراعه بضع ثمار طماطم كبيرة تامة النضج. «كشافة اثنين، تقدم وأد واجبك!» كان الأمر؛ فتهادى بيل السمين الطيب إلى السياج ووضع ثمرة طماطم حمراء كبيرة على العارضة بالضبط حيث يفترض أن يقع القلب في جسم كل من الهنود المرسومين رسما عشوائيا.
وبدأت الحركة فجأة؛ حركة هائجة. وكان صوت قائد الكشافة حادا متحمسا. «انتبهوا يا فتيان الكشافة! الهنود الحمر سيداهموننا. إن منازلنا وأطفالنا وحياتنا في خطر! الزموا الكمين. وحين تتمكن منهم يا جريجزبي أطلق النار إذا كنت مستعدا! صوب على قلوبهم الهندية اللعينة! صوب عليهم لترديهم قتلى!»
انطلق قائد الكشافة ليقف وراء نبات لزان المكنسي، وشد سهما إلى وتر القوس، واختار ثمرة الطماطم التي اتخذت موقع قلب الهندي الأحمر الأول لتكون هدفه الخاص. واختار بيل والطفل المطيع وذو الوجه الملائكي لأنفسهم جنبات وأشجارا مختلفة في الحديقة، وعند انطلاق صيحة قائد الكشافة الحادة قائلا: «هجوم!» ضربت السهام السياج، بدرجات متفاوتة من إصابة الهدف.
جلس جيمي يشاهد أفعالهم. وكان مترددا بشأن موقفه في هذه الظروف. فالسياج الذي كان أبيض بياضا شديدا ولامعا اكتسب شكلا غير مقبول مقارنة بجمال الحديقة. كما أن جيمي نفسه أراد كمية وفيرة من تلك الطماطم الحمراء، فقد خطر له، وهو يجمع تلك التي كان يحضرها في المطبخ، أنه من الممكن بدلا من أن يترك كميات كبيرة منها تهدر أن يحملها إلى أقرب كشك خضراوات في المنطقة ويحصل في المقابل على ما يكفي على الأقل لشراء صندوق توت أسود أو توت أحمر أو طعام ضروري آخر قد يحتاج إليه. وكان ثمة احتمال أن تباع ثمرات ممتازة مثل تلك الطماطم مقابل مبلغ كاف يملأ به مجددا درج النقود التي كان من المفترض أن يشتري بها الحليب والثلج والجريدة اليومية.
بينما كان يتأمل هذه الأشياء اضطرب الجو بسلسلة من الصيحات الحادة. لو كان جيمي معصوب العينين كان سيجزم أن هناك خمسة وعشرين طفلا لا أربعة. ولم يعد ممكنا أن تعرف بيل السمين الطيب من ذي الوجه الملائكي. وقد اختفى قائد الكشافة في سلسلة من الجولات التي دار فيها هائجا شملت القفز برشاقة فوق أحواض الزهور، والاختباء وراء الأشجار، والدوران حول الأجمة، والزحف وبطنه ملاصقة للأرض. أصاب وابل من الأسهم السياج محدثا ضجيجا، وفي الحال، بدا أنه كلما اشتد هياج المعمعة، زادت السهام التي تصيب الهدف مباشرة، فبدأت الطماطم تسقط متناثرة. وفي وسط الجلبة أصاب سهم صوب بدقة شديدة ثمرة طماطم كبيرة جدا آتيا من أسفل بعض الشيء فأوقعها من السياج. ومن بين الصيحات الهائجة استطاع جيمي أن يميز صوت قائد الكشافة وهو يصيح قائلا: «ها! هندي أحمر آخر سقط صريعا!» والصيحات تجيبه قائلة: «اتصلوا بسيارة الإسعاف!» «ضعوه على الثلج!» وعلى نحو مفاجئ استرخى جيمي في جلسته وبدأ يضحك بهدوء، حيث بدأ يستمتع بالأمر. ثم وجد نفسه يجثو على الأرض ويسير على قدميه وركبتيه. ويجمع حفنة من الحصى من الممشى، وبعد ذلك، مستترا بشجرة الجاكرندا، جعل يصوب بدقة وإتقان على الطماطم التي شكلت قلوب الهنود الحمر. وعند رؤية هذا ثار حماس قائد الكشافة. وصاح: «أمطرهم!» ثم تابع: «هلموا! هنا يبدأ الغرب!»
عندئذ أطلق ذو الوجه الملائكي سهما طار فوق السياج.
صاح قائد الكشافة: «رمية خاطئة!» وأضاف: «صوب تحت الحزام. هيا نسلخ فروات رءوس المستوطنين الأصليين.»
وبعد أن استنفد سهامه اختفى ذو الوجه الملائكي لوهلة، ثم عاد إلى المعركة وهو يقرع طبلة النحل وصاح: «أقبلوا! اجهزوا بأسلحتكم!»
جاء الطفل المطيع يعدو في الممشى مع دفعة جديدة من الطماطم.
صاح قائد الكشافة: «الإسعافات الأولية للجرحى!» «كي يي كي، يي يي، ها ها!» نسي بيل السمين الطيب لأي الطرفين ينتمي وهتف هتاف الهنود الحمر في الحرب.
صاح قائد الكشافة: «أنصتوا لصوت طائر الوقواق الأصفر!» ووسط فرط حماسته، بعد نفاد السهام، انضم إلى جيمي في الرشق بالحجارة.
وعند اختفاء آخر ثمرة طماطم من فوق العوارض ظهر فتيان الكشافة منقطعي الأنفاس يلهثون أمام قائد الكشافة، الذي وقف في وضع الانتباه ومعه السيف أثناء انتظام الفتيان في صف في انتظار الأوامر. «أيها الفتيان، لنتقدم بالشكر للغريب الكريم الذي ساعدنا باقتدار في هزيمة أعدائنا الأزليين.»
وقف الصبية الصغار الثلاثة في مواجهة جيمي، محرجين من مفاجأة الموقف. فاحتضن بيل السمين الطيب رأسه، ومالت عيناه جانبا، وهو يتمتم قائلا: «شكرا!» ونظر الطفل المطيع إليه مباشرة وقال: «شكرا جزيلا!» وضم ذو الوجه الملائكي كعبيه، وحياه باعتزاز بالنفس، وقال: «في غاية الامتنان لك، يا سيدي!» ولوح قائد الكشافة بالسيف في دائرة واسعة وأعاد الانحناء واضعا يده على صدره، ثم استقام، وتوجه إلى جيمي. «أشكرك! وفتياني يشكرونك! وبلدك يشكرك! وكل من في هذا الحي تحديدا يشكرك! كشافة رقم واحد، أحضر الخرطوم! كشافة رقم اثنين، احضر المكنسة! كشافة رقم ثلاثة، افتح المياه!»
عند وضع الخرطوم، تولى قائد الكشافة المسئولية. فاندفع الماء على السياج الأبيض. وأخذ بيل السمين الطيب المكنسة. وجمع الطفل المطيع وذو الوجه الملائكي بقايا الطماطم وحملوها إلى صفيحة القمامة. بعد أن فرغوا من عملهم وعاد كل شيء نظيفا مرة أخرى وشرعت شمس العصاري تجفف السياج بأشعتها الأخيرة الواهنة وتعيد إليه لونه الأبيض، لاحظ جيمي حين مر قريبا منه أن هناك عشرات الخطوط الحمراء شبه الخفية وأدرك أنه من الوارد أن المعركة التمثيلية كانت تقام أسبوعيا في حديقة سيد النحل. من ثم عاد إلى المقعد أسفل شجرة الجاكرندا شاعرا أنه بالسماح بالمعركة لم يتخط حد صلاحياته. وبينما هو يدير ظهره، حدث شيء لم يستطع أن يتبينه على وجه التحديد. وبعد أن اعتدل ليتخذ مجلسه التقت عينه بكتلة من الأرجل والأذرع المتحركة. أذرع وأرجل في كل مكان. كانت كتلة كبيرة من البشر تدور في أنحاء الممشى المفروش بالحصى، وفيها تداخلت ساقا بيل السمينتان العاريتان، وساقا الطفل المطيع قمحيتا اللون، وقدما ذي الوجه الملائكي بجوربيهما الحريريين وحذائهما المصنوعين من جلد الجدي. وفي الحال ظهر الشعر القصير لقائد الكشافة، ليبدأ الزعيم بيدين ماهرتين في فصل الكتلة، وتفكيكها، ودفعها بخبرة في اتجاهات مختلفة.
صاح قائد الكشافة: «أحضروا سكاتة للأطفال!» وتابع: «تتنازعون وتتشاجرون على خرطوم هكذا! لقد قلت: «الكشافة رقم واحد، ضع الخرطوم بعيدا»!»
تكلم ذو الوجه الملائكي فتناثر البصاق من فمه. «لم تقل شيئا من ذلك! لقد قلت: «الكشافة رقم ثلاثة»، وأنا الكشافة رقم ثلاثة! لم تكن لتطلب من رقم واحد أن يعيده وقد طلبت من رقم واحد أن يأتي به!»
استغرق قائد الكشافة في تفكر عميق. واستخدم مقبض السيف في حك شعره المبعثر.
قال قائد الكشافة خافضا صوته في نبرة ودية: «أيها الرفاق، أعتقد أن ذا الوجه الملائكي على حق. أعتقد، ويا للعجب، أنني فعلا قلت له أن يبعد الخرطوم، وأعتقد أنني طلبت من رقم اثنين أن يبعد المكنسة، وأعتقد أنني لم أطلب من رقم واحد أن يفعل أي شيء، والسبب أن بيل الطيب سمين جدا ومن القسوة أن أجعله يتحرك، على أي حال!»
أدخل قائد الكشافة السيف في غمده، ومشط شعره القصير بأصابعه المتسخة، ومسح وجهه في كمه شديد القذارة، وأدخل طرف قميصه في سرواله بعد أن كان خرج كله منه.
ثم جاء الأمر: «أيها الفتيان أمسكوا عن الكلام وتفرقوا ما تبقى من اليوم!»
بعدئذ سار قائد الكشافة حتى جاء أمام جيمي، ووقف ثابتا، وراح ينظر إليه متسائلا، بينما اصطف بيل والطفل المطيع وذو الوجه الملائكي على مقربة منهما، بعيون كلها ترقب.
رغم أن جيمي ربما كان متعبا، ورغم أنه لا شك اسكتلندي، فقد عاودته ذكرى مبهمة من أيام كان صبيا وكان يحارب هنودا من نسج خياله، ويصطاد ببنادق خشبية ويشهر سيوفا خشبية ويصنع أسلحة بعجلات متزعزعة، ويحمل في جسده معدة خاوية على الدوام. وقد ساوره يقين أن المعدة الخاوية على الدوام هي ما يتصدر الموقف الراهن. من ثم نهض جيمي ومد يدا إلى قائد الكشافة والأخرى إلى ذي الوجه الملائكي، الذي تصادف أنه صبي وسيم حتى إن جيمي استسلم للضياء المنبعث من عينيه ولسحر ابتسامته منذ اللحظة الأولى التي نظر فيها إليها مباشرة.
وقال بعفوية: «هيا، يا رفاق.» وتابع: «هيا نذهب إلى الكشك القريب ونأت على كل ما فيه من «سجق» ومياه غازية بنكهة الفراولة!»
كان الهتاف الصاخب الذي استقبلته أذنا جيمي تعويضا مثاليا عن الفراغ الذي ستتركه مكافأة الصغار في جيب سرواله القصير بعد إنفاق المقدار القليل جدا من الفكة التي يحملها بداخله.
وبينما هم مصطفون أمام الكشك، أثناء تلبية طلباتهم المتنوعة، راح فتيان الكشافة الزائرون ينظرون إلى جيمي نظرات مستجلية. راقت لهم اللمعة في عينيه. وراقت لهم الابتسامة الواهنة التي تسللت إلى وجهه الشاحب. وأحبوا الدقة التي رشق بها الحصى، والخفة التي جمع بها المزيد حين نفدت ذخيرته منها. وراقهم أكثر من أي شيء آخر أنه كان يعمل من خلف شجرة. فلو وقف مكشوفا وهو يلتقط الحجارة ويلقي بها ما كان سيعجب كثيرا قائد الكشافة وتلك المجموعة بعينها من الكشافة؛ لكن الرفيق الذي أخذ اللعبة على محمل الجد، ولعب وفقا للقواعد، ولم يجعلها لعبة وإنما حقيقة بأن لعب كما كانوا يلعبون، لهو جدير بأن يكون صديقا حقيقيا، من ثم تزاحم الصغار مقتربين منه وبدءوا يطرحون عليه الأسئلة.
جلس جيمي في ظل شجرة بلوط حي ووضع ذراعا حول قائد الكشافة والذراع الأخرى حول ذي الوجه الملائكي، وحرص على إتاحة مكان لبيل الطيب والطفل المطيع، وأثناء تحميص الخبز وقلي البصل، وشق السجق وتحميره وخفق المستردة وتقطيع الخيار المخلل شرائح، وإحضار المياه الغازية من فوق الثلج، أخبر الأولاد شيئا عن معنى نشاط الكشافة حين مضى رجل ذات ليلة حالكة السواد، على بطنه، زاحفا فوق حفرة كبيرة في حجم منزل من جراء قصف القنابل، وسط صخور محطمة وحطام ساحة معركة مخضلة، يتساقط فوقه وابل من القذائف والشظايا، محاولا الاقتراب كفاية لسرقة سر من العدو، أو متشمما أثر زميل عزيز عليه، أو متصيدا جثة ضابط.
جاء الطفل المطيع وبيل السمين الطيب وتلاصقا مقتربين من ركبتي جيمي. ومال قائد الكشافة برأسه قصير الشعر على الجرح الذي في صدره وظل يحملق فيه بعينين لا تطرفان، ووضع ذو الوجه الملائكي على ذراعيه يدين قويتين ولم يأبه البتة حين قال صاحب الكشك: ««السجق» جاهز!» وبدأ دوي فتح الزجاجات.
صاحوا في آن واحد: «احك لنا المزيد!» وألحوا: «احك لنا المزيد!» وركل بيل السمين الطيب ساق الطفل المطيع ذات اللون القمحي وقال: «يا للهول! لم تسنح لنا قط فرصة كهذه من قبل، أليس كذلك؟ لقد ارتاد أماكن حيث كانت الأرض كلها مخضبة بدماء حقيقية، والسيوف وغيرها تخترق جسمه، والنيران تنطلق فوقه! يا للهول، أليس شخصا رائعا؟»
كان جيمي نفسه هو الذي جعل الجمع ينفض بعد أن استخدم حاسة شمه المرهفة. صحيح أنه قد تحدث عن الفيتامينات والسعرات الحرارية. وصحيح أنه قد اتفق مع مارجريت كاميرون على أن يبدآ نظاما غذائيا يتبعه بصرامة، لكن حيث إن النظام لما يبدأ بعد، وحيث إنه قد بدا له أنه لم يشم في حياته كلها شيئا أثار شهيته للغاية مثل رائحة ذلك «السجق»، فقد مد ذراعا طويلة فوق رءوس الصغار وأخذ أكثر قطعة «سجق» امتلاء رآها، وبالأخرى التقط زجاجة مياه غازية ذات لون وردي زاه. وقال لهم: «أقبلوا على الطعام! تفضلوا يا رفاق!»
وبعد نصف ساعة صعد يسير على الرصيف المعشوشب المقابل لباب مارجريت كاميرون وابتسم لها. كان وجهه الشاحب متوردا على غير العادة، فنظرت مارجريت كاميرون إليه بفضول من فوق حمل من القصاصات كانت تحملها ثم حدقت فيه بتأنيب. وقالت موجهة إليه الاتهام: «أراهن بربع دولار أنك ذهبت إلى كشك الحي وتناولت «السجق» مع أولئك الصغار.»
فابتسم لها جيمي بمرح.
وقال مبتهجا: «تفوزين!» ثم أضاف: «يا إلهي! كم كان شهيا!»
الفصل العاشر
إنها إرادة الخالق
حين أجاب جيمي على الهاتف في ذلك اليوم تلقى دعوته لزيارة المستشفى. وفي الساعة الثانية بعد ظهر اليوم التالي ركب الترام مرة أخرى متجها إلى المدينة، ومن دون أي صعوبة على الإطلاق اتجه إلى أحد أكبر مستشفياتها. وفي الحال تقريبا أخذ إلى حجرة سيد النحل، حجرة كبيرة تسطع فيها أشعة الشمس وتلهو الرياح في أنحائها ويشوب هواءها عطر آت من وعاء وضعت فيه ورود صفراء. لحظة أن رأى جيمي تلك الورود أدرك أنها إن لم تكن من الشجيرات المزروعة بجانب باب مارجريت كاميرون، فلا بد أنها من شجيرات أخرى من فصيلة أو نوع مطابقين. صفرة الورود، وحلاوة عطرها الرقيق كانت في أنفه وهو يدور حول الستار القائم بجانب الفراش ليقف في مواجهة سيد النحل.
لم يدر ما الذي كان يتوقعه بالضبط. لكن ما رآه انفطر له قلبه. فإن الرجل الذي أسنده حتى الأريكة، وساعده على دخول عربة الإسعاف، كان مريضا وكان يتصبب عرقا من فرط الألم؛ لكنه كان نابضا بالحياة، ولديه فرصة في النجاة تجلت في قوة جسده، وصلابة عضلاته والضوء الذي في عينيه. أما الجسد المسجى أمام جيمي على الفراش فقد بدا له بلا حياة وإنما روح، روح ربما تنطفئ وترحل في أي لحظة. فلم يتبق في اليد الشاحبة التي امتدت نحوه المزيد من القوة. وبصعوبة علا الصوت الذي حياه عن الهمس. وكانت العينان اللتان تفقدتا وجهه واستقرتا عليه متعبتين تعبا يكاد يفوق الاحتمال.
لإخفاء صدمته، وإحساسه بالشفقة؛ جر جيمي كرسيا وطفق يتحدث عن الشيء الذي يعلم أنه أكثر ما يشغل بال سيد النحل.
قال جيمي: «أولا، لا بد أن أخبرك أنني لدي مناعة من النحل. لقد ارتديت معطفك، واستخدمت النعناع والقرنفل وزنابق مادونا التي وصفها لي مساعدك، وقد كانت فعالة حتى رغم الضمادات التي أحملها على جنبي. كما أنني أستطيع ملء أحواض المياه وقياس الكمية المناسبة من الملح والمرور أمام أي قفير من القفائر بسلام. لم يتيسر لي الكثير من الوقت للدراسة، لكن النحل في حال من الازدهار على حد علمي. كما أن مساعدك يبلغك برسالة تفيد بأنهم بخير، ويبدو أن الصغير على علم حقا بالأمر.»
قال سيد النحل: «بالتأكيد، إن مساعدي على علم بحق. لدى مساعدي معرفة نادرة ومكتملة بالنحل، تؤهله حتى لإجراء عملية دقيقة مثل قص أجنحة الملكة.»
قال جيمي: «حسنا، يمكنك القول إذن إن النحل على ما يرام. مارجريت كاميرون تبعث إليك بمحبتها وتطمئنك أن زهورك تزدهر، وبوسعي أنا إخبارك بأن منزلك يلقى الرعاية النابعة من المحبة. فإنني أوصده بحرص عند مغادرته، وأقيم فيه متوخيا الرفق كما يجدر برجل يخطو على أبسطة عتيقة ويلمس أثاثا عتيقا. وعند عودتك إلى المنزل مرة أخرى ستجد كل شيء كما تركته بالضبط.»
ابتسم سيد النحل. وقال: «لقد توقعت أن يكون ذلك هو الحال حين ناديتك من الطريق. إذ بدوت لي، حتى وأنا أكابد العذاب في تلك الساعة، رجلا ذا فهم راق وفطرة سليمة. عرفت أنني سأصبح في مأمن حتى وأنا أترك معك أعز أملاكي. لم يخالجني أي إحساس بأنك غريب. بل بدوت وسيلة أرسلت لتلبي حاجتي الملحة. ماذا عن الكشافة الصغير؟ شريكي الصغير؟» «شريكك الصغير يأتي إلى الحديقة، لكنني لا أراها حديقة بحق من دونك. ثمة شيئان لا بد أن أخبرك بهما.»
وضع جيمي يده في جيبه وأخرج قيمة «السجق» وزجاجة المشروب الغازي المنكه بالفراولة ووضع العملات المعدنية في يد سيد النحل الممدودة.
قال جيمي: «كانت التوجيهات التي تلقيتها أن يكون الخبز محمصا، و«السجق» مشقوقا وجافا. والبصل محمرا. وحددت كمية المستردة بدقة. وكان علي الإشراف على عملية إعداد شطيرة «السجق» تلك بنفسي وبعناية. ويمكنني أن أذهب الآن وأحرص على إعدادها وفقا للمواصفات، إذا كنت ترى أن الدكتور جرايسون لن يقرعني بالعصا على ذلك.»
ابتسم سيد النحل. وأطبق أصابعه على النقود، القطع نفسها التي احتسبها مساعده الصغير من أجله.
قال جيمي: «انتقيت النقود بعناية من بين الأزرار والمشابك وأحجار النرد وأحجار القمر، وتصادف أنه بذلك استنفد كل ما لديه من نقود تقريبا. فلم يتبق الكثير. إلا أن شريكك ربح رهانا سيدر عليه ربع دولار؛ لذا فهو غير مهدد بالإفلاس. وقد كنت شاهدا بالصدفة على ربحه الرهان. فقد أصاب بوابل من البصاق الموجه بدقة نحلة طنانة على بعد عشر خطوات تقريبا وأسقطها من نبات معترش أحمر.»
اهتز جسد سيد النحل وهو يضحك ضحكة مكتومة.
وقال بحماس: «لقد أحسن عملا!» وأضاف: «يمكن الاعتماد على مساعدي في إصابة أي شيء تقريبا تضعه له هدفا.»
قال جيمي: «وإن مساعدك لديه قلب مفعم بالحب لك، حب بالغ وصادق حتى إنني أعتقد بحق أنه كان صريحا وصادقا عندما عرض التنازل لك عن يده اليمنى التي يحتاج إليها في امتطاء الخيل، والتجديف بالقوارب، والسيطرة على فتيان الكشافة، لو كانت ستخفف من ألمك وتعود بك إلى المنزل سالما ومعافى.»
أغمض سيد النحل عينيه بإحكام وظل مستلقيا مكانه وهو يمسك العملات المعدنية بين أصابعه. وما لبث أن ابتسم لجيمي في صلابة.
قال سيد النحل: «لست بحاجة إلى الشك في إخلاص ذلك العرض أو صدقه». وتابع: «ولست بحاجة إلى الشك في أنه كان سينفذ بشجاعة لو دعت الحاجة إلى ذلك. ولست بحاجة إلى الشك في أنه، من ناحيتي، لم يتبق في العالم بأسره شخص أعزه نصف معزتي لهذا الصديق الصغير. وإن من الأسباب التي أرغب لأجلها في العيش هو أنني قد أحرز تقدما فيما أحاول تعليمه لذلك الصغير بالذات بشأن تربية النحل، وفي الوقت نفسه، الحفاظ على روح أعتقد أنها خالدة. ولن ينجم ضرر عن أي شيء يتعلمه مني مساعدي. بل يساورني شعور بأن الأشياء المؤذية في هذا العالم تتجاوز الذهن ما دام مشغولا بشيء مشروع وبناء. لا تخبر مساعدي أنني لا أستطيع تناول «السجق» أو المياه الغازية بنكهة الفراولة. أخبره أنني ممتن له للغاية على تذكري. بلغه محبتي، وإذا كنت ترى أن حالتي ليست صادمة للغاية، فأحضر معك صديقي الصغير في المرة القادمة.»
قال جيمي: «سيسرني ذلك للغاية.» وتابع: «والآن، هل تود أن تعطيني أي توجيهات قبل أن أرحل؟ فقد طلب مني الدكتور جرايسون أن أبقى بضع دقائق فقط.» «أعتقد أنه لا يوجد شيء سوى أن تستمر على ما أنت عليه. وسيسرني أن تقضي وقت فراغك بين كتب النحل. فسوف تساعدك في مهمتك. وقد تثير اهتمامك لدرجة تحملك على الاستمرار أثناء عجزي، ما دمت متمتعا بالبأس الكافي. يريد جرايسون أن يقابلك في مكتبه هنا في المستشفى قبل أن ترحل، فإذا كنت ذاهبا فافتح ذلك الدرج الذي على اليسار هناك وضع الظرف الموجود بداخله في جيبك؛ من شأن ذلك أن يعطيك ولو بعض المكافأة على راحة البال التي منحتني إياها تجاه منزلي وأملاكي وعملي. أخبر مارجريت أنهم لا يسمحون لي بالكتابة، لكنني أحب الورود التي ترسلها وتشعرني رسائلها بأنها موجودة بجانبي. أخبرها أنني أرجو أن تستمر في تدليل رجل عجوز مثلي إلى أن ... لنقل إلى أن أبلغ الديار مرة أخرى، بما أنه من المحتمل أن يكون لدي فرصة. والآن أقول لك الوداع. أريد أن تعلم أنني أفكر فيك تفكيرا لا يكاد ينقطع في ساعات صحوي. احرص على مقابلة جرايسون. فإنه في غاية المهارة. ربما يستطيع أن يصف لك شيئا يجعلك أقل شحوبا ويساعدك على استجماع قوتك. والآن إلى اللقاء.»
قال جيمي: «إلى اللقاء. كن مطمئنا. فإنه بإمكاننا فيما بيننا، مارجريت كاميرون، والكشافة الصغير، وأنا، أن نتدبر أمر النحل. ولا توجد مشكلة البتة بشأن الزهور والأشجار. لقد تمكنت من ذلك النظام بالفعل.»
بعد ذلك نزل جيمي ووجد مكتب الدكتور جرايسون، وبعد نصف ساعة عاد إلى المنزل ومعه كمية كبيرة من الضمادات المعقمة ومن دون قطرة دواء واحدة. فقد نصح باتباع نزعاته. فإذا تاق جسده للماء المالح البارد، فلينغمس فيه. وإذا كانت رغبته الاستلقاء على الرمال في الشمس، فليقدم على ذلك.
قال الطبيب: «حيث إن عاما من أفضل الرعاية التي استطاعوا أن يوفروها لك في أرقى مستشفياتنا الحكومية لم تخفف من متاعبك، فلتجرب فعل ما تخبرك الطبيعة أنها تريد منك فعله بالضبط، ولتر ما النتائج التي ستترتب على ذلك. فأنا أعتقد أن الماء المالح وأشعة الشمس والهواء النقي هم أفضل أطباء في العالم كله، على أي حال.»
في المكتب جلس جيمي على مقعد ليستريح بضع دقائق ويقرر ما سيفعله بعد ذلك. كان ممتنا على الضمادات؛ لأنه لم يكن يعلم بالضبط ما هي أفضل الأشياء ليستخدمها. لقد كان الأطباء والممرضات يفعلون به ما يريدون، لكنه لم يعلم الكثير عما كانوا يفعلونه. وهو الآن سيصبح مطمئنا أن ما يستخدمه لن يسبب ضررا على الأقل.
جعل يفكر في بعض اللوازم التي يحتاج إليها، وتساءل إن كان الظرف يحتوي على نقود كافية لتعويض المبلغ الذي اقترضه من أجل الخاتم وإذن الزواج، ومن ثم فتحه. وعندئذ جلس مذهولا واجما. ليس من الحكمة أن يعود أدراجه ويدخل حجرة رجل عليل لإعلان اعتراضه. أخذ يحصي الأيام التي قضاها في العمل في الحديقة. أدرك أنه قد حصل على مسكن ومأكل ومشرب وحق استخدام ما احتاج إليه من الملابس، لكنه لم يكن صحيحا ولا منطقيا على الإطلاق أن يتلقى مبلغا مثل ذلك الذي احتواه الظرف مقابل ما فعله. ظل جالسا هناك يتساءل ما إن كان الرجال في جميع أنحاء البلد يتقاضون مبلغا مثل ذلك مقابل عمل يومي عادي. تحسس النقود بين يديه. وبسطها أمام عينيه. وراح يتفحصها بإمعان. بإمكانه أن يعوض عما اقترضه ويظل بإمكانه أن ينفق المبلغ نفسه مرتين أو ثلاث مرات أخرى، مقابل بضعة أيام فقط من المكوث في حديقة النحل.
كان ذلك عمليا ما يستحقه مقابل ما قدمه من خدمات. لقد حافظ على المنزل مفتوحا. وأعطى انطباعا بوجود شخص يؤدي العمل. وضع المال في جيبه، في جيب يستطيع أن يدس فيه يده ويتحسسها. وغادر المستشفى وخرج إلى الشارع، وهو ما زال يتلمس تلك النقود. ما دام باستطاعة رجل مريض أن يكسب كل ذلك بمجرد «البقاء مكانه»، كما عبر الكشافة الصغير عن الأمر، فما ذلك الذي لا يقوى على فعله وهو معافى؟ قال الدكتور جرايسون إن الماء المالح وأشعة الشمس والهواء النقي قد يصبحون أفضل أطباء. حسنا، وهو لديه المحيط الهادئ مملوء بالماء المالح. ولديه السماء بأسرها تملؤها أشعة الشمس. ولديه الهواء، بلا غبار مطلقا، نقي، رقيق وهو يهب من المحيط، وقد عبر مسافة طويلة من الصين. تصور جيمي أنه حتى إن كان ثمة غبار في الهواء الذي يتنفسه، فهو غبار النجوم.
هكذا شد قامته وتحسس النقود بيد واحدة، وبالأخرى تحسس صدره. لمسه بتأن، متفحصا إياه بقدر ما استطاع خلال ملابسه، فاكتشف أنه منذ تعافيه من الإرهاق الذي لقيه في تجواله لم يعد يؤلمه بشدة كما كان. ما دام باستطاعته أن يكسب مالا بذلك القدر، وما دام لديه حديقة مدهشة ليعمل فيها، وما دام استطاع أن يكسب ثقة سيد النحل، وما دام يستطيع في كل يوم أن يكتسب صداقات مفيدة، وما دام لديه زوجة، وما دام سيولد طفل يحمل اسمه، فما فائدة الاستسلام للموت؟ قد يكون في العالم شيء جيد يستطيع أن يفعله . ومهما يكن من أمر فباستطاعته أن يجد قدرا غير محدود من التسلية من العمل في حديقة النحل واللهو مع الكشافة الصغير.
هكذا ذهب جيمي إلى عدة متاجر، واشترى بعض الأشياء التي كان بحاجة إليها مطمئنا اطمئنان رجل لديه الثمن في جيبه. ثم ذهب إلى المنزل وقد تبدل لأول مرة منذ عامين ما كان يشغل باله؛ فقد أصبح يفكر في الحياة بدلا من الموت.
وضع الأشياء التي اشتراها جانبا وتوجه في الحال نحو المقعد الواقع أسفل شجرة الجاكرندا في أعلى الحديقة الزرقاء. وعلى المقعد، منكمشا مثل قط صغير، وجد الكشافة الصغير يغط في نوم عميق. وبينما هو يحاول أن يخطو بخفة لكيلا يزعج الطفل، وقعت قدمه على أحد أحجار الإطار فتدحرج من مكانه وأيقظ الاحتكاك الخفيف الطفل. وفي الحال نهض الصغير، مبتسما ابتسامة تودد فاتحا عينين غشاهما النوم لأقصى حد محاولا إثبات أن النوم لم يمسهما منذ الليلة الماضية، ولو قليلا.
في محاولة أخرى لإثبات أن قائد الكشافة دائما ما يكون في حالة من الاستيقاظ واللياقة، تقدم الصغير إلى الأمام وسأل باقتضاب: «ماذا سنفعل الآن؟»
جلس جيمي على المقعد وشد الكشافة الصغير ليجلس بجانبه.
قال جيمي: «إنني متعب.» وتابع: «لقد ذهبت لزيارة سيد النحل، وهو على ما يرام. إنه يبعث إليك بمحبته كما أنه سر كثيرا بهديتك، ويريدك أن تأتي لزيارته ذات يوم في القريب العاجل.»
هز الكشافة الصغير رأسه موافقة. «لكن ماذا سنفعل ما دمت متعبا؟»
ابتسم جيمي.
وسأل: «هل يجب أن تجد نشاطا مفعما بالحركة والحيوية في كل ساعة من ساعات صحوك؟» ثم أضاف: «أليس من الممكن أن تجلس وتتواصل مع روحك من وقت لآخر؟ إذا كنت تواقا جدا لفعل شيء، دعني أقترح عليك شيئا. إنني لا أعلم عن النحل أي شيء من الأشياء التي تعرفها أنت بالفعل. فما رأيك ما دام لديك وقت فراغ أن تقضيه في تعليمي؟»
راح الكشافة الصغير يتفحص جيمي بتمعن. «هل تقصد أنك تريدني أن أعلمك كل ما أعرفه عن النحل، ولديك بالداخل على الرف كل كتب سيد النحل لتتعلم منها؟» «لكن ألم يتعلم سيد النحل العديد من الأشياء وحده؟ ألم يتيسر له من العلم ما يكفي لملء كتاب عن الأشياء التي اطلع عليها خلال خبرته المديدة مع النحل؟ ربما كان بعضها لديه من الأصل. ربما تعلم أنت أشياء ليست موجودة في الكتب.»
عندئذ ضحك الكشافة الصغير. «حسنا، هناك العديد من الأشياء الجيدة التي نود معرفتها وليست موجودة في الكتب. لكن عليك أن تعكف أكثر على دراسة النحل قبل أن تعرف كل ما له صلة به.»
قال جيمي: «حسنا، فلتبدأ من حيث يحلو لك وأخبرني بما لا بد أن أعرفه عن النحل في رأيك.»
مال الكشافة الصغير إلى الأمام، ومد يديه، اللتين كالعادة لم تكونا في غاية النظافة، وضم كفيه، وأسقطهما بين ركبتين بدتا كأن صاحبهما يخدم في الجيش وكان يزحف على الأرض مؤخرا. ثم على نحو مفاجئ التفت نحو جيمي بوجه صغير يقظ ذي عينين مستغرقتين في التأمل.
قال الكشافة الصغير: «فلتخمن أول سؤال طرحته على الإطلاق على سيد النحل بشأن النحل؟» «لعلك قلت: «لماذا تربي النحل؟».» قال جيمي على سبيل التخمين.
ببطء تحرك الرأس الصغير الذي لفحته الشمس فأكسبته لونا بنيا دلالة على النفي.
وقال: «كلا! إجابة بعيدة كل البعد!» وتابع: «لم تقترب من الصواب ولو قليلا. أول سؤال سألته مطلقا كان: «لماذا حديقة النحل زرقاء؟» وسأضطر إلى إخبارك بالجواب لأنك لن تحزره أبدا ولو بعد ألف سنة. الإجابة هي: «إنها إرادة الخالق».»
وشى وجه جيمي بالدهشة التي اعترته. فقد تغضن حاجباه لاستغراقه في التفكير، وضاقت عيناه. ثم حدق في الكشافة الصغير وأعاد قوله بهدوء: «إنها إرادة الخالق؟»
قال الكشافة الصغير: «أجل.» ثم أضاف: «ذلك ما يجعل النحل مثيرا جدا للاهتمام. إن نصف الأشياء التي سيتوجب عليك أن تتعلمها ترجع إلى إرادة الخالق، وسبب زرقة حديقة النحل هو أول شيء على الإطلاق. والآن أصغ بينما أخبرك بالسبب.»
بيد مرفوعة إيذانا بالصمت، أعاد الكشافة الصغير بتأن وجدية التفسير الذي تلقاه كإجابة عن السؤال الأول الخاص بالنحل. «إن حديقة النحل زرقاء لأن الأزرق هو «اللون المثالي»، والنحل مثالي أكثر من أي حشرة أخرى من حيث الأسلوب الذي يعيش به، وهو الحشرة الأكثر قيمة بسبب العمل الذي يؤديه، ومن ثم يفترض أن الأزرق هو أكثر الألوان التي تروق له، وهو كذلك! إن كنت لا تصدق، فراقبه. أما السبب فإنه كلما اقتربت الحشرة من المثالية كان اللون الذي تحبه مثاليا، والسبب وراء ذلك أن الله خلقها على هذه الصورة!»
رمق الكشافة الصغير جيمي بنظرة متفحصة، فلم يبد على وجه جيمي انطباع محدد.
قال الصغير متجاسرا: «أعتقد أنك لم تفهم الأمر. حسنا، تمهل دقيقة وسوف تفهم. أول ما عليك تعلمه هو بعض الأرقام. لأنك كبير، وربما ذهبت إلى الجامعة، يجدر بك أن تتعلمها إذا استطعت. أحد الأسباب أن هناك أربعة آلاف وخمسمائة نوع مختلف من النحل. هذه نقطة لا بد أن تتذكرها. السبب الآخر أن هناك مائة ألف نوع من النباتات التي لن تبقى حية إذا عصف بهذا النحل أو احترق أو لحق به ما شابه ذلك؛ لأن النبات، كما تعرف، لا بد أن ينمو حيث تحمل الرياح بذوره أو تبذرها الطيور أو السناجب، وإذا كان هناك نبات ذكر ونبات آخر أنثى، فلا يمكن أن يتحركا ويذهب أحدهما إلى الآخر ليتزوجا ويجعلا بذورهما تثمر، أليس كذلك؟ من ثم لا بد أن يكون لديهما شيء ليحمل حبوب اللقاح بينهما وينتج البذرة الملقحة.
وإليك الآن شيئا لتتذكره بشأن النحلة نفسها ... لتكن النحلة العاملة؛ لأنها هي التي تحمل حبوب اللقاح. فلتتذكر أولا أن كل واحد من الأنابيب الصغيرة التي في أنفها به خمسة آلاف تجويف للشم؛ لذا لا عجب أن باستطاعتها تمييز من تنبعث منه رائحة غريبة. كما أن النحلة العاملة لديها ستة آلاف عين في كل جانب من رأسها؛ حتى ترى الزهور التي تريد أن تحصل منها على حبوب اللقاح والرحيق. كذلك لدى النحلة العاملة معدتان؛ واحدة صغيرة إلى الداخل لنفسها، وأخرى أكبر بكثير إلى الخارج من أجل الخلية . كذلك لدى كل نحلة عاملة على بطنها أربعة جيوب لإفراز الشمع، ولدى كل نحلة عاملة سلال على سيقانها لتجمع فيها حبوب اللقاح، بجانب الرحيق الذي تحمله في معدتها من أجل الخلية. ولدى كل منها إبرة حادة بإمكانها استخدامها إن لم ترق لها رائحتك، أو إن اعتقدت أنك ستؤذيها أو ستفعل شيئا لا يجدر بك فعله في الخلية. وتجد كل واحدة منها مغطاة بشعر طويل بالنسبة إلى نحلة، وتجده كذلك ناعما غضا، وحين تهبط العاملات على ذكر زهرة السوسن للحصول على رحيق من أجل معدتيها ولملء سلال اللقاح، يمتلئ الشعر الذي يغطيها باللقاح هو الآخر، وعند خروج النحل لجمع الرحيق واللقاح لا يخلط أبدا بين زهرة وأخرى، وهذا هو القانون؛ إنها مشيئة الخالق. فإذا بدأ بزهور السوسن، استمر في الذهاب إلى زهور السوسن حتى النهاية. تستطيع الآن تصور الأمر، أليس كذلك؟ حين تحصل النحلة العاملة على اللقاح من ذكر زهرة السوسن في جميع أنحاء شعرها ثم تذهب لتحصل على اللقاح من أنثى زهرة السوسن، يتناثر اللقاح من الشعر لينتج البذرة المهمة؛ لأن النحل يزاوج بين الزهور. وذلك سبب آخر بجانب العسل يجعل النحل مفيدا.
سألت سيد النحل ذات مرة كيف أتأكد أن الله موجود ما دمت لا أستطيع أن أراه وما دمت لا أستطيع أن ألمسه. فقال: «بسبب الشعر الذي لدى النحل!» هذه إحدى الطرق التي يمكن بها أن تتأكد.
هناك أيضا سبل عدة لمعرفة الله من خلال تأمل الطريقة التي خلق بها ملكات النحل. إن خلية النحل لمليئة بالمعجزات والعلامات والرموز والعجائب. قال سيد النحل ذلك. لكن قد تكون كبرى عجائب الخلية هي الملكة تحديدا. فإنك تجد الكثير من الأدلة على وجود الله عبر تأمل ملكة النحل. قد تعيش النحلة العاملة خمسة أسابيع أو ستة فقط، أما الملكة فقد تعيش خمس سنوات أو ستا. وهي أكبر حجما بكثير من النحلة العاملة وتبدو مختلفة. فهي طويلة ورفيعة ولديها أجنحة أكبر، ولديها بطن كبير لأنها قد تضع من البيض مليونا أو مليونين . ولا تملك سوى نصف عدد العيون الذي لدى النحلة العاملة؛ لأنها لا تحتاج إليها إلا حين تخرج لتبحث عن حبيبها، أو ربما بضع مرات أخرى حين يصبح لديها قفير كبير مليء بمائة وعشرين رطلا من العسل والعديد من النحل يزاحم بعضهم البعض. ومن ثم حين يصبح كل شيء جاهزا تطلب من جزء منهم أن يأتي معها لتعثر على قفير جديد، وتترك الآخرين ليعيدوا ملء القفير القديم بعد أن يأخذ سيد النحل نصيبه من العسل.
وتصبح الملكة ملكة على النحو التالي: في خلية صغيرة مجهزة بالكامل من أجلها تضع ملكة نحل القفير بيضة، وتقول للعاملات: «أريد أن تصبح هذه البيضة ملكة.» فتنهمك العاملات في العمل وتصنع غذاء ملكات النحل. وذلك شيء آخر لم يكتشفه الناس الذين ألفوا كتب النحل. إنهم لا يعرفون مطلقا ما هو غذاء ملكات النحل أو كيف يصنع. لكن العاملات يعرفن. فقد علمهن الله الطريقة حين خلقهن. هكذا يصنعن غذاء الملكات ويغذين به من يخرج من البيضة التي قالت الملكة إنها ستصبح ملكة أخرى. فتنمو وتصبح يرقة بيضاء، وحين تتمكن اليرقة البيضاء من الطيران تصبح ملكة صغيرة. ويطعمن بغذاء مختلف ما يخرج من كل بيضة في كل خلية مختلفة، وتقرر الملكة ما الذي يخرج من كل خلية. وخوفا من أن يصيب الملكة مكروه، لأنه لا يمكن لأي خلية العيش من دون ملكة، تضع هي الكثير جدا من البيض الذي تريد أن يخرج منه ملكات، ثم تضع عددا كبيرا ليخرج ذكورا والبعض ليخرج ممرضات والآلاف ليخرج العاملات. تذكر هذا: يصنع النحل أربعة أنواع مختلفة من الخلايا.
حين تجد الملكة قفيرها مليئا بالعسل والعدد الكافي من اليرقات البيضاء بما يضمن أن يظل هناك دائما ملكة في القفير، والكثير من خبز النحل لإطعام اليرقات وسائر النحل الآخر الحبيس في مهده، يحدث شيء لا يفهمه أي أحد. عندئذ تحديدا تأخذ الملكة وصيفاتها ومهندسيها وبنائيها الذين يصنعون أقراص العسل، والعاملين الذين يحضرون حبوب اللقاح والرحيق، وتأخذ بعض الذكور وتأخذ بعض الممرضات، وتمضي في الحال وتترك كل الأعمال التي أنجزوها كلهم بعناية شديدة. الشيء الذي لا يعرفه أي أحد هو من الذي يأخذ هذا القرار، أو كيف يقرر، من الذي سيبقى في القفير ومن سيذهب. لكن يبدو أن ثلثيهما يذهب مع الملكة القديمة.
قبل أن تهم الملكة القديمة بمغادرة القفير مع السرب الذي سيرافقها، يذهبون جميعا ما عدا الملكة إلى أحواض العسل ويأخذون من العسل ما يكفيهم خمسة أيام أو ستة، بحيث لا يتضورون جوعا أثناء البحث عن سكن جديد، وبحيث يبقى معهم الشمع الذي يستطيعون استخلاصه من العسل ليضعوا أساس الخلايا ليبدءوا العمل في سكنهم الجديد.
ثم تخرج الملكة من القفير ويذهب كذلك كل النحل الذي يفترض أن يذهب معها. وتطير بعيدا بعض الشيء وتحط على فرع شجرة برتقال، أو ربما تين، أو جاكرندا، لتحيط بها وصيفاتها وكل سربها الذين يتولون رعايتها. فهم يخفونها بينهم بحيث لا يلتهمها طائر، أو إحدى الفراشات الصقرية، أو أي شيء آخر، بينما يذهب النحل الكشاف للبحث عن سكن جديد. وحين يذهب النحل الكشاف للبحث عن سكن جديد يختارون مكانا في الصخور أعلى الوادي، أو غصن كبير ميت في شجرة بلوط حي أو جميز. لكن إذا كان مربي النحل مربي نحل بحق، فإنه يعلم قبل عدة أيام من اشتداد نشاط القفير ومن الأشياء التي يسمع النحل وهم يخبر بها بعضهم البعض، أنهم سيتركون مسكنهم للبحث عن مسكن جديد. وإذا كان يريد أن يحافظ على نحله ويجعل حديقته تزداد حجما أكثر فأكثر، فإنه يحتفظ ببعض القفائر القائمة في الخلف، جاهزة تماما، ويظل يراقب الوضع، وحين تخرج الملكة من بابها وتبدأ الطيران يأتي بطبلة النحل، ويظل يقرعها، قرعا بطيئا وهينا وخفيضا؛ دوم، دوم، دوم. فيتساءل النحل ما هذا الصوت الغريب. وينسى ما الذي كان مقدما عليه، ويستقر على أقرب غصن ويغطي الملكة كما أخبرتك، وسريعا يذهب مربي النحل ويأتي بمبخرته ويطلق عليهم القليل من الدخان ليبقوا هادئين ووادعين. فإذا كان يحب نحله فإنه لن يطلق عليه الكثير من الدخان؛ لأن النحل يكره الدخان أكثر من أي شيء في العالم بأسره.
وفي الحال يقطع الفرع أو يضع القفير تحته، وبيده ينتزع النحل ويقذفه في الداخل. وعليه دائما أن يتأكد من أن الملكة لديه وأنها بخير. وبعد ذلك يأخذ القفير وينصبه على منصة جديدة ويضعه في حديقة النحل الخاصة به. وإذا أراد فبإمكانه أن يضعه بجانب القفير الذي جاء منه النحل بالضبط، لكنه لن يعود أبدا إلى القفير الذي كان يعيش فيه من قبل. سيبقى دائما مع الملكة، ويعيش في القفير الجديد ويعمل فيه. وتظل الملكة طيلة حياتها دون أن تخرج مرة أخرى أبدا إلا إذا أرادت أن تبحث عن قفير آخر. وعندئذ تفعل نفس ما فعلته هذه المرة بالضبط. وهكذا يحصل مربي النحل على قفائر جديدة للنحل.
أما هناك في القفير القديم الذي تركوه فيصبح النحل حزينا بعض الشيء؛ لأن مربي النحل جاء هو الآخر وأخذ نصيبه من العسل، ولأن ملكتهم الجميلة رحلت، ولأن الأقراص الذهبية التي تكاد تملأ القفير صارت خاوية ما عدا ما تركه مربي النحل، فيظل كل منهم واقفا مكانه شاعرا بالكآبة منتظرا. ولا تخرج العاملات بحثا عن رحيق كالذي أحصل عليه من زنابق مادونا، ولا عن حبوب اللقاح. بل إنها لا تنظف حتى مخلفات الذكور الكسولة القديمة. إنها أشد الأوقات التي تلم بالقفير كآبة على الإطلاق. هكذا يذهبون كلهم ويتجمعون حول الخلايا التي وضعت فيها الملكة البيض لينشأ المزيد من الملكات. وتعرف الملكة القديمة وهي تغادر أنه سريعا جدا ما ستخرج ملكة جديدة من هذه الخلايا. وهكذا في الوقت الذي يشعر فيه كل من داخل القفير بيأس شديد، ترفع إحدى اليرقات البيضاء رأسها وتأكل غطاء خليتها لفتحها وتسير خارجها. فتهرع الممرضات إليها ويساعدن في تنظيفها وفي تمشيط شعرها وتهذيب أجنحتها. ويقبلنها لسعادتهن البالغة برؤيتها.
ومن الأشياء الأخرى التي قدرها الله في قفير النحل هو أنه لا يجعل ملكة صغيرة واحدة فقط تأتي للحياة؛ لأنها بعد أن تصبح جاهزة وعلى أتم الاستعداد تخرج إلى العالم الكبير الهائل لتبحث عن ملكها، فإذا التهمها طائر الوروار أو ملك العصافير، سيصبح القفير عندئذ في مشكلة أسوأ من التي كان فيها من قبل. من ثم قد يتأتى في اليوم نفسه أو اليوم التالي أو بعد يومين أن تخرج يرقة بيضاء برأسها وتأكل خليتها حتى تخرج منها سيرا. لكن لا أحد يذهب ليساعدها ولا يساعدها أحد كثيرا؛ لأنهم كلهم يعقدون أملهم على أول واحدة خرجت.
حين ترى الملكة التي خرجت أولا أن ثمة ملكة أخرى غادرت خليتها، يستبد بها الغضب. وهنا تبدأ مشاجرة. وهما تتعاركان تماما كما أتعارك مع الطفل المطيع وذي الوجه الملائكي حين أستقرئ في عينيهما أنهما قد يفكران في التخطيط للتمرد علي. ولا أتوقف إلا حين أوسعهما ضربا. ولا تتوقف الملكة الصغيرة إلا حين تردي الملكة الأخرى جثة هامدة، وتخرج بها العاملات إلى مدفن النحل.
وعندئذ ترغب الملكة الصغيرة في المواصلة وقتل كل واحدة من اليرقات البيضاء النائمة في سائر المهاد. إنها تريد أن تفعل ذلك في نفس التو واللحظة. إلا أن العاملات والنحل الكشاف والحراس يتقدمون ويقولون: «كلا، لا يمكنك أن تفعلي ذلك. عليك الخروج والعثور على ملك لك ثم العودة مستعدة لأن تصبحي أما للقفير قبل السماح لك بأن تفعلي ذلك.»
من ثم تخلد الملكة الصغيرة إلى الراحة بضعة أيام حتى تصبح على أهبة الاستعداد، وذات يوم والجو صحو ومشمس تماما، في الصباح والندى يكسو الزهور وطيور القنبر تحلق في السماء، في صباح مثل ذلك الذي كتب عنه براونينج، وجعلني سيد النحل أحفظه؛ ذلك الذي يقول فيه: «الله في سمائه، وكل ما في الدنيا بخير»؛ أعتقد أن أمك جعلتك تحفظه أنت الآخر، حسنا، تذهب الملكة الجديدة إلى الباب وتخرج منه بظهرها. تبتعد مسافة صغيرة وتعود إليه ثلاث مرات أو أربع. لقد علمها الله أن تفعل ذلك حتى تتأكد تماما من أنها ستتعرف على بابها حين تعود إلى سكنها من أول رحلة طويلة تقدم عليها على الإطلاق. وحين تتأكد من أنها تعرف المكان الذي تنتمي إليه، حينئذ تبدأ رحلتها ، وقد علمها خالقها الطيران أيضا؛ إذ لا تتسنى لها فرصة استخدام أجنحتها قبل ذلك. لكنها حين تستخدمها تظل تعلو وتبتعد في السماء، حتى إنها تعلو فوق الأشجار. وتحلق أعلى من الطيور. إنها تحلق عاليا جدا حتى إن الرجال الذين ألفوا الكتب لم يستطيعوا قط أن يروا الارتفاع الذي تصل إليه.
وحين تبدأ رحلتها، فإن هناك شيئا ما في جميع أنحاء صف القفائر، الشيء الذي تسميه كتب النحل «روح القفير»، أو الغريزة، أو الطبيعة - لكن سيد النحل يقول إنها مشيئة الخالق أيضا - تخبر كل ذكور النحل أن ثمة ملكة شابة خرجت للبحث عن ملك. وليس بإمكانهم امتطاء جواد أبيض بلون الحليب للبحث عنها؛ فعليهم استخدام أجنحتهم. لكنهم يتمتعون بمظهر بديع. إذ إنهم من النحل الكبير المختال. ويضعون على رءوسهم خوذات مزينة بلآلئ سوداء، وريش طويل. ويرتدون أحزمة مخملية صفراء وعباءات طويلة، ويستهينون بكل من في القفير. حتى إنهم لا يأبهون كثيرا لأمر الملكة، إلى أن يبدءوا في خطب ودها. ويظلون طوال حياتهم عبئا ثقيلا. فلا يعملون البتة. ولا يخرجون أو يبحثون عن أي رحيق. إنما يسيرون إلى الخلايا التي تملؤها العاملات ويأكلون منها كما يحلو لهم. ويخرجون ويتكورون على زهور التيوليب والزنابق، وحيثما يجدون مهدا جميلا من الزهور، استلقوا عليه وناموا في الشمس لساعات. بعد ذلك يعودون ويأكلون المزيد، وإنهم أكسل من أن يعيشوا بالأسلوب الذي يعيش به النحل الآخر، لكن تعلم النحلات العاملات أن القفير لا يمكنه البقاء من دونهم؛ لذلك ينظفن مخلفاتهم. ولا أحد يحبهم على الإطلاق، لكن لا أحد ينبس بكلمة لأنهم جزء من خطة الخالق. ولا بأس أن يحظوا بوقت طيب متى تسنت لهم الفرصة؛ فإنهم لا يعلمون شيئا بتاتا عما سيحيق بهم.
هكذا حين تخرج الملكة الصغيرة، يرغب كل الذكور في التودد إليها، فيأتون في أسراب من جميع القفائر المختلفة ليلاحقوها. ويبسطون أجنحتهم على اتساعها ويطيرون بعزم وسرعة شديدة حتى إنهم ينتفخون تماما ويمتلئون بالهواء أكثر من قبل، ويصير شكلهم مختلفا عما كانوا عليه قبل أن يبدءوا. ولا يبلغ الارتفاع الذي بلغته الملكة إلا الذكر الحسن الماهر القوي. وأخيرا، حين يعلو بعض منهم حتى يكاد يقترب جدا من الجنة، وحدهم تماما في الأفق حيث السماء زرقاء والنهار طيب وكل شيء جميل وحسن للغاية، تقول الملكة من منهم سيصبح الملك. ثم يتزوجان. ويحظيان بشهر عسل قصير، إذ تقول الملكة إن عليها الذهاب إلى القفير مباشرة والبدء في العمل. فلا تنتظر حتى لتودع الملك، وإنما تدفعه دفعة كبيرة، دفعة كبيرة وشديدة للغاية حتى إنها تقضي عليه فيهوي إلى الأرض جثة هامدة. وتعود هي إلى القفير وتدخل من الباب، وتصبح محظوظة إن وصلت إلى القفير ودخلت من الباب دون أن تصيبها الطيور وغيرها من الأشياء. لذلك السبب يوجد يرقات بيضاء أخرى في الانتظار، فإذا لم تعد الملكة الصغيرة، يمكن لواحدة أخرى الاستعداد والخروج. أترى كيف أن كل شيء مجهز من البداية من أجل استمرار الحياة! لهذا فهي مشيئة الخالق؛ لأنها خطة رائعة، وهي أشياء لا يقوى الرجال على فعلها بأي طريقة على الإطلاق. إن الله وحده هو الذي يخطط للنحل حياته.
إذا عادت الملكة إلى القفير ابتهج الكل بشدة لدى دخولها من الباب حتى إنهم يقبلونها ويمشطون شعرها وينظفون أجنحتها ويهيئونها بالكامل على أحسن وجه. حتى إنه لن يخطر لك أن قلوبهم تنطوي على شيء سوى الحب والخير.
أتدري ما الذي تفعله العاملات بعد ذلك؟ لن تخمن أبدا، حتى إن ظللت تخمن أياما؛ لذلك سأضطر إلى إخبارك. كل اليرقات البيضاء اللواتي ظللن يطعمنهن غذاء ملكات النحل، واللواتي ظللن يلقين أفضل رعاية من الممرضات، يلدغن. هل تصدق؟ كما تعلم حين يمكر أحد الرجال ويغدق بالحب على رجل آخر ويجعله يظن أنه صديقه، ثم ينقلب على عقبيه ويستولي على كل أمواله وربما يقتله، يقول الناس عندئذ إن الرجل الطيب «لدغ.» حسنا، إن ما يحدث هنا في قفير النحل هو سبب قولهم ذلك. فكل اليرقات البيضاء التي لاقت محبة شديدة وغذيت بغذاء ملكات النحل، لحظة أن ترجع الملكة الصغيرة منزلها سالمة غانمة ، حينئذ، كل اليرقات البيضاء اللواتي كن سيصبحن ملكات إن تسنت لهن الفرصة، يلدغن حتى الموت، وقد يكون هناك أربعون أو خمسون ألفا منهن، فلهذه الدرجة يريد النحل الاطمئنان إلى أنه سيصبح لديه ملكة. وحين يصبحن جثثا هامدة يحملهن العاملات إلى الخارج ويضعهن جميعا مع النحل الميت.
أما بعد ذلك فإن كل العاملات يجتمعن معا، ثم يقررن لدغ كل ذكر كبير مخادع ظل يتسكع متكاسلا في أنحاء القفير وتخدمه خمس أو ست من النحلات العاملات، وقد طفح الكيل بهن. تستطيع الجلوس عند حدوث ذلك في قفير المراقبة مرتديا النظارات لترى وجوههم، إذ يبدون مبهوتين ومذعورين للغاية فلا تستطيع مقاومة الشعور بالأسف نحوهم. ولا يعلمون ما الذي اقترفوه ولا يعلمون لماذا يحدث لهم ما يحدث، ولا يفهمون لماذا انقلبت العاملات اللواتي كن يخدمنهم؛ إذ يأتي جيش كامل من العاملات، مجنونات جنون الأرنب وصانع القبعات في رواية «أليس في بلاد العجائب»، فيزأرن في وجوههم ويغنين أناشيد الحرب ويطلقن صيحات المعركة. ومن ثم تنزع أجنحة السادة الذكور العجائز وتوخز أعينهم حتى تقتلع من مكانها ويوخزون في كل مكان من جسدهم، ويقتلون على بكرة أبيهم، ويلقون خارج القفير.
لا يتبقى إلا الملكة الشابة ووصيفاتها والعاملات والممرضات اللواتي سيبقين معها. وعند التعرض لأي خطر، فإنهن جميعا يقفن كدرع ويحمين الملكة الشابة. وإذا كان الشتاء قاسيا التففن حولها لتدفئتها، وإذا لم يتوفر طعام كاف جعن هن وأطعمنها. مهما حدث لهن، ترعى كل منهن الملكة، ما دمن على قيد الحياة؛ لأن البيض الذي تضعه هو الذي يصنع جيل النحل الجديد ويحافظ على استمرار حياته في العالم. إذن هناك من يعلم كل نحلة قائلا: «حتى إن كنت ستموتين أنت نفسك، فعليك رعاية مولاتك، حتى لا يختفي النحل عن وجه الأرض كما اختفى كل شيء في زمن الطوفان». ومن يعلمهن ذلك هو الخالق مرة أخرى.»
نظر الكشافة الصغير في عيني جيمي مباشرة. «بدأت الآن تفهم لماذا قال سيد النحل إن الشعر الذي على جسد النحلة هو من صنع الخالق، أليس كذلك؟»
قال جيمي: «بلى، بدأت أفهم. إنه أروع الأشياء التي سمعت بها على الإطلاق في العالم بأسره! استمر واحك لي المزيد. احك لي أصغر التفاصيل التي تعرفها.»
قال الكشافة الصغير: «لم يتبق الكثير لتعرفه. ثمة المزيد من الأرقام لأخبرك بها، كيف أن الذكور لديهم أعداد كبيرة من العيون وتجاويف الشم تفوق ما لدى العاملات. فلدى الذكور سبعة وثلاثون ألف تجويف للشم؛ للتأكد تماما من العثور على الملكة، وهذا أيضا من صنع الخالق. ولدى الذكور ثلاثة عشر ألف عين في كل جانب من رأسهم. ليستطيعوا الرؤية أفضل من أي كائن آخر والتأكد من العثور على الملكة؛ لأنهم لا بد أن يعثروا على الملكة، ولا بد أن يتزوجوها، ولا بد أن تضع الملكة البيض ليظل هناك نحل في العالم، ليصنع العسل الشهي الحلو للكل، وليحافظ على حياة مئات آلاف الزهور.
بعد أن ينقل سيد النحل الملكة القديمة وأسرتها في قفير جديد، ينصبه في مكان لطيف. ويعود النحل الكشاف إلى المكان الذي ترك فيه الملكة ويظل يبحث حتى يعثر على القفير الجديد. ويعرف عائلته ويدخل، ثم يشرع الكل في العمل. تبني العاملات الخلايا، وتضع الملكة القديمة البيض بكل أنواعه وتخبر العاملات بما تريد أن يخرج من كل بيضة. ويمضون قدما في الحال تماما كما فعلوا في القفير الذي جاءوا منه. فتنظف العاملات كل شيء وتملأ الملكة القديمة الخلايا مرة أخرى بالبيض الذي تريد أن يصبح ملكات وذكورا وعاملات وممرضات، وربما نحلا كشافا، ويستمرون في صنع المزيد من العسل ويفرخون المزيد من النحل، حتى يمتلئ القفير للغاية فتقول الملكة إن عليهم تنشئة ملكة صغيرة وتسليمها القفير بينما يخرجون هم وينشئون عائلة أخرى.
تظل الملكة تصدر الأوامر طوال الوقت بشأن ما تريد إنجازه. وقد تظل تحكم طوال خمس سنوات أو ست. وهي تضع البيض طوال الوقت. لن تصدق عدد ما تضعه من بيض، قد يصل العدد إلى مليوني بيضة. ولديها سبعة أو ثمانية آلاف عين فقط لأنها سيدة منزل. والإخلاص لعملها هو مهمتها الأولى والأخيرة ، بل مهمتها الوحيدة. إلا أنها ليس لديها جيوب للشمع ولا فرش ولا سلال لحبوب اللقاح. ولا تحب الضوء، ولا تعرف مذاق رحيق زنابق مادونا؛ لأن كل طعامها يأتي مهضوما من أجلها من قبل أن تأكله. إن استطعت فعل ذلك مع «السجق» فلن تظن أنها فكرة سيئة للغاية، أليس كذلك؟»
ضحك جيمي.
وقال: «فلتكمل.» «حسنا، تظل الملكة تضع البيض طوال اليوم، وربما طوال الليل على حد علمي. إنها تضعه على أي حال. عجبا لأمرها! وفي كل مرة تضع بيضة تحدد مصيرها، فتقبل ممرضاتها على العمل في الحال لتطعم اليرقات البيضاء غذاء ملكات النحل، أما خبز النحل فهو للحصول على المزيد من الذكور، وللحصول على العاملات والممرضات، وربما النحل الكشاف، كما قلت من قبل. وبعض العاملات يصبحن معماريات وبعضهن يصبحن بناءات والبعض الآخر يصبحن راقصات. ووظيفة الراقصات، حين يشتد الحر داخل القفير، هي أن يرقصن ويرفرفن بأجنحتهن حتى يتحرك الهواء ويبرد الخلايا. وأحيانا يرقصن رقصة في غاية الغرابة لليرقات البيضاء.
ذلك جزء مما أعرفه عن النحل. لم أستطع إخبارك بكل ما أعرفه عنه لأنني لا أستطيع استحضاره كله مرة واحدة. فالموضوع أكبر من أن أخبرك به في الحال. لكن بإمكانك مشاهدته في قفير المراقبة وتستطيع أن ترى سريعا أي الخلايا بها اليرقات البيضاء الكبيرة الناعمة، وأيها بها الذكور الضخمة الممتلئة، وأيها بها العاملات والممرضات الصغيرة، وربما النحل الكشاف. وبعد ما أخبرتك به، تستطيع أن ترى الذكور العجزة وهي تزحف في أنحاء الخلايا تأكل من العسل كيفما بدا لها، وفي حال من القذارة والفوضى حسبما يحلو لها. ثم يمكنك أن ترى العاملات يذهبن وينظفن ما تركوه. وتستطيع أن ترى الخلايا التي يلقى البيض فيها الرعاية. وتستطيع أن ترى الخلايا التي تملأ بالعسل. وتستطيع أن ترى الخلايا التي تحتوي على حبوب لقاح ذهبية وحمراء وأرجوانية في الشمع. حين آتي المرة القادمة سأسألك عن الأرقام التي أخبرتك بها، كما سألني سيد النحل. عليك أن تكون مستعدا ولا ترتكب أخطاء، فما دمت أنا أستطيع تذكرها، فيجدر برجل مثلك أن يتذكرها!»
نهض الكشافة الصغير واقفا، وشد لأسفل ذيل قميصه الأخضر الذي بدا معتادا على الخروج، وأحكم إبزيم الحزام عند خصره، وسحب نفسا عميقا. «ليس لدي معلومات وثيقة كما أخبرتك. بإمكانك أن تجد في المكتبة بالداخل كتبا كالتي أطلعتك عليها توضح كيف كان الناس يفكرون. كتب تحوي لغوا. وستجد كتبا مثل كتب لوبوك وزفامردام، بها صور رائعة، ستخبرك بما يحدث حقا. وهناك كتب مثل كتب فابريه وماترلينك التي يقول سيد النحل إنها تضم ثلاثة أشياء في آن واحد. أولا أنها تقدم الحقيقة، وثانيا أنها شعر، وثالثا أنها دليل على وجود عقل مدبر يخطط حتى أصغر الأشياء وأقلها حجما. وهو يقول إن الاسم الوحيد لذلك العقل المدبر هو الله. إذ لا يرى أي جدوى من محاولة تنحية الله وتجنبه وتسميته «روح القفير» والفطرة والطبيعة وأشياء من هذا القبيل. ويقول إن ثمة عالما عظيما، واحدا من أفضل العلماء، لكنه كاد أن يفقد صوابه وهو يحاول أن يفعل ذلك الشيء. كان يدعى تشارلز داروين، ويقول سيد النحل إن سي دي كان سيصبح شخصا أفضل كثيرا لو كان لديه استعداد لأن يقر بقدرة الله. فهو يقول إن الله حين يفعل أي شيء «يوليه بالغ اهتمامه، ويفكر فيه مليا، ويخلع عليه عدالة شاملة» كما يحدث في قفير النحل، حتى إن الرجل الحكيم ليخلع قبعته ويرفع عينيه إلى السماء ويقول بكل تهذيب: «ما أعظم الخالق».»
وفي تغيير سريع كالبرق، ركل الكشافة الصغير حصاة على موقع مرتفع بدقة متناهية لتبتعد عدة ياردات، وهوى على المقعد بجوار جيمي، وسأله بتراخ، بلا اهتمام: «ما رأيك؟»
واقعا تحت تأثير سحر القصة التي سمعها، مرر جيمي أصابعه في شعره. ثم حاوط ركبته بكفه اليمنى، وأحاط بذراعه اليسرى الكشافة الصغير وضم إليه الصغير بشدة. ونزل بشفتيه إلى الشعر الأشقر، وتغلغل في أجزائه الخارجية الباهتة، وبلغ الخصلات الداكنة تحتها، حتى اقترب بشفتيه من الأذن الصغيرة فهمس بتبجيل بالغ قائلا: «رأيي هو، ما أعظم الخالق!»
الفصل الحادي عشر
عبير روح وزهرة
بعد بضعة أيام جاءت مارجريت كاميرون إلى جيمي بسترتين فصلتهما من الشاش غير المبيض. شريط عريض يلتف حول صدره ويثبت بأزرار. ويمتد عبر الكتفين زوجان من الأربطة، مريحان عند الجلوس، وملاصقان لجسده كفاية للحفاظ على الضمادات في مكانها عند الحركة. بعد أن ضمد جرحه وارتدى أحد هذه الابتكارات وثبت الأزرار، شعر كأنه حصل على خلاصه للتو. فقد كانت الضمادة أخف بكثير وزنا، وأسهل بكثير في اللبس عما ظل يحمله طوال عامين. وأهم من كل شيء أنها كانت تؤدي غرضها من دون أن تذكره باستمرار، بثقلها والاحتكاك الدائم بكتفيه وتحت ذراعيه، بأنها موجودة.
ظل هو ومارجريت يعملان معا طوال أسبوع، وهو ما أسمياه «تقوية أواصر الصداقة بينهما.» فخصصا أفضل وقت في اليوم للرش. وظلا يعتنيان بالنحل، على قدر معرفة كل منهما. وقد أقدم جيمي على كل شيء بتمهل وسلاسة بقدر الإمكان. فواظب على النظام الغذائي الذي أعداه، وفي الساعة العاشرة من صباح كل يوم كان يرتدي ثوب سباحة سيد النحل، ومزودا بدثار قديم ليغطي قدميه ومناشف لرأسه وذراعيه، ينزل ويسير بشجاعة إلى المحيط الهادئ. بعد المغامرات القليلة الأولى تخلص من الخوف وراح يتوغل حتى تتكسر عليه الأمواج، وقبل أن يمر أسبوع كان قد اكتشف أنه بالاستلقاء على جانبه الأيمن، وضرب الماء بيده اليمنى، واستخدام قدميه يستطيع أن يجرجر ذراعه اليسرى ويسبح قليلا. وقد أسعده هذا الأمر للغاية حتى إن الشعور بالبهجة وحده حسن من دورته الدموية. وحين يتملكه البرد من وخز المياه المالحة الباردة، على بقعة اختارها، تبدأ في أكمة لزهور الربيع الذهبية وتنحدر إلى رمال الشاطئ في مواجهة الجنوب الغربي مباشرة، كان يتمدد بقامته الفارعة على الرمال الساخنة، وقد تخلص من الدثار والمناشف ليشعر بالراحة، ويستغرق في النوم. وحين يستيقظ يجد جسده قد اكتسب الدفء من حرارة الرمال تحته وجف وهو مغطى بالماء المالح.
ثم يعبر البوابة عتيقة الطراز ويصعد ببطء السلم المتعرج المؤدي إلى الباب الخلفي. خلال المرات التي كان يصعد فيها اكتشف أنه أصبح يألف كل زهرة من الزهور النابتة على جانبي المسار. تلك التي لم يكن يعرفها، كانت مارجريت كاميرون تعرفها من سنوات العمل التي أمضتها هي وسيد النحل في حديقتيهما معا. وجد نفسه يتمعن الزهور، ويراقب أي أنواع النحل تذهب أكثر إلى أي أنواع الزهور، وحين اكتشف جيمي أن النحل الألماني الأسود يزور زهرة أبي خنجر أكثر من أي زهرة أخرى، أبدى استهزاءه. وتذكر من أيام دراسته لنباتات الناسترتيوم أوفيسينالي (الاسم العلمي لأسرة هذا النبات). كان ذلك جرجيرا، لكن زهرة أبي خنجر تنتمي إلى الأسرة نفسها. دأب الصبية في الفصول على تسمية زهور أبي خنجر «المسئول عن تهييج الأنف»، ألم يكن من الطبيعي لشيء يحمل اسم الألماني الأسود أن يختار تلك الزهرة لتصبح المفضلة لديه؟ راح ذهنه ينشغل بهذه الطرفة وغيرها.
حين بلغ المنزل ذهب إلى الحمام مباشرة ليستحم، ووضع ضمادات جديدة، وارتدى ملابسه، وحينئذ أحضرت مارجريت غداءه. بعد تناوله تجول في الأنحاء طوال العشرين دقيقة المخصصة لذلك، ثم استلقى في الحال على فراش سيد النحل ونام ساعة أخرى على إيقاع الأمواج المتكسرة. بعد تلك الساعة استيقظ على كوب مترع من عصير البرتقال البارد. وبالمواظبة نفسها تناول عصير الطماطم في الصباح، وبدلا من الشاي أو القهوة، تجرع الحليب مع وجباته. وظل بعد الاستيقاظ من غفوته يعمل في الحديقة بقدر ما استطاع من دون أن يرهق نفسه. ثم ذهب إلى رفوف الكتب، لكن لعزمه الجديد على المقاومة حتى يصبح ذا جدوى في العالم تجاهل مجلدات مغرية من الروايات والتاريخ الطبيعي القديم. إذ استخف بها وراح يكرر عباراتها الثرية من صفحاتها الفريدة وكأنه يخاطبها. «يحصل النحل على صغاره من العدم ويضعهم في الخلايا، هل هذا صحيح؟ ينزل العسل من السماء، أحقا؟ أفضل النحل هو النحل الصغير المستدير المبرقش، صحيح؟»
هكذا هزل جيمي من علماء التاريخ الطبيعي القدامى ثم مضى إلى المعاصرين وجلس يقرأ في كتاب عن القواعد اللازمة للرجال الذين يودون أن يصبحوا مربين للنحل.
كان جيمي قد تصور في قرارة نفسه أن سيد النحل عند رجوعه سيصبح من الوهن في غاية حتى إنه قد يمضي عام قبل أن يصبح قادرا على مواصلة عمله، وخلال ذلك الوقت سيبقى هو في عمله، إذا أراد السيد، وسوف يتعلم كل شيء لا بد من معرفته عن النحل. وكان كلما فكر في الأمر بدا له، نظرا إلى عدم وجود أي غابات في كاليفورنيا كما هو في الشرق، أنه من الأفضل أن يستمتع بالحياة إلى أقصى قدر ممكن وهو يعمل مع النحل كما كان سيستمتع بالعمل مع الأشجار.
بعد عشرة أيام من الالتزام التام بهذا النظام استيقظ جيمي ذات صباح، وبدلا من النهوض في الحال، ظل راقدا بلا حراك ليقيم حاله. مد ساقه اليمنى بعيدا بقدر ما استطاع في الفراش وهز أصابع قدميه. رائع! لم يشعر بأي ألم. وجرب الساق اليسرى بالنتائج نفسها. ثم اختبر الذراع اليمنى ثم اليسرى، وبعدها مط جسده كله وألقى بثقله على مؤخرة رأسه وكعبيه ورفع كتفيه وأنزلهما بهوادة، فأسعدته نتيجة التمرين حتى إنه جربه مرة أخرى. وارتأى أنها ربما ليست فكرة سيئة أن يضع نوعا من أنواع التمرين ويؤديه كل صباح عند استيقاظه.
لذلك من أجل نفسه، وباختياره وحده، بدأ تمرينا يوصي به طبيب في العلوم الصحية شديد المهارة لكل الرجال والنساء ليتمتعوا ببدن قوي. كان في أغلبه عبارة عن تمدد وانكماش في الصباح الأول، لكنه تطور في الأيام التالية إلى تمرين متوازن فيه مط لكل عضلة في جسده وشد لها. وبعده يستلقي ليستريح نحو نصف ساعة، ثم يذهب ليقوم بأعماله اليومية وفي جسده إحساس وفي قلبه وذهنه حماس لم يتوقع قبل بضعة أسابيع قصيرة أن يشعر بهما مرة أخرى. ومن ثم بدأ يدرك أن الحرارة والتوتر العصبي في سبيلهما إلى مغادرة جسده بطريقة ما. كما بدأ يشعر بشبع هادئ في معدته كأن هناك تيارات باردة تجري في أوردته بدلا من الدماء المسممة المؤلمة. ونتيجة لهذا الشعور أصبح يستطيع أن ينجز حجما أكبر بكثير من الأعمال بين النحل ومع الزهور.
وحينئذ أدرك أن أوان حاجته إلى مساعدة يقترب سريعا . فسوف يحتاج إلى مساعدة حين يتطلب الأمر فحص القفائر والتأكد بشكل قاطع من أن كل قفير به ملكة سليمة وسعيدة، وأنه لم يزحف أي مرض إليه. كما أن مسألة جمع العسل صارت وشيكة، وبدا أنه من الوارد وجود عدد كبير جدا من الملكات. ومن ثم فإنه حين ذهب إلى المستشفى في المرة التالية لزيارة سيد النحل سأله أين يستطيع الحصول على مساعدة حين يتطلب الأمر ذلك، فأعطاه سيد النحل عنوان جون كاري، مربي نحل آخر كان قد تبادل معه الخدمات من حين لآخر في أوقات جمع العسل وإبعاد النحل عن الخلية.
حين جلس جيمي بجانب سيد النحل وأدام النظر نحوه، بدا له أن كل يوم يمر كان يشكل مرحلة واضحة من ويلات المرض الذي راح يهلك الجسد الهزيل أمامه. وفي كل مرة يذهب لزيارته كان يدرك أن سيد النحل لم يعد لديه صوته القوي المعهود، وأن قبضة يده قد ضعفت بعض الشيء.
بعد أن انتهى من كتابة العنوان والإنصات للتعليمات التي أعطاه إياها سيد النحل، جلس جيمي ينظر إلى الوجه العجوز الوسيم على الوسادة، ببشرته الشاحبة، وشعره الحريري، وبدا له أن ثمة قدرا هائلا من السلام والهدوء يتنامى على الجبهة وفي العينين يوما بعد يوم، وتأمل ما كان الكشافة الصغير قد قاله بشأن النوع الجميل من الموت الذي يأتي وديعا في الليل، وتساءل إن كانت تلك التجربة قد تأتي إلى سيد النحل في أي ليلة من الآن.
لا بد أن الفكرة نفسها كانت تدور في ذهن سيد النحل أثناء سيطرة هذه الأفكار على ذهن جيمي. فقد بدا صوته خفيضا جدا وعيناه متعبتين تعبا غير عادي حين قال: «جيمي ماكفارلين، فلتتخيل أن الزمن عاد بك وابدأ من البداية واحك لي كل شيء عن أمك التي حملتك وأبيك وأي بيت ترعرعت فيه.»
وكانت آنذاك هذه هي المواضيع التي يستطيع جيمي ماكفارلين الحديث عنها بفصاحة عند أقل تشجيع؛ لأنه أحب أباه وأمه لسبب وجيه. فقد كانا صارمين تماما شأن الاسكتلنديين، لكنهما في الوقت نفسه يفيضان مثلهم باللطف والحب والرقة، فكانت ذكرياته عن منزله وطفولته من الأشياء الجميلة. جلس جيمي بجانب الفراش وقد سقط الضوء القادم من النافذة على وجهه، وتحدث على مهل بالتأني الذي يبحث عن النقاط المهمة، وبالتلقائية المحبة التي تضيف التفاصيل الصغيرة التي توضح الصورة كاملة. بعد أن فرغ من الوصف الأخير لعودته للديار من الحرب وصدمته لدى معرفة أن كليهما قد رحل وأنه لم يعد لديه أي شيء، جلس ساكنا تماما، مرسلا نظره عبر النافذة، وكان صوت سيد النحل هو ما أعاده.
إذ سأله: «وماذا حدث بعد ذلك؟»
فبدأ جيمي حديثه من جديد وأنهى القصة. وقد حكاها بصدق، من دون أي تحريف البتة إلا إغفاله ليلة العاصفة والنتائج المترتبة عليها.
بعد أن فرغ من الكلام، ابتسم سيد النحل له، ثم قال: «ماذا عن النحل والأسابيع التي قضيتها بينهم في الحديقة الزرقاء؟»
أجابه جيمي قائلا: «بخصوص حالتي الذهنية، فإن الوقت الذي قضيته في منزلك محاولا رعاية نحلك وزهورك وأشجارك هو أجمل وقت عشته في حياتي كلها. فقد بدأت بنار متقدة في صدري وكآبة مريرة في قلبي وعقلي؛ لكن بطريقة ما، بسبب شيء قاله الكشافة الصغير لي، وبسبب الهواء النقي وأشعة الشمس المنعشة والجمال المحيط بي من كل جانب؛ تسلل إلى قلبي وعقلي نوع من الجمال المماثل، وأعتقد أنه طغى على جزء كبير من الكآبة المريرة. لقد كنت متعبا غاية التعب حين أتيتك مترنحا على الطريق لأحاول مساعدتك على بلوغ المستشفى حتى إنني لا أستطيع أن أصف حالتي الجسدية أو الذهنية حين أتيت. لكنني أدرك أنني اليوم أنجزت في الحديقة نحو ضعف كمية العمل الذي أديته في أول يوم حاولت فيه بحق أن أرعى مصالحك.»
حرك سيد النحل يديه النحيلتين فوق الغطاء. وأضاءت ابتسامة نادرة وجهه.
وقال: «هذا أمر جيد!» ثم أضاف: «حسنا! إذن هل تشعر أنه إذا أخرجوني من هنا محمولا ذات يوم وأعادوني إلى المنزل، كحطام رجل لا أقوى على الوقوف على قدمي والقيام بعملي، هل تشعر أنك ستود البقاء معي، وتحاول تعلم أمور النحل منذ نشأته وهو بيضة حتى نهاية دورة حياته؟»
قال جيمي: «يسعدني ذلك.» وتابع: «يسعدني أن أخدمك وأساعدك على استعادة عافيتك على النهج نفسه الذي وضعته لنفسي.»
وهنا راح يشرح لسيد النحل النهج الذي وضعه لنفسه، فهتف الصوت العجوز الرقيق مرة أخرى قائلا: «حسنا! إنه نهج ممتاز، أستطيع رؤية أنك في تحسن. في كل زيارة تأتي خلالها لتبهج الرجل العجوز قليلا، أستطيع رؤية أن بشرتك تكتسب لونا أكثر صحة، وأن الشعاع الأزرق للألم والإحباط يتلاشى من عينيك. إنك حتى تتحدث بصوت أقوى، بثقة رجل امتلك زمام روحه. إنني واثق أنك ستجد سبيلك إلى الصحة والسعادة في الحديقة التي تكاد تكون هي الأقرب في منحي السلوى من بين جميع الأشياء التي جربتها على الإطلاق.»
ظل سيد النحل راقدا بلا حراك وتمهل وقتا طويلا. ثم قال لجيمي: «قد يبدو لك أن الثقة التي طلبتها منك لا بد أن تقابل بثقة تساويها، لكنني أجد أن ضعفي قد جعل مني جبانا. إذا أردت ذات يوم من الأيام أن تعرف أي شيء يخصني، فلتسأل مساعدي الصغير. كنت أمر بساعة حالكة السواد حين تدلى قائد الكشافة الصغير من فوق سياجي الجانبي ليدخل قلبي وحياتي بثقة شديدة لدرجة أنني حين حانت هذه الساعة المؤلمة، وقبل أن أدرك ما فعلته ألقيت عبئي بأكمله على عاتقي طفل، فقط لأتعلم أنه مهما بلغ تفكير الطفل من جدية، ومهما كانت مشاعر الطفل عميقة، لا يبدو أن لديه قدرة كبيرة على حمل الأعباء. إذ إن الأطفال مشغولون للغاية بالنمو، وبتسلية أنفسهم، واكتشاف العالم الرائع من حولهم، والانسياق وراء دوافعهم للاستكشاف والشجار، حتى إنه ليس من الوارد كثيرا أن تثقل كواهلهم الصغيرة بالمسئولية تجاه أي شخص آخر إلا إذا أخذتهم مصادفة من رفاقهم، ومن لهوهم، وأثقلتهم بأعباء مزعجة لمسئوليات ثقيلة غير طبيعية، وهذا غالبا ما يولد التمرد في قلوبهم الصغيرة. إن الكشافة الصغير يعرف لماذا تركت دياري ودائرة كبيرة من الأصدقاء وجئت هنا وحدي، واستصلحت فدانين من الأرض الصخرية وبدأت بعدد قليل من القفائر إلى أن أصبحا فدانين من البهاء وبنيت وسطهما قفائر لملايين السكان الصغار المحتشدين في الحديقة. يعلم الكشافة الصغير بمشكلاتي، لكن يعلم الله أنني لست بقادر على حكي تلك القصة مرة أخرى! إذا جاء اليوم وشعرت أنك بحاجة إلى أن تعرفها، فأخبر الكشافة الصغير أنني سمحت بأن تحكى لك، وسوف تسمع رواية دقيقة عما جاء بي هنا، وعن الألم المضني الذي تحملته، والراحة التي وجدتها في بهاء أشعة الشمس وغناء البحر، وفي علاج الزنابق وعزاء الورود، وفي عمل شاق مع أكثر فروع تطور الحياة إثارة للاهتمام في العالم بأسره. لقد تعمقت بعض الشيء في دراسته. وأؤكد لك أنك لن تجد في تطور أي كائن حي من كائنات العالم أجمع عمليات حيوية أكثر تعقيدا وأكثر إثارة للاهتمام لحد الشغف، ولا أقرب للبشر من تطور النحل. أرجو أنك تحصل على فائدة جيدة من قراءة كتب النحل.»
قال جيمي: «أجل، إلى درجة الاستغناء عن أي شيء آخر. لقد نصحني الكشافة الصغير بأن أبدأ بالكتب التي تحتوي على «نكات عن النحل» على حد قوله حرفيا. وقد كانت النكات مسلية للغاية حتى إنني انهمكت فيها. لكن حيث إنني أريد أن أؤدي عملي بأمانة مقابل الأتعاب التي تقاضيتها، فقد أدركت أنني لا بد أن أعمل بفطنة. لذلك سرعان ما وضعت النكات جانبا وعدت إلى الواقع. وقد تطورت معرفتي لدرجة أنني أصبحت قادرا على التعرف على الملكة، والتفرقة بين الملكة الإيطالية والملكة الألمانية، وأستطيع أيضا التفرقة بين الممرضة والذكر وبين الذكر والعاملة. فعن طريق دراسة قفير المراقبة لساعات طويلة أصبحت محيطا تماما بما يجب أن يجري بداخل كل واحدة من القفائر في تلك الصفوف الطويلة. كان في نيتي أن أدرس تقليم الأشجار، كما أخبرتك، لكن أعتقد أنه ما دام لدي تلك الفرص لأن أصبح معافى، وما دمت ليس لدي أقارب، فمن الأفضل أن أبقى في الهواء وأشعة الشمس نفسهما اللذين على ما يبدو يعملان عمل السحر الذي أحتاج إليه لأصبح رجلا مكتمل الصحة .»
وافقه سيد النحل ببطء.
وهو يقول: «أجل، أعتقد أنك على حق. أعتقد أنك على حق. وأعتقد أنك حتى قد تجد قدرا أكبر من إثارة الحماس في العمليات الحيوية المعقدة والدقيقة لدى النحل عن العمل مع الأشجار عديمة الحس التي تنمو لأنها مجبولة على ذلك، فمهما كانت مثيرة للاهتمام، ومهما كانت بديعة، تظل حقيقة أنها لا تستطيع أن تأتي عمليات حيوية تقارب كثيرا التفكير والاستنتاج مثل النحل.»
قال جيمي: «لقد قررت تماما أن أدرس باجتهاد. وأنا أتقدم بحرص، فإن أعطيتني الفرصة سأجعل عملي بين النحل.»
قال سيد النحل: «ومن ناحية الموقع. ما رأيك في موقعي؟»
ابتسم جيمي. «لدي معرفة بساحل المحيط الأطلنطي وبعض الدول الخارجية. لقد رأيت سواحل إنجلترا وفرنسا وتجولت في أنحاء هذه القارة. تقتصر كل معرفتي بالمحيط الهادئ على الخليج الواقع أسفل منزلك، لكنني متأكد تماما من أنه لا يوجد في هذا العالم كله ما هو أجمل من حديقتك ذات الزرقة الصافية. هل تتذكر أن الصينيين القدماء كانوا يسمون الأزرق (اللون المثالي)؟»
هز سيد النحل رأسه مؤيدا.
وقال: «لقد كان لي في تلك الحديقة ذات الزرقة السماوية، يا أيها الشاب، أيام أنعم علي فيها الله بالراحة، حيث سقطت من ذاكرتي لوهلة صورة طفلة ذهبية الشعر، وحيث انمحى لبعض الوقت ألم الخطيئة التي ارتكبتها في حق المرأة التي أحببتها. وما دامت استطاعت أن تفعل ذلك برجل يحمل العبء الذي كان من نصيبي، فهناك فرصة أن يجد شاب مثلك صحيح البدن وبقلب خال من الأسرار النعمة الكبرى نفسها بفعل الخير يوميا.»
نظر جيمي إلى سيد النحل وانقبض. ظل برهة جالسا وشفتاه مفتوحتان ولسانه مستعد لصياغة الكلمات، ثم تبين أنه ليس من حقه أن يحدث بسر إلا إذا كان سره وحده. فليس من حقه أن يتحدث عن امرأة العاصفة. ليس من حقه أن يخبر أي رجل بطفل الخطيئة الذي تستر عليه باسمه. إن كان في المعروف الذي فعله أي شيء نبيل، فسوف يفقد سمته الطيبة، وما قد يحمل من جمال، إن تكلم عنه. إن عاش، فربما تفضي تلك المرحلة من مغامرته إلى شيء آخر. وإن مات، فسوف يواجه خالقه رجلا بحق إن ظل متكتما بخصوص الموضوع الذي ساق امرأة غاية في النبل مثل السيدة التي تزوجها إلى المسار الذي اتخذته.
قال سيد النحل: «حين تأتي المرة القادمة، ليكن يوم السبت، وأحضر قائد الكشافة معك. إنني شغوف بذلك الكشافة الصغير بشدة حتى إنني مشتاق إلى عبق الخيل، والرائحة النفاذة للكلاب وكل روائح الطبيعة التي تنتشر أينما ذهب قائد الكشافة.»
مال جيمي إلى الأمام بابتسامة عريضة على وجهه.
وقال: «هل تستطيع أن تعطيني أي معلومة دقيقة بشأن جنس قائد الكشافة، وليكن سرا بيننا؟»
مال سيد النحل إلى الوراء.
وقال: «لا تزيد معلوماتي عن استنتاجاتي الخاصة.» ثم أضاف: «وليس من الإنصاف تجاه قائد الكشافة أن يعامل بالتخمين. هل سبق أن تحدثت معه مطلقا في هذا الموضوع؟»
قال جيمي: «لقد سألته سؤالا مباشرا.»
استفهم سيد النحل قائلا: «وماذا قال لك؟» «قال إنني ما دمت لا أستطيع أن أعرف، فلا يوجد أي فرق.»
عاد سيد النحل برأسه إلى الوسائد متقلبا عليها. وراح يضحك حتى جاءت الممرضة مسرعة. وبينما كان يجفف عينيه بالمنديل الذي أعطته إياه، قال: «حسنا، حقا إذن، أليست تلك الحقيقة؟ هل يحدث ذلك أدنى فرق؟»
قال جيمي: «لا أعتقد ذلك.» وتابع: «وإنني متأكد أنه لم يحدث أي فرق معك كما يبدو. ولا أرى داعيا لأن يحدث ذلك فرقا معي.»
وعندئذ نهض ليرحل.
وقال: «سنأتي يوم السبت، وأعتقد أنني سأسأل ما إن كنت جئت بشطيرة «السجق» على النحو الصحيح.»
مد سيد النحل يده أسفل الوسادة وأخرج ظرفا صغيرا؛ ظرف أدوية صغيرا.
وقال: «إن سألني فالشيء الوحيد الذي لم أفعله قط هو الكذب على مساعدي الصغير. سأخبره بالحقيقة. سوف أريه النقود وهي منتظرة أسفل الوسادة إلى أن يقرر الطبيب السماح لي بالحصول على الهدية.»
قال جيمي: «فهمت، وأعتقد أنك على حق. لا أعتقد أننا نفلح بالأكاذيب التي نخبر الأطفال بها.»
قال سيد النحل بصرامة: «لا نفلح بالمرة . لا نفلح بالمرة. فإنهم يفضحون أمرنا أو يكتشفون خداعنا لاحقا في كل مرة.»
نهض جيمي ومضى نحو الجانب الآخر من الفراش وتناول يد سيد النحل، ثم انحنى وطبع شفتيه على جبهته، وقبل أن يدرك ما كان يفعله وجد نفسه جاثيا على ركبتيه بجانب الفراش. وسمع صوته وهو يقول: «حين كنت صغيرا علمني أبي وأمي أن أصلي. وخلال السنوات التالية كنت شديد الثقة من نفسي وكفاءتي حتى إنني أصلي خطفا، لكنني مؤخرا، منذ أن بلغت المرحلة التي استطعت أن أقول فيها صادقا، كلمات الترنيمة القديمة؛ «ليس لي ملجأ سواك»، عدت زاحفا جاثيا نحو قدم العرش. وإنني أتساءل، إن كان مما ينسجم مع الخطة الإلهية، أن أستعيد قوتي وشبابي، بحيث يمكنني أن أقدم بعض العون في جعل بلدي مكانا طيبا للعيش، والعمل، والحب. سوف أعود للمنزل وسوف أركع بجانب فراشك، وسأطلب من الله إذا كان فيه خير لك أن يتيح لك الرجوع للمنزل، ويمنحك عمرا أطول، والمزيد من الوقت لتستمتع بالجمال الذي صنعته، وإذا لم تكن هذه خطته، فسوف أسأله أن يعطيك الراحة التي يقول قائد الكشافة إنها منحت للعمة بيث العزيزة.»
ابتسم سيد النحل.
وقال: «لقد سمعت تلك القصة. أخبرت بها عند حدوثها. كان من الرائع جدا أن يتسنى لهذين الطفلين إدراك ذلك المعنى الجميل عن الرحلة للعالم الآخر، وإنني متأكد تماما من أنه المعنى الصحيح.»
قبل جيمي جبهة مربي النحل، ثم رفع إلى شفتيه يدي الرجل العليل النحيلتين، واستدار، ليغادر الحجرة بهدوء. وبينما هو ذاهب، مر بوعاء أزرق جميل امتلأ حتى فاض بالمزيد من الورود الصفراء التي لم يرها تنبت إلا في حديقة مارجريت كاميرون.
طوال الطريق إلى المنزل ظل جيمي مستغرقا في التفكير. هل سيصبح سيد النحل قادرا يوما ما على العودة إلى المنزل بواجهته البهية المقابلة للطريق، والحديقة الساحرة المطلة على البحر؟ هل سيجلس مرة أخرى على الإطلاق على كرسيه الكبير بجانب المدفأة ويقرأ كتبه المفضلة؟ أدرك جيمي أنه لم ينتظر الوصول إلى المنزل وجانب فراش سيد النحل حتى يتقدم برجائه. فقد راح يتضرع إلى الله بينما يستقل الترام وسط الشوارع المضطربة للمدينة، المزدحمة على الجانبين بأناس مشغولين بشئون الحياة، ليمنح ولو مهلة قصيرة للرجل الذي ما لبث أن دأب على تبجيله.
وبعد أن غادر الترام سار على مهل صاعدا الطريق المؤدي إلى منزل سيد النحل. دخل المنزل ووقف دقيقة دون حراك، ثم سار نحو الهاتف، واختار من قائمة أعدها الرقم الذي كان الكشافة الصغير قد أعطاه إياه. وحين اتصل به، أجابه صوت امرأة عذب وحلو.
عندئذ قال جيمي: «أنا جيمس ماكفارلين من منحل سييرا مادري. هل قائد الكشافة موجود؟»
فجاءه الرد: «غير موجود الآن.»
فسألها جيمي وقال: «هلا حرصت على إبلاغه بهذه الرسالة؟ لقد ذهبت إلى المستشفى في زيارة إلى سيد النحل. وإنه يتوق لرؤية مساعده الصغير. وطلب مني أن يزوره السبت القادم تحديدا. ورأيت أنه من الأفضل أن أخبرك بالأمر قبل إعداد العدة مع الفتيان لإقامة رحلة استكشافية أو جولة من نوع ما.»
قال الصوت على الطرف الآخر من الخط: «نعم، إنها فكرة حسنة. سأدون الرسالة وسأحرص على أن تصله. أود أن أعلم كيف حال سيد النحل.»
فقال جيمي: «يصعب وصف حاله. فإنه يبدو في غاية الوهن حتى إن أي تيار هواء شديد يأتي من النافذة التي بجانبه قد يجهز عليه.»
فأجابه الصوت الرقيق وقال: «يا للأسف. شيء مؤسف جدا. إن الأطفال يحبونه حبا جما. الكل يعلم أنه من صنف الرجال الكرام.»
قال جيمي: «أجل، هذا ما أراه أنا أيضا. فإن منزله هذا، ومكتبته، وحجرته، والصور المعلقة على جدرانه، والأثاث الذي يستخدمه، كل شيء يدل على أنه غاية في الرقي.»
فأجابه الصوت عبر الهاتف: «لقد سمعت عنك. ما دمت راقيا لدرجة تقدير سيد النحل غاية التقدير، فهذا يدل على أنك أنت نفسك شخص طيب. وإنه يسرنا أن تأتي ذات يوم مع صغيرنا وتتناول معنا العشاء.»
قال جيمي: «بالقطع، شكرا لك!» وتابع: «إنه لكرم شديد منك. لقد ظللت متوعكا وأتحاشى الناس لوقت طويل، لكن أعتقد أنه سيسعدني أن آتي مع قائد الكشافة ذات مساء، حين لا يكون عندكم ضيوف والجلوس بصحبتكم لساعة.»
فقال الصوت الذي أحب جيمي كل نبرة من نبراته: «اتفقنا إذن. فلتأت متى أحببت. فلدينا دائما على مائدتنا طعام كاف لشخص آخر ومساحة لإقحام مقعد زائد. تعال في الحال متى وددت!»
أغلق جيمي الهاتف ونظر حوله. لم يكن لديه مزاج للقراءة. دخل المطبخ واحتسى حصته اليومية من عصير البرتقال، وحين وصل إلى الباب الخلفي كان ثمة نداء في الهواء، نداء لباه بدمائه. إذ نزل المسار الخلفي وخرج من البوابة ومضى إلى أكمة زهور الربيع الخاصة به. فتمدد على الرمال، وشد قبعته فوق عينيه ليظلهما من الشمس، منسجم الجسد مع منحنيات الأكمة، وفي الحال غاب عن الوعي في غيبوبة من النوم العميق المستغرق المنعش.
وبعد برهة استيقظ، وقبل حتى أن يستعيد انتباهه تماما، تشمم الهواء بأنف مستقص. وقال جيمي محدثا نفسه: «يا للعجب! لقد اخترت هذه الأكمة لمنحناها شديد الإغراء بالجلوس، لكنني لم أر عليها أيا من زهور رعي الحمام الرملي.»
أخذ جيمي نفسا عميقا ليتأكد من أنه لم يخطئ بشأن العبير الذي اختلط مع زهور الربيع حوله. وأدرك أنه مع اقتراب المساء تتفتح زهور رعي الحمام لتنشر شذاها الطيب جدا. وحينئذ فتح عينيه واستقام لينظر حوله، فاكتشف أن يده اليمنى كانت مليئة بزهور رعي الحمام. راح يحدق فيها، ثم استدار سريعا مستندا إلى ركبتيه متفحصا الشاطئ طويلا من أقصاه لأدناه، ثم غير اتجاهه وجعل يبحث الرمال بعينين متلهفتين.
كانت هناك. أثر قدم لامرأة، ليس الأثر مدبب المقدمة والكعب الذي كان يراه أحيانا غائرا في الرمال. أثر قدم مخصصة للعمل، في حذاء معقول في عرضه، وغريب في طوله، ذي كعب يدل على رجاحة العقل بلا ريب. نهض جيمي، وأمسك بزهوره، واقتفى ذلك الخط من آثار الأقدام طوال الشاطئ وصولا إلى العرش. بقلب يدق دقا عنيفا ورأس يدور، تسلق إلى العرش وجال فيه ببصره، فشعر بخيبة أمل شديدة حين وجده خاليا. اتخذ مقعده أقصى الجنوب ليفكر. ظل هناك، وأخذ يتشمم بحرص الصخور بجانبه. فوجد أن عبق المريمية، وعبير رعي الحمام، وزهور الربيع، كانت واضحة للغاية. وحتى لا يضيع وقتا، سلك طريقه هابطا الصخرة. إلا أن الآثار المؤدية إليها لم تتصل. فالسبيل من العرش إلى الطريق أعلاه مكون من حصى وأحجار صغيرة وصخور لا يمكن تمييز آثار الأقدام عليها. لا بد أنها سلكت ذلك السبيل. من ثم فقد أخذه جيمي. لكنه حين بلغ الطريق لم يستطع أن يرى أثرا لأي شخص يشبه ولو من بعيد شكل الفتاة التي كان يبحث عنها. فعاد أدراجه إلى العرش ومشى الطريق الذي سلكه، ومن عند أكمة زهور الربيع التقط الأثر واتبعه جنوبا على امتداد الشاطئ حتى فقده بين زهور الربيع ورعي الحمام المتشابكة، ووسط نباتات التين الحامض. وفي الموضع الذي فقده فيه بالضبط اكتشف جيمي السبب الذي جعله يفقده. فقد محاه وطء عشرات الأقدام الصغيرة، آثار أقدام صغيرة مرحة، كلها آثار أقدام أطفال. مضى جيمي مندفعا في الشاطئ، وفجأة وجد موضعا كان فيه أثر القدم الذي كان يبحث عنه واضحا في الرمال بجانب الموقع الذي تنمو فيه زهور رعي الحمام، وكان حوله من جميع النواحي مرة أخرى أسطول آثار أقدام الأطفال الطامسة لأي شيء.
بعد ذلك ذهب جيمي إلى المنزل. حيث فتح البوابة وأغلقها بحرص خلفه. وفي منتصف الطريق وهو صاعد السلم جلس. وللمرة الأولى حمل الزهور التي كانت في يده إلى مجال نظره.
قال جيمي لنفسه: «هل هذا معقول!» وتابع: «هل هذا معقول! كانت قاب قوسين مني، وأنا نائم! لا بد أنني حجر لا بشر.»
جلس يحدق في الزهور الرقيقة بلونها الأرجواني المائل للوردي التي كانت، كعادتها في المساء، متفتحة عن آخرها من حرارة يده وتنشر حوله نفحات غاية في الرقة والخفة من عطرها الفريد. وإذا بجيمي يتطلع نحو البحر.
ويقول: «إنني مصيب إذن.» وأضاف: «إنها تعيش في مكان ما قريبا من هنا. أو ترتاد هذا الشاطئ على الأقل. وقد عرفتني حتى ووجهي مغطى. وإنني، من تلك الناحية، بإمكاني التعرف عليها من هيئتها أكثر من وجهها! لكن ما الهدف من ملء يدي بأجمل الزهور الصغيرة في العالم كله إذا لم تكن تريد مني شيئا آخر؟»
قلب جيمي الأمر على وجوهه ممعنا، ثم حدث المحيط الهادئ به.
إذ قال: «لنفكر في الأمر، لقد أديت مهمتي معها. وحصلت على الاسم الذي طلبته. ولديها الخاتم ولديها العقد. ولا تريد مني أي شيء آخر، لكن هذا يثبت أنني على بالها، أنها على الأقل لم تستغلني وتنسني.»
حينئذ استبعد جيمي المحيط لكونه محايدا بعض الشيء وقصر نفسه على الزهور. فحملها برقة بأصابعه الرشيقة ونظر إليها بعينين شغوفتين متساءلتين.
وقال: «ليتك كان بإمكانك الكلام. ليت وجوهك الصغيرة باستطاعتها أن تخبرني بما رأيته في وجهها وهي تجمعك. ليتني أعلم بالضبط ماذا كان في قلبها. ليتني أعلم ما إن كانت متأكدة تماما من أنها انتهت مني، أو إذا ما كان بيدي شيء آخر أفعله من أجلها.»
ثم انتفض جيمي وجلس منتصبا. «يا للهول!» قال مخاطبا هذه المرة زهرة خطمي صفراء وجميلة جمالا غير عادي طويلة للغاية ومستقيمة للغاية نمت بجانب العريشة. ثم تابع: «يا للهول! إنني لست على يقين تام من أنها ستجد مني أي فائدة أخرى إن كانت تريدني حقا! ثمة فرق بين أن تقدم اسما لا يفيدك بأي شيء وجسدا لن يلبث طويلا على سبيل الترضية لتجفيف دموع امرأة، ليست دموع ندم، ولكن دموع خوف، الخوف من إعراض العالم عن الموصومين بالعار، الخوف من عيني طفل يملؤهما الاتهام وهو يحدق في وجهها ويجدها خائرة، وأن تفعل ما تقدر عليه في حين أن الوقت المتاح لك لفعل أي شيء محدود للغاية. لم يتبق سوى بضعة أيام على نهاية هذا الشهر، وإذا تفحصت مارجريت كاميرون صدري وقالت بصدق إن الخطر في طريقه ليزول من الجرح، وإذا لم أكن أخادع نفسي بالاعتقاد بأنني أصبحت رجلا ناضجا أكثر مما كنت عليه طوال ثلاثين عاما، فسينشأ احتمال آخر. احتمال لم أحسب له حسابا حين أقدمت على مغامرة الزواج. وإنه احتمال يحتاج إلى قدر كبير من التفكير. فلا يليق بأي رجل أن يدعي أنه أتقى من غيره، لكن يجدر بالرجل، في الوقت نفسه، أن يفكر مليا قبل أن يقرر ما إن كان يريد أن يتولى تربية طفل أنجبه رجل يحمل في شخصه خصلة الحقارة التي جعلته يتوانى عن منح ابنه شرف أن يكون له أب.»
تأمل جيمي الأمر. ظل يفكر وقتا طويلا. يفكر باستغراق وتمعن. يفكر من منطلق التعصب الاسكتلندي. فتذكر الاعتداد بالنفس. وفكر من منطلق الرأي العام. ثم طرح كل شيء جانبا وفكر من دون مواربة. فتسلل إلى رأسه من مكان ما عبارة قانونية. ألا وهي: «ظروف مخففة.» لم يستطع أن يفكر في جسد فتاة العاصفة الذي ضمه بقوة بين ذراعيه، ولا أن يفكر في شعرها الحرير وعطر أنفاسها والروائح البرية التي أحاطت بها، ولا أن يحمل نفسه على أن يراها إلا نضرة وشابة وسليمة جسدا وعقلا. لم يكن مقبولا بالمنطق أن تكون قد دنست جسدها ولوثت روحها، وأن تكون خالفت شرائع الله وانتهكت قوانين البشر، وعرضت نفسها بل حياة طفل لما يأت بعد، لإصبع الازدراء، ذلك الشيء الفاضح المدمر الذي يوجه من دون تمعن.
قال جيمي محدثا طائر محاكي شديد النباهة تصادف أن حط على أحد عمدان العريشة بقربه في تلك اللحظة: «أيا كان الذي وضع تلك العبارة القصيرة «إصبع الازدراء» فهو لم يوفها حقها من القوة بتاتا. كان لا بد أن يدعوه قضيب الازدراء الملتهب، الحديد الذي يغرس في صدر امرأة فيظل طوال أيامها يكوي روحها ويشتعل من جديد في أي لحظة على حين غرة، وكل ذلك لأنها ربما أحبت للحظة رجلا حبا شديدا أكثر مما أحبت نفسها حتى إنها ربما خاطرت بروحها وخسرتها، من وجهة نظر العالم. لكنها نعمة أنها لم تخسر روحها عند الله؛ فهناك المجدلية التي غفر لها، وقد كانت المجدلية بغيا وربما استحقت ما فعله بها الغوغاء. لكن الله غفر لها رغم كل شيء، ولا يليق أن يعطف الله على امرأة ولا يعطف عليها رجل اسكتلندي .»
هز الطائر المحاكي ذيله ونظر إليه بانتباه وقال، مقتبسا قول طائر صفارية على شجرة برقوق في الحديقة: «مرة أخرى! مرة أخرى!»
ابتسم جيمي.
وقال: «هل علي أن أفعل أفضل مما فعلت؟ حسنا، ماذا لو قلت إنني سأخل بوعدي بألا أحاول البحث عن فتاة العاصفة، وشرعت في البحث عنها بإصرار؟ وماذا لو قلت إنني أشعر بصدق وبحق أن «الظروف المخففة» تشفع لها، وإذا آل بي الحال، لنقل خلال سنة من الآن، وصرت رجلا معافى البدن، فربما عندئذ تتغاضى عن ندباتي وربما تستطيع أن تشرح لي ما حدث، وربما نستطيع العثور على شيء جميل بحق في الحياة معا؟»
هنا تذكر الطائر المحاكي تغريدا كان قد سمعه على نخلة بلح في المكسيك من طائر أحمر قان، وصاح مرددا إياه على رأس جيمي مباشرة: «مرحى! مرحى! مرحى!»
فنظر جيمي إلى الزهور مرة أخرى ولاحظ أن رءوسها الجميلة بدأت تتدلى. فنهض وهم بالبحث عن الوعاء النحاسي الصغير ليضعها في الماء. وبعد أن نسقها بحرص شديد في الوعاء، حملها إلى غرفة النوم ووضعها على المنضدة القائمة بجانب الفراش التي يمكن تقريبها من وسادته.
ظل جيمي طوال ما تبقى من اليوم يسير متعثرا، ليس من ضعف؛ ولكن لأنه كان يحلم حلما استحوذ على انتباهه تماما.
الفصل الثاني عشر
رؤية ما وراء الحجب
أمضى جيمي ما تبقى من ذلك الأسبوع، بخلاف الوقت المستغرق في تنفيذ النظام الذي وضعه لنفسه، في الحديقة ومع الكتب. وأصبح في رعايته الأشجار والزهور ماهرا وخبيرا. إذ كان قد تعلم كيف يجعل الزهور مزدهرة وصحيحة في مناخ نيو إنجلاند الفقير. لكن مع وجود المياه بوفرة، وشمس لا تكاد أشعتها تنقطع، ونهارات دافئة وليال باردة، ضبابية في أحيان كثيرة جدا، وجد جيمي نفسه يواجه وجها مناقضا لكل ما عرفه عن البستنة. ومن ثم تعلم سريعا جدا أن مهمته في الأرض شديدة الثراء بأشعة الشمس والمياه، لا أن يحفز الزهور على النمو، وإنما أن يشذبها حتى يوجه طاقة النبات نحو إنتاج الزهور مباشرة. كذلك تراكم لديه الكثير من المعرفة بالحدائق من مارجريت كاميرون، أشياء عملية كانت قد تعلمتها بالتجارب: كيف يفكك التربة، وكيف يسمدها، وكيف يرويها بحرص وبالقدر اللازم. وتعلم جيمي بالفعل كيف يشذب النباتات محققا الهدف المرجو. وسريعا ما تعلم ماذا يفعل للحفاظ على الزهور بدلا من الأوراق.
ظل طوال الأسبوع يتطلع إلى يوم السبت، ويخطط لليوم الذي سيذهب فيه هو والكشافة الصغير لزيارة سيد النحل. وقد حدد ميعاد ذهابهما عند الساعة الثانية. وفي الساعة الثانية وخمس عشرة دقيقة تدلى الصغير من فوق سياج الأوتاد الخشبية العالي وجاء يعدو في الممشى. وكان جيمي مندهشا بعض الشيء. إذ توقع، من السلوك السلس العملي الذي أدار به الكشافة الصغير المعركة مع الهنود، أن يبدي القدر نفسه من اليقظة والمسئولية في الحفاظ على مواعيده.
كان منتظرا على المقعد تحت شجرة الجاكرندا حين طار الجسد الصغير من فوق السياج. وحين تأمل الكشافة الصغير عن قرب، خال لجيمي أنه اكتشف آثار دموع سالت حديثا. كانت أشفار عينيه فيها شبهة احمرار، ووجنتاه يشوبهما أثر لا ريب فيه لحزن طفولي. في الحال انتفض قلب جيمي احتجاجا. من ذا الذي سولت له نفسه إيذاء الكشافة الصغير؟ ماذا، غير قرصة نحلة، يمكنه أن يدفع للبكاء روحا صغيرة غاية في الشجاعة؟ من دون التمهل للتفكير، مد جيمي ذراعيه. ومن دون التردد لحظة سار الكشافة الصغير إلى ذراعيه مباشرة ووضع رأسه مطمئنا على صدره، فضم جيمي ذراعيه حوله بإحكام. «هل سقطت وأصابك أذى؟»
استطاع جيمي أن يشعر بهزة النفي في كتفيه والغصة في حلقه.
قال جيمي: «معذرة، لكن لكي لا نتأخر على سيد النحل؛ لا بد أن نغسل وجهك ونمضي.»
وفي الحال وقف الكشافة الصغير منتصب القامة. «نغسله! نغسله! ألا تستطيع أن ترى من نظرة واحدة لي أنني قد تحممت بماء ساخن وفركت وتمشطت تمشيطا عنيفا؟»
قال جيمي: «يبدو عليك فعلا أنك قد تحممت جيدا.» وتابع: «إنها منطقة عينيك فقط التي بحاجة إلى اهتمام بسيط.»
فقال الكشافة الصغير: «أوه، حسنا، ما دمت تقول إنني بحاجة إلى ذلك فأظن أنني بحاجة إليه. لقد واجهت مشكلة طالت كثيرا جدا مع أمي والأميرة حتى إنني ظننت أنني لن أخرج أبدا. تتعبني النساء أشد التعب!» «ماذا حدث مع السيدات؟» سأله بينما يتقدمه إلى الحمام، ثم بلل قطعة قماش، وبدأ العمل ليتأكد من إجرائه على نحو صحيح. وقد فوجئ بأن الصغير وقف ساكنا ورفع إليه وجهه راضخا، وبينما راح جيمي يعمل، واصل الطفل الكلام فقال: «أوه، أمي دائمة التذمر بشأن تنظيف أظفاري وإخراج الشمع من أذني، والشعر الهائش في رموشي وأظافر قدمي المغروسة في اللحم! إنك لترهق نفسك إذا حاولت أن تعطي أي اهتمام لكل الأشياء التي تريدها النساء. أما بخصوص الأميرة، فإنني سأتنازل عن أفضل مطواة جيب لدي إذا وافق أبي على رفتها.»
قال جيمي: «يرفت أميرة؟» وتابع: «إنك تقترح إجراء غير لائق. من المفترض أن تعامل الأميرات بقدر كبير جدا من الاحترام.»
هز الصغير كتفيه النحيفتين وأصدر صوتا من أنفه. «حسنا، هذه الأميرة التي تعمل في مطبخنا منحدرة من مكان ضئيل الأهمية في أوروبا، وهي معتادة على أن تخدم هي نفسها، ومن ثم فإنها تعرف تمام المعرفة كيف تخدم الآخرين. لكننا جميعا نضطر إلى أن نتصرف بقدر كبير جدا من المواربة. ومن المعتاد جدا أن تنادينا هي بأسمائنا وتقول أي شيء بأسلوب سافر. وعليك أن تراوغ كأنك كشافة هندي لتنقل لها أنك تريد كمية أخرى قليلة من الزبد على خبزك المحمص، أو أن مربى الفراولة ليست طيبة. ما الجدوى من كل هذا العناء؟ أما عن الملابس، فكلاهما تثير حنقي! كان ذلك سبب هذه المشاجرة! لقد أردت أن أرتدي ملابسي، بحيث أستطيع عند عودتي أن ألتقي برفاقي لننزل إلى الشاطئ لتمثيل معركة. بينما أصرت أمي أنه لا يمكن الذهاب معك ولا يمكن الذهاب إلى المستشفى من دون التأنق مثل ...» أمسك الكشافة الصغير عن الكلام ودب إصبع قدم غاضبا في البساط المسجى أمام الحوض، ثم ختم حديثه «حتى أبدو مثل مخنث فلا يتعرف سيد النحل علي! ولأقص عليك الأمر بإيجاز مثل الإعلانات المبوبة، لقد اضطررت إلى ارتداء الملابس التي أرادتاها واضطررت في الوقت نفسه إلى الخروج خلسة بالأشياء التي أردت ارتداءها وإخفاءها في سياج من الأشجار على بعد بيت أو بيتين في الشارع، وكان علي بعد ذلك الاختباء عند السياج وإحضار الملابس والعثور على مكان أستطيع تبديل ملابسي فيه، ولست متأكدا بالمرة إن كنت سأجد أشيائي حيث تركتها عندما أعود. هكذا أضطر دائما إلى إهدار الكثير من الوقت والانزعاج بكثرة!»
قال جيمي بتأن: «فهمتك، لكن ألم ترد أن ترتدي أفضل ملابسك وأنت في زيارة لسيد كريم جدا، وأنت تحبه حسبما أخبرتني عن محبتك لسيد النحل؟»
شد الكشافة الصغير قامته وتنهد تنهيدة عميقة. وأتى الحركة التي صارت جزءا لا يتجزأ من شخصية قائد الكشافة. «أما محبة سيد النحل؛ فإنها ليست من الأشياء التي أود الحديث عنها. فهي من المشاعر التي يجدر بالمرء التكتم عليها، حيث إنها لا تخص أي أحد. لو كان في الأمر أي منفعة لسيد النحل، لكنت تحملت أي مشقة للقيام به؛ لكن ما دام محض هراء، فما الجدوى منه؟ إن سيد النحل يحبني وإلا ما كان سيطلب رؤيتي، وهو لم يرني قط متأنقا كما أنا الآن!»
تلوى قائد الكشافة، ومد ساقا غطاها جورب وحذاء من جلد لامع. «فلتنظر إليها! ألا تثير اشمئزازك؟ ما فائدة السيقان إذا كنت لا تستطيع أن تستخدمها وحدها؟ من الذي اخترع الجوارب من الأساس؟ إنها أشياء شائكة وتسبب حكة، وفي بلد لن تحتاج إليها فيه! لتعلم أنني كنت سأخلع جواربي أيضا، لكنني أدركت أنني تأخرت. هيا بنا، لنذهب!»
علق جيمي قطعة القماش، واستخدم المنشفة، وشرع يستخدم المشط. فتراجع قائد الكشافة بيدين ممدودتين.
وصاح: «لا، لا تفعل ذلك!» وتابع: «ليس مسموحا لي باستخدام أمشاط أناس آخرين. فقد يكون بها رتيلاء (نوع من العناكب) أو هيلية (عظاءة أمريكية ضخمة) أو أخطبوط!»
وضع جيمي المشط مكانه ومد يده. فوضع قائد الكشافة يده القوية المليئة بالندوب النحيلة في يده وسار بجانبه برزانة حتى اجتازا البوابة الأمامية.
حينئذ نظر الطفل لأعلى وقال: «أعتقد أنه من الأفضل أن نفلت يدي من يدك الآن. فربما أفقد عرشي، إذا رآنا أحد من الرفاق. وفتيان الكشافة هم كل ما أستطيع السيطرة عليه هذه الأيام، على أي حال.»
وحين بلغا الترام واتخذا مجلسهما، أحنى جيمي بصره إلى الجسد الجالس بجانبه وخال له أنه نحيف جدا، وأن حالته الجسدية لا ينبغي أن تكون هكذا.
فسأله: «هل تمانع إخباري كم تبلغ من العمر؟»
فقال قائد الكشافة: «لا، لا أمانع. أبلغ من العمر عشر سنوات، ودعني أخبرك بأنني عشتها بالتمام والكمال! لقد عشتها من المحيط الأطلنطي إلى المحيط الهادئ، وعشت في مدن حيث عليك دائما التهرب من الشرطة، وقطاع الطرق والخاطفين، في خيال أمي. لكن لا يمكن لخاطف أن يلمسني ولو من بعيد. فهم يرون أنني شديد تماما!»
ارتأى جيمي أن أفضل سبيل للحصول على معلومات هو التزام الصمت، فلم ينبس بكلمة. «لقد ركبت سفنا وقوارب وزوارق بخارية وجدفت بزوارق وسافرت في قطارات من نيويورك ليميتد (قطار سريع كان مخصصا للطبقة العليا من المسافرين) إلى قطار ميشنري، وصدقني لقد ظللت منتبها ومصغيا طوال الطريق! حين سافرنا آخر مرة فاتنا قطار ليميتد الذي حجزنا فيه فكان أمامنا إما ركوب قطار ميشنري أو البقاء خمسة أيام في شيكاغو، وما كان أحد منا يستطيع البقاء فأخذنا قطار ميشنري. وقد ناموا جميعا مثل الموتى، أما أنا فلهوت كثيرا، ودعني أخبرك بشيء، لقد زادت نقودي للغاية. إذ كنت أتجول في العربات وأقول بأسلوب لطيف ومهذب للناس الشاعرين بالحر ومتسخين: «سأحضر لكم شربة ماء طيبة باردة مقابل خمسة سنتات.» وإن بدوا في غاية الثراء أجعلها عشرة؛ لأنهم ينخدعون أكثر منا. كان لا بد أن تراهم والخدعة تنطلي عليهم! لقد كسبت الكثير جدا من النقود فجمعتها داخل حقيبتي في مقصورتنا الخاصة، وقد رأتني نانيت فصاحت منادية على أبي، فقلت لنفسي: «سأخسر كل شيء».» «حسنا، وهل حدث ذلك؟» سأله جيمي. «ليس تماما. إذ لم يكن أبي وأمي موجودين. في البداية بدت جامعة التذاكر في حيرة من أمرها، لكنها في النهاية استغرقت في الضحك حين أخبرتها أن المال كان حصيلة استغلال الأغنياء العاطلين لعامة الشعب، فقد كانت شخصية طيبة. وقالت إن باستطاعتي الاحتفاظ به إذا تقاسمته مع دار تقويم العظام. وكنت على استعداد لأن أفعل ذلك.» هنا توقف الكشافة الصغير عن الكلام. ثم تابع: «هل سبق وحمدت الرب لكونك سريع الحركة؟»
قال جيمي بحماس: «أجل!» فابتسم الكشافة الصغير وواصل كلامه: «لقد قمت بالكثير من العمليات الاستكشافية في الأنحاء مع فتيان الكشافة، وقد لازمتني بطبيعة الحال في المدرسة في بعض الأحيان. أما أمي فهي ليست بطيئة للغاية، لكن أبي يمكنك أن تتعلم منه بضعة أشياء! قد تظن أنه رجل غير نشيط! لكن على العكس؛ إنه يعمل محرر أخبار محلية في جريدة كبيرة، وقد ظل طوال عامين يحلق في طائرة استكشاف فوق ألمانيا، ويعلم كيف تصور الأفلام. إن أبي شخص شديد النشاط!»
قال جيمي: «سوف أقابله ذات يوم قريبا.»
رفع الكشافة الصغير عينيه سريعا. «أين؟»
كان الاستفسار مقتضبا وحادا. «حين اتصلت بهاتفك لأخبرك بشأن اليوم، دعتني أمك للعشاء.»
بدا الامتعاض على وجه الكشافة الصغير. «أف!» جاءت الصيحة مفعمة بقدر بالغ من الاستنكار لا يخفى عن الملاحظة. «بالطبع إذا كنت لا تريدني أن آتي ...»
هنا قال الصغير: «ها هو أمر آخر من تلك الأمور المزعجة. أريد بالطبع أن تأكل! يمكنك أن تأكل ما شئت من الشمام والكركند والمشروبات المعدة في البيت؛ فإنني لا أبالي البتة. لكن ما فائدة إقحام أمي وأبي ونانيت وجيمي والعائلة المالكة للدنمارك في علاقتنا؟ لماذا لا نكتفي بالاستمرار في صداقتنا كما نحن؟»
قال جيمي: «حسنا.» وتابع: «لن أفكر في القدوم إذا كنت لا تريدني.»
قال الصغير: «ها أنت تكررها مرة أخرى!» وأضاف: «هل قلت مطلقا إنني لا أريدك؟ هل قلت قط إنني لست منجذبا إليك غاية الانجذاب؟ هل قلت مطلقا إنني لا أصبح في أحسن حالاتي في كل مرة أراك فيها؟ لا، لم أفعل قط! لكن لمجرد أنني أقول إنه ثمة أماكن أريد أن أراك فيها وأماكن أخرى لا، تتسرع وتجعل الأمر يبدو كأنني لا أريد أن أراك في أي وقت ولا أي مكان! ظننت من وجهك أنك ستكون شخصا منصفا!»
فقال جيمي: «حسنا، إنني أحاول أن أكون منصفا.»
قال الصغير: «حسنا، لقد خانك الحظ، وحدت تماما عن الحق! ما دمت تعتقد أنك منصف حين تخبرني أنني لا أريدك لمجرد أنني لا أريد أن أراك في أماكن معينة! ألا يمكن لأي شخص أن يكون لديه أسباب؟ ألا يمكن أن يكون للمرء بعض الأشياء التي لا يريد أن يجهر بها على الملأ؟»
مد جيمي ذراعه ووضعها حول الصغير وجذب جسده الضئيل إليه فوجد أن الجسد الذي ضمه إليه كان يرتعد من رأسه إلى قدميه.
فسأله جيمي: «هذه المرحلة شاقة عليك، أليس كذلك؟»
فأجابه الكشافة الصغير: «أعتقد أنها لا بأس بها.» وتابع: «إنها المرحلة نفسها التي يمر بها الأطفال الآخرون، والكثير منهم يزدادون سمنة فيها. فلتنظر إلى بيل السمين الطيب إن كنت غير مصدق. كل ما في الأمر أنني أحيانا أكاد أدرك أن عملي هو كل ما أستطيع القيام به.»
فسأله جيمي: «ما المشكلة؟» «حسنا، أعتقد أنك تعرف كيف يتأتى لك أن تصبح قائد كشافة، أليس كذلك؟»
ولأن جيمي كان يريد معلومات، فقد قال إنه ليس متأكدا.
فهز الكشافة الصغير كتفين ساخطين. «حسنا، أما أنا فمتأكد! متأكد تماما أنك تصبح قائد كشافة من خلال السيطرة على فتيان الكشافة، تلك هي الطريقة! إذا قفزوا، قفزت أبعد منهم. وإذا وثبوا، وثبت أعلى منهم. وإذا ركضوا، بسطت جناحين أبيضين وسبقتهم. وإذا ركبوا دراجات، استلقيت فوق المقود ونهبت الأرض كمن يفر بحياته تاركا الباقين يتأخرون خلفك. وإذا جدفوا بزوارقهم، قلبت أمواج زورقك زوارق الباقين. وإذا كانت مباراة ملاكمة، فعليك أن تتمرن جيدا جدا على الجوجوتسو بحيث تستطيع أن تطوح أي واحد في المجموعة في أي اتجاه تريده أن يندفع فيه. أن تكون قائد كشافة هو أن تسيطر على الجماعة، وإن بيل السمين الطيب يتطلب مني أن أبذل بعض جهدي لأسيطر عليه! أما الطفل المطيع فأمره أسهل، لكن دعني أقل لك إن ذا الوجه الملائكي بدأت تنمو له عضلات حديثا! وهو لم يكن في حالة جيدة قبل ذلك. إذ كان يشكو من التهاب الزائدة الدودية. كان حسبك أن تتغلب عليه بضربة خفيفة في أي مكان في نطاق جانبه الأيمن فتجعله في جهد شديد. لكن تبدل حاله الآن وصار سليم الجسد. وسوف يصبح رجلا ضخما كبيرا قويا. وخلال عام آخر فقط سيكتشف الأشياء التي أعرفها الآن، وإذا صار لديه ما لدي من معلومات، فسوف يعلم أن سيطرتي عليه الآن ليست إلا من قبيل الحظ. ومتى يكتشفون ذلك فسيتمردون علي، وسيحق للشخص الذي يستطيع السيطرة على المجموعة أن يستولي على العرش. لقد عرفت ذلك من كتاب تاريخ، وإنها معلومات قيمة. تبدو مزعجة، لكنها بيان واضح بالحقائق. إن قائد الكشافة والمزعج هما الشيء نفسه.»
قال جيمي: «بعبارة أخرى، أنت تبالغ في العمل الشاق. لقد تدربت حتى بالغت في إنقاص وزنك لأقصى حد، وبينما ازداد الباقون قوة، فقدت أنت قوتك. أليس ذلك هو جوهر الأمر؟»
استغرق قائد الكشافة في التفكير. «أعتقد أن المسألة الحقيقية على وجه التحديد أنني واحد وهم ثلاثة، وفي بعض الأحيان يلحون إلحاحا شديدا حتى نضم اثنين أو ثلاثة آخرين فلا أستطيع أن أخضعهم؛ علي إما أن أبسط سيطرتي عليهم أو أتركهم. تكاد تنفد مني طاقتي تلك الأيام. وتقول نانيت إنني أظل أتشاجر وأتقلب في الفراش وأركل حتى أتطفل على منطقتها أحيانا، لكنها لا تعرف عني شيئا تعايرني به. فإنني لم أصب قط بحالة هيستيرية وصرخت حتى أيقظت أسرتنا لمجرد أن السلاحف لم تأكل جثة الغريق بالكامل!»
شد جيمي ذراعه حول قائد الكشافة ومال بجسده فجعله كنفا مريحا، وخلال ثلاث دقائق كان يضم إليه الصغير المتعب لحد الإنهاك في منتصف اليوم والذي استغرق في نوم عميق.
حين وصلا إلى المستشفى هز جيمي قائد الكشافة برفق، فاستيقظ الصغير في الحال بعينين تطرفان وابتسامة تودد، استعدادا لإثبات أنه لم يكن الشخص الذي استغرق في النوم؛ فذلك الشخص دون الكل منتبه دائما وطالما كان كذلك. وبمجرد دخولهما المستشفى مد قائد الكشافة يده إلى يد جيمي، وتزاحم معه، وسار إلى المصعد وراح يخطو مثل القطة في الأروقة الطويلة.
من الواضح أن قدومهما كان متوقعا. فقد كان باب سيد النحل مفتوحا؛ بينما مد ستار ليحجب الفراش عن أعين العابرين. أرسل قائد الكشافة نظره في أنحاء الحجرة ونحو النافذة المفتوحة، ثم لكز جيمي بمرفقه لكزة حادة. «هل لاحظت أن ورود مارجريت كاميرون تتناقص تفتحا مؤخرا؟»
كان الصوت هامسا؛ لكن سمعه جيمي وابتسم حين لاحظ الزهور، ثم سمع همسا آخر. «إنها دائمة التقرب إليه. فهي تعتقد أنه من ممتلكاتها الخاصة. لقد أوشكت أكثر من مرة أن تضحي بأغلى ما لديها مقابل أن أرحل لمنزلي، لكن ما دام سيد النحل يقول «ابق»، فسأبقى!»
دار جيمي حول الستار وتبعه قائد الكشافة وظل واقفا في الخلف حتى صافح جيمي سيد النحل وتنحى جانبا. عندئذ تقدم الكشافة الصغير قبالة فراش سيد النحل، بعينين متسعتين، وألقى نظرة متملية فتبدل لونه، تبدل رويدا من شفتين حمراوين ووجنتين مضرجتين حمرة إلى اللون الأبيض. لكنه ضم كعبيه محدثا صوتا. ووقف الجسد مستقيما بشدة. كانت التحية حسب الأصول وسريعة لأقصى درجة. وكانت الابتسامة المنبسطة على أساريره الصغيرة ودودة. فمد سيد النحل يدين مرتعشتين وعلى نحو مفاجئ - ظن جيمي أنه لم ير قط حركة سريعة جدا هكذا؛ فهو لم يعرف كيف قطعت المسافة التي بينهما - قفز الجسد الصغير وغاص في الفراش. وقد أحسن سيد النحل التقاطه، وإن كان قد التقط أنفاسه في الوقت نفسه؛ لأنه بهت من مفاجأة القفزة. لكنه ضم الكشافة الصغير بشدة بين ذراعيه، وتعلق الطفل تماما بصدر سيد النحل. أمسكت يد صغيرة بالرأس العجوز الأبيض من الجانبين، وانهال على وجه سيد النحل وابل من القبل القصيرة الحارة من جبهته لذقنه. جلس الكشافة الصغير منتصب القامة على الفراش وإذ بغتة تدفقت دموع كبيرة واحدة تلو الأخرى على الوجه الطفولي، وانطلق نحيب قصير حاد جرحه أنفذ من السكين: «يا إلهي ! أتمنى لو لم تعان كل ذلك العناء!»
كانت ذقن سيد النحل مرتفعة إلى السقف. فرفع يده اليمنى وضم شفته السفلى في ثنايا وأعطاها ضغطا خارجيا ليدعمها.
وقال: «أجل يا صديقي، أنا نفسي فكرت في ذلك، وتمنيته نوعا ما، لكن يبدو أن الأمر مقدر في الخطة الربانية، أو أنه نتيجة بعض الإهمال من جانبي في رعاية جسدي وأنا أتقدم في العمر، ومن ثم لا بد أن أتقبل العواقب. لكن لا تشغل بالك.»
قال الكشافة الصغير: «حسنا، إنني منشغل!» ثم واندفعت يده إلى الخلف في اتجاه جيمي وقال: «إنه لا بأس به. إنه كشافة بارع. فقد أحسن التصرف بالاختباء وراء الشجرة واستخدام ما وصلت إليه يداه حين هاجمنا الهنود الحمر. إنه ماهر، ومن المؤكد أنه سيفلح في العمل، لكنه يعلم أنه ليس مثلك.»
رمق سيد النحل جيمي والتقت عيناهما واستقرت.
فقال لجيمي: «لتأخذ كرسيا. واقترب مني. أريد أن أخبرك بشيء، لكن أود أن أسألك أمرا أولا.» ونظر إلى قائد الكشافة مباشرة. وقال له: «هل أنت متأكد تماما أن الرجل الذي تركته ليرعى النحل هو الرجل المناسب؟»
فقال قائد الكشافة على الفور: «أجل، إنني متأكد.» ثم أضاف: «فلا يمكن لأحد إقناعه بالإقدام على خدعة حقيرة خسيسة لإنقاذك!»
فقال سيد النحل: «لا بأس إذن.» ثم اتجه نحو جيمي. وقال له: «وأنت؟ هل أصبحت إلى حد ما على معرفة بمساعدي الصغير هذا؟»
فقال جيمي: «أوه، لقد بدأنا.» وتابع: «لكن لم تسنح لنا فرص كثيرة. فالكشافة الصغير يذهب إلى المدرسة، كما تعلم.»
فقال سيد النحل: «حسنا، ما يهمني معرفته هو ما إن كنت ترى أن مساعدي الصغير يتصرف بأمانة، ولا يأتي أي حيل وضيعة، وعلى استعداد لمساعدة زميل آخر، ويعلم كيف يحيي علم بلدنا ويحترمه، ويبجل المعطي الأعظم على كل نعمه الطيبة الكاملة.»
جعل جيمي يفكر لبرهة ثم هز رأسه بالإيجاب.
وقال: «نعم، نعم، أعتقد أننا تقاربنا بعض الشيء بما يسمح على الأقل بالاطلاع على ذلك الجانب جيدا. وأعتقد أنك إن بحثت في العالم بأسره فلن تستطيع أن تجد شخصا صغيرا أكثر منه أمانة ليصبح مساعدك في رعاية النحل.»
قال سيد النحل: «لا بأس إذن، هذا كل ما أردت معرفته. إن كان كل منكما يحب الآخر فحسب. إذا كنتما منسجمين معا. أردت فقط أن أعرف إن كنتما ستحافظان على ازدهار الحديقة وصحة النحل، إذا اضطررت إلى البقاء هنا وقتا طويلا، أو إذا تحسنت وكان علي الذهاب في رحلة طويلة جدا. إذا كنتما تدرسان الكتب باهتمام فستعلمان أن الأمر أشبه بحيلة؛ ستعلمان أنه ليس بالشيء الذي يستطيع أي أحد أن يفعله، الحفاظ على رخاء فدانين من النحل؛ لتظل الحياة فيهما مزدهرة.»
ثم اتجه بالحديث إلى جيمي مباشرة.
فقال: «ستأتيك أوقات يجب أن تستعين خلالها بمساعدة. وقد أخبرتك بالرجل المناسب حين جئتني هنا. إذا اتصلت بالسيد كاري وأخبرته بالظروف حين تجد أثناء الفحص أن الخلية الأخيرة من أحد القفائر قد امتلأت، وأن النحل صار مضطربا، فسيأتي ويساعدك في جمع العسل. سوف يريك كيف تفعل ذلك. ويمكنك بعد ذلك أن تؤدي له الخدمة نفسها، وبذلك لن يضطر أي منكما إلى تكبد نفقات الاستعانة بطرف قد يكون غير منسجم مع النحل. سوف يعلمك ما هي أول علامات تعفن الحضنة وكيف تتولى أمرها، أما بقية الأمور فإن مساعدي الصغير هذا يستطيع أن يخبرك بأي شيء تريد معرفته بخصوص رعاية النحل. أليس كذلك يا صديقي؟» سأله سيد النحل، وهو يشد ذراعه حوله.
أجابه الصغير: «بالطبع أستطيع!» وتابع: «لقد أطلعته على كل شاردة وواردة أخبرتني بها يوما عن النحل. فإنني لم أنس مبادئ أي شيء أخبرتني به، وأستطيع أن أذكر بدقة أي شيء قرأته لي من الكتب. ربما لا أتذكر كل الكلمات الفخمة الرنانة، لكنني أنقل المعنى الصحيح.»
فقال سيد النحل: «أجل، أعتقد أنك تستطيع.» وأضاف: «أقر لك بذلك. فإنني لم أقرأ لك أي شيء قط وأخفقت في فهم المعنى الصحيح.»
فقال الكشافة الصغير: «وأنت أيضا كما تعلم تقرأ بطريقة رائعة للغاية! فإنك تقرأ بتأن شديد، وتنطق كلماتك بطريقة تجعل أي شيء تقرؤه تقريبا كأنه شعر، وتعطي شروحا بسيطة حين تكون اللغة صعبة. حتى إن أي شخص يستطيع أن يفهم ما تقرؤه.»
وبعدئذ بحركة مباغتة انسل الكشافة الصغير من الفراش، وبينما هو يستدير، مهد الغطاء ودب يده عميقا في جيب السروال وأخرج زوجين من النرد متسخا، مستدير الزوايا. ووضعه بزهو انتصار أمام سيد النحل.
قال قائد الكشافة: «لن أزعجك بلعب النرد معك اليوم. هذه أكثر المجموعات التي لدي جلبا للحظ. سأتركها معك بحيث تلعب بها في الأوقات التي تتمكن فيها من الحصول على وسادة لتستند إليها. هل الممرضات حمقاوات للغاية فلا يعرفن كيف يلعبن معك؟ هل تستطيع أن تعلمهن كيف يلقين النرد بطريقة صحيحة؟ هل تستطيع تعليمهن؟» وفجأة أمسك قائد الكشافة عن الكلام. ثم تابع: «ما دام لدى إحدى النساء القدر الكافي من العقل لرعاية أناس مرضى وإعطائهم أدويتهم وتحميمهم ودهنهم وإزالة آلامهم، فأعتقد أنها تستطيع إلقاء النرد. إذن بالطبع سيصبح لديك شخص ليلعب معك. لكن لدي شعور ما أنه لا يمكن أن يكون هناك أي شخص يفعل أي شيء تماما كما نفعله أنا وأنت.»
نظر قائد الكشافة إلى سيد النحل ونظر سيد النحل إلى قائد الكشافة وابتسم كل منهما ابتسامة نادرة الجمال حتى تبدلت بها ملامح وجهه كلها. «حسنا، سأخبرك بسر بيني وبينك، فلا ندع ذلك الرجل الاسكتلندي طويل القامة النحيف هناك يسمع ما نقوله، بالطبع، فإننا أصدقاء قدامى، ظللنا معا سنوات عديدة، وبالتأكيد لدينا أمور لا يستطيع أحد غيرنا أن يفهمها. ويقنع كل منا بصحبة الآخر أكثر من صحبة أي شخص آخر. لدي ممرضة لطيفة للغاية. وسوف تلعب معي، ولا أستطيع إخبارك كم أراك كريما لتترك لي مجموعتك المفضلة. سوف أرعاها أشد رعاية، وإن تبين أن الممرضة في غاية الحماقة لدرجة أنها لا تستطيع رمي النرد بطريقة صحيحة، فسأطلب من جيمي أن يعيدها إليك يوما.»
هز قائد الكشافة رأسه. ثم أخرج من جيبه الخلفي لفة صغيرة من المناديل الورقية. ومن ثم بسطها وفتحها، وأمام عيني جيمي وسيد النحل المندهشة ترامت فوق الفراش ياردات وياردات من الشرائط المصنوعة من الحرير الفاقع والساتان، والمزخرفة بالورود وبنقوش مربعة ومخططة. وقد أجرى قائد الكشافة أصابعه بمهارة على المجموعة المبهرجة لينشرها. «لن تحزر قط كيف حصلت عليها. قبل بضع سنوات، قبل أن تقبل كل الفتيات على طلاء شفاههن ووجوههن مثل الهنود، ويصبن جميعا بداء القوباء، كن مولعات بالشرائط. كانت الشرائط منتشرة للغاية. وكن يحببنها زاهية للغاية، وعريضة للغاية، ويابسة للغاية. اعتادت نانيت أن تبدو مثل طاولة الشرائط في متاجر ووناميكرز أو مارشال فيلدز أو روبينسونز حين كانت تنزل لتناول الفطور. وبعد ذلك، على نحو مفاجئ» طرقع قائد الكشافة بإبهامه وسبابته ليوضح كم كان ذلك الأمر فوريا «على نحو مفاجئ اختفت الشرائط، وكانت نانيت قد أنفقت كل مصروفها على الشرائط حتى إنها كانت تبدو نحيلة وجائعة كلما مرت بكشك لبيع السجق أو عربة لبيع المثلجات. أليست بديعة للغاية! كم أحب رؤية نانيت وهي ترتديها. كانت تحبها زاهية لكن ليس للدرجة التي تروق لي وعريضة للغاية ومنقوشة بالزهور. كان لديها درج مليء بها. لكن حين أصيبت بالقوباء سألتها إن كنت أستطيع الحصول عليها. لكن كم هي مادية! لقد غرمتني ربع دولار، لكنني دفعته لأنني كنت أعرف أنها تستحق. بعد ذلك أخذتها إلى الأميرة في المطبخ وأخبرتها أنها تستطيع الحصول على أكثر اثنين يروقان لها لصنع حقائب تضع فيها خيوطها الحريرية المستخدمة في التطريز إذا غسلت المتبقي وكوته لتخلصه من كسراته، وجعلته يبدو جميلا من أجلي. لم أكن متكاسلا عن فعل ذلك بنفسي، لكنني لم أكن متأكدا تماما من كمية الصابون الواجب وضعها عليها أو نوعه، كما أن استخدام المكواة الكهربائية مهارة يجب تعلمها. لا يمكن أن تزيل حملا عن كاهلك وتلقيه على كاهل شخص آخر إلا إذا كان ثقيلا عليك، وهذا ما كان في مسألة استخدام المكواة الكهربائية. لا بد أن تعرف كيف تستخدمها لتحقق النتيجة المرجوة.»
هز قائد الكشافة الشرائط. «حسنا، من الأشياء التي يمكن أن تفعلها بها أن تأخذ كل شريط منها على حدة وتمرره بين أصابعك وتتأمل كم هو ناعم، وكم هي بديعة الزهور التي تزينه وكم هي جميلة ألوانه وكم هي منسجمة معا.»
وعندئذ حمل شريطا رقيق الألوان قبالة عيني سيد النحل.
وقال الصغير: «أوتعلم؟ إن الرجل الذي ابتكر ذلك - إن لم تكن امرأة - أيا كان الذي ابتكره؛ كان مهووسا بقوس قزح. أترى البنفسجي والبرتقالي والأرجواني؟ هل ترى كيف تختلط الألوان وتمتزج؟ يكاد يكون مثل قوس قزح الذي وضعه الله في السماء ليعطي إشارة للبشر بأنه سيحافظ على عهوده مع الإنسان. م. أ. أي مدرسة الأحد.»
بأصابع مشغولة بالشرائط، سدد قائد الكشافة نظرة في اتجاه جيمي. «هل لديك معرفة جيدة بالإنجيل؟»
فقال جيمي: «كان أبي قسا. إنني على دراية تامة به.»
سأله قائد الكشافة: «إذن هل تعرف بأمر أقواس قزح؟»
فقال جيمي: «أجل. أعرفها.»
فسأله قائد الكشافة: «وهل تعرف أي شيء يفوقها جمالا؟»
فقال جيمي: «لا. لم أر في أدب أي لغة من اللغات التي تعلمت قراءتها شيئا أكثر جمالا من الوعد المتجسد في قوس قزح.»
وقف قائد الكشافة ساكنا. وسقطت يداه النحيلتان المسمرتان بين الشرائط. وارتفعت عيناه العميقتان المعبرتان الرقيقتان إلى عيني سيد النحل.
قال قائد الكشافة: «هل تعتقد أن العهد بين الله والإنسان يشبه قليلا العهد بيننا بشأن النحل وبشأن أسرارنا؟»
كانت عينا سيد النحل الطيبتان العجوزتان رقيقتين ورصينتين وكان صوته يشي بالحب وهو يقول للطفل الصغير: «حسنا، إن العهد هو كما تعلم تفاهم؛ إنه عادة اتفاق بين شخصين فقط، اتفاق بخصوص شيء مهم وشيء ذي شأن.»
فقال الكشافة الصغير: «حسنا، هكذا كان العهد بيننا، وإنني ما زلت أحفظه، وسوف أظل أحفظه. وهذا الشريط، الآن هذا الشريط كأنه حوض زهور منظم باقاته مصطنعة تماما، وهذا منقوش بخطوط رومانية مثل الذي ارتداه بن هور (شخصية في رواية تاريخية تدور أحداثها في زمن المسيح، عولجت في عدة أعمال مسرحية وسينمائية) حزاما حين قاد النسر الطائر وقلب العقرب والدبران ورجل الجبار (الخيول الأربعة التي تجر عربته في أحداث الرواية وهي مسماة بأسماء نجوم). يا إلهي ! ويحي! ألن يصبح شيئا رائعا إن كان فعلا لدينا الآن حلبة وخيول تدار بأمانة وصدق مثل تلك وسباقات مثل تلك؟ أما في تلك السباقات التافهة الصغيرة التي تجري هنا فالخيالة يأتون ويقررون نتيجة السباق قبل أن يجروه، ويجرون قرعة في الصباح ليقرروا من يفوز في ذلك اليوم، يا للقرف! ألا تثير اشمئزازك؟ لقد أصبح العالم في غاية الفساد حتى إنهم لم يعودوا يقيمون معرض الخيول الصغيرة!»
فقال له سيد النحل: «يؤسفني أن أقول إنك محق في كلامك. وإن لم نتوقف وقفة صارمة، وإن لم نرجع إلى طريق الصواب، وإن لم نثب لرشدنا قريبا جدا، فلن يتبقى لدينا الكثير من الشرف القديم، الذي كان سائدا بين الرجال، في أي مكان من هذا العالم سواء في الرياضة أو العمل.»
وحين لاحظ اليد القابضة للكشافة الصغير ووجهه الكالح، أردف قائلا: «هل ما زلت باسطا سيطرتك على فتيان الكشافة هذه الأيام؟»
كانت هناك لحظة تردد من جانب قائد الكشافة. «الطفل المطيع لا بأس به، أما بيل السمين الطيب وذو الوجه الملائكي فقد اشتدت عريكتهما كثيرا. إذا تمردا علي كل على حدة فسأستطيع السيطرة عليهما. لكن إذا جاء اليوم وجعل اثنان أو ثلاثة منهم يشاغبون مجتمعين» هنا استقام قائد الكشافة ورفع وجها التوت قسماته في عبوس منزعج «فالويل لي!»
لم يقو جيمي وسيد النحل على كبت الضحك، رغم الاحترام البالغ الذي يكنانه لعقلية رفيقهما الصغير.
استأنف الصغير كلامه فقال: «حسنا، كما كنت أقول لك، تستطيع أن تتأمل جمالها، وتستطيع أيضا أن تجدلها. فقط اجعل إحدى الممرضات تعطيك دبوسا وابدأ باثنين ثم واصل في حياكتها هكذا، وبذلك تستطيع صنع غطاء يكفي ليغطي كتفيك ويقيك من الهواء البارد، وتستطيع أن تجريها مثل الأمواج، وتستطيع أن تلفها في دوائر. لا أعرف شيئا أسهل أن تلهو به أو تحصل منه على تشكيلات أكثر وأنت مريض ومضطر إلى البقاء في الفراش من مجموعة من الشرائط الجميلة. إنها تبقي ذهنك مشغولا بما تفعله، لكنها ليست مثل السوليتير (لعبة من ألعاب الأوراق التي يلعبها الشخص بمفرده) أو بعض الأشياء التي تستطيع أن تلعبها بمفردك، لكن تجعلك تجتهد في التفكير لدرجة أن تصاب بوجع في الرأس إن لم تكن تؤلمك بالفعل. والآن أعتقد أنه من الأفضل أن نرحل. فإن سيد النحل سيعتريه التعب. وأمي قالت إنني لا ينبغي أن أبقى طويلا حتى يحل برجل مريض التعب، وإنني لا بد ألا أتكلم كثيرا حتى أجعله أسوأ حالا، وماذا قالت غير ذلك؟ صحيح، تذكرت. إنني يجب ألا يبدو علي أنني أريد أن آكل أي شيء؛ لأنه لا يوجد أي شيء للأكل في المستشفى.»
وبحركة متلكئة أقصى قائد الكشافة الشرائط المبهرجة، ورمقها لوهلة باشتهاء، ثم انحنى على سيد النحل وطبع قبلة رقيقة على جبينه، وقال: «لتكن فتى مطيعا وتناول دواءك ونم حين تؤمر وتعال سريعا للمنزل، بأسرع ما تستطيع!»
وبذلك دار قائد الكشافة وخرج على الفور من الحجرة.
انتظر جيمي لتبادل بضع كلمات ثم تبعه. وبمجرد خروجهما من المستشفى وعودتهما إلى الشارع مرة أخرى، رفع قائد الكشافة وجها محيرا. «إن لك باعا طويلا مع المستشفيات، أليس كذلك؟»
فصدق جيمي على كلامه.
فقال قائد الكشافة: «أجل، تبدو شخصا تنتمي للمستشفيات الآن، لكن ليس كما كنت تبدو حين رأيتك أول مرة. حين رأيتك أول مرة بدوت كأنك وحدك مستشفى. لكنك لا تبدو إلا كنصف مستشفى الآن. تبدو كأنك تنتمي إلى الحدائق بقدر ما تنتمي للمستشفيات. أعلم أنها ضرورية، لكن، يا للهول! أليست قاسية؟ كل شيء زلق جدا وهادئ للغاية وفي غاية النظافة، والكل يسيرون بحذر ويهمسون. لو كان لدي ثروة، لو كان معي تلال وأكوام من المال، كنت سأبني مستشفى تطل كل نوافذه على مضمار سباق حيث تستطيع أن تشاهد سباق خيل وسباق سيارات مرتين يوميا، وكنت سأضع فرقا موسيقية وأجهزة راديو وشاشات لعرض الأفلام. ويحي! إن المستشفيات الموجودة حاليا تصيبني بالمرض من دون أن تكون بي علة!»
ثم أمسك قائد الكشافة بيد جيمي على نحو مفاجئ ورفع إليه ناظريه. «لتخبرني، ما خطب السيدة كاميرون؟ ما الذي يجعلها تبكي كثيرا جدا، ولماذا تبدو كأنها في جنازة ولم يمت أحد، ولماذا لم تعد لولي إلى المنزل؟»
فقال جيمي: «لتسمعني، إنك تسألني أسئلة لا أملك لها إجابة. أولا: أنا لم أكن أعلم أن مارجريت كاميرون تبكي. ولم يخطر لي أنه يمكن لأي حدث أن ينتزع الدموع من عيني امرأة رابطة الجأش للغاية مثلها. وثانيا: ما أدراني أنا بأمر لولي؟»
فقال له قائد الكشافة: «حسنا، عرفت أنها تبكي كثيرا هذه الأيام لأني أجدها عند نهاية خط الترام حيث أنزل مع فتيان الكشافة لنلعب لعبة قاطعي الطريق في الوادي، ومغارة اللصوص في الجبال، ولنتعارك بالرمال على الشاطئ، ولنسبح. أجدها في المكان نفسه الذي أراها فيه كل مرة حين أمر، وفي كل مرة تقريبا رأيتها فيها مؤخرا كانت تمسح دموعها. قد يكون بكاء على سيد النحل، لكن لا جدوى من سكب دموعها في حين أنه من المحتمل أن يتحسن ويعود إلى المنزل. لو كانت على علم بأنه لن يعود أبدا، كنت سأتفهم. أعتقد أنها تبكي من أجل لولي لأنها على ما يبدو لم تعد إلى المنزل، وحيث إنها ليست في المنزل، فإن السيدة كاميرون لا تعلم بالطبع إن كانت مريضة أو بخير، وما دامت لا تعرف فلن يهدأ لها بال.»
سكت قائد الكشافة مستغرقا في التفكير لدقيقة ثم واصل كلامه وقال: «أعتقد أن ما قلته كان فيه بعض الحماقة. فإن لولي تعمل بالتدريس في إحدى المدارس، وهي بالطبع لا تستطيع أن تأتي إلى المنزل حين تكون في المدرسة تعمل، إلى أن تأتي الإجازة على الأقل. إن كانت الإجازة بدأت وكان باستطاعتها أن تأتي ولم تأت، فالأمر مختلف إذن، وعندئذ يصبح هناك سبب للحزن.»
للاستمرار في المحادثة لا غير؛ سأله جيمي: «هل لولي فتاة جميلة؟»
وبينما كان قائد الكشافة يسير متخبطا على الرصيف، متلفتا يمينا ويسارا، متفاديا المشاة، ومتفقدا أرقام العربات المارة واتجاهاتها؛ رد عليه قائلا: «حسنا! ربما تراها جميلة. إذا كنت تحب الشعر بلون حلوى الدبس والعينين نجلاوين وزرقاوين والوجنتين متوردتين وابتسامة الأطفال وكنت مثل الموجة في البحر لا تحسن التميز، بالقطع، عندئذ سترى لولي فتاة جميلة. لكن إن سألتني رأيي، فسأقول إنك إن أردت أن ترى فتاة جميلة، إن أردت أن ترى فتاة مخلصة وراقية وممتازة بحق، فلتلاحق مولي بناظريك.»
فقال جيمي: «يبدو الأمر مثيرا للاهتمام. هل تستطيع أن تدلني أين أذهب حتى «ألاحق مولي بناظري»؟»
فأجابه قائد الكشافة: «لا، لا أستطيع ذلك أثناء موسم الدراسة. الأمر يسير في العطلات، إلا إن كان الحال سيختلف في العطلة القادمة عن كل العطلات الماضية. في كل العطلات الماضية، لبعض الوقت على الأقل، كانت مولي تعود إلى الديار ثم تذهب في نزهات وتتجول معنا وتستكشف معنا، ونحظى بوقت رائع حقا حين تكون مولي موجودة.» «هل منزلها قريب من هنا؟» سأله جيمي وقد بدأ يهتم بالأمر.
فصاح قائد الكشافة: «حسنا، يا للعجب! لقد عشت شهرا بجوار السيدة كاميرون ولم تحدثك قط عن مولي ولولي ودون؟»
فقال جيمي: «لقد تصادف أننا كلما تحدثنا معا كان حديثنا عن النحل والزهور والطعام. لكنها لم تحدثني كثيرا عن أبنائها.»
فقال له قائد الكشافة: «حسنا، إنهم ليسوا أبناءها. أو على وجه الدقة مولي ودونالد ليسا كذلك. فإن مولي ودونالد توءمان وكان أبوهما والسيد كاميرون شقيقين، وحين تحطم بهما كليهما القارب ليلة العاصفة الكبيرة، حسنا، جاءت السيدة كاميرون بالطفلين إلى منزلها وساعدتهما في دراستهما، حتى استطاعت مولي أن تصبح مدرسة وأمكن لدون الحصول على عمل. إنه كهربائي. يعلم الكثير عن أجهزة الراديو ويضع الأسلاك في مختلف الأماكن. أعتقد أن تلك الأشياء تسمى «تركيبات.» «تركيبات» هي الكلمة الصحيحة، أليس كذلك؟»
فقال جيمي: «تبدو صحيحة. ومن هي لولي؟» «حسنا، لولي ابنة مارجريت كاميرون قبل أن تتزوج. لا بد أنها كانت متزوجة من أحد الرجال، في وقت ما، في مكان ما، ولا أعلم إن كان الموت الذي أقصاه أم قاضي الطلاق. يتراءى لي أحيانا أنني أود أن أصبح قاضي طلاق. سيكون من المسلي أن أسمع الناس وهم يحكون مشكلاتهم ولماذا لا يستطيعون التوافق ومن المسئول ، فإنني أحيانا أرى نساء أود لو أطلقهن تلقائيا من أي رجل. أرى الكثير من النساء اللواتي لا يهتممن بمنازلهن ولا يعتنين بأطفالهن ولا يكترثن بتاتا إن كانت أظفار أقدام أطفالهن مقصوصة أو كانت أذانهم نظيفة، وسائر تلك الأشياء، التي تثير أمي ضجة بشأنها دائما. وبطبيعة الحال، أرى بحق في الحياة أحيانا من الرجال من يستحقون القمع.»
وعندئذ أنزل يديه وأرسلهما بعيدا. فكأن الرجال الذين يستحقون القمع قد قمعوا في تلك اللحظة. «هناك رجال، كما تعلم، تافهون للغاية ويسرفون للغاية في احتساء المشروبات الكحولية المعدة في منزل، أو ربما في أي مكان آخر، حتى إنه لا يمكن لامرأة أن تعيش معهم وتحتفظ بكرامتها البتة. ربما لن يروق لي هذا الأمر. فقد تكون وظيفة متعبة نوعا ما. لست متأكدا من أنني سأود العمل بها. لكن دعني أخبرك بالأشياء التي أريدها بحق: سوف أموت محبطا إن لم يتسن لي قط أن أجول في هذا البلد من المحيط إلى المحيط في سيارة! سيارة من النوع الذي به مقاعد أمامية ترد إلى الوراء وتتحول إلى فراش، وخزانة صغيرة وثلاجة ومطبخ، وحصائر للنوم وكل شيء. ربما أحصل على مقطورة. وقد ألتقط بعض الأشياء من الطريق وأعود بها من أجل حديقة أمي. لا أعلم ما الذي سأفعله على وجه التحديد، لكن تذكر قولي هذا؛ سوف أتحايل على الظروف بطريقة ما حتى أستطيع أن أمضي في خطتي في وقت قريب! لا شك أن أفضل ما في الأمر هو التخييم على جانب الطريق والنوم على الأرض، ومقابلة أناس مختلفين ورؤية البلد، بينما لديك الوقت لرؤيته. فإنك لا تستطيع رؤية الكثير وأنت منطلق في قطار السكك الحديدية، وكل الأماكن التي ترى أنها قد تكون مثيرة للاهتمام قليلا أو ربما بها دب أو غزال، أو قد يكون بها هندي أو قاطع طريق، هي الأماكن التي تنطلق فيها بأقصى سرعة.»
قال جيمي: «هذا حقيقي.» وأضاف: «حقيقي تماما.»
حينئذ جاء الترام فاتجه قائد الكشافة إلى رصيف المحطة قبل أن يتأكد جيمي تماما من أن الرقم والوجهة كانا صحيحين وأن بإمكانه اتباعه. ومرة أخرى في طريقهما للعودة مال قائد الكشافة بحرية على جيمي وانتظر أن يحيطه بذراعه، ثم غط في سبات عميق حتى جاءت اللحظة التي لم يكن فيها بد من الاستيقاظ.
وفي طريقهما بالقرب من كشك السجق عند أحد النواصي شعر جيمي باندفاع طفيف نحوه حين نزل من الترام، فقال لقائد الكشافة: «أتعلم أيها الصغير، إنك «تحمل نفسك ما لا طاقة لك به مثل شمعة تحترق من الناحيتين» بلغة الكبار؟»
ومما أدهشه، أن قائد الكشافة أجابه ببيت شعر ملائم إذ قال: «لكن آه، يا أعدائي، وآه، يا أصدقائي
إنها تعطي ضوءا جميلا!»
فقال جيمي: «قد يكون أسلوبا لا بأس به، وقد يكون نوعا من الفلسفة الملائمة للكبار، لكنها مؤذية للصغار. فلا يوجد أي شيء مما تفعله يستحق أن تضعف نموك من أجله.» «أضعف ماذا؟» تساءل قائد الكشافة.
فأجابه جيمي: «أقصد أنك تجهد نفسك كثيرا في التمرين وتنام قليلا جدا، متبعا نهجا لا يزيدك حجما ولا قوة كما ينبغي لك. إنك تعاني إجهادا كبيرا للسيطرة على أولئك الصبية الضخام الثلاثة الذين تلعب معهم مما يجعلك لا تكتسب في ساعديك وساقيك قوة مثل التي لديهم. إن لم ترفق بنفسك قليلا وأكلت المزيد من الطعام المطهو بطريقة صحية في المنزل وقللت من تناول السجق أثناء جولات الكشافة، فسيلم بك ما تنبأت به بالضبط. ما دمت مزهوا للغاية لكونك قائد الكشافة، فمن الأفضل أن تتذكر أنك لا تستطيع الاحتفاظ بذلك المنصب إلا وأنت لائق بدنيا. من المستحسن أن تتوقف عن بعض الجولات وبعض المعارك والكثير من الأكل غير المنتظم.»
خاطبه قائد الكشافة بسخرية: «يا للهول!» وتابع: «تتحدث كأنني مصاب بداء الفم والحافر.»
وعندئذ لقي جيمي وجها في غاية الجدية، ويدين مضمومتين وعينين مرتفعتين - خطر له لوهلة التعبير الذي كان معروفا به في طفولته - حتى إنه لم يقو على كبت الضحك.
قال جيمي برصانة شديدة: «أتعلم أنني أصبحت مؤخرا أعتقد أن العمل واعظا ليس بالعمل السيئ. فهناك أشياء كثيرة أسوأ من محاولة نصح رجال آخرين أن يتطهروا، ويسلكوا سلوكا قويما، ويجتهدوا في العمل، وأن يكونوا رجالا بحق معنويا وجسديا.»
تقدم قائد الكشافة في السير وسبق جيمي إلى كشك السجق. وكذلك أخرج من جيبه ثمن شطيرتين. «سأدفع أنا اليوم! وإنه لمعيب نوعا ما أن أجعلك تدفع الحساب المرة الماضية حين كنا خمسة وأدفعه أنا اليوم ونحن اثنان فقط. لذلك سأدعوك أنا المرة القادمة ونصف مرة.»
ظل جيمي واقفا يحدق. «هل تحسب نقودك حسابا شديد الدقة؟»
فأجابه قائد الكشافة: «أجل.» وتابع: «فإن أسوأ المآزق التي قد تتورط فيها في هذا العالم هي تلك التي تقع فيها حين لا تنظم أموالك. يقول أبي إنه يعتقد أن كل المشكلات التي في العالم إن لم تكن بسبب النساء فهي بسبب المال، وفي أغلب الأحوال التي يكون فيها أحدهما هو المسئول عنها يكون الآخر ضالعا فيها أيضا.»
بعد تسوية الجزء النقدي من عملية الشراء، ولى قائد الكشافة كامل اهتمامه للسجق. بدا لجيمي في مزيج الشطيرة ما كان يريده هو الآخر. لكن بدا له كذلك أنه لا يمكن له، في تلك المرحلة الحرجة، المشاركة في الوجبة التي فرضتها عليه رؤية قائد الكشافة للمكافأة المثالية. وقد تردد إزاءها للحظة، ثم حسم أمره منتصرا، وإن ساوره قليل من الخجل لفشله في أن يكون رفيقا جيدا.
فقال لقائد الكشافة: «أتعلم، لقد كنت عليلا جدا، ولم أخرج من المستشفى وأبتعد عن رعاية الأطباء إلا منذ مدة قصيرة. وأعتقد أنه يجدر بي ألا أعرض معدتي لتلك الوجبة الخاصة بك. سوف أذهب إلى المنزل وأتناول كوبا من عصير البرتقال بدلا منها.»
وقد لمس قلبه بسحر خاص أن قائد الكشافة قال من فوره: «حسنا، سوف أذهب وأتناول معك عصير البرتقال، لكنني بدأت شراء الشطائر ولا يمكنني التراجع، من ثم علي دفع ثمنها وتناولها، لكن المرة القادمة سنحتسي عصير البرتقال معا، ما دام عصير البرتقال هو المسموح لك حتى تستعيد عافيتك.»
بعد ذلك، وهو يسير هرولة في الشارع بجانب جيمي، بعد أن أخذ قضمة من الطعام المغري، قال قائد الكشافة: «يا إلهي! أليس من المزعج أن تكون مريضا؟ لا أعلم ماذا كنت سأفعل إن لم أكن أستطيع تناول السجق متى أردته. فإنني لا أرى شيئا يروق لي أكثر منه بين كل الأشياء المتاحة للأكل في العالم كله. أمي أيضا تحبه. أما أبي فلا يهواه كثيرا لأن معدته تؤلمه بين الحين والآخر. أظن أن ذلك بسبب عمله صحفيا محليا وتغطيته لأخبار الحرب أيضا. لكن حتى الآن، ولله الحمد، لم ينهني أي منهما عن تناولها. وحين يأتي ذلك اليوم، سأقفز من فوق ذروة (لقد درست مصطلح «الذروة» في الجغرافيا) أعلى صخرة على الخليج وأرحل مع التيار.»
فقال جيمي: «ستكون فاجعة مؤسفة. لماذا تريد أن تسبب كل تلك التعاسة لأصدقائك وتحرم سيد النحل من مساعده وتحرمني أنا من الصديق الوحيد الذي لدي في العالم، إلا إذا كان سيد النحل قد قرر أن يصبح صديقي.»
قال الكشافة الصغير: «لقد أصبح سيد النحل صديقا لك بلا شك.» وتابع: «لقد عرفت أن سيد النحل صديقك لحظة أن وقفت أمام شجرة الجاكرندا ورأيتك جالسا على مقعده الخاص. ألم تلحظ أنني واظبت على المجيء إليك؟»
فقال جيمي: «لاحظت بالتأكيد.» وأضاف: «بل إنني دونت تلك الواقعة في ذاكرتي بفخر وسعادة بالغين. سأظل دائما أتذكر أنك منذ أبصرتني أول مرة ظللت تواظب على زيارتي.»
فقال له قائد الكشافة: «لقد جرى الأمر نفسه مع مولي». وتابع: «من بعد أول مرة لمحتها على الإطلاق ظللت أزورها. أقبلت عليها مباشرة واقتربت منها بقدر ما يمكنني الاقتراب في أول لقاء روحي. هل تعلم معنى «لقاء روحي»؟»
فقال جيمي إنه يعرفه. «حسنا، لا بأس. إنه مصطلح تافه للغاية ظننت أنني لا بد أن أشرحه لك مثل النحل وسائر الأشياء التي لا بد أن تعيها. لكن لنعد إلى مولي، إن بها شيئا جذابا. فكل واحد من الصبية أولع بها تماما كما تولع بكعك الحنطة السوداء وشراب القيقب أو فطائر الوافل التي تحصل عليها من بائع الوافل على الشاطئ، أو أي شيء من تلك الأشياء التي تريد أن تحصل على أكبر قدر ممكن منها كلما خطرت لك وتريد العودة إليها بعد بضعة أيام لتحصل على المزيد. هكذا هي مولي. تهفو إليها بشدة حين تراها وتشتاق إليها بالقدر نفسه كل بضعة أيام.»
قال جيمي: «احك لي عن مولي. فإنها تبدو مثيرة للاهتمام.»
عندئذ كانا قد وصلا إلى البوابة. ففتحها جيمي وتقدمه قائد الكشافة إلى المقعد الموجود أسفل شجرة الجاكرندا. «حسنا، إن حكاية مولي حكاية طويلة بعض الشيء. كان حظ مولي عثرا. إذ توفيت أمها وهي رضيعة، وبعد ذلك توفي أبوها. ثم ظلت مدة طويلة تعاني الأمرين مع دون. فقد بدا كأنه مصر على أن يفعل أي شيء ما عدا ما تريده منه. حتى إنها ظنت عدم وجود أمل يرجى منه أبدا. بل إنها كانت على يقين قاطع بأنه سيسلك سبيلا يضل بعده ضلالا شديدا، ولا أدري إن كانت ستتمكن من إنقاذه أم لا لو لم تكن لولي موجودة بجواره دائما. فلا أذكر مرة منذ عرفتهم إلا وكان يراها كأنها فاكهة خوخ وكاكي وكمثرى عتيقة، وسائر تلك الأشياء الطرية. ولا أذكره إلا رافضا أن يفعل شيئا معينا لأنه أمين وشريف ومستقيم، ولأنه الواجب فعله ولأن مولي تريد منه ذلك، في حين أنه قد يفعل الشيء نفسه من أجل لولي إذا هي قبلته أو ربتت عليه قليلا أو ضحكت له أو استمالته بالذهاب إلى حفل للشباب. لكنني أحب مولي لأنها ليست معسولة اللسان. إنها تدخل في صلب الموضوع مباشرة وتعرف هدفها قبل أن تسعى إليه. فإن مولي لا تعرف اللف والدوران بتاتا!»
وضح قائد الكشافة بحركة سريعة من يده كيف تمضي مولي في أمورها. «وأعتقد أنني حين أكبر وأرغب في عمل لأكسب منه قوتي، سأفضل العمل الذي اختارته مولي عن أي عمل آخر في العالم.»
فقال له جيمي: «لقد أدهشتني.» وأضاف: «لقد حيرتني! كنت أعتقد أن التدريس في المدارس هي آخر مهنة قد تختارها في العالم.»
فقال له قائد الكشافة: «أجل، لكن يوجد حاليا أنواع مختلفة من التدريس.» وتابع: «إن التدريس الذي تمارسه مولي ليس من النوع الذي في بالك. إنه ليس التزام الصمت في الفصل وملازمة مكان واحد وفعل الشيء نفسه مرارا وتكرارا. يسمى التعليم الذي تمارسه مولي «تدريس التربية القومية الأمريكية». هل خطر لك قط كم يمكن للفيف كبير من الأطفال الصغار من حول العالم أن يكونوا ساحرين ومثيرين للاهتمام، الكثير من أطفال إيطاليا واليونان وإسبانيا والهند وهاواي واليابان والصين، كائنات صغيرة لطيفة للغاية وسمراء بعيون كبيرة مستديرة؟ لا بد أن تسمعهم وهم يغنون نشيد «بك يا بلدي أتغنى!» لا بد أن تراهم وهم يحيون العلم! لا بد أن تسمعهم وهم يتعلمون الكلمات التي تقول إنه لا يوجد في العالم بأسره بلد كبير وجميل ويطيب العيش فيه مثل الولايات المتحدة. لا بد أن تراهم وهم يتعلمون أن أدمغتهم خلقت ليفكروا بها، وأياديهم خلقت ليعملوا بها، وأن أقدامهم خلقت ليسيروا بها، وأن عيونهم خلقت ليروا بها؛ يروا ما أمامهم، ويروا كل ما حولهم. يا إلهي! كم أحب عمل مولي! أحب أن أساعدها حين تتنزه على الشاطئ معهم.»
قال له جيمي: «أنا نفسي أعتقد أن تلك المدرسة تبدو رائعة للغاية.» وأضاف: «هلا اصطحبتني ذلك اليوم حين تدرس مولي مادة التربية القومية الأمريكية على الشاطئ؟»
قال قائد الكشافة: «سأفعل بالتأكيد!» وتابع: «ستسر مولي لرؤيتك. يسر مولي دائما أن ترى أي شخص مؤمن بأمريكا ومؤمن بالله. إن إيمانها بالاثنين قوي. وكذلك أي شخص يسلك سلوكا قويما ويجد في السعي ويتصرف بأمانة كما أخبرتك. لا بد أن تراها وهي تصوب وتمتطي الخيل. لو كنت مليونيرا وكان لدي فائض من الأموال، كان أول شيء سأشتريه، بعد شراء حصان من النوع الذي أريده لنفسي، هو حصانا من النوع الذي تريد مولي الحصول عليه.»
وإذا بقائد الكشافة ينهض.
ويقول: «لا بد أن أهرع حالا إلى المنزل؛ فإني لا يكاد يكون لدي وقت لارتداء ملابسي الأخرى، في حال أنها لم تسرق وتصبح هناك كارثة في انتظاري.» «هل هناك أي شيء أستطيع فعله لأجنبك المتاعب؟» سأله جيمي.
فأجابه قائد الكشافة: «ولا أي شيء يا عزيزي الطيب. ولا أي شيء. لكن شكرا، أشكرك شكرا جزيلا على نواياك الطيبة.»
ضم قائد الكشافة كعبيه محدثا صوتا، ووضع كفه على بطنه، وانحنى. بعدئذ دار الصغير، ليمضي في الممشى. وبعد بضع خطوات استدار قائد الكشافة وهتف مجددا قائلا: «لم يتسن لي الوقت اليوم، لكن ذكرني المرة القادمة حين آتي وسأؤدي لك حركتي البطة العرجاء والدجاجة المبتلة. لقد ابتكرتهما بنفسي. لا بد أن يكون معي ثوب السباحة ورصيف للقفز لأؤديهما بشكل صحيح، لكن يمكنني التظاهر بأنني ارتديت ثوب السباحة وأن الممشى هو الرصيف وتحته المياه، وأريك كيف تبدو. إنني بارع في حركة الدجاجة المبتلة. أعتقد أنني أؤديها بأسلوب رائع.»
فقال له جيمي: «سوف أتذكر. سوف أتذكر بالتأكيد.»
انتظر جيمي قليلا قبل أن يتجه إلى المنزل لأنه كان يحب أن يرى الخفة، والانطلاق الحر، والرشاقة المطلقة التي يثب بها الكشافة الصغير على السياج الفاصل بين أرض سيد النحل وأرض مارجريت كاميرون.
في الصباح التالي، قبل أن يمضي جيمي في سبيله إلى الشاطئ، دعا جارته لزيارته. وحيث إنها لم تقل شيئا هي نفسها فقد تغافل عن أن عينيها كانتا حمراوين ويديها كانتا مرتعشتين، لكنه تساءل حقا. تساءل كثيرا ما إن كانت لولي التي لم ترق له كثيرا من وصف قائد الكشافة لها، أم مرض سيد النحل هو الذي أهم امرأة برقي أخلاق مارجريت كاميرون.
تمدد جيمي على فراشه ووضع يديه على الضمادات التي غطت جانبه. ثم رفع ناظريه إلى جارته.
وقال: «مارجريت كاميرون، فلتحلفي يمينا!» وتابع: «ارفعي يدك اليمنى في الهواء وأقسمي يمينا مغلظة أنك ستخبرينني ما إن كان شهر من اتباع أفضل نظام استطعنا التوصل إليه قد أزال اللون والحرارة عن هذا الجرح ولو قليلا. لم تواتني الشجاعة لأراه بنفسي، فإنني لا أستطيع أن أواجهه جيدا إلا في المرآة، وهي ليست كافية بالمرة. فهيا بنا!»
لم يدر جيمي، لم يدر حين أغمض عينيه أن بشرة وجهه كانت مشدودة بشدة على عظامه. ولم يدرك أن يديه كانتا ترتجفان وهو يرفعهما ليكشف عن الجانب الأيسر من صدره. ومن ثم جاءت مارجريت كاميرون إلى جانب الفراش وانحنت فوقه وأمعنت النظر. «تحول تجاهي قليلا!» نطقت الأمر بحدة.
تفتحت عينا جيمي فجأة، ومما رآه على وجهها راح قلبه يقفز، وقبل أن يعرف ما هو فاعل قام وأمسك بيديها.
وصاح: «آه، يا مارجريت! هل أنت متأكدة؟ هل أنت متأكدة أنه تحسن لهذه الدرجة؟»
كانت مارجريت قابضة على يديه بقدر ما استطاعت.
فقالت له: «آه، يا عزيزي جيمي، إن اللون يتلاشى فيما يشبه المعجزة، ويبدو واضحا وضوح الشمس أن الجرح بدأ يندمل من أسفل! إنه في سبيله لأن يبرأ، وكذلك اكتست ضلوعك وصدرك بمزيد من اللحم! لم تعد هزيلا جدا! كان قد خطر لي أنني رأيت ذلك في يديك ووجهك، وإن كنا لم نهتم كثيرا بزيادة وزنك كما اهتممنا بمسألة تطهير الدم. لأننا إذا استطعنا تطهير مجرى الدم، استطعنا في أي وقت البدء في اكتساب الوزن. أرى أنك سوف تنجو يا عزيزي جيمي. أرى أنك إذا ظللت متماسكا واستمر التحسن طوال ستة أشهر، ستستطيع أن تقضي على تلك البقعة القبيحة. سوف تترك ندبة بغيضة، لكن الندبات هي حصيلة أي حرب. إذا تطهر دمك، وإذا تمكنت من الوصول لحالة تسمح بالعمل، فليس هناك ما يعوقك عن أن تصبح الرجل الذي أراد الله أن تصير إليه حين ولدت.»
وهنا ضم جيمي مارجريت كاميرون بشدة بين ذراعيه وقبلها مرة تلو الأخرى على أم رأسها. ثم أطلقها ولاحقها بعينيه متعجبا، إذ كانت وهي تخرج من الباب الخلفي، يهتز كتفاها ببكاء أعمق وأطول من الذي قد تبكيه أشد النساء حنانا من فرحتهن بخطوة في الاتجاه الصحيح، حتى إن كان البكاء لجار عزيز جدا.
على مهل تحول جيمي عن الباب الخلفي. وعلى مهل عاد إلى الفراش الذي كان ممددا عليه. وعلى مهل جثا على ركبتيه وضم يديه المرتجفتين ووضع جبينه عليهما، وعندئذ، بخشوع، وبتأثر، من أعماق قلبه شكر الله.
ثم توجه إلى الثلاجة مباشرة واحتسى نصف لتر من عصير الطماطم.
الفصل الثالث عشر
مربي النحل
توالت بضعة أيام على جيمي حين كان الاستيقاظ في حد ذاته كل صباح بمثابة معجزة صغيرة له. أن يستيقظ مستريحا ومنتعشا، أن يستيقظ بأمل في قلبه، وينظر إلى امتداد الحديقة المتباين ونحو تلاطم أمواج البحر بلا توقف، ويقول لنفسه: «اليوم سأنقل الزنابق. سأشذب نباتات بنت القنصل. سأزرع بعض الطماطم.» أن يكون قادرا أن يقول لنفسه إنه سيفعل شيئا بناء، ولديه اليقين في قلبه أنه يمتلك القوة ليفعله والإقبال في روحه الذي سيجعله يستمتع بما يفعله؛ لأنه من ذلك الوقت فصاعدا، كان الاستيقاظ كل صباح معجزة جديدة بطريقة ما. بدا له كأنه يستطيع أن يشعر بالنقاء، بنظافة الدم الذي يتدفق في أوردته. كان يشعر أن القلب الذي في صدره قد هدأ، وراح ينبض بانتظام واطمئنان لم يعهدهما منذ زمن طويل؛ إذ توقف عن الاضطراب، حتى عند تسلق ارتفاع يتطلب مجهودا شاقا. أحس أن العضلات صارت تتشكل تدريجيا في أطرافه ويديه وأن ذهنه بات صافيا. فلم يعد الكائن الرعديد الذي يسير بتوان متسائلا كم من العمر تبقى له. إذ صار رجلا مصلوب العود متفائلا، لديه هدف محدد وهو أن يستمر في المباراة للنهاية ما دام الفوز متوقفا عليه هو ومارجريت كاميرون وكاليفورنيا. وقد كانت مباراة طويلة تلك التي هو بصددها.
يجري النضال من أجل الحياة من الإنسان مجرى الدم. فهو يطيق أي شيء إلا الموت. وقد جلس جيمي على جانب الفراش وجعل يتأمل كم هو غريب أن البشر قد يشكون من الألم والفقر والإحباط والانهزام من كل نوع، لكن حين يوشك الموت، الموت الذي قال الكشافة الصغير إنه جميل، يتسلح البشر في مواجهته ويقاومون حتى النفس الأخير، كما قاومه هو. وأقر بأنه قد يكون مخطئا، وأنه قد يكون مفرطا في التفاؤل، بل أن رؤية مارجريت كاميرون ربما تأثرت بآمالها من أجله. لكن ثمة شيء وحيد لا يمكن أن يكون مخطئا بشأنه. وهو أن جسده لم يعد بالغ النحافة ، وأن يديه صارتا أكثر ثباتا، وصار باستطاعته المشي دون أن تتقوس ساقاه تحته، وأنه أمسك عن نظرته السقيمة لذاته. كان قد وصل إلى المرحلة التي قام فيها مرات عديدة وهو وحده في المساء بإزاحة كتب النحل جانبا وانتقاء أعظم الكتب جميعا وقراءة فصلا تلو الآخر، فأدرك أنه لم يفعل ذلك قط ولو مرة دون أن يغلق الكتاب المقدس وقد اعتراه شعور بأنه قد اكتسب شيئا بطريقة ما؛ قد تكون كلمة واحدة فقط، أو فكرة ما، شيء يبقى معه ويعينه على أن يصنع يومه التالي.
وحينئذ نهض جيمي، وأمسك بقلم رصاص ورسم دائرة حول اليوم السابق في التقويم، ومن الدائرة مد خطا إلى الهامش وكتب الحرفين «ميم، كاف». أي مارجريت كاميرون، والتاريخ كان يوم اكتشافها أنه تحسن. سوف يتابع النظام نفسه شهرا آخر وبمزيد من الدقة، وبعد ذلك ستلقي عليه نظرة أخرى، وقد حفظ في ذاكرته عهدا وهو يرتدي ملابسه بأن تجده أفضل حالا.
وبينما هو ينظم الضمادات على جانبه المصاب، نظر عن كثب إلى الطبقة التي أزالها، وإذا بجيمي يجد نفسه فجأة يفعل ما كان الصغير سيسميه دورانا على ساق واحدة. فبالكاد كان هناك رشح طفيف شبه وردي. وظل يشعر طيلة الأيام التالية أن البقع لم تعد بالغة الضخامة ولا بالغة السوء. في ذلك الصباح كان هناك دليل عيني لا يمكن تجاهله. فقد كان البرهان على أن مارجريت محقة ماثلا أمام جيمي، أوضح من أن تنكره كلمات. وقبل أن يدرك جيمي ماذا كان يفعل، وجد نفسه يرقص في أنحاء المخدع بتحفظ أقل كثيرا وحماس أكثر من الكشافة الصغير وهو يرقص في ممشى الحديقة. حتى إنه كان يضحك من نفسه فعلا وهو يرتدي ملابسه، وحين سمع مارجريت كاميرون في المطبخ وقد جاءت بفطوره، فتح الباب ونادى عليها قائلا: «يا سيدة اسكتلندا!»
دوى صوته بنبرة لم تلحظها مارجريت كاميرون من قبل.
قال جيمي: «فلتتفضلي إلى هنا.» وتابع: «أمس رأيت العرض الأول. وهذا الصباح ستشاهدين العرض الثاني!» ومن ثم التقط جيمي الضمادة من سلة كانت تعبأ للذهاب إلى فرن حرق النفايات، وفتحها لتتمكن مارجريت كاميرون من رؤيتها.
قال جيمي: «منذ شهر مضى، كانت تلك الضمادات متشربة تماما بلون فاقع. أما هذه التي أزلتها للتو فهي تكاد تكون رطبة وبلون وردي شاحب جدا. آه، يا مارجريت، يا عزيزتي! سوف أنجو! سأعود رجلا مكتمل الصحة مرة أخرى!» «ستنجو بالتأكيد!» بادرته مارجريت كاميرون، وكانت على استعداد أن تبث في نبراتها جزما أكبر مما لديها في قلبها في سبيل هدف نبيل. لكن الفتى كان أفضل حالا. كان بمقدور أي شخص أن يرى ذلك. فقد بدا واضحا أن عظامه اكتست بمزيد من اللحم. ولم تعد بشرة وجهه شديدة الشحوب. راحت حمرة باهتة تتسلل إلى وجنتيه وشفتيه، فربما كان نصف المعركة يكمن في تصديقه أنه صار أفضل فحسب. كان ذلك على أي حال أفضل كثيرا من السلوك الكئيب حين كان يحسب أيامه معدودة ويقضي أغلب وقته في تخمين أكبر عدد.
خلال ذلك الشهر ظل الاثنان يعملان ويتشاوران باستمرار. فقد راجعا قوائم الحمية الغذائية مرارا، فجعلا الطعام الذي شعرا أنه مناسب ومفيد يتكرر أكثر، وحذفا الأشياء التي لم تكن مفيدة والتزما التزاما صارما بعصير الطماطم في الصباح، وعصير البرتقال في العصر، وأفضل حليب يمكن التحصل عليه بأكبر كميات يستطيع جيمي احتساءها. في ذلك الشهر كانا يسيران بانتظام. وكانا أحيانا يتبادلان الحديث الهادئ. من ناحية جيمي كان الشهر مفعما تماما بما يمتن له مسرورا. إذ أصبح قادرا في كل يوم على رؤية الإنجاز الذي أحرزه والشعور به. أصبح قادرا في كل يوم على زيادة إنجازه قليلا في الحديقة. في كل يوم كانت معلوماته عن النحل تزيد.
في ذلك الشهر نشأت لديه عادة أن يضع الإنجيل بجانبه ليكون آخر شيء يفعله قبل الذهاب إلى الفراش هو أن يقرأ بضع آيات، ومن التفكير في الصلاة ومن تأمل الشكر، تطور به الحال حتى واتته الشجاعة ليجثو على ركبتيه ويصلي صلاة شكر، في ظل هدوء الحجرة الصغيرة وسكونها. ثم تبعها بصلاة طلب. وجد نفسه يطلب من الله أن يتولى العالم كله برعايته، وأن يساعد كل من هو بحاجة إلى مساعدة، وأن يزرع الحماس والشجاعة في كل قلب للخروج والإقدام على المغامرة الكبرى لصالح ذلك القلب. وعند الدعاء الخاص، طلب الطاقة لرعاية النحل والحديقة رعاية صحيحة، وطلب العون، جسديا ومعنويا، ليصبح الرجل الذي يمكن لأبيه وأمه أن يفخرا به عن حق. ثم طلب من الله أن يرعى مارجريت كاميرون، وأن يخفف المتاعب التي بدت كامنة في قلبها أيا كانت. وبعدئذ، من أول مرة يجثو فيها ويرفع وجهه نحو العرش بحق، ذكر جيمي الكشافة الصغير. فقد أخبر الله عن الروح الطيبة والذهن المتقد اللذين يتمتع الصغير بهما، وكم كان الطفل محبا للغير وكم كان إحساسه بالحق بالغ النضج، وطلب رعاية الطفل الصغير وهدايته للسبيل الصحيح وإعطاءه الفرصة لأن يصبح مواطنا تنتفع به الأمة.
وحين جاء لسيد النحل، ازداد جيمي تضرعا، وتوسل إلى الله العظيم، إن كان ذلك مما ينسجم مع الخطة الإلهية ولو قليلا، أن يمد في عمر سيد النحل، وأن يعيده إلى بيته والأشياء المألوفة البسيطة التي تعطي للبيت روحه، وأن يدعه يتمتع ببضع سنوات أخرى في حديقته وألق ألوانها لتعزيه في أيام سهاده ونشيد البحر ليرسله إلى نوم هادئ. وأخيرا وصل إلى فتاة العاصفة، فطلب جيمي من أجلها الأمان والرحمة وأن يمنح القدرة على مساعدتها. ثم نهض، شاعرا بالاستقواء بطريقة ما، وأنه أعظم شأنا بقدر قليل، وأكثر اعتزازا بالنفس بنسبة ضئيلة، وأشد بأسا، وأكثر إنسانية مما كان في اليوم السابق. لقد طلب العون وشعر أنه سيتلقى العون، وشعر أنه لن يخجل ثانيا أبدا من مواجهة أي رجل، أو شخص من البشر، وسيخبرهم أنه قد طلب العون وأن العون آت في الطريق، وأن تلك التجربة في متناول كل رجل إذا قرر فقط أن يصدق كلمات الله؛ فقط إذا فعل ما يدعى كل الرجال دعوة جادة إلى فعله، أن يؤمن.
مر ذلك الشهر طيبا على جيمي. فقبل نهايته أصبح جيمي ينزع الضمادات التي تغطي جانبه ليجدها جافة ونظيفة. وبات الآن يستخدمها على سبيل الحماية للحم الرقيق الذي تكون حديثا ويغطيه جلد بالغ الرقة حتى يبدو كأن نفسا قد يمزقه، لا بسبب أي ارتشاح. حين كان جيمي يذهب إلى البحر فهو يستخدم ذراعه اليمنى فقط في السباحة. وحين كان يرفع حملا ثقيلا فهو يحمي جانبه الأيسر. وكان ليحضر شيئا من مكان عال فهو يستخدم ذراعه اليمنى. لكن لم يحدث قط ولو للحظة، خلال النهار أو في ساعات استيقاظه من الليل، أن توقف بين جنباته نشيد الشكر بسيطا خفيضا هامسا. ظل يغنيه طوال اليوم، مرارا وتكرارا، لكن كلماته كانت قليلة جدا. إذ كان يقول: «الحياة! الحياة! حياة نافعة! أحمدك، يا ألله، على فرصة الحياة، وفرصة العمل الجميل، وفرصة الأصدقاء الطيبين. أحمدك، يا ألله، على الحياة!»
كان كلما ذهب إلى المستشفى حمل معه زهورا من الحديقة، وأحيانا فاكهة ورسائل محبة من الكشافة الصغير، وهدايا طريفة متباينة تباينا كبيرا من مدية جيب بالية وعصا للكشط، إلى مجموعة مهترئة من أوراق اللعب للعب سوليتير.
ذات يوم وهو ذاهب إلى المستشفى قابل مارجريت كاميرون أثناء خروجها؛ فعرف أنها كانت في زيارة لسيد النحل وأنها لم تكن قد أخبرته بذهابها، وعرف من شحوب وجهها والألم البادي في عينيها أن حال سيد النحل لم يتحسن، وأنه لم يكن يستجمع قواه، وأن الأمل في رجوعه يوما إلى منزله الودود المحاط بحديقة من الحب زادته جمالا، ربما كان يتضاءل ببطء، يوما بعد يوم.
صعد جيمي إلى حجرة سيد النحل وطالع الحقيقة بنفسه. إذ كان السيد بصعوبة قادرا على الكلام. ولاحت على الملامح الكريمة شحوب بدا لجيمي مؤذنا بأن الروح النبيلة العجوز الماثلة أمامه باتت قريبة جدا من التأهب كي تصعد إلى بارئها. وحين نهض ليرحل واجه صعوبة بالغة في الحفاظ على صوته ثابتا وعينيه بلا دموع.
قال جيمي: «أريد أن أبلغك بمدى امتناني لك على الفرصة التي منحتني إياها لاستعادة رجولتي وتعلم عمل ما زال حبي له ينمو كل يوم أكثر فأكثر. وأود أن أشكرك على إعطائي في بيتك فرصة للرجوع إلى اتفاق سري مع الله، من أجل العثور على السلام والقوة الداعمة التي يمنحها طواعية لكل رجل يستطيع حشد شجاعته لتلقي الهدية.»
انحنى جيمي وطبع قبلة على جبهة سيد النحل. «هذه بالنيابة عن الكشافة الصغير، الذي بعث لك بفيض من المحبة.»
ثم قبله مرة أخرى، وأضاف بعفوية: «وهذه من جيمي. إنه يعرب لك عن المقدار نفسه من الحب.»
ظل سيد النحل قابضا على يدي جيمي بشدة طوال دقيقة، ثم قال فيما يشبه الهمس: «أشكر الله أنك قد تعلمت استيعاب وعده. إنني ممتن أنك تعلمت أن تقبل عطاياه، كذلك أعتقد أنك قد تعلمت ما يكفي من الحياة وما يكفي من الحب في منزلي وفي حديقتي لتصبح مستعدا لقبول أي هدية تنبع من الحب والثقة.»
خرج جيمي وهو يتساءل ما المقصود بذلك. وفي اليوم التالي عرف. إذ جاءه الاتصال مبكرا من المستشفى. لقد وجد سيد النحل سبيله لذلك العبور الجميل الذي وصفه الكشافة الصغير باستيعاب بالغ. بيديه مطويتين على صدره، أثناء نومه، أجاب النداء الذي جاءه في رفق شديد حتى إن الممرضة وجدته على الحال نفسه الذي تركته فيه. كان قد أوصى بأن تنقل رفاته على الفور إلى عنوان تركه في الشرق. فقد أراد أن يرقد في نومته الأخيرة بجوار الماريتين؛ ماري التي أحبها وتزوجها، وماري التي منحها حبهما الحياة. وحيث إن ثلاثتهم قد ماتوا الآن، فقد دعا جيمي في الصلاة التالية التي نطق بها أن تجدهم تلك الساعة متماسكي الأيدي هائمين وسط مواقع أروع جمالا من التي ضمتها الحديقة الصغيرة قط، بل وسط مباهج وديان الجنة.
أثناء إبلاغه بالخبر، طلب منه الدكتور جرايسون أن يأتي إلى المستشفى من أجل عقد لقاء، وعند وصول جيمي إلى المستشفى بعد ساعة أصابه الذهول لما وضع بين يديه آخر وصية لسيد النحل، جاهزة للتنفيذ. وقد جاء فيها، أنه بدافع الحب والمودة، توهب الأملاك الموصوفة في هذه الوصية ويوصى بها، للساكن والراعي الحالي، جيمس لويس ماكفارلين، ومساعده الأول، جين ميريديث. تقسم الأملاك المذكورة بالتساوي بين المستفيدين، على أن يكون الفدان الواقع على اليمين في مواجهة الشارع بما عليه من قفائر نحل من نصيب جين ميريديث. ويكون الفدان الواقع على اليسار في مواجهة الشارع من نصيب جيمس لويس ماكفارلين بكل ما عليه من ملحقات. تبع ذلك بند آخر يقضي بأن على الوريثين الاقتراع على حيازة المسكن، على أن يصبح من يفوز في القرعة هو مالك المنزل، وتسدد نفقات النقل من أموال الإرث الموجودة في البنوك، وهي التي ستوهب أيضا، النصف بالنصف، للمستفيدين من الوصية. ومن هذه الأموال نفسها يسحب مبلغ كاف لبناء نسخة مطابقة للمنزل، أو بناء منزل بنفس عدد الحجرات، والمظهر العام، والمرافق على أرض الخاسر. أما الجزء المتبقي من الأموال التي في البنك، بعد إجراء هذه العمليات، فيقسم بالتساوي بين الطرفين المستفيدين من الوصية.
بعد شرح هذه الوثيقة العجيبة شرحا دقيقا لجيمي، جلس وهو ينظر نحو الدكتور جرايسون وقد بدا عليه الحزن. ولم يخجل البتة من الدموع الغزيرة التي جرت على وجنتيه.
ثم قال محتجا: «لكنني لا أستطيع. فأنا لا أستحق ذلك المكان. لا بد أن هناك شخصا أقرب مني لسيد النحل.»
فقال له الدكتور جرايسون: «حسنا، إن كان هناك فلا تقلق. فسوف يصلك منهم خبر. إذا كان هناك على قيد الحياة أناس يشعرون أنهم أحق منك بتلك الأملاك، فسوف يظهرون. في الوقت نفسه، سنذهب وراء الاعتقاد بأن سيد النحل كان واثقا من رغبته وعالما بشئونه وأنه، بمنحك هذا المكان، أراده أن يصبح في يد الرجل الذي سيقدره، ويحبه، ويحافظ عليه كما تركه سيد النحل، مهما كانت الظروف.»
ظل جيمي جالسا يحملق، ويمعن التفكير، وعندئذ أدرك ماذا كان سيد النحل يعني حين قال في الليلة السابقة إنه يجب أن يتعلم أن يقبل أي هدية نابعة من الحب كما يقبل عطايا مالك السموات. كان سيد النحل يشعر أن ساعته قد حانت، وأن أجله قد اقترب، وكان يرمي بطريقة ما إلى إعداد جيمي لواقع أن البيت الصغير والنحل والحديقة المتألقة ستصبح، جزئيا على الأقل، هدية محبة له. وعلى نحو مفاجئ اعتدل جيمي في جلسته وكرر الاسم ببطء. «جين ميريديث.»
عندئذ أدرك أنه لا يزال على جهله. لم تزد معرفته شيئا عن ذي قبل. فإن جين قد يكون صبيا وقد يكون فتاة. وهنا نظر إلى الدكتور جرايسون.
وسأله: «هل يعلم جين ميريديث بهذا الأمر؟» «لقد أعطاني سيد النحل رقم الهاتف وقد اتصلت بالأب والأم. أجل، عرف صديق سيد النحل الصغير بالأمر.»
تساءل جيمي: «وهل سيقبل الأبوان بتلك الهدية بالنيابة عن الطفل؟»
فأجابه الطبيب: «بكل تأكيد.» وتابع: «ولم لا؟ فربما لم يكن لسيد النحل على وجه الأرض شخص ارتبط به ارتباطه الشديد بذلك الصغير الذي كان يشير إليه دائما بصفته شريكه. وما دام ليس لديه طفل من صلبه، فلا يوجد سبب يمنعه من ترك أملاكه لأي شخص يختاره. وكان لديه كل الحق أن يتركها للرجل الذي رعاها في غيابه، الرجل الذي وثق فيه، وللطفل الذي ربما خفف من ضجر ساعات حالكة في حياة سيد النحل أكثر من العالم بأسره مجتمعا. لقد بدا لي من الصواب واللائق تماما أن يفعل سيد النحل ما فعله بالضبط. نسيت أن ألفت انتباهك إلى بند أخير وملحوظة لاحقة في شكل ملحق للوصية بشأن مفروشات المنزل. فكل ما في غرفة المعيشة والكتب تئول للكشافة الصغير؛ أما باقي المفروشات فهي لك.»
نهض جيمي. ومد يده للدكتور جرايسون.
وقال: «سأخرج للهواء حيث أستطيع أن أمشي وأفكر.» وأضاف: «لكنني أخبرك من الآن أنه لا جدوى من إثبات صحة تلك الوثيقة. فقد كتبها رجل مريض ...»
فقال له الطبيب: «لقد كتبها رجل كان يناضل للبقاء على قيد الحياة بعد خضوعه لعملية جراحية.» وتابع: «كان ذهنه صافيا مثل ذهنك وذهني حين قلت له تصبح على خير في الساعة العاشرة ليلة أمس. لا توجد محكمة في البلد تستطيع أن تمس تلك الوصية.»
فقال له جيمي: «مستحيل تماما. فلن أفكر حتى في الأمر.»
فقال له الدكتور جرايسون: «بلى، ستفكر، لأنك إن لم تثبت صحة تلك الوصية، فسأفعل أنا ذلك بالنيابة عنك ولتتأكد تماما أن السيد ميريديث سوف يحرص على رعاية مصالح طفله. لتقبل التركة سواء كنت راغبا فيها أو لا. وإن لم ترد الاحتفاظ بها، فلتتنازل عنها بمجرد أن تصبح في يديك، إذا كان يرضيك أن ترى شخصا كان سيد النحل سيبغضه يدخل المنزل الصغير ويتاجر بالحديقة، فالأمر يعود إليك، فيما له صلة بالنصف الخاص بك. بإمكانك أن تقرر موقفك عندما يحين الوقت. وما دمت في شك كبير من الأمر، فأعتقد أنه من الأفضل أن تحيل الوثيقة للسيد ميريديث، لكن من الوارد أن يرغب في تعاونك معه.»
قال جيمي بعناد: «حسنا، لن أفعل!» وأضاف: «لن أقبل شيئا لم أكتسبه بنفسي!»
قال الدكتور جرايسون بنفاد صبر: «أوف، سحقا للاسكتلنديين!» وأضاف: «إنني سعيد بكوني إنجليزيا وعلى استعداد لقبول كل ما أستطيع الحصول عليه، وإنك أول اسكتلندي أراه لا يرغب في الاستحواذ على كل ما يمكنه الحصول عليه، ناهيك عن أنه جاء فعلا على سبيل الهدية. وما دمت لا تقبل الأشياء التي لم تكسبها بنفسك، فمن الأجدر بك أن تتوقف عن التنفس، وأن تتوقف عن الاستمتاع بأشعة الشمس، وأن تتوقف عن تناول ثمرات الأرض. فكلها هبات قبلتها، وقبلتها بكل سرور!»
فقال جيمي: «إن الهبة من الله شيء. أما الهبة من شخص عرفته مدة بالغة القصر فهي شيء مختلف.»
فأجابه الطبيب: «لا فرق بين الهبتين. فكلاهما عطايا، وإنني أقول مرة أخرى إنك ستصبح أحمق إن لم تقبلها بقلب ممتن!»
هز جيمي رأسه، مبتعدا من المكتب، لينزل إلى الشارع ثم يعود إلى المنزل وإلى الحديقة الزرقاء التي حدا حب الزهور وحب الجمال في قلب رجل عاطفي به ليبنيها حول أحد البيوت. خطا برفق أثناء دخوله من الباب. وحمل قبعته في يده ونظر حوله باحثا عن مكان، غير مرتبط ارتباطا وثيقا بسيد النحل، حيث يمكن له الاستلقاء.
ماذا كان ذلك الذي قالته تلك الوصية المدهشة؟ فدان من التربة الخصبة المزدحمة لأقصى حد بزرع رائع، وصف من القفائر البيضاء الممتدة على طولها، وأموال في البنك، والكثير من الملابس المريحة الملائمة له، وفراش لينام عليه، وكلها ملك له إذا أراد أن يمد يده ويأخذها؟ وإذا بجيمي يكتشف أنه ليس قويا كما ظن نفسه؛ لأنه راح يرتعش حتى اصطكت أسنانه وجعلت الدموع تنهمر على وجنتيه حتى بات مجهدا. ومن ثم نهض وسار في الممشى الخلفي حتى بلغ أقصاه، وفتح البوابة وخطا إلى المدق الهابط إلى رمال البحر البيضاء. وهناك وقعت عيناه على منظر عجيب.
إذ تراجع اثنان من الأطفال مرتدين عند أحد الصخور، وهما يقومان بمحاولات خائرة للدفاع عن النفس، وأمامهما وقف شخص ضئيل بمجرفة رمال جعل يستخدمها بدقة المحراث الدوار وسرعة الدوامة. كانت الضحيتان المحاصرتان عند الصخرة تفركان أعينهما وتلهثان وتبذلان جهدا غير مجد للرد. وبدا واضحا لجيمي أن الرمل المتطاير كان قد أوشك جدا على خنقهما. وببضع خطوات واسعة ذهب إلى هناك لإنقاذهما. إذ أمسك بالكشافة الصغير من حزامه وجذبه بشدة.
وقال: «رفقا، يا صديقي! مهلا!» وتابع: «سوف تخنق هذين الطفلين!»
انتشل الكشافة الصغير المجرفة ورفع وجها غاضبا وهو يفسر ما حدث: «هما من بدآ! لقد ضايقاني! ظللت دون أن أفعل شيئا حتى رمياني بالرمال عدة مرات!»
فقال جيمي: «بالتأكيد. بالتأكيد، لكن ليس هذا بالسبب الكافي الذي يدفعك إلى خنقهما. إنك تهاجمهما مثل الزوبعة!»
شد الكشافة الصغير قامته. وتنفس نفسا عميقا ملأ صدره الذي راح يرتفع وينخفض. لم تكن الحجة المطروحة محل نقاش. «مجددا، لقد ألقيت على كل واحد منهما الكمية نفسها التي بإمكان كليهما إلقاؤها علي؛ كان لا بد أن ألقي كمية كبيرة!»
استوعب جيمي ذلك الأمر ببطء.
ثم قال: «وربما فعلت. هل هذه المجرفة لك أم لهما؟»
فأجابه الكشافة الصغير: «إنها مجرفتهما. لقد أخذتها من أكبرهما، فلتلحظ أنه أطول وأشد مني. وكان ذلك ما حدث.»
فقال له جيمي: «لتأت معي. هيا نصعد إلى هذه الصخرة ونجلس لمشاهدة المحيط. متى كنت في المنزل آخر مرة؟»
فأجابه الكشافة الصغير: «لقد غادرته بعد الفطور مباشرة.» وتابع: «فاليوم هو السبت، كما تعلم. وقد أتيت لمساعدتك في رعاية النحل ، لكنك لم تكن موجودا، فنزلت إلى الرمال وخطر لي أن أبحث لأرى إن كان ثمة شيء لأفعله، وفي الحال بدأ ذانك الصبيان مضايقتي، فرأيت أنه من الأفضل أن ألقنهما درسا.»
اتجه جيمي نحو العرش وإلى جانبه سار الكشافة الصغير هرولة.
وحين جلسا أخيرا يطلان على المحيط، قال جيمي: «إذا كنت لم تعد للمنزل منذ الفطور، إذا كنت لم تعد للمنزل منذ الفطور، يا جين ...»
قاطعه الكشافة الصغير: «من أخبرك أن اسمي جين؟»
فأجابه جيمي: «الدكتور جرايسون. لقد أخبرني هذا الصباح في المستشفى أن اسمك جين ميريديث.»
استفسر الكشافة الصغير: «ما الذي ثرثر به عني غير ذلك؟» بدا جليا لجيمي أن الجسد الصغير الجالس بجواره قد فاض تماما على نحو مفاجئ بالتمرد، وصار مستنفرا لمعركة.
فقال جيمي: «لم يقل أي شيء، عدا أن لديك من الحكمة ما يجعلك تقبل الهدية الرائعة جدا التي ستقدم إليك.»
سأله الكشافة الصغير على الفور، وقد بدأ تمرده يخفت: «هل هي حصان؟»
فقال جيمي: «لا، إنها شيء أغلى ثمنا من عدد كبير من الخيل. دعك من أمرها الآن. ثمة شيء آخر أريد إخبارك به. لقد أتيت لتوي من المستشفى.»
انسحب الصغير من جيمي شيئا فشيئا. وببطء اتسعت العينان الرماديتان. وببطء انقبضت يداه. وببطء راح صدره الصغير يرتفع وينخفض مرة أخرى. «آه!» جاءه صوت الصغير مبحوحا. «آه! لا، لم يرحل ليخلد للنوم الهانئ، أليس كذلك؟»
جلس جيمي ساكنا وجال ببصره في أنحاء المحيط. كان الخبر بمثابة ضربة وجد نفسه عاجزا عن تسديدها. وببطء تحولت عيناه إلى الوجه المفزوع للطفل الذي بجانبه، وإذا بالكشافة الصغير يرتمي بجسده المرتجف بين ذراعيه ويدفن وجهه المنقبض في صدره، ولمدة قصيرة من الوقت وجد جيمي صعوبة في احتواء الجسد المتلوي بين ذراعيه. فطرأت على باله فكرة غريبة. تلك الصخرة التي كان قد سماها العرش لم يكن ذلك الاسم الأنسب لها. فقد بدا أنها مكان يأتي إليه الناس بمتاعبهم. إذ كان في موقف سابق عليها ضم بين ذراعيه جسد امرأة معذبة لأقصى درجات الاحتمال. والآن يضم جسد طفل هزيل وخفيف للغاية حتى إنه لا يكاد يقدر على التحكم في ذراعيه الطويلتين لإعطائه الدعم المطلوب.
قال جيمي متوسلا: «توقف!» ثم أردف قائلا: «لا تنظر إلى الأمر هكذا! دعني أخبرك شيئا. لقد جرى الأمر كما جرى مع عمتك بيث. كان في الليل من دون حتى أن يوقظ سيد النحل. وكانت يداه مضمومتين على صدره هو الآخر. وكان على وجهه ابتسامة رائعة، الابتسامة نفسها التي وصفتها بالضبط، الابتسامة التي تبدو وكأن هناك سرا عظيما كانت الشفتان المضمومتان ستنطق به لو أنهما تستطيعان الحركة.»
تلمس جيمي منديله وأخذ وجه الكشافة الصغير ومسح الدموع المنهمرة ثم وضع يده الكبيرة تحت الوجنتين المرتعشتين وظل متشبثا بهما.
ثم قال يرجوه: «لا تبك هكذا.» وتابع: «إنك تعذب نفسك تعذيبا بالغا! ما كان سيد النحل ليروقه ذلك. ألا تذكر حين قلت إن كل الملائكة ستسر حين ترى عمتك بيث وهي آتية تسير، مستقيمة القامة وشامخة، وبخطوات واثقة، على الطرق المزروعة بالزهور في الجنة؟ هذا ما سيحدث مع سيد النحل. إنك تتصرف بأنانية حين تبكي هكذا. فإنك لا تفكر فيه، وعن رجوعه لماري وفتاته الصغيرة؛ إنك تفكر في نفسك.»
على الفور استقام الجسد الصغير. «بالتأكيد أفكر في نفسي! ولماذا لا أفكر في نفسي؟ فهي كل ما لي، أليس كذلك؟ من الذي سيتألم حين أشعر بوجع أو لا أقوى على السيطرة على بيل السمين الطيب، أو حين لا أستطيع أن أجعل أحدا يفهم أي شيء من الأشياء التي كان دائما يفهمها؟ فلم يكن هو الوحيد الذي باح بأسراره. حين أخبرني بكل شاردة وواردة عن خيبة مسعاه والناس الذين جنوا عليه، لم يكن وحده من تكلم. فقد عرف عني بقدر ما عرفت عنه، والآن ليس لدي إنسان على قيد الحياة لأذهب إليه ويفهمني! ماذا سأفعل؟ فقط أجبني على ذلك السؤال! ماذا أنا فاعل؟»
وعلى نحو مفاجئ وجد جيمي نفسه يأخذ الوجه البائس الذي أمامه بين يديه؛ وجد نفسه يضعه على وجهه، على إحدى صفحتي وجهه أولا ثم على الأخرى؛ وجد نفسه يحتضن الجسد الضعيف حتى شعر أنه يكاد يهشم عظامه، ثم سمع صوته عميقا ومبحوحا وهو يقول: «تأتي إلي مباشرة! حين يكون لديك سر تريد حفظه، وحين لا يبدو أن هناك من يفهمك، وحين ينقلب عليك بعض أفراد مجموعتك وتتعقد الأمور، تعال إلي!»
على الفور تملص الكشافة الصغير منه. ولقي جيمي نظرة ثابتة ذات عمق ورجاء لم ير لهما مثيلا قط في عيون البشر.
بينما يسأله الكشافة الصغير: «هل أنت صادق فيما تقول؟» ثم قال: «هل تتعهد بأن تنتزع قلبك، وتمزقه، وتلقي كل قطعة منه في جهة من جهات الأرض الأربع؟»
فسأله جيمي: «أي المنظمات الأخوية (مجموعات من أشخاص لهم نفس الأهداف) كنت تقرأ طقوسها؟»
فقال الكشافة الصغير بهدوء: «منظمة أبي. إنما جعلنا العهد الخاص بنا قاسيا بقدر ما استطعنا.» ثم قبض أصابعه مرة أخرى. «بأمانة؟ هل تقصد حقا ما قلته مخلصا؟»
فقال جيمي: «بأمانة. مخلصا فيما وعدت به. وأقسم عليه بحياتي.» «احمل يدي اليمنى واتل القسم أمام الله العظيم! سأظل صديقك دائما. سأحفظ أي سر تخبرني به. سأفعل أي شيء في العالم يمكنني أن أفعله في أي وقت، في أي مكان، لأكون عونا لك.»
اندفعت إليه يد ثابتة.
قال الكشافة الصغير: «فلتصافحني!» وتابع: «كل ذلك سيسري علي. كل ما وعدتني به، أعدك به. سوف آتي إليك كما كنت آتي إلى سيد النحل. سنصبح شريكين كما كنت أنا وهو. وسوف أساعدك بقدر ما أستطيع. لكن صحيح، ماذا سيحدث للنحل؟ وماذا سيحدث للحديقة؟ وماذا سيحدث لذلك المنزل الجميل؟»
تردد جيمي. يجب على أحد الأشخاص أن يخبر الطفل. وها هما معا. كانت هذه فرصته. فقد أراد أن يسمع وجهة نظر طفل. ولم لا؟
ومن ثم فقد قال بهدوء: «هل تعتقد أن هناك في العالم كله أي شخص كان سيد النحل يحبه أكثر مما أحبك؟»
فأجابه الكشافة الصغير: «لست مضطرا إلى إهدار أدنى مجهود في شرح أي ظنون بذلك الشأن.» وتابع: «فلدي معلومات واقعية، وقد حصلت عليها من الزعيم الأعظم؛ حصلت عليها من الخالق الكائن في السموات؛ لقد عرفتها حين اقتربت بشدة من قلب سيد النحل؛ عرفتها من قبلة حانية وإنه سر لن أخبر به أحدا سوى الرجل الذي سيحل محله. تذكر أنك حلفت يمينا وهذا أول ما سأخبرك به لأنه كان سرا بيننا. ربما كان هناك ناس لن يروقها السر لو كانوا اطلعوا عليه. كان هناك من الناس من سيستاء منه. لم يكن ليروق مارجريت كاميرون، من ناحية، لأنني أشك إن كانت تهتم لأمر لولي أكثر مما كانت تهتم بسيد النحل. بناء على ما رأيته منها، طريقة تنظيفها لمنزله ورعايتها له! أعتقد أنني رأيت أمي وهي تتودد إلى أبي من قبل. وأعتقد أنني أعلم القليل عن المتزوجين، وأظن بناء على ما رأيته منها أنها كانت ستسر سرورا بالغا لو كان سيد النحل قال لها: «هل تقبلين الزواج بي؟» وكانت ستقبل بكل تأكيد! كانت ستقبل أيما قبول! لكنه لم يسألها الزواج قط، ولم ينو أن يسألها قط. فإنه لم يحب البتة أي امرأة في العالم كله سوى ماري، وكان قد سمح لامرأة واحدة بخداعه حين كان في غاية الوحدة بعد رحيلها، مثل دجاجة تحاول أن تتطلع حولها ورأسها مقطوع، حسنا، ذلك أيضا سر! يبدو أنني أفشي إليك بكل ما أعرفه مرة واحدة. ربما تسمعها منظمة أكثر وتبقى في ذاكرتك بشكل أفضل إذا أخبرتك بكل واحد على حدة، وعلى أي حال، سيكون منطقيا أكثر أن أخبرك بأسراري. فربما لا يروق له أن أخبرك بأسراره. وإنني لم أقصد كذلك. لكنه الحديث عن مارجريت كاميرون جعلني أتذكر كيف كان باستطاعتي أن أخبرها، في أي مرة من المرات وهي تدور حول نفسها، أن كل ما هنالك أنه كان يراها امرأة مهندمة، وكان يرى أنها كريمة، وكان يفضل أن يلعب معها أحد ألعاب الكوتشينة أو الداما على أن يفكر في الشيء الفظيع الذي ألم بأكثر سيدة أحبها وبصغيرته ماري. كلا، ما كان يجب أن تظن قط أنه أحبها أكثر؛ لأنه لم يفعل. وإنما كان يحبني أنا بكل تواضع! أما كيف عرفت فقد أخبرتك من قبل. لأنه أخبرني! وما كان سيضطر لأن يقول ذلك لو لم يرد. فلم يطلب منه أحد ذلك. لم يدفعه أحد لذلك. بل كان هو من أقبل عليه من نفسه.»
فقال له جيمي: «حسنا، إذن، ما دام قد أحبك لتلك الدرجة، وأنت تعلم ذلك، وإذا كان ذاهبا في رحلة طويلة ولديه شيء عزيز جدا عليه سيتركه، فمن تعتقد سيكون الشخص الذي سيتركه له؟»
سيظل جيمي ما دام حيا يتذكر رد فعل الكشافة الصغير على ذلك السؤال. فقد انتصبت قامته النحيفة. ورفع رأسه عاليا للغاية. وشمخ بذقنه. وراح يطرف بعينيه. ووضع يدا على صدره أسفل عنقه؛ ثم فتح فمه وأغمض عينيه، وجعل الكشافة الصغير يمثل ابتلاع لقمة كبيرة أكبر ما يمكن نزوله على الإطلاق في حلق صغير. ثم تكلم بصراحة من دون مواربة، وقد بدأ جيمي يدرك أن ذلك شأن الكشافة الصغير في كل تصرفاته. «حسنا، بالقطع سيتركها لي بطبيعة الحال!»
جاءت الكلمات بهدوء وعفوية واقتناع من شفتين مطمئنتين. «سيتركها لي، وربما يترك لك بعضا منها لأنك التزمت بالعمل حين كنت تكاد لا تكون قادرا على ذلك، وواجهت النحل كما يجدر برجل حقيقي أن يفعل، وكنت أمينا في رعايتك شئونه. بإمكانك أن تدون إجابتي على ذلك السؤال: سوف يترك لي جزءا، وإذا فعل الصواب، كما كان يفعل دائما، فسيترك لك جزءا.»
فقال له جيمي: «حسنا، يا لك من بارع في التخمين يا جين! هذا ما فعله سيد النحل بالضبط. فقد ترك رسالة يعتقد الدكتور جرايسون أن المحاكم ستعمل بها، وتقول الرسالة إن الفدان الغربي من تلك الحديقة البديعة والقفائر التي عليه من حقك، والفدان الشرقي وما عليه من قفائر من حقي. من ناحيتك لك حرية أن تفعل أيا ما تراه أنت ووالداك مناسبا. أما أنا، فهي تبدو لي كهدية لا يمكنني قبولها.» «كيف ذلك؟»
وجه الكشافة الصغير السؤال لجيمي بحزم.
فقال جيمي: «مهلا، إنني لم أفعل أي شيء لأستحقها. كل ما فعلته هنا هو نقطة في بحر مقارنة بقيمة فدان الأرض الواقعة أسفل ذلك المنحدر، بما فيها من زرع، والنحل الذي يملؤها. إنه ببساطة بمثابة الانتقال إلى منزل ومعيشة مريحة ومهنة أعلم يقينا أنني مؤهل ذهنيا لإتقانها خلال بضع سنوات من العمل بحب واجتهاد، ولدي كل الكتب التي أحتاج إليها وكل المواد التي أحتاج إليها، واسم رجل سيساعدني. الأمر في غاية السهولة! كأنها قصة خيالية! إنه حلم! والأمور لا تجري هكذا في الواقع.»
هنا جعل الصغير يقلب الأمر على وجوهه.
ثم قال بصوت رصين: «فلتصغ إلي» ووضع يده الصغيرة على خد جيمي وحول إليه وجهه فورا بحيث يتلقى نظرات المتحدث. ثم تابع: «أصغ إلي! ربما تظن أن الضمادات التي ترتديها لا تظهر من وراء القميص على ظهرك؛ لكنها تظهر حين تنحني. إنك تحسن إخفاءها ولا تتذمر، لكنك ما كنت سترضى أن تصبح مقيدا تماما هكذا لو لم تكن مضطرا إلى ذلك. وذلك معناه أنك واجهت في طريقك متاعب وأشياء آذتك وضرتك ضررا بالغا، وكان ذلك من أجلنا جميعا، «من أجلك يا بلادنا.» لكنك ثابرت وتحملت آلامك، ولم تشتك، ونجوت منها. فقد عرفت، وحدك تماما، أنه قد تنالك أشياء بشعة وأشياء بغيضة، وربما أشياء لم تكن تستحقها على الإطلاق. فلماذا إذن لا يحدث لك شيء رائع وجميل بنفس الطريقة؟ لماذا لا يمكن لشيء جميل أن يحدث لك تماما كما ألم بك أمر بغيض؟ لماذا لا يمكن أن تحصل على فدان أرض بقفائر نحل وزهور تماما كما أصابتك كارثة كدت أن تموت منها كمدا؟ هلا تغاضيت عن هذا الأمر؟»
فقال له جيمي: «حسنا، بعد تأمل الأمر، تذكرت قانون التعويض. حسب قانون التعويض حين تمضي الأمور في اتجاه ما حتى تبلغ أقصاه، فإنها أحيانا ما ترتد وتمضي بالقدر نفسه في الاتجاه الآخر.»
جاءه رد الصغير: «بالتأكيد!» ثم قال: «ذلك هو الصواب! هكذا تنظر إلى الأمر! فلا تجلس وتقول إنك لا تفهم ما حدث ولا تستحق هذه الأشياء. لأنك تستحقها، وإلا ما كنت ستحصل عليها ! ما دامت فيك صفات مميزة، وأعتقد أنك ولدت بها تماما كما ولد بها أخي الصغير. فمنذ جاءوا به من المستشفى وترى فيه صفات من أبي، وترى فيه أشياء من أمي، وأرجو من الله أن تصبح به صفة واحدة تشبهني! حين ركبت قاربا ومررت بالكهف الكائن في الصخور، حيث تستطيع أن ترى الضوء، إن أمعنت النظر، قالت مولي إنني إن تمنيت أكثر شيء أرغب فيه في الدنيا عند رؤية الضوء فسوف يتحقق. لذلك فقد تمنيت أمنية وأرادت مولي أن تعرف ما تمنيته، لكنني لم أخبرها. إنني أحب مولي، لكنه ليس من شأنها. إنني أحبها، لكنها ليست كاتمة أسراري كما كان سيد النحل وكما ستصبح أنت الآن من بعده. لذلك سأخبرك بما تمنيته من أجل أخي الصغير حين رأيت الضوء الذي يجعل الأمنيات تتحقق. لقد خطر لي هو فقط لحظة أن رأيت الضوء؛ لأن رغبتي في الشيء الذي أتمناه لأخي الصغير أكبر حتى من رغبتي في حصان. لذلك بأسرع وبأقوى ما استطعت، قلت بنية صادقة موجها نظري إلى الضوء مباشرة: «أتمنى ألا يصبح صغيرنا جيمي شخصا نذلا حين يكبر أبدا»!»
نهض جيمي وأخذ الكشافة الصغير من يده.
وقال: «هيا يا جين، لنعد للمنزل.»
جعل الكشافة الصغير يقفز من شق إلى شق هابطا الصخرة أمام جيمي ثم انتظره أسفلها. «يبدو أن اسمي قد راق لك.»
فقال جيمي: «حسنا، إنه اسم غاية في الجمال. وإنه معلومة مؤكدة عرفتها عنك، بيد أنه لا يخبرني ما إن كنت فتى أم فتاة.»
وعندئذ رأى جيمي التمرد الذي لاح في الحال في العينين المرفوعتين إلى عينيه.
سأله الصغير في حدة: «أما زلت تجتر ذلك الهراء القديم؟» وتابع: «ما زلت مشغولا بالتفاهات ومعك ما هو أهم. ما دمت شريكك وأنت كاتم أسراري، وما دمنا عائدين للمنزل معا، أفليس ذلك كافيا لك؟»
فأجابه جيمي: «يجدر بذلك أن يكون كافيا لأي شخص.»
ومضى الاثنان عبر المسار متجهين إلى البوابة الخلفية. لكن توقف الكشافة الصغير في منتصف الطريق ونظر إلى جيمي مخمنا . «هل علي أن أناديك سيد النحل من الآن؟»
فقال له جيمي: «لا. لن تناديني سيد النحل، بل ربما لن تناديني بهذا الاسم إلا بعد عدة سنوات. فإن سيد النحل مسمى لا بد أن يكتسب بالعمل الشاق وصواب الآراء والعمليات الدقيقة. إنه مسمى اختص به عن جدارة الرجل الذي توفي الآن. لقد استطاع أن يسير به بسمو وشموخ. لكنه يعلو كثيرا عن مقامي. سيكون علينا أن نجد لي مسمى بمعنى مواصلة السير رغم العقبات باستكانة وتواضع، دراسة ما أعمل والاستمتاع به لأقصى حد كل يوم، الإقبال على الأشياء بكل حماس وبذل أقصى ما أستطيع من جهد، الالتزام بالعمل لأنني أحببته فحسب، كما توقعت لي.»
بين الصور الذهنية الباقية في وعي جيمي ترسخ ما رآه من ارتفاع الكتفين، وميل الرأس للوراء، وارتفاع الذقن، والتلويح بكلتا اليدين، حين سقط على أذنيه القول الفصل إذ قال: «حسنا، إذن، ما دمت تريد أن تكون متواضعا وبسيطا، وما دمت تريد التعمق في أصول العمل، فيجدر بك أن تجيب عن النداء الذي يصفك، مربي النحل. إنه اسم رائع لأي رجل.»
فقال جيمي: «أتفق معك تمام الاتفاق. إنه لقب رفيع. إنه يرضيني تماما، بل أكثر مما يمكن لأي لقب من الألقاب ذات الأصل الألماني.»
تساءل الكشافة الصغير: «هل «سيد النحل» ألماني الأصل؟»
فجاوبه جيمي: «أجل، ذلك اللقب ألماني الأصل.» «هل كان سيد النحل ألمانيا؟»
فقال جيمي: «لا. مطلقا! إن سيد النحل بريطاني النشأة والتعليم. تصادف وجوده في بلدنا، لكنه بريطاني الأصل وحسبما أظن فقد يكون بريطاني المولد.»
فقال الصغير: «حسنا، إن ظنك ليس في محله.» وأضاف: «وذلك شيء آخر أخبرني إياه بنفسه. لقد ولد في بنسلفانيا، ولقي ماري هناك وتزوجها هناك وعاش هناك، وكانت الصخرة المائلة البغيضة في الجبال هناك.»
سأله جيمي: «أي صخرة مائلة؟»
أحنى الكشافة الصغير نظره.
وقال بعد حسم أمره: «أعتقد أنني مضطرب نوعا ما اليوم. أعتقد أنني ذكرت أمرين أو ثلاثة كان يجدر بي التزام الصمت حيالها. لن نتحدث عن تلك الصخرة اليوم. ربما أحكي لك عنها ذات يوم. إنها حكاية مروعة جدا وحين أفكر فيها لا أنام جيدا. وحين أفكر فيها باستغراق، لا أستطيع التوقف البتة. أريد أن أراه قبل أن يرسلوه بعيدا. أريد أن أسوي شعره وأضبط ربطة عنقه وأطوي يديه بنفسي. أريد أن أضع قدميه في وضع مريح وأود أن ألبسه نعله كذلك.»
وعندئذ بالتحديد انهار جيمي. كانا آنذاك قد بلغا المقعد الكائن أسفل الجاكرندا. فجلس عليها ودفن وجهه في يديه وعلا صوته بالنحيب. بينما وقف الصغير بجانبه ووضع ذراعيه الصلبتين حول عنقه.
ثم قال وقد جاء صوته خشنا من الانفعال: «آه، لا تقل إنهم مضوا في الأمر وأرسلوه بالفعل؟ إنهم وضعوه في قطار الصباح؟ إنهم لم يعطوني فرصة؟ إنهم سمحوا لأحد آخر بضبط هندامه؟»
استقام جيمي في جلسته.
ثم قال: «أخشى أن هذا ما حدث، يا عزيزي.»
قال الكشافة الصغير مجهشا في البكاء: «بئس ما فعلوا!» وتابع: «إن هذا لم يمنح سيد النحل أي مظهر فخم، ولم يمنحني أي مظهر فخم أيضا! إنما كان سيريدني أنا أن أضبط مظهره؛ لأنه كان يحبني أكثر. كانت أمي ستأتي معي وكذلك أبي. إن الدكتور جرايسون يعرفني جيدا، وسوف أخبره برأيي في ذلك الأمر! كنت قد اتصلت به هاتفيا ربما عشر مرات وأتيت به هنا وكنت أهرول بأقصى سرعة لإحضار ما يريد ولتسخين المياه ولمساعدته. وكان يعرف تماما من الذي يفضل سيد النحل أن يسوي له هندامه عند ذهابه للقاء خالقه! ليس هذا عدلا!»
وعندئذ انهار الصغير، فحانت لجيمي فرصة مواساته. وبعد برهة، حين أصبح كلاهما أهدأ حالا، جلسا على المقعد متجاورين وجففا دموعهما بالمنديل نفسه.
وفي تحول مفاجئ كما كان دأبه، قال الصغير متسائلا: «هل قسم الأشياء على النحو الذي كنت ستريده؟ هل منحك من الحديقة الجانب الذي كنت ستفضل الحصول عليه؟»
فجاوبه جيمي: «بالقطع، إنني راض تماما. ولا أرى أي فرق.»
فقال الكشافة الصغير: «أما أنا فأرى فرقا. لو كان لي حق الاختيار، فسأختار الجانب الشرقي.»
سأله جيمي: «وما الفرق؟» ثم أضاف : «هناك في الجانب الغربي قفائر بنفس عدد الموجودة في الشرقي. وإن لم تكن كذلك، فسنحصيها ونجعلهما متعادلين. إنني على استعداد تام لنقل النحل الألماني الأسود وإعطائه لك مكافأة. هل النحل الألماني الأسود ما كنت تريده؟»
قال الصغير: «لا، ليس النحل الألماني الأسود ما أردت. وإنما زنابق مادونا. فإنني أسبق النحل إليها في كل مرة. كم أحب امتصاص الرحيق منها! فإنه شديد الحلاوة، من المصدر مباشرة، وأنا تروق لي الأشياء الأصلية! كذلك أرغب بشدة في الحصول على ذلك الجزء من السياج حيث نسقط الهنود.» «ألن يؤدي السياج الغربي الغرض نفسه؟» «أوه، أعتقد أنه سيؤدي الغرض نفسه. الفرق الوحيد أنني لست معتادا على السياج الغربي، وكذلك بيل السمين الطيب والطفل المطيع وذو الوجه الملائكي. كلنا معتادون على الشرقي، لكن أعتقد أننا نستطيع استخدام الغربي كذلك.»
ثم نظر الصغير إلى جيمي نظر تكهن. «لقد خاب ظني فيك نوعا ما.»
استقام جيمي في جلسته.
وقال: «أنا لا أعلم ماذا فعلت.»
فقال الصغير: «هذا هو الأمر بالضبط. ليس ما فعلته. ولكن ما لم تفعله. حين قلت إن الأمر سواء بالنسبة إليك، وأوضحت لك بجلاء أن ما يهمني هو زنابق مادونا وفخ الهنود، كان بإمكانك أن تعرض علي أن نتبادل الجهات! ربما ما كنت سأوافق. ربما ما كنت سأحصل على أي شيء غير ما أراد لي سيد النحل الحصول عليه. ربما كنت سأدخر نقودي وأشتري بعض زنابق مادونا وأزرعها في جانبي لنفسي، لكنني ظننت أنك ستعرض علي التقايض.»
استوعب جيمي المسألة ببطء.
ثم قال: «أستمحيك عذرا. لا بد أنها كانت غفلة من جانبي. فإن رأسي أكبر سنا من رأسك، وقد أدركت أننا لا نستطيع التبادل دون الذهاب إلى المحكمة وإجراء قياسات وكتابة صكوك وسداد أتعاب موظفين لإجراء التغيير، وأعتقد أن تلك المعلومة هي ما منعني من القول بأنني موافق على التبادل حيث إنها لن تفرق معي مطلقا حقا أي جانب تحصل عليه ولن تفرق البتة حتى إن حصلت عليهما معا.»
فقال الصغير من فوره: «لكنني لن أقبل الحصول عليهما جميعا». ثم أضاف: «لو كان سيد النحل قد قال بأن يئول الجانبان لي، ما كنت سآخذ سوى النصف؛ لأنه ليس تصرفا شريفا، بعد أن طلبت منك البقاء وفعلت كل ما بوسعي لأجعلك تبقى. ليس من العدل أن آخذها كلها.»
نظر الصغير إلى جيمي مرة أخرى نظرة متسائلة. «ماذا سيحدث لكل الأموال التي لديه في البنك؟»
فأجابه جيمي: «حسنا، وفقا لنص الوصية، فإنه بعد سداد مصاريف الجنازة وديونه المستحقة، يخضع ما يتبقى في البنك لبنود الوصية التي سيشرحها لك والدك بعد أن يدرس الوثيقة دراسة وافية. لكن أستطيع إخبارك بأن هناك أموالا مخصصة لدفع تكاليف نقل المنزل لأرض من سيفوز به منا، وهناك أموال لبناء منزل صغير آخر يتكلف قيمة هذا المنزل نفسها، وما يتبقى سيقسم بالتساوي بيننا.»
قال الصغير بتأن: «هممم. هل تعتقد أنه من المرجح أن سيد النحل قد أعطاني بعض المال علاوة على النحل والزهور؟»
فقال جيمي: «بلغني أنه فعل هذا، إن أثبتت صحة تلك الوصية. إن لم يتبين أن لديه بعض الأقارب بالدم في مكان ما، يستطيعون إثبات أنهم أقاربه ومن حقهم بالقانون الحيازة. ينبغي ألا يحملك الحماس بعيدا. لا بد أن تعلم أن سيد النحل أراد أن تحصل على إرثه، لكن هناك احتمالا كبيرا أنه يمكن لرجل أو امرأة في مكان ما في العالم أن يأخذه منك، وأغلب الظن أنه سيفعل ذلك عند علمه؛ لأن الأقربين أولى بالمعروف، على كل حال، ومن ثم فإن أي شخص على صلة قرابة بسيد النحل سيصبح أحق مني ومنك.»
فقال الصغير: «نعم، إنني مدرك لذلك. وأفهمه تماما. لكن في حالة إذا كان سيد النحل على علم بشئونه وقال القاضي إن الأشياء من حقنا، فهل ستئول لي النقود؟»
فرد جيمي عليه وقال: «نعم، أعتقد أنها ستئول لك، لكن أشك أنها قد تذهب إليك قبل بلوغك السن القانونية. أعتقد أنه من المرجح أن يتعين على أبيك توليها من أجلك والحفاظ عليها من أجلك حتى يقول القانون إنك كبرت كفاية لتصبح في حيازتك.»
صاح الصغير: «آه!» وتابع: «آه، الأمر نفسه مجددا!» وجعل يركل بالقدم الصغيرة حصى الممشى حتى طار بعيدا عدة ياردات. ثم أضاف: «الأمر نفسه مجددا! دائما مضطر إلى الانتظار، دائما محبط الآمال!»
سأل جيمي: «ما الذي كنت ترغب فيه بشدة؟»
قال الصغير الساخط: «وما جدوى أن أخبرك ما دمت لن أناله؟» وتابع: «ماذا تظن أنني أريد؟»
فقال جيمي: «حسنا، على سبيل التخمين عشوائيا سأقول إنك تريد حصانا.» «أصبت، يا بني!»
ووثب قائد الكشافة في الهواء. «لقد أصبت! إذا كان هناك أي شيء أريده من الأساس، إذا كان هناك شيء أريده بشدة في هذا العالم، فإنني أريد حصانا! أريد حصانا خاصا بي! كوين رائعة وهانس ممتاز، لكنني أريد حصانا خاصا بي! أود أن أحيط عنقه بذراعي وأحبه هو دون غيره. أود أن يعرفني ويتبعني كما يفعل كلب أبي. أريده أن يأتيني حين أناديه. أريده أن يتعلم أسلوبي. ولا أريد أن يمتطيه أي شخص آخر أبدا؛ لا نانيت، ولا أخي الصغير، ولا أي شخص، وإنما وحدي أنا أمتطيه! أريده ليصبح ملكا لي وليس ملكا لأي أحد. أريد أن أكون أنانيا غاية الأنانية معه!»
فقال جيمي: «حسنا، حيث إنني لم أقابل أباك وأمك من قبل فإنني لست متأكدا، لكن يبدو لي من نبرات صوت أمك حين تحدثت معي على الهاتف ...»
فقال الصغير: «نعم، أعلم كيف يكون صوتها على الهاتف.» ثم أضاف قائلا: «أنا نفسي أحبه. فإنني أقف وأستمع إليها أحيانا وهي تتحدث لمجرد أن أرى كم تستطيع أن تضفي العذوبة على طريقة قولها الأشياء.» «أما والدك، فلأنه والدك فإنني أعتقد أنه من رأيي ما دامت هذه الأموال وهذه الأرض هدية لك من مربي النحل فأظن أنه ...»
بادره الكشافة الصغير مقاطعا: «هذا ما تظن بالطبع!» وتابع: «أي شخص كان سيظن أنهما سيسمحان لي بشراء حصان من مال الوصية. ألا نستطيع الاحتفاظ به هنا؟»
فقال جيمي: «لا أعرف إلى أين تمتد حدود المدينة لكننا سنتحرى الأمر. سيبقى الأمر سرا بيننا وسنتحرى بشأنه. سنرى ما بوسعنا فعله. إذا كنت تعتقد أنه ليس من المرجح الموافقة على امتلاكك حصانا في البلدة، فلا تنبس بكلمة بهذا الشأن. لنتكتم عليه ونر كيف يمكننا حل المشكلة وحدنا.»
فقال الصغير: «اتفقنا. لن أبوح لهما بكلمة. سنرى ما سنتوصل إليه. والآن أعتقد أنه من الأفضل أن أذهب إلى المنزل. قد يكون الدكتور جرايسون اتصل بأبي. وقد يكون في انتظاري. وربما تود أمي رؤيتي. وربما أيضا أنهم لم يأخذوه بعيدا بعد.»
فقال له جيمي: «إنني آسف. إنني في غاية الأسف، لكنني عرفت أنهم أخذوه. لا ينبغي أن تعلق أي آمال حيال ذلك. فقد عرفت أنه قد ذهب.»
ظل الصغير واقفا يحدق بشدة في حوض زهور الزينيا، محاولا جهده الحفاظ على شفتيه دون ارتعاش وعينيه دون دموع. ثم حدث المعتاد من تغييره الموضوع بسرعة البرق.
إذ قال الكشافة الصغير: «إنني أرجو، أرجو بحق ألا يكون لدى سيد النحل مال كثير في البنك. أرجو ألا يكون هناك إلا القليل منه.»
سأله جيمي: «لماذا؟»
فقال الكشافة الصغير: «أوه، إنني لا أرى فائدة في امتلاك الناس الكثير من المال. فهي لا تفعل سوى جلب الكثير من المتاعب كما يبدو. فقد ظللت أشاهد المواقف طوال سنوات عديدة، ويبدو لي أن أغلب المشاجرات والمشاحنات والدعاوى القضائية وتدهور العلاقات تحدث بين الناس الذين لديهم ثروات طائلة. لم لا يمكن للناس الاكتفاء بمبالغ معقولة من المال؟»
فقال جيمي، سعيدا بتغيير الموضوع: «حسنا، وما المبلغ الذي تعتقد أنه كاف؟ ما المبلغ المناسب لنا في نظرك؟»
جعل الكشافة الصغير يفكر بإمعان ثم أفصح بحسم: «أرى أن أي شخص لديه الفدان الشرقي أو الغربي من هذا المكان، وصف طويل من قفائر النحل والكثير من أشجار الفاكهة والزهور والمزيد والمزيد من الزهور، ورمال وبحر، وبيت صغير يهتف بصوت واضح على الطريق قائلا: «فلتتفضل بالدخول!» أرى أن من أسعده الحظ بامتلاك ذلك، والحصول على خبز وزبد ومياه غازية بنكهة الفراولة وسجق، لا يحتاج إلى شيء آخر في العالم، والملابس بالطبع، نسيت أن أقول ملابس كافية لتستره.»
قال جيمي: «ألم تنس أن يكون لديه حصان؟» «أوه، حسنا، بالطبع أردت أن أذكر الحصان. أردت أن أذكر الحصان أولا قبل أي شيء آخر ما عدا مكان للاحتفاظ به. لا يمكن أن تربي حصانا من دون مكان لتضعه فيه. ظلت تلك مشكلتي طيلة سنوات. كان بإمكاني امتلاك حصان متى أردت. لكن لم يكن هناك أي إصطبل له ولا أي برسيم أو شوفان أو أي شخص للحفاظ على نظافة الإصطبل. كانت تلك مشكلتي طوال الوقت. الحصان ضروري بالتأكيد!»
فقال جيمي مقترحا: «وقارب بالطبع. فلا فائدة من المحيط من دون قارب، أليس كذلك؟»
تريث الكشافة الصغير. «أوه، حسنا، بالطبع، ما دام لدينا المحيط عند بابنا الخلفي، فقد نحتاج إلى قارب بالطبع. أخبرني سيد النحل ذات مرة لماذا وضع السياج حيث وضعه، وهو يملك كل الأرض الممتدة حتى المحيط. أراد رجل أن يشتري أرضه التي على الشاطئ ويضع كشكا للسجق هناك لكنه قرر ألا يسمح له بذلك لأننا نستطيع الحصول على السجق من عند الناصية. وقال سيد النحل إن أحد أعظم الرجال الذين عاشوا في إنجلترا مطلقا، أحد أكبر مفاخر ذلك البلد القديم الطيب كان رجلا يدعى ويليام بلاكستون. وقد جعلني أكرر مرارا بشأن موضوع كشك السجق ما قاله ويليام بلاكستون. وسوف أخبرك به الآن.»
وتقدم الكشافة الصغير أمام جيمي، وضم قدميه الصغيرتين، وأبرز كتفيه النحيلتين، ورفع ذقنه، واستطاع أن يأتي مظهرا نبيلا مدهشا. لم يفهم جيمي كيف يمكن لذلك الوجه الملطخ بالدموع، وذلك الشعر الأشقر المليء بالرمال، والحاجبين والأذنين اللذين غطتهما الرمال أن تكتسي بمظهر الوقار والرزانة الذي لاح على وجه الصغير وهو يلقي هذه الجملة: «لا يحق لك حجب الضوء العتيق عن جارك!»
وإذ فجأة، بالتغيير المباغت نفسه المألوف في الكشافة الصغير، تراخى جسده كله، وعاد إلى المقعد، وجلس بجانب جيمي ومال إليه.
قال الكشافة الصغير: «المقصود بذلك «الضوء العتيق» أشعة الشمس وضوء القمر والهواء النقي الآتي رأسا من الصين. اعتاد سيد النحل النزول والاستلقاء على الرمال لمدة تصل لساعة حيث يترك المحيط يخبره بأشياء تواسيه. وقد قال إنه لو باع تلك الأرض سيكون الرجل المجاور له هو المالك، وسيكون هو الجار، وهو لم يرد أن يفسد كشك سجق «ضوءه العتيق»، ولم يرد أن يصبح إرثه من الهواء النقي المشبع بالملح الذي يحمله إليه البحر مباشرة مضببا تماما بدخان السجق. ولا يهم البتة إن كان يجعل لعابنا يسيل، فباستطاعتنا الحصول عليه من عند الناصية.»
ثم وضع الكشافة الصغير ذراعيه بإحكام حول رقبة جيمي وأحاط بها حتى كاد يخنقه، ثم حصل مربي النحل على قبلته الحارة الصغيرة الثانية قوية على خده.
وقال الكشافة الصغير: «أشكرك أنك حللت محله لدي، وإنني سعيد أنك قد حصلت على زنابق مادونا وأرض المعركة، وسعيد أنك حصلت على الفدان الشرقي ونصف قفائر النحل. سوف آخذ النحل الألماني الأسود إن كنت لا تريده. وإنني سعيد، حتى إن كان سيد النحل قد اضطر إلى الرحيل، أسعد مما يمكنني الوصف أنك سوف تبقى وترعى النحل!»
الفصل الرابع عشر
معجزة بشرية
لم تتطلب تسوية تركة سيد النحل إلا القليل من الوقت. إذ كان جل ما يملكه فدانين من سفح الجبل والشاطئ والأموال التي أودعها في بنك سيتيزنز. ولأنه كان على دراية تامة بأمنيات سيد النحل؛ فقد وافق الدكتور جرايسون على أن يصبح هو منفذ الوصية. وقد تقرر من الذي سيحوز المنزل وفقا للطريقة المنصوص عليها، فكان من نصيب جيمي. واتفق على تقييم المنزل، ووضع قيمته جانبا لتدر فائدة بنكية للكشافة الصغير حتى يحين الوقت ويرغب في إنشاء منزل آخر على الفدان الغربي. واتفق على بقاء المنزل مكانه حتى يرغب جيمي في نقله. واقتطع مبلغ كاف لسداد تقدير المقاول لهذه التكلفة ووضع جانبا في رصيد جيمي. وكان الكشافة الصغير ليحصل على أثاث المكتبة وغرفة المعيشة بالكامل عند الطلب. وقسمت الأموال المتبقية في البنك بالتساوي، فوضع نصيب جيمي جانبا في رصيده، ووضع الجزء الخاص بالكشافة الصغير ليدر فائدة بنكية حتى بلوغه السن القانونية. وتقرر تقسيم عائدات العسل والحديقة بالتساوي بعد خصم أجور أي عمال يستعان بهم، مع وضع نصيب الطفل في البنك. كان سيد النحل يجني المكافأة التي وهبها الخالق العظيم لرجل ظل على إيمانه، وقد جعل من نفسه إنسانا دارسا ونبيلا من عطاياه الدنيوية.
بعد توزيع التركة لاحظ جيمي وأسرة الكشافة الصغير أن الأملاك قد أتت بمشكلات ومسئوليات للصغير. فقد أصبح ينزع لتناول عدد أقل من السجق وادخار المزيد من النقود، وسريعا ما تبين أن أول تغيير خطط له الكشافة الصغير في الفدان الغربي هو زراعة حوض كبير من زنابق مادونا، التي تعتبر أسعار جذورها باهظة مقارنة بالسجق. إذ إن زراعة حوض يمكن الحصول منه على مبلغ كاف صاف من المال يتطلب الكثير من التضحيات. وكذلك لاحظ جيمي مرارا الطفل وهو يتفحص الأرض، بحثا على ما يبدو عن منطقة مستوية متصلة بالطريق ولا تشوه المكان، وقد عرف هدفه من ذلك. حيث يخطط لبناء إصطبل للحصان الذي كان رغبة سرية في قلب الصغير.
أما جيمي، فقد كان محتارا حقا. صحيح تماما أنه ولد في هذا البلد، وبدأ تعليمه في مدارسنا الحكومية وأتمه في واحدة من أفضل كلياتنا. وصحيح أنه انتمى لبلدنا بالميلاد والنشأة. لكن صحيح أيضا أن الدماء التي في عروقه كانت دماء رجل وامرأة ولدا هما الاثنان في اسكتلندا وترعرعا فيها، وأن عادات وسمات الاسكتلنديين كانت الغالبة عليه. كان كل الاسكتلنديين الذين تعامل معهم من قبل قد ورثوا ما لديهم من ذويهم، أو اكتسبوه بالعمل الشاق. ولم يكن جيمي معتادا على الهبات. فهو لا يذكر على الإطلاق أن أي أحد قد منحه أي شيء يذكر. فلماذا إذن، فجأة ومن دون سابق إنذار، قد يقدم له فدان مغطى بالفاكهة، ومفروش بالزهور المتألقة، ويعج بالنحل الذي يؤدي عمله موفرا له الدخل الذي سيعيش عليه؟ ربما شعر جيمي في باطنه أن حكومته كانت مدينة له بشيء؛ لكن لم يكن ذلك شعوره حيال سيد النحل.
قال جيمي صراحة للدكتور جرايسون، ولوالد الكشافة الصغير، ولقاضي محكمة الوصايا، إنه لا يشعر بأن له أي حق في الحصول على نصف حديقة النحل. ووافق تحت ضغط على تولي مسئولية رعايتها مؤقتا، لكنه قال بحزم إنه في حال ظهور أي قريب من أقارب سيد النحل ومطالبته بالأرض، فإنه سيتنازل عنها في الحال. وقد انتقده على ذلك صراحة ثلاثة من الرجال الخبراء شديدي الحنكة. إذ أشار الدكتور جرايسون إلى أن سيد النحل كان أدرى بمن لديه من أقارب وأين كانوا، ولو أنه أراد حصولهم على أملاكه لتركها لهم. كان من رأي الطبيب أن سيد النحل أراد أن يقيم في الحديقة الزرقاء رجل راقي الحس، ذو عقل خبير، قدراته وتقديره للأشياء ممتازة، رجل مهتم بالألوان والموسيقى ومظاهر البهاء والجمال الصغيرة التي تتضافر لتعطي الحياة مباهجها الصافية.
وقال السيد ميريديث إن معرفته بسيد النحل كانت سطحية، لكنه أدرك أنه كان سيدا نبيلا رفيع الثقافة، وحاسم القرارات، وذا ذهن صاف للغاية، وأن ما رآه مناسبا ليفعله بأملاكه كان مما يوافقه تماما. أما قاضي محكمة الوصايا فقال إن القانون قانون. إذ إن أوراق الملكية واضحة، وقد مثل المستفيدان أمامه؛ إذن فالعمل الوحيد الواجب عليه فعله هو اتباع الإجراءات القانونية المعتادة. وسواء أراد جيمي أو لم يرد، لقد أصبح الفدان الشرقي من الحديقة ملكا له. أصبح هو والمنزل في حيازة جيمس لويس ماكفارلين. ويتعين عليه أن يتولى مسئولية المالك، ويدفع حصته من ضرائب التركات، ويصبح مستعدا لضرائب الملكية التي ستقيم وفقا للإجراءات القانونية المعتادة.
وهكذا عاد جيمي إلى الحديقة، وقد اشتعل رأسه حيرة. كان أمامه الكثير من أعمال الرش، ومن ثم يمكنه التفكير أثناء قيامه بها. كما يمكنه التساؤل حول أسباب ما جرى بينما يقلم الشجيرات ويستخدم المجرفة. لكنه حين جاء لرعاية النحل، منحه انتباهه كاملا. لكن بعد أن انتهى من كل الأعمال التي يقوم بها يوميا في الحديقة، موليا ربما اهتماما أكثر قليلا للجزء الغربي لمجرد أن هذه هي أخلاق جيمي، انشغل بتطبيق نظام الغذاء والتمارين الذي وضعه هو ومارجريت كاميرون. وخلال ساعات المساء الممتدة، يظل ساعات منكبا على كتب النحل، ثم يخرج في ساعات النهار ويحاول تطبيق ما تعلمه في تجاربه الشخصية.
لم يكن مسيطرا على ذهنه في تلك الأيام. كان يحلق به في آفاق عجيبة، فإذا به يجد نفسه وقد نشأت لديه عادة، وهي أن يأخذ كتابا متى يتاح له وقت فراغ، وتحت ظلال شجرة برتقال بعينها عند نهاية الحديقة، يظل يقرأ تارة ويراقب الشاطئ تارة. كان لديه شعور أنه ذات يوم، عاجلا أو آجلا، ستأتي فتاة طويلة تمشي بخطوات واسعة مثل الصبية، فتقطع الشاطئ وتتسلق المدخل الخلفي للعرش، وقد أراد جيمي أن يكون موجودا ليشاهدها حين يحدث ذلك. كان الخطاب الذي في جيبه بحالته نفسها بالضبط منذ قرأه أول مرة، وقد قرأه مرات لا تحصى منذ ذلك الحين وتأمل كل حرف بكل تفاصيله. كان باستطاعته أن يجد انسجاما بين الخطاب والفتاة التي ضمها بين ذراعيه، والسيدة التي وقفت ملاصقة له لتتلقى عهود الزواج. لكنه لم يستطع أن يجد انسجاما بين أي من هذين الشخصين والفتاة التي عقدت أمورها الشخصية لدرجة جعلتها في حاجة ماسة إلى علامات ودلالات خارجية على عفتها.
وكان كلما أطال التفكير في الموقف، ازداد ذهنه تصديقا على الأقل للاعتقاد بأن فتاة الوديان والجبال والصحراء، الفتاة التي تعبق على الدوام بعبير المريمية، ذات الخطوات الحذرة، ذات النظرة البعيدة التي تراها في عين الشخص المحب للطبيعة؛ لم تكن لتخضع للإغواءات والإغراءات التي تخضع لها الفتاة التي تحب الحياة في المدن تحت ضغوطها الشديدة. استطاع جيمي أن يرى كيف قد تقع في مشكلة خطيرة أي فتاة تعيش حياتها مأخوذة بنفسها وبالملابس الأنيقة وترتاد في النهار العروض السينمائية بالغة الابتذال والفحش، وترتاد ليلا قاعات الرقص المكتظة عشوائيا بأناس من كل حدب وصوب، بغض النظر عن أوضاعهم في الحياة. استطاع أن يرى كيف أن الاندفاع المجنون بالسيارات من أحد أماكن الترفيه إلى آخر، وتناول الطعام المشبع بالتوابل دون انتظام، وقلة النوم، والتواصل المستمر برجال لم يربوا تربية صارمة على عادات وأعراف ومبادئ الجيل أو الجيلين الماضيين؛ ربما أدى إلى كارثة عند الفتيات اللواتي هن أصغر من أن يدركن أنهن يرهقن أجسادهن أو يعرضن أرواحهن للخطر. وكلما أمعن التفكير، زاد تعجبه من نجاة أي فتاة في تلك الظروف بشرفها أو قدر كاف من العافية تعيش بها عمرا معقولا حتى. لم يكن يدري بالضبط أي فائدة تعود على البيت أو الأمة من فتاة فاقدة الشرف والصحة. لكن الشيء الوحيد الذي كان يعرفه يقينا هو أن أولئك الفتيات كن النوع الذي يريد تجنبه.
وبينما يقف أمام المرآة ليتفحص بإمعان الجانب الأيسر من صدره، وفي يده الضمادة التي انتوى وضعها وربطها في مكانها بعد الفحص، شل جيمي عن الحركة لأول مرة بخاطر لم يجل بخاطره من قبل. لم يدر بالضبط لماذا لم يفكر في ذلك الشيء تحديدا من قبل. وبعد أن فكر فيه بالفعل، بدا له أنه الشيء الذي كان يجب أن يفكر فيه أولا. لكنه لم يفعل.
صحيح أن أي سيد اسكتلندي يضع في أعماق قلبه ربه وبلده وشرفه وأولئك الذين يحبهم فوق أي شيء آخر، لكن طالما كان متأصلا في قلب كل رجل اسكتلندي حب المال، والمكان الذي يستطيع الحصول منه على المال، والسلطة التي يمكنه شراؤها بالمال، والراحة التي سيمنحها له، والرفاهية التي سيوفرها لأحبائه، والاطمئنان لأنه سيتقي ما في العالم من برد وجوع وبؤس. كانت الدفعة الأولى من النقود التي وضعها سيد النحل بين أصابع جيمي قد أثارت في روحه اضطرابا حتى الأعماق. إذ أمسكها بين أصابعه. وظل يحدق فيها غير مصدق. فالحقيقة أنه لم يسبق له قط أن امتلك مالا يخصه لينفقه كيفما يحلو له. فكل ما حازه من نقود من قبل كان ما يعطيه له أبوه وأمه لشراء ملابسه وسداد نفقات دراسته، وكان يرهقهما أشد الإرهاق أن يوفرا الموارد الكافية ليفعل أكثر ما يحتاج إليه من دون توفير أي كماليات. فهو لم يعرف قط كيف هو شعور أن يصبح لديه نقود في جيبه لينفقها كما يريد، فكانت النتيجة أن أول مكاسبه بصفته مربي النحل حفزته للمعركة التي يبدو الآن أنها من الممكن أن تنتهي بانتصاره.
ما زال أمامه بضعة أيام قبل أن تجري مارجريت كاميرون فحصها الثاني. وقد بدت الضمادة التي أزالها جيمي هذا الصباح نقية ونظيفة كما كانت حين وضعها. عصير الطماطم في الصباح، وعصير البرتقال بعد الظهر، والاستنقاع في البحر، والاستلقاء على الرمال الساخنة، والهواء النقي الخالي من الغبار والمشبع بالملح، والعمل المسلي، وقضاء النهار كله بالخارج، مع ذهن لديه ما يستغرق فيه من أشياء مقدسة وجميلة، ماذا يأمل أي طبيب لينافس ذلك المزيج، ذلك المعرض لقدرات الطبيعة على الإبراء؟ ربما كانت الضمادة النظيفة التي أزالها، هي الدليل على أن صدره أصبح مكسوا بجلد متين كفاية لتحمل العمل في النهار، والشعور بالهدوء والشبع في معدته، وزوال الحرارة والاضطرام عن دمائه؛ ربما كان مزيج من كل هذه الأشياء هو ما جعل جيمي، وهو واقف يطالع المرآة ذلك الصباح، يعبر عن يقينه المغتبط ويقول: «سوف أنجو! وبقدر اليقين بوجود خالق كريم في السموات، سأصبح رجلا معافى البدن ثانية!»
وهنا بالضبط تلقى جيمي صفعة، صفعة شديدة، صفعة جعلته ينكمش ووجهه يبهت ويداه ترتعشان. وبدا صوته لأذنيه متوترا لأنه قال بصوت عال: «وقد أقسمت بكل المقدسات إنني سأموت! كان جزءا من اتفاقي أن أغادر الحياة خلال ستة أشهر على الأكثر! لقد قلت إنه لا يوجد أمل في بقائي على قيد الحياة، وربما ما كانت الفتاة التي تزوجتني ستقدم على ذلك إن لم تعتقد أنني رجل شبه ميت.»
وقف جيمي ساكنا، بينما يحدق في الضمادة. واستطاع أن يشعر بأصابع الفتاة وهي تمر على صدره مستكشفة. أمكنه أن يشعر بالقشعريرة، الناتجة ربما عن شفقة، التي سرت فيها وهو يمر بأصابعها على طرف الضمادات والأربطة التي كان يرتديها آنذاك. لقد أعطاها بذلك برهانا لإثبات كلامه. وقد صدقت البرهان، ووثقت في كلماته، وها قد ارتد على عقبيه وأخذ يفعل كل ما في إمكانه، ويبذل قصارى جهده ليبقى حيا.
بهدوء وضع جيمي الضمادة وربط اللفافة التي تثبتها في مكانها. وبهدوء ارتدى ملابسه وخرج إلى عمله. كان كل بضع دقائق يتوقف ويقف محدقا فيما أمامه. فقد قال لنفسه خمسين مرة ذلك الصباح: «لا يوجد أدنى احتمال أن أموت خلال ستة أشهر أو ست سنوات، أو ستين سنة، ما دمت مستمرا في التعافي كما أنا الآن. الطريقة الوحيدة التي أستطيع بها الموت هي أن أهلك نفسي، فإذا جاء يوم والتقيت بأليس لويز وجها لوجه، وبدت ظروفها مشفوعة بالتخفيف، فماذا ستظن بي لبقائي حيا؟»
عندئذ ظهر على السطح حس الدعابة لدى جيمي. «إذا آلت الأمور ذلك المآل وحظيت بفرصة للعيش، فلا أظنها ستطلب مني أن أقتل نفسي ما دام الجرح لم يقتلني، وإذا فعلت، فلا أظنني قد أتبع أوامر حتى سيدة من السيدات إلى ذلك الحد. سأخبرها أنني كنت صادقا، وأن ليلة العاصفة كانت حالكة علي كما كانت عليها، وأن الصراع الذي اضطرب في قلبي كان مثله مثل العاصفة التي ثارت في قلبها، أو العاصفة التي ثارت في البحر. سأخبرها أنني لجأت إلى الله فهب لنجدتي بحياة وعمل وأمل في السعادة. سأخبرها أنها إن لجأت إلى الله فستجد أن في وسعه حل مشكلاتها كما حلت مشكلاتي. سأخبرها أنه ليس خطئي أنني ما زلت حيا. لا، لا أستطيع مطلقا أن أقول لها ذلك أيضا. لقد أعطاني الله البداية. ويحسب لي أنني اغتنمتها. أعتقد أنه كان بإمكاني الاستمرار في تناول أصناف غير متناسبة من الطعام وحمل الهموم على كاهلي؛ كان بإمكاني المضي بينما تستهلكني حسرتي على نفسي وتملؤني السموم. حسبي من الأمر مسئوليتي عن اتخاذ القرار، والقدرة على القيام بالأشياء الضرورية حين أتيح المجال. اعتاد أبي أن يقول من منبره إن زمن المعجزات قد ولى؛ أما الآن فإن الله يمنحنا الفرص، وإذا أردنا المعجزات فعلينا أن نصنعها نحن البشر بأنفسنا.» استغرق حل هذه المشكلة الجزء الأكبر من اليوم، لكنها انتهت بأن توصل جيمي إلى الخلاصة بأنه كان صريحا فيما قاله، وأمينا فيما فعله، لكن تبدلت الأحوال بتغير الظروف.
ستسر مارجريت كاميرون سرورا بالغا حين تتفحص صدره المرة القادمة. وقد وجد نفسه مبتهجا جدا ، ومفعما بالأمل، حتى إنه كان في غاية الحرص على حماية ذراعه اليسرى وجانبه الأيسر. فقد بدا لجيمي أنه إن حدث أي شيء وتهتكت تلك الطبقة الحساسة من الجلد التي غطت صدره وعادت البقع الزاهية للظهور في الضمادة التي وضعها فإنه لن يقوى على احتمالها. إذ أدرك أنه إن حدث فسيأتي على ما تبقى لديه من سلامة عقل حتى إنه سيجلس ويبكي مثل أصغر الأطفال. فكان عليه الحفاظ على سلامة تلك الطبقة الرقيقة الحساسة مهما كلفه ذلك.
في بداية عمله كان جيمي نادرا جدا ما يغادر الموقع. فهو لم يذهب إلى البلدة قط، إلا للضرورة القصوى. لكن تدعوه الآن الضرورة القصوى للذهاب إلى هناك كثيرا. إذ دائما ما ينشأ شيء بشأن تسوية شئون سيد النحل، أو سبب يحمله على الذهاب لرؤية الدكتور جرايسون أو قاضي محكمة الوصايا أو إلى البنك المحتفظ بأموال تركة سيد النحل. كان علاوة على ذلك قد شرع يعتاد على الذهاب في زيارات عابرة إلى الرجل الذي كان سيد النحل يتبادل معه الخدمات. فقد وجد جون كاري رجلا ذا شخصية آسرة، رجلا مسليا، رجلا يستحق أن تتخذه صديقا. فقد كان جيمي في بعض الأحيان لا يفهم التعليمات الموجودة في كتب النحل فهما دقيقا. فيوضح له كاري كل شيء، ويشرحه بسرعة ومهارة بالغة مما جعل معرفته مفيدة حتى إن اقتصرت على العمل فقط. ومن ثم ظل مربي النحل يكثر من إنجازه عمله سريعا والذهاب لقضاء بضع ساعات في منحل رجل آخر.
سرعان ما بدأ جيمي يلاحظ أن مارجريت كاميرون كانت تراقبه أثناء عملها في المنزل وفي حديقتها. وما جعله يلاحظ ذلك أنه كان في كل مرة يغيب عن المنزل يجده عند عودته مرتبا، ويجد الأثاث وقد أزيل عنه الغبار، وملاءات الفراش جديدة، والمطبخ نظيفا، وإناء زهور على منضدة حجرة المعيشة.
وذات يوم عاد إلى المنزل فوجده متألقا. كانت مارجريت كاميرون في صباح ذلك اليوم قد تفحصت صدره للمرة الثانية وأخبرت جيمي بما كان يعرفه مسبقا، أنه مهما كان ضعيفا ، ومهما كان حساسا ورقيقا، ومهما كان معرضا للتشقق من أقل ضغط؛ فلا شيء يغير حقيقة أنه كان هناك نسيج من الجلد يغطي الجرح الذي في صدره بالكامل. كانت مارجريت كاميرون في مثل عمر أمه. وقد ألقت ذراعيها حول عنقه وقبلته، ورقصا رقصة مرتجلة بفرحة عامرة في الغرفة الصغيرة. كانت مارجريت قد نسقت ورودها الصفراء في المزهرية. وسحبت مقعد سيد النحل للأمام ووضعت أمامه الخف الذي ينتعله جيمي. كانت هذه طريقتها لدعوته لاتخاذ وضعه بصفته رب المنزل. كما وضعت منضدة عليها الجريدة اليومية بجانب المقعد، وقد تزين بالزهور كل ما في المنزل من مزهريات وأباريق سبق أن وضعت فيها زهور من قبل.
ابتسم جيمي سعيدا وهو يجول بنظره في أنحاء حجرة المعيشة. وتأمل كم هم قليلون في العالم الرجال الذين يستطيعون أن يأتوا بأشياء جامدة ويجعلوا منها حجرة مناسبة للمعيشة؛ كما فعل سيد النحل بالحجرة التي طبعها إلى الأبد بذوقه وفكره ونزعاته الفنية. بعد ذلك فتح جيمي الباب ووقف ساكنا؛ ساكنا مثل السكون الأخير قبل اندلاع عاصفة عاتية. إذ وجد حجرة النوم قد أزيل عنها الغبار، ووضع فرش نظيف؛ كانت متألقة، وتعبق برائحة المريمية - رائحة لم تقترن قط بمارجريت كاميرون ولو بأقل درجة - وعلى المنضدة المجاورة للفراش حيث مكان المصباح وقارورة المياه الحافظة للحرارة، وضع الوعاء النحاسي، وقد فاض بزهور رعي الحمام الرملي. كانت الزهور البديعة، مع التأثير المنعش للمياه في ساعة المساء، كعادتها تنكمش وتنشر في الأنحاء عبيرها الخفيف الرقيق، أجمل عطر لزهرة في عالم الزهور بأسره في رأي جيمي. تقدم جيمي وتناول الوعاء. ونظر أسفله. وتفحص المنضدة بحرص. ونظر في أنحاء الأرض. ورفع الوسادة. وبحث في أركان الحجرة الأربعة. فربما كانت هناك رسالة، وطيرتها بعيدا نفحة رياح. وبعد ذلك توجه مباشرة إلى مارجريت كاميرون.
وقد وجدها في الحديقة. فأخذ مقص تقليم الزرع من أصابعها واصطحبها إلى مقعد مصنوع من فروع الأشجار تحت غصون ظليلة لشجرة سنط كانت قبل بضعة أشهر مثل شلال من الذهب المتدفق، مثل الذهب السائل في انسكابه وتدفقه وانسيابه. ثم جلس بجانبها وقبض على يديها وحول وجهها نحوه.
وقال: «تعلمين يا مارجريت كم أنا ممتن لك على كل ما تفعلينه لي من أشياء تراعينني بها وتحنين بها علي كالأمهات، أفعال كريمة تشدين بها من أزري. من الوارد أن تكوني مدركة لما كان عليه منزل صباي من نظافة وحرص على طهارة لا يشوبها دنس. إنك تدركين كم أقدر وأستريح وأزداد بأسا وأشعر بتحسن مع رعاية المنزل على النحو الذي كانت ستتبعه أمي، لو لم يتوفها الله قبل رجوعي. أشعر أن منزلي أروع منزل في العالم كله اليوم. فلن أقايض به مقابل أي منزل لأي مليونير في أي مكان في ولاية كاليفورنيا. الكشافة الصغير محق في اعتقاده أنه من الممكن أن يشعر الإنسان بالرضا بما يمتلكه؛ فحسبه أن يكون لديه منزل وحديقة زهور وضمان قوت يومه. الحياة رائعة اليوم يا مارجريت، رائعة للغاية. فقد قضيت وقتا ممتعا مع كاري ونحله. لقد حسمت أمري وقررت أنه ما دام سيد النحل أراد أن أحصل على المنزل والحديقة، فسوف أحرص عليهما بقدر ما أراد حصولي عليهما. لم يكن ثمة شك مطلقا في رغبتي فيهما. وإنما كنت أشعر أنني قد أسطو على حقوق رجل آخر. أما إذا طرأ أنها امرأة التي سطوت على حقوقها، فبالطبع ...»
قاطعته مارجريت كاميرون: «فبالطبع، ستبلغ بك الحماقة أن تهم بالمغادرة وتترك ما يحق لك شرعا!».
فقال جيمي: «إذا استطاعت إقناعي بأن لها حقا في المكان فعلا، فسوف أغادر، بالطبع، مهما كان حبي له.» ثم أضاف: «لكنني لم آت للحديث عن المغادرة. لقد جعلت حجرة المعيشة رائعة، يا مارجريت، بما وضعته فيها من زهور كثيرة. فلتخبريني بحق، هل أنت من وضع الزهور في غرفة نومي؟»
أدارت مارجريت كاميرون نحوه وجها مندهشا اندهاشا حقيقيا.
وقالت: «لا، لم أفعل. فإنني لا أحب مطلقا أن تكون حجرة النوم مكتظة بالزهور. فلا يروقني النوم مع عطر زهور أقوى من الذي يأتي من النوافذ. لا أعتقد أنه من الصحي الاستلقاء طوال الليل في جو معبأ. إنني لم أضع أي زهور في غرفة نومك.»
فقال جيمي: «حسنا، إذن، لو أنك لست من وضعهم، فإنك الوحيدة التي لديها مفاتيح الغرفة وتملكين دخولها. وباستطاعتك إخباري من فعل ذلك.»
فقالت مارجريت كاميرون: «ذلك ليس باستطاعتي مطلقا؛ فلا دراية لي به البتة.»
سألها جيمي: «هل جاء الكشافة الصغير إلى هنا؟»
فأجابته مارجريت كاميرون: «على حد علمي لا.» وتابعت: «إنني بالطبع لا أدعي أنني أراقب ذلك الصغير في ذهابه ومجيئه، لكنني لن أنفي أن النافذة قد تشكل مدخلا أنسب من الباب. تعلم أن ثمة بوابة بيننا، وتعلم أنك لم تر الكشافة الصغير قط إلا قافزا من فوق السياج.»
ابتسم جيمي. «أعلم. إنه جزء من نظام التدريب. لقد أصبحت معرفتي بالكشافة الصغير قوية. أولا: الصغير ليس مغرما بجمع الزهور. وثانيا: هذه الزهور قصت بعناية شديدة بمقص أو سكين، وثالثا: لقد نسقت بذوق وجمال لم يبلغهما الصغير بعد. بعض السيقان طويلة والبعض الآخر قصير، وبعض الرءوس منتصب والبعض الآخر، الذي لديه أوراق أقل، تدلى على حافة الوعاء وخرج إلى مفرش المنضدة، وهي إجمالا بديعة بدرجة كافية لإرضاء ذوق أشد فناني اليابان تدقيقا في تنسيق الزهور. إن كان الكشافة الصغير من جمعها كانت ستحشر في حزمة ضيقة وتلقى عشوائيا في الوعاء بأبسط طريقة. ألا تعتقدين ذلك؟»
أجابته مارجريت كاميرون قائلة: «أعتقد أنه محتمل جدا.»
ابتسم جيمي ابتسامته بالغة الود.
وقال: «سوف تخبرينني إذا عرفت، يا مارجريت، أليس كذلك؟»
فأجابته مارجريت، وهي تسايره وترد على ابتسامه بابتسام: «حسنا، بالقطع أعتقد أنني سأفعل». وتابعت: «فلا أرى أي سبب يجعلني لا أفعل ذلك. أعتقد أنني سأخبرك إذا عرفت؛ لكنني بصراحة وصدق يا جيمي ليس لدي أدنى فكرة من عساه قد يكون الذي نسق الباقة بالذوق الفني الرفيع الذي وصفته بحماس شديد. هل صادقت أيا من الجيران؟»
قال جيمي: «تعلمين أنني لم أفعل!» وتابع: «لا يوجد أي جيران على الجانب الغربي. قد يصبح هناك جيران في المستقبل، وأنت جارتي من الجهة الشرقية، ولا معرفة لي بمن بعدك من جيران. بالطبع يوجد بالأسفل على الشاطئ يوميا مئات الناس، لكن بعيدا عن كونها أشد زرقة، ربما تبدو هذه الحديقة مثل أي حديقة أخرى منحدرة إلى الشاطئ. فلا يأتيها زوار على حد علمي. الحقيقة يا مارجريت أن المنزل اليوم يشوبه شيء يحيرني. والباقة التي في غرفة نومي أحد الأشياء. كما أن كرسي سيد النحل سحب إلى جانب المدفأة ووضع أمامه الخف الذي أرتديه، فهل أنت من فعل ذلك، ما دمنا نتحدث في الموضوع؟»
فقالت مارجريت كاميرون: «لا، لم أفعل ذلك. لقد شعرت أن كرسي سيد النحل شيء جدير بالتبجيل والتكريس له، وقد احترمت نقاء سجيتك الذي منعك من الاستيلاء عليه. لا بد أن أوطن نفسي على عدم المبالاة برؤية رجل آخر يستخدمه. وإنني صراحة أفضل أن أراك أنت تستخدمه عن أي شخص آخر أعرفه، لكنني لا أستطيع أن أراك جالسا عليه الآن من دون أن أستاء.»
قال جيمي: «خيل لي أنه سيعتريك ذلك الشعور الذي اعتراني، ورغبة في أن أكون أكثر جدارة باكتساب المزيد من السنوات والمزيد من المعرفة، لأبلغ أفضل مستوى أستطيع الوصول إليه؛ فلا أجرؤ على الطموح بشغل ذلك الكرسي قبل أن أرتقي وأصل لأقصى ما في وسعي. لقد أخبرتني أن لديك ابنة مسافرة للتدريس في إحدى المدارس وأن لديك ابنة صهر تأتي لزيارتك باستمرار، وإنني أتساءل إن كانت إحداهن قد تكون أتت معك وربما هي التي رتبت الأشياء بطريقة مختلفة عن طريقتك.»
هزت مارجريت كاميرون رأسها نفيا. «لقد سافرت لولي إلى أقصى شمال الولاية مع المدرسة التي قبلتها، متجهة إلى ساكرامنتو رأسا. ولا يمكنها التنقل مجيئا وذهابا حتى انتهاء الفصل الدراسي. لا أجد غضاضة في الإقرار بأن المنزل أشبه بالقبر من دونها، وقد ذرفت الدموع لأنها في واحد أو اثنين من آخر خطاباتها ألمحت إلى أنها قد لا تعود للديار لقضاء إجازة الصيف، وأنها قد تذهب مع معسكر للبنات إلى يوسيميتي. ولأحدثك بالحقيقة، لقد انتابني شيء من الاستياء من مولي. إذ أشعر في قرار نفسي أنها أسهمت في إلحاق ابنتي بمدرسة بعيدة عن المنزل، ولا أعلم لماذا فعلت ذلك. التذرع بأنها ستحصل على راتب أكبر لا يضع في الاعتبار أنها ستضطر إلى إنفاق جزء كبير جدا من راتبها على الطعام والسكن، في حين أنها لو ذهبت للتدريس في المدينة، لأمكنها استخدام الترام والعودة إلى المنزل للمبيت ليلا وقضاء يومي السبت والأحد. لم أجرؤ على قول أي شيء لمولي إذ إنني قبل بضعة شهور - ذلك الوقت حين كنت مسافرة عندما جئت أنت - ذهبت إلى المدينة لرؤيتها. كانت مصدومة صدمة مروعة. لم يكن لها سوى قريب واحد مباشر في الدنيا، هو أخوها التوءم دونالد، ومنذ غرق أبوها وزوجي في البحر معا، آويتهما في منزلي حتى بلغا في التعليم ما يؤهلهما للعمل والتكفل بأنفسهما. كانوا كلهم أصدقاء. لكن كانت الصداقة بين دون ولولي أشد مما أردتها. فلم يكن دون متمتعا بما لدى مولي من حزم، ولا برؤيتها للحياة. أعتقد أنه كان خائر القوى وواهن العزيمة نوعا ما، وقد ظللنا جميعا نجاهد سنوات لمنعه من التورط في العديد من الأشياء التي ما كان يجب أن ينجرف إليها. كانت لولي دائما من تستطيع كبح جماحه والسيطرة عليه، إذا أمكن من الأساس. كنت سعيدة بعض الشيء حين التحق بعمل وابتعد، لكن ذهاب مولي للعمل في مدرسة في المدينة جعل هذا المنزل خاويا وموحشا للغاية حتى إن ابنتي سارعت لحزم أمتعتها ورحلت هي الأخرى، وأنا أشعر في قرارة نفسي أن مولي خططت لذلك، وهو ما لم يرق لي.
ومن ثم، على نحو مفاجئ، اتصلت بي مولي لآتي سريعا، إذ كانت في ضائقة، وحين وصلت وجدتها في حالة من الانهيار لم أتخيل قط أنها قد تصل إليها. فقد جاء خبر بوفاة دون. كانوا قد وجدوا له عملا؛ وظيفة جيدة، في مصنع كبير للمساحيق في سان جواكين، وبدا أنه كان يحبه ويبلي فيه بلاء حسنا. لست على علم كاف بالكهرباء لأعرف كيف حدث ما حدث، لكنه ارتكب خطأ ما؛ فما لبث أن مات مصعوقا بالكهرباء على نحو سريع. وقد استدعينا لولي، لكنها لم تأت. بعثت برسالة تقول إنها حزينة حزنا بالغا حتى إنها مرضت ولازمت الفراش، ولن تستطيع الحضور، وقد توقعت أن تحزن حزنا بالغا يجعلها سقيمة وتلازم الفراش. فإن لولي ابنتي. رزقت بها في زواجي الأول. فلم تكن قريبة قرابة حقيقية للطفلين الآخرين. كان السيد كاميرون زوج أمها، وربما كانت مشغولة بدونالد أكثر بكثير مما كنت أعتقد. على أي حال، اضطررت أنا ومولي إلى دفنه وحدنا. وكانت مولي في كرب شديد حتى إنني أكاد أكون سامحتها. كما أنني لا أدري حقا، إن كانت هي التي خططت لإبعاد لولي عن المنزل. كان ذلك شعوري فحسب. لقد انزعجت من الأمر برمته كثيرا مؤخرا، حتى مولي لم تعد تأتي كثيرا كما اعتادت أن تفعل، ولا أعرف السبب، فأنا في الحقيقة كان يهمني كثيرا أمر الفتى وكان من الممكن أن أشاركها الحداد عليه بصدق وإخلاص.
والآن تأتيني خطابات من لولي تلمح إلى أنها ستذهب إلى أقاصي الشمال في الولاية في إجازة الصيف ولن تأتي الديار إلا بضعة أيام قبيل نهايتها، وتعود بعدها مرة أخرى للعمل من أجل العام الدراسي الجديد. ما كان يفترض أن يصبح هذا حالنا. أتساءل أحيانا إن كنت أبالغ في التهذيب والتدقيق بشأن خروج الفتيات وما يفعلنه. لا يبدو من الحال الذي أصبح عليه الشباب اليوم أنه يمكن للأم أن تبالغ في التدقيق، فهي إن فعلت فستبعد صغارها عن البيت، ولا أظن أنها ستجني من ذلك سوى حسرة شديدة. ومن ثم، كلا، لم تكن أي من فتاتي معي. وإذا كان ثمة لمسة أنثوية في منزلك اليوم لا تعرف مصدرها، فإنني أقول لك صراحة إنني لا أعرف من صاحبتها أو من أين جاءت.»
جعل جيمي يمعن التفكير.
ثم قال أخيرا: «حسنا، ما دمت لا تعرفين فلا بأس، ذلك جل ما أردت معرفته. سينبغي علي أن أقوم بتحرياتي الخاصة.»
قال قوله ذلك مازحا، لكن ظلت الفكرة تراوده. إذ إنه عاد للمنزل ومنه إلى الممشى الخلفي. ثم رفع مزلاج بوابة الشاطئ بأصابع مستكشفة. واتخذ المسار الممهد بالطين الصلب والحصى نزولا إلى حيث تلتقي الرمال بالبحر، ووقف يجول بنظره بإمعان شديد وحرص بالغ في الرمال. وبعد برهة خيل له أنه بدأ يميز أثر قدم، وبعد بضع ياردات وجد ما كان يبحث عنه، أثر كان قد رآه من قبل، شكل الحذاء نفسه، العرض نفسه، والكعب العريض نفسه الدال على رجاحة العقل. وعندئذ أيقن من دون أي شك أن فتاة العاصفة كانت في منزله.
مضى متقدما في الشاطئ نحو الجنوب، مقتفيا آثار الأقدام، وأخيرا وجد الأكمة الرملية نفسها حيث كانت تنمو زهور رعي الحمام. ووجد السيقان التي قصت منها الزهور. ثم خطرت لجيمي فكرة، فدار وكاد يركض في اتجاه العرش. وبقلب خافق صعد المسار المؤدي إلى القمة، وتسلق الصخور، حتى أصبح في مواجهة الموضع الذي صمد فيه هو وفتاة العاصفة أمام العاصفة معا.
راحت الشمس في ذلك المساء تهبط إلى المحيط في هالة من الجلال حمراء اللون. فيما كان الغيم في الأفق يبدو أقرب إلى حمرة الدم في أشعتها، والمياه تلونت بزرقة نيلية داكنة في أبعادها الممتدة حتى الصين، وبلون زمردي فاتح ساحر قرب الشاطئ، بينما تلون السطح في بهاء تارة أرجواني وتارة وردي داكن مع الأمواج الخفيفة التي جعلت تتدفق في هوادة. وكان زبد الشاطئ والرمال نفسها متلونة بألوانها في رقة. وفي موضع قريب جدا راح طائر محاك يغرد ونوارس بيضاء تحلق عائدة لأعشاشها، وبضعة طيور طيطوي صغار تتشاجر على الشاطئ. كان ثمة أشياء كثيرة أجدر بجيمي أن يراها ويعجب بها ويحمد الله عليها، لكنه لم ير سوى أن سيدة العاصفة جلست في مكانها ونسقت الزهور التي أحضرتها له. حيث ألقيت على الصخور عند قدميه أوراق صغيرة ذابلة من رعي الحمام، وأسقطت براعم مهملة لكونها عجوزا جدا. تقدم جيمي خطوة أخرى وجعل ينظر، فكان في مكانه على الصخور ثلاثة براعم بديعة، وساق طويلة ممتدة وأخرى متوسطة وأخرى قصيرة محبوكة معا ببراعة، ومجدولة من بعد الأوراق وقد وضعت حيث كان يجلس كما قد نضع إكليلا جميلا على قبر أحد الموتى. وعندئذ طرأت لجيمي تلك الفكرة نفسها.
فقال: «يا إلهي! ترى ماذا قد تظن إن عرفت أنني أفضل عشر مرات عما كنت يوم تزوجتها! أتساءل إن كانت ستظن أنني كنت مخادعا إن عرفت أنني أبذل قصارى جهدي لأصبح بكامل صحتي. وأتساءل ماذا ستظن إن عرفت أنني لم أحفظ وعدي بعدم محاولة البحث عنها. أتساءل ماذا ستظن إن عرفت أنني حنثت به حين ذهبت إلى مارجريت كاميرون لأرى إن كانت تستطيع إخباري بأي شيء، وحنثت به مرة أخرى حين قطعت الشاطئ مقتفيا أثر قدم أعرفه. أتساءل ماذا ستظن إن عرفت أنني من أعماق قلبي أكاد أكون عاشقا لها. أتساءل ماذا ستظن إن عرفت أنه منذ الليلة التي ضممتها فيها بين ذراعي لم تمر علي بضع دقائق دون أن ترد على ذاكرتي وأريدها وأتألم من أجلها وأعمل من أجلها وأفكر فيها، حتى بلغ بي الحال أنني لم أعد أكترث كثيرا لسبب احتياجها إلى اسمي. وأتساءل ماذا ستظن إن عرفت كم مرة قرأت خطابها وكم راق لي، وأتساءل ماذا خطر لها وهي تجمع زهور رعي الحمام لتضعها بين أصابعي وتحملها على بعد بضع أقدام من وسادتي. ويحي! أتساءل إن كانت قد اطمأنت لي كفاية حين تزوجتها حتى إنها قد تأثرت قليلا بشخصيتي! أتساءل إن كانت تشعر أنني بحق حطام رجل على أي حال. أتساءل إن كانت الأيام الصعاب قد أوشكت وإن كانت بحاجة إلى رجل بمقدوره رعايتها والتسرية عنها وفعل ما بوسعه ليمدها بالقوة. أتساءل إن كانت تلك الزهور إلى جانب وسادتي هي طريقتها لتطلب مني مخالفة وعدي، والبحث عنها، ومساعدتها؟ أتساءل إن كانت هي طريقتها لتقول إنها تحتاج مني إلى أكثر من اسمي؟»
ظل جيمي جالسا حتى الغسق، ثم نهض ببطء وسلك الطريق إلى منزله لتناول غدائه. وبينما يعبر الرواق الخلفي طرأت له فكرة. سار عبر الممشى وانعطف إلى نافذة غرفة نومه، وبينما كان يتفحصها عن كثب لفت نظره كومة من رعي الحمام على الأرض. لقد أخبرته مارجريت كاميرون الحقيقة. إنها لا تعرف من هي فتاة العاصفة. ولم تزود أحدا بالمفتاح لتتيح الدخول إلى منزله. لقد فعلت فتاة العاصفة ما كانت قادرة تماما على فعله. فقد تخفت في الممشى الخلفي في خلوة الشجيرات، التي حجبتها عن الشوارع والمنازل المجاورة ودخلت من نافذته. كان ذلك ما حدث إذن، وهو ما لم يساعده البتة على اتخاذ خطوات نحو الموت. بل إنه دعاه، في واقع الأمر، إلى التفكير أكثر وأعطاه المزيد من الأسباب للعيش أكثر من أي أسباب سيطرت عليه من قبل.
بعد تلك الواقعة عاش جيمي في ترقب دائم. فلا شك أنها يوما ما ستأتي مرة أخرى. يوما ما سيوجد في الحديقة حين تأتي، أو سيجدها على العرش. كاد يحمله الهوى على كتابة رسالة وتركها هناك، لكن أثناه عن ذلك معرفته أن العديد من الناس يتسلقون المسار الوعر المؤدي لقمة الصخرة المتعرجة. لم يستطع أن يجازف فيعثر أي شخص آخر على الرسالة الموجهة لفتاة العاصفة. لم يستطع في أعماق نفسه الامتناع عن التفكير فيها كما رآها، مكروبة وحزينة في وهج البرق، أو بشفتين مرتعشتين وعينين محدقتين كما كانت حين تركته. لم يستطع ألا يحاول تخيل كيف قد يبدو وجهها وهو متلهف ومتوهج بالسعادة، وكم قد تلمع عيناها وهي مسرورة ومتحمسة، وكم ستصبح رفيقة رائعة عند مواجهة الأمواج أو تسلق الجبل، أو العمل في الحديقة، أو عند الجلوس قبالة المدفأة. مهما يكن ما قد ظنه عنها حين رآها امرأة غامضة، امرأة تجلى عرقها وأصلها في وجهها وحركاتها ونبرات صوتها، امرأة يملك دمه حق أن يهفو إليها لأنهما ينتميان للجنسية نفسها، من ناحية الجد، تظل الحقيقة أنه لا يمكن أن تكون غامضة بالنسبة إليه قط. فقد انطبعت في ذاكرته في وعيه بطريقة مختلفة عن أي امرأة أخرى.
قال جيمي: «لأنها زوجتي أمام الله وأمام القانون، وهو الواقع الذي لا يمكنني التملص منه، ولا تستطيع هي التملص منه. لا يمكنها أن تتزوج أي رجل آخر من دون الإعلان عن نفسها والطلاق مني.»
وإذا بجيمي يتلقى صفعة أخرى أردته فاقد النطق وربما فاقد الحس لبرهة.
إذ قال لنفسه وكل ما حوله حين اكتسب طاقة كافية ليتحدث: «كذلك أنت يا جيمس لويس ماكفارلين، لا تستطيع الزواج من أي امرأة، ولا يمكن أن يصبح لديك بيت حقيقي ولا عائلة ما دمت متزوجا شرعا من فتاة لا تريد سوى اسمك، أو على وجه الدقة من واحدة لا تريدك أنت شخصيا على الإطلاق!»
جلس جيمي بغتة وأقر بأنه كان مشغولا بسبيل واحد. فقد كان ذاهبا في السبيل المؤدي إلى الموت والزوال حين أقدم على مغامرة الزواج الحمقاء هذه. أما الآن فهو في السبيل المؤدي إلى بيت، وإلى مهمة في الحياة، وإلى الأشياء التي يرغبها كل الرجال حين يكونون عقلاء وأصحاء، لكنه أصبح مقيدا بأشد القيود التي يستطيع القانون تقييده بها بالسجلات الموجودة في مكتب أذون الزواج التابع للبلد الذي يعيش فيه. كان ذلك أمرا آخر يستدعي التفكير. وهكذا مضى جيمي يؤدي مهام مربي النحل، وسيد المنزل، وشريك الكشافة الصغير، بينما ذهنه منشغل بعدة مشكلات ملحة جدا.
الفصل الخامس عشر
حصاد العاصفة
بدأت الأيام تنسل سريعا. وحين أصبح جيمي أكثر دراية بالعمل الذي عليه القيام به وجد أنه كثيرا ما يستطيع أن يرى من تلقاء نفسه أشياء لم يخبره أحد بها، لكنها أشياء زادت نشاط النحل، أشياء أضافت إلى جمال الحديقة، أشياء أدت إلى إنتاج كميات أكبر من مختلف أنواع الخضراوات. كذلك اكتشف أن هناك أكشاك فاكهة وخضراوات في موقع غير بعيد عنه على استعداد لشراء أي شيء لم يمكنه استخدامه هو ومارجريت كاميرون من هذه الأصناف مقابل أسعار مجزية. وبعد ذلك بدأ يملأ سلالا من أجل الكشافة الصغير ليحملها إلى منزله حتى لا تثار تساؤلات بشأن عدم العدالة في التقسيم.
مرت عشرة أيام كان نادرا ما يرى فيها الكشافة الصغير، ثم جاء يوم بهيج إذ جاء الصغير إلى الحديقة صاخبا يتبعه بيل السمين الطيب والطفل المطيع وذو الوجه الملائكي. فأشاعوا جوا من المرح، وملأت ثرثرتهم الأجواء، وضحك جيمي حتى استلقى على قفاه. حيث كانوا يحتفلون بنهاية الدراسة. فأخذوا يخططون لصيف طويل سيشمل المزيد من الشغب أكثر ربما مما كانوا يملئون به المدة الزمنية نفسها فيما قبل.
وجد جيمي نفسه في غاية الامتنان لوجود الكشافة الصغير في الحديقة. لم يكن حصوله على الكثير من المساعدة المفيدة في رعاية النحل وتقليم الزرع وريه هو السبب الوحيد؛ وإنما لأنه أصبح يحب الصغير حبا جما. ولما ترسخ في نفسه اهتمامه بالطفل أكثر، انتابه القلق وأصبح مشغولا بإحساسه بأن الأمور ليست كما ينبغي لها أن تكون؛ إذ إن قائد الكشافة لم يكن طوله يزيد، ولا يكتسب القوة البدنية التي يفترض أن تؤدي إليها التمارين التي كان جميع فتيان الكشافة يؤدونها. وقد فكر جيمي جديا عدة مرات في زيارة أم قائد الكشافة وسؤالها إن كانت لا ترى أن جين يجهد نفسه للغاية في التمارين، ويرهق ذهنه لأقصى درجة، جاعلا من كل يوم سلسلة من نشاط لا ينتهي. وقد أدرك جيمي من بعض الأخبار هنا وهناك أن الطفل لم يكن ينام جيدا البتة في الليل. إذ كان الكشافة الصغير يتسلل إلى حجرة المعيشة أحيانا ويتمدد في الشرفة، أو إلى حجرة جيمي، وينام بضع ساعات كما قد ينام الموتى، عند نهاية الفراش.
ومع تنامي قوة جيمي، وازدياد سمك الجلد المغطي لصدره وزوال لونه، ومع تحقيق المواظبة على النظام الغذائي الدقيق وحمامات الملح والعلاج بالشمس وعصير الطماطم والبرتقال أهدافها، أصبح ذهن جيمي صافيا بالتناسب مع قوته بدنيا. وجعل ينمو لديه شعور بالقوة، والقدرة على تحمل المسئولية. فكاد يتوقف تماما عن التفكير في نفسه. وأصبح كل تفكيره منصبا على عمله، والكشافة الصغير، ومارجريت كاميرون، ووجد أنه لم تمر ساعة من يومه وإلا وكان ذهنه في صراع يكر فيه ويفر، ويقبل ويدبر، فيما يخص الفتاة التي تزوجها.
ومن ثم تساءل إن كان لا بد أن يبدأ بحثا منظما عنها، وإن كانت ستسر أم تبتعد عنه في غضب، إذا عثر عليها. وتساءل إن كان ثمة مساعدة يستطيع أن يقدمها لها. وتساءل إن كانت ثمة ظروف تشفع لها. لم يستطع جيمي أن يحمل نفسه على رؤية فتاة العاصفة بصفتها فتاة خالفت القوانين؛ قوانين الخالق وقوانين الإنسان.
في تلك الأيام كان لديه قلق دائم بخصوص مارجريت كاميرون. كان قد ألف أن يحترم جارته غاية الاحترام. وكان قد ألف أن يقدر أفعالها الكريمة الطيبة العديدة بالغ التقدير. وقد شعر بأنه لو كان العالم كله مليئا بأمهات مقبلات على البقاء في المنزل، وتحمل واجبات رعاية البيت، والتمسك بالمنطق السليم والآراء السديدة كما فعلت مارجريت كاميرون، لكان هناك المزيد من الفتيان والفتيات المقبلين على البقاء بالمنزل، والمقبلين على البحث عن التسلية فيه بدلا من البحث عنها في الشواطئ والوديان وقاعات الرقص الرخيصة. ثم تصور أن مشكلة مارجريت كاميرون في تلك اللحظة، حسب تخيله، هي أن ابنتها الوحيدة قد غادرت المنزل وستظل بعيدة عنه عن عمد. كانت مارجريت قد أخبرته لتوها ذلك الصباح أن لولي قد حسمت قرارها بالذهاب مع مجموعة من الشباب إلى يوسيميتي وغابات موير. وقد قالت في خطابها إنها ستحاول إن أمكن أن تعود إلى المنزل لقضاء بضعة أيام قبل بدء الدراسة في الخريف، وبذلك كان أمام مارجريت كاميرون صيف طويل موحش، وقد اعترفت لجيمي بأن ثمة قلقا، وخوفا يتملكها حتى إنه يستحيل عليها تماما صرفه.
لذلك كان جيمي حين يفكر في مارجريت، يفكر متعاطفا ومتعجبا، وفي كثير من الأحيان بكثير من السخط. فلم يملك سوى الشعور بأنه ثمة واجب تجاه الآباء والأمهات الذين حافظوا على بيوتهم، وصمدوا في وجه السنوات، وطببوا أبناءهم وتعهدوهم بالرعاية وصلوا من أجلهم، الذين بذلوا أقصى ما في طاقتهم وأحبوا من أعماق قلوبهم، الذين أعطوا بلا مقابل، ومنحوا كل ما يملكونه، لكنهم لم يجنوا من ذلك أي شيء مطلقا فيما يبدو، ولا حتى الامتنان. لم يستطع جيمي تصديق أن الاهتمام الذي كانت مارجريت توليه إياه كان متأثرا بعمق التفاني ومشوبا بنوعية الاهتمام والحب الذي منحته أيا من الثلاثة الصغار الذين أحبتهم وتفانت من أجلهم حتى بلغوا السن التي استطاعوا فيها إعالة أنفسهم. فقد حلت الإجازة. وحان وقت رجوع الأطفال الآخرين إلى منازلهم، لكن لم تكن أي من ابنتي مارجريت كاميرون قادمة؛ لا الفتاة التي أنجبتها، ولا الفتاة التي منحتها المأوى. لماذا لم تأت كلتاهما لقضاء بضعة أسابيع؟ لماذا لم تخططا للحضور واحدة تلو الأخرى بحيث تحظى مارجريت بإجازتها كما سيحظى بها الآخرون؟ لماذا لم تضعا من أجلها بعض الخطط؟ لماذا لم تفعلا شيئا لكسر وتيرة الضجر والتضحيات والعمل الشاق في حياتها؟
ومن ثم قرر أن يجتهد جدا في العمل. ثم يأخذ بضعة أيام إجازة ويطلب من مارجريت كاميرون أن تذهب معه لالتماس بعض البهجة. فيذهبان حيث يستجم الناس على الشواطئ. وقد يذهبان إلى مكان ما على متن مركب. وربما يذهبان إلى المدينة ويستمعان لبعض الحفلات الموسيقية الرائعة، أو يشاهدان بعض الأفلام الجيدة، أو مسرحية مسلية. فسوف يحاول أن يرد فعليا بعضا مما كانت تفعله لتضفي على حياته معنى. وقد عزم على ذلك عزما لا رجوع فيه.
وذات يوم ذكر جيمي موضوع أولاد مارجريت أمام الكشافة الصغير، فوجد أن الطفل كان ساخطا بقدر سخطه.
إذ قال الكشافة الصغير: «لا يعلم أحد متى ستأتي لولي. إنها لا تفكر إلا في نفسها وغالبا تفعل ما يحلو لها، أما مولي فسوف تأتي. فإنها تعمل عملا صعبا وربما تضطر إلى الراحة بضعة أيام. قد تكون مضطرة إلى إغلاق مسكنها وتسكين شخص آخر فيه، أما إذا لم تأت فسيكون لديها سبب وجيه جدا، لكن عندما تأتي ستبدأ المعسكرات والنزهات، وسيكون هناك أشياء لنقوم بها في هذه الأنحاء. حين تأتي مولي ستكون مستعدة للانطلاق بكل همة، وعندئذ ننطلق!»
استخدم الكشافة الصغير يديه ليمثل كيف يمرحون حين تعود مولي للديار. «إنها مرحة حتى النخاع! إذ ترتسم على وجهها ابتسامة طفولية عريضة كما أنها لا تخشى الأوساخ. ولا تخشى المياه، ولا تخشى الجهد، ولا تخشى إنفاق النقود. إنها مبهجة كالفاكهة الناضجة! هذه هي مولي!»
قال جيمي: «أنتظر بلهفة، لرؤية مولي.»
فقال الصغير: «حسنا ، فلتظل منتظرا.» وتابع: «لتبق على موقفك، وما دمت تهتم بالتعرف إلى الفتيات، فبالقطع، ستجد فيها فتاة ذات جاذبية، حين تأتي!»
فقال له جيمي: «أصدق ما تقول. أعتقد أنك أعلم بالأمر، وإنني أثق تماما في آرائك.»
راح الكشافة الصغير يفتت خبزا على امتداد حافة الممشى الخلفي من أجل أنثى طير محاكي عششت على نخلة تمر بجانب العريشة. ووضع بجانب الخبز قطعة كبيرة من تفاحة جعل يلتهمها من دون مضغ. وفي ثلاث قضمات أخرى اختفت التفاحة، بلبها وبكل ما فيها. مسح الكشافة الصغير أصابعه المبللة في مقعدة سرواله القصير بالغ الاتساخ، ووضع يده فوق يدي جيمي اللتين قبض بهما على فروع بعض زهور السوسن التي كان يستزرعها. أدت القوة الإضافية التي هبت للمساعدة إلى خلع الجذور من الأرض، فتدحرج كل من قائد الكشافة ومربي النحل فوق الآخر عشوائيا هابطين جانب الجبل حتى اصطدما صدمة قوية بشجرة كريفون. فنهضا يضحكان، والتقط جيمي السوسن. ووقف قائد الكشافة رابط الجأش برشاقة. ثم أخذ نفسا عميقا، وسحب شفته العليا، ومد شفته السفلى، لينفث الغبار عن عينيه الرماديتين الداكنتين. وكان المفترض أن الاهتزاز مثل كلب خرج من الماء كاف لطرح الأوساخ المتراكمة. واستقر على الوجه الصغير تعبير مغتبط أقرب إلى العذوبة الساذجة. وبإبهام اليد اليمنى والسبابة نفض بدقة قطعة كبيرة من الأوساخ عن الكتف اليسرى. ثم راح بالإيماءات يتفحص حالة جيمي من خلال نظارة تظاهر بمهارة بأنه يرتديها حتى إن جيمي رآها جيدا رغم أنها لم تكن موجودة.
قال الكشافة الصغير: «أرجو حقا ألا يكون قد أصابك ضرر دائم.»
فقال جيمي: «لا، لم يصبني، وأرجو لك الأمنية الطيبة نفسها.»
قال الكشافة الصغير: «شكرا جزيلا!» وبالحماس نفسه استأنف كلامه قائلا: «أراهنك ...» ودفع يده في جيبه، وأخرج عملة صغيرة وتفحصها جيدا. ثم وضع جانبا قيمة شطيرة سجق وزجاجة مياه غازية بنكهة الفراولة وحسب المتبقي. وتابع: «أراهنك بسبعة سنتات أنني أستطيع التدلي بقدم واحدة من عمود العريشة القائمة هناك!»
جعل جيمي يتأمل الموقف.
وقال: «لن أجاريك في رهانك. إذا انسلت قدمك وسقطت فسينكسر رأسك.»
فقال قائد الكشافة: «لن ينكسر إن وقعت على التربة.» «سينكسر إن وقعت على الصخور الواقعة على بعد ست بوصات من التربة.»
فقال الصغير: «نعم، وهذا المثير في الأمر، مجرد ترقب أين سأسقط!» وفي الحال بدأ يتسلق العريشة.
قال جيمي: «انتبه، فلتعدل عن ذلك! لن تتدلى من قدم واحدة من ذلك الجزء المتقاطع. لا أعلم كم مضى على بناء تلك العريشة، وقد ألقي عليها الكثير من المياه لغسل الكروم. فقد يكون خشبها تحلل تماما.»
واصل قائد الكشافة التسلق بتمكن وسريعا ما جلس على العمود الثاني، وجعل يقفز عليه للتحقق من ثباته.
عندئذ بدا جيمي حادا.
وحثه قائلا: «قلت لك ألا تفعل ذلك!»
فأجابه قائد الكشافة بهدوء: «لن أفعل. لقد سمعتك. فلست أصم. أستطيع أن أؤدي حركة أخرى لها الجودة نفسها، وإذا نجم عنها كسر فلن يصيب سوى ساقي. سوف أتدلى من إصبعي الصغير!»
قبل أن يتسنى لجيمي الوقت ليقول أو يفعل أي شيء، كان جسم قائد الكشافة متدليا لا يمسكه سوى إصبع يده اليمنى الصغيرة فحسب.
صاح الصغير وهو يتأرجح: «لقد تعبت!» وأضاف: «انتبه! فسأهبط! سأستهدف النزول على التربة. اتصل بجرايسون إن هبطت على الحجر!»
وهبط قائد الكشافة، فحط برشاقة وبمنتهى الدقة على تربة الحديقة التي كانت مروية حديثا، على بعد أربع بوصات تقريبا من الأحجار التي كانت من الممكن أن تكسر ساقه بمنتهى السهولة.
فقال له جيمي: «فلتنصت لي. لقد أخبرتك أنني لم أكن على ما يرام في وقت من الأوقات، أليس كذلك؟»
أجابه قائد الكشافة: «نعم، ولم تكن بحاجة إلى إخباري!» ثم أردف قائلا: «كان بإمكاني أن أرى ذلك وحدي، لكن أرى الآن أنك في غاية البأس. تستطيع قيادة محراث بخاري أو تشغيل كسارة أحجار أو ضرب أحد اللصوص إن أردت. لن أفعل ذلك مجددا.»
وبعد ذلك ثبت قائد الكشافة قدميه الصغيرتين أمام جيمي مباشرة ونظر إليه وفي أعماق عينيه الداكنتين تتراقص الشقاوة نفسها.
سأل الكشافة الصغير ساخرا: «لقد أثرت حنقك، أليس كذلك؟» وتابع: «وجعلتك تظن أنك ستضطر إلى الذهاب إلى الهاتف وتتصل بأمي لتأتي بسيارة الإسعاف. عجبا! ها هو هاتفك يرن!»
جاوز جيمي مرحلة حين كان رنين الهاتف حدثا، فقد أصبح يرن كثيرا تلك الأيام. قد يكون كاري هو المتصل ويريد مساعدة. وقد يكون جرايسون ليشرح تفصيلة قانونية جديدة قابلته. وقد يكون اتصالا من البنك. وقد تكون أم قائد الكشافة تريد أن يعود طفلها إلى المنزل. مسح جيمي يديه في سرواله وسار إلى الهاتف ورفع السماعة. جلس قائد الكشافة على الصخور التي ابتعد عنها عند نزوله فلم تكسر عظامه، وبزهو شغوف راح يتفحص النصف الغربي من الحديقة الذي كانا يعملان فيه والذي شكل أملاكه الشخصية المحببة إلى نفسه.
وبينما كان يجول بنظره في أنحاء الفدان الممتد حتى البحر، قال الكشافة الصغير: «بعد أن أفرغ من المدرسة الثانوية سآتي لأعيش هنا. فليهنئوا هم بكلياتهم اللعينة ويفعلوا بها كيفما شاءوا! أما أنا فسأتعلم من الكتب التي وضعها سيد النحل في مكتبته. فكما كانت نافعة له فستصبح نافعة لي، وبينما أقرأ كتبه سأظل أفكر فيه. من الأسباب التي ستجعلني أحافظ على نقاء سيرتي وأسلك سلوكا قويما وأصبح محترما مثلما كان هو رغبتي في الذهاب حيث ذهب، حتى نرى ما يمكننا الفوز به من الجنة معا مثلما استمتعنا كثيرا على الأرض. ويحي! ليته يعلم كم أشتاق إليه!»
بداخل المنزل، وقف جيمي أمام الهاتف بوجه شاحب، متشبثا بالهاتف التماسا للدعم، بينما راح كل جزء من جسده ينتفض، وقد فارقته قوته التي استعادها منذ مدة ليست بالبعيدة، متمزقا حتى الأعماق. كان قد رفع السماعة وقال «مرحبا!» بلا مبالاة كما قد يقولها أي رجل آخر، ورد بعد ذلك بالإيجاب على استفسار: «هل أنت جيمس لويس ماكفارلين من منحل سييرا مادري!» فجاءه الصوت مستأنفا: «أنت مطلوب حالا وضروريا في مستشفى التوليد، الواقعة عند زاوية تقاطع شارعي أيرولو وسفنتينث.»
فأجاب جيمي لاهثا: «أجل.»
فواصل الصوت الحديث قائلا: «لقد وضعت زوجتك طفلا سليما ليلة أمس، لكنها لم تفق من التخدير كما ينبغي، مما أثار قلقنا. لقد وجدنا عنوانك بين أغراضها. نرجو أن تصل إليها بأسرع ما تستطيع. فمن المحتمل أن تطلب رؤيتك قريبا جدا.»
وضع جيمي السماعة، والتقط قلما وكتب: «شارعا أيرولو وسفنتينث»؛ حتى لا ينسى. ثم هرع إلى غرفة النوم وشرع يرى السرعة التي يستطيع بها ارتداء ملابس مناسبة للخروج إلى الشارع. وبينما يفعل ذلك نادى الكشافة الصغير، وحين ظهر الطفل قال له: «أغلق الأبواب سريعا. وجهز مفتاح الباب الأمامي من أجلي. جاءني استدعاء لأجل مسألة طارئة في المدينة ولا أعلم متى سأعود.»
قال الكشافة الصغير بنبرات تبرم: «أوه!» وأضاف: «لقد جئت لأمكث طوال اليوم! ثمة أشياء كثيرة أردت إنجازها في أرضي.»
فقال جيمي: «أجل، أعلم ذلك.» وتابع: «ربما نفعلها غدا. من الأفضل أن تتصل بالرفاق وتلهو ما تبقى من اليوم على الشاطئ أو تنصرف إلى المنزل.»
خرج جيمي من الباب، وأوصده خلفه. واندفع مسرعا في الممشى والشارع متجها صوب خط الترام.
وقف الكشافة الصغير يراقبه.
وقال: ««مسألة طارئة!» حسنا، سأخبر العالم بشأنها! لعل المنزل اشتعل أو عض الكلب أخي الصغير، أو ضاع صندوق مساحيق الزينة الخاص بأمي، أو سقطت الحكومة. لقد انقلب الحال، ولم يعد ثمة أي شيء صحيح في العالم كله! فلتسرع يا جيمي! عالج كل المشاكل! يا للعجب!»
دار الكشافة الصغير حول المنزل، ودخل متسلقا النافذة الخلفية، وأوسع وسادة جيمي ضربا، ثم استلقى عند نهاية الفراش.
انطلق جيمي إلى أقرب عربة ترام واستقلها حتى المدينة، وفي الطريق سأل أين يجد شارعي أيرولو وسفنتينث، وحين نزل بعيدا بعض الشيء استقل سيارة أجرة. وبمجرد أن جلس تحسس الدفتر الذي دسه في جيبه وكل النقود المعدة للطوارئ التي كانت في صندوق صغير على الرف العلوي في الجانب الأيسر من المكتبة الذي يضم كتب النحل العملية. كانت أفكاره تدور في فوضى. فتاة العاصفة. لقد بلغت ساعة الآلام، بشجاعة، من دون مساعدة، كما كان يجدر بها. فلم تطلب منه المساعدة. لقد جاءت بطفل للعالم، صبي. «طفل سليم»، كما قال الصوت، لكن لم يبد أنها كانت على ما يرام. بدا الخبر منذرا بالسوء لجيمي. لم يكن يعرف أن التخدير جزء من ولادة الأطفال. لقد وقعت خلال الست السنوات الماضية أشياء كثيرة جدا لم يعلم جيمي بها. وفي البداية لم يكن يعلم شيئا ذا بال عن الطريقة التي يأتي بها البشر إلى العالم، لكنه أخبر بها، وفهم بنفسه أنها ليست رحلة سهلة سواء على الأم أو الطفل، وفي هذا المستشفى الذي كان ذاهبا إليه ثمة صبي حي صغير، وكانت المراسم التي خضع لها جيمي من أجل إنقاذ الطفل باسم يستمد منه الاحترام. كان «الطفل الصغير الجميل» الذي أعلم بشأنه هو جيمس لويس ماكفارلين، الابن، والفتاة الجميلة، فتاة العاصفة، الفتاة الناهدة ذات العينين الداكنتين، الفتاة ذات الوجه البارد المبلل واليدين المتشبثتين، الفتاة ذات الشفتين المرتعدتين والعينين المحدقتين؛ ماذا حدث لها؟ لم تفق من التخدير؟ لم تستعد الوعي كما كان ينبغي لها، وبين أغراضها وجدوا عنوانه؛ لذا هو في طريقه إليها. بعد دقيقة سيكون في الحجرة حيث تمكث. سوف يرى جبهتها، وشعرها الكثيف وهو مسترسل على الوسادة، وعنقها الأبيض.
عرف جيمي ماذا سيفعل. لقد اتخذ قرارا نهائيا. سوف يتناول يديها ويقبض عليهما بكل قوته. سوف يضم وجهها إلى وجهه كما أسلمته هي إياه طواعية ذات مرة. وسوف يغمره بسيل من القبلات المتوجعة. سوف يخبرها أنه لا يأبه البتة لما حدث أو كيف حدث. فإنه لا يمكن أن يصدق أبدا ولن يصدق مطلقا أن العار قد مسها أو قد يمسها أبدا. سوف يجعلها تتعافى، وسيأخذها إلى المنزل، وسوف يعتني بها. سوف يعيشان معا ويتحابان معا، وسيصنعان من الحياة شيئا غاية في الروعة. أخذت الدماء الجديدة، الدماء المنتعشة، الدماء النقية تتدفق في عروق جيمي حتى كاد شعر رأسه يقف. وقد أخذ يفرك يديه دون أن يدرك ما الذي كان يفعله.
أخذ جيمي يتوعد قائلا: «إنهم ليسوا أكفاء! إنهم لا يقومون بواجبهم! سوف أقتل الطبيب وأخنق كل ممرضة في ذلك المستشفى إن لم يتصرفوا. إن الولادة عملية طبيعية. لا تخبروني أن فتاة كبيرة قوية مثلها قد تتلقى الرعاية المناسبة ولا تنجو منها.»
هرع جيمي إلى المستشفى ثم إلى المكتب ومنه إلى الرواق فإلى المصعد، ومنه إلى حجرة صغيرة. حيث وقف بجانب الفراش وألقى نظرة طويلة. ثم حول نظره من الطبيب المنتظر بجانب الفراش ممسكا رسغ السيدة منقطعة النفس إلى الممرضة.
وقال: «لقد ارتكبت خطأ. لقد أعطوني رقما مغلوطا. هذه ليست زوجتي.»
تقدمت الممرضة والتقطت من بين محتويات الدرج عقد زواج كان قد رآه من قبل.
وقرأت منه قائلة: «جيمس لويس ماكفارلين»، ثم وضعته في الدرج.
تمسك جيمي بنهاية الفراش وانحنى عليه. لم تكن الفتاة الراقدة عليه تشبه أي فتاة رآها من قبل، لم يكن من الممكن، حتى في أبعد الاحتمالات، أن تكون فتاة العاصفة. تشبث جيمي بالخشب عديم الحس أكثر وانحنى أكثر، وجعل يحدق بعينين متسعتين. ما معنى ذلك؟ كيف لهذا أن يحدث؟ لماذا قد تحوز هذه الفتاة العقد الذي يمثل زواجه من فتاة العاصفة؟
توجه إلى جانب الفراش ونظر بإمعان إلى اليد اليسرى المرتخية على الغطاء. كان الخاتم الذي اشتراه في الإصبع الثالثة، خاتم الزواج الصغير الرخيص. التقط اليد وتفحص الخاتم حتى تأكد. كان يعلم أن كلا من الطبيب والممرضة يشاهدانه.
ثم تحدث الطبيب. فقال: «كم مضى منذ رأيت زوجتك؟»
افترت شفتا جيمي ليقول إنه طوال حياته لم ير قط المرأة الراقدة أمامه، لكنه توقف دون أن ينطق بالكلمات.
إن قال ما كان يجول في خاطره، إن أنكرها، إن تركها للحياة أو للموت وهو أشد رحمة معلنا أنه لا يعرفها، أنه لم يرها قط، فأين إذن رونق الفعل الذي حاول القيام به ليستر باسمه امرأة كانت بحاجة إلى اسم؟ فلم يكن ليفرق معه، على أي حال، في ليلة العاصفة أي امرأة تحمل اسمه ما دامت كانت ستستعيد به الكبرياء وإرثا لائقا لطفل لم يولد، الذي قال الطبيب إنه «طفل صغير معافى.» لكنه إن نطق فلن يظل الطفل الصغير المعافى بخير. سيصبح طفل العار، مجرد شيء يستدعي الشفقة، مثارا للسخرية، ينقل من منظمة خيرية إلى أخرى. سيلقى به إلى العالم محروما من حقه في بيت أو محبة أو تربية لائقة. ولن يصبح من المستغرب إن ابتلعته أي موجة من موجات الجريمة أو العار مما لا يخطر على بال إنسان. والفتاة. أخذ جيمي يحملق بشدة. وأدرك أنه لو كان ثمة دماء في ذلك الوجه الشاحب شحوب الخزف، ولو كان ثمة حمرة في شفتيها، ولو كان ثمة لمعة في شعرها، ولو كشف هذان الجفنان الرقيقان عن عينيها، متضرعتين يملؤهما الحزن، كانت ستبدو جميلة. ربما هناك في العالم رجل استطاع أن يتبرأ منها. لكن جيمي لم يستطع. ليس جيمي ماكفارلين من يفعل ذلك. لقد ماتت الكلمات دون أن ينطق بها.
قال بصوت أجش: «هل تقصد أنه من الغريب أنني لم أتعرف عليها؟ ربما الألم هو السبب، لقد تزوجنا منذ شهور عديدة.»
فقال الطبيب: «لقد علمت أن في هذا العالم الكثير جدا من الأشياء الغريبة وبعض الأشياء المستعصية على التفسير، لكنني لا أستطيع ألا أعرب عن رأيي بأنك زوج سيئ ما دمت تركت زوجتك تمر بشيء عصيب مثل الاقتراب من الوضع بما فيه من ألم عصبي وألم جسدي من دون أن تبدي أي تعاطف أو تبادر بأي اهتمام. إنه تصرف لا يكاد يبدو إنسانيا.»
لعق جيمي شفتيه وخضع للتوبيخ. لم يستطع أن يقول أي شيء يدافع به عن نفسه من دون أن يلقي بظلال الشك على الفتاة أمامه، وخلال الدقائق القليلة التي قضاها واقفا يحملق فيها أدرك أن أنفاسها تتلاحق. وصارت اليد التي كان يحملها ثقيلة في أصابعه. فقبض عليها وشرع يفركها.
وهتف قائلا: «بحق الله! حاول أن تفعل شيئا! دعك من وعظي الآن! افعل شيئا! لا ... لا تتركها تضيع هكذا!»
نظر الطبيب إلى جيمي وقال بهدوء: «لم يترك ثلاثة من أفضل الأطباء في المدينة شيئا مما يعرفونه في علم الطب دون أن يفعلوه طوال الليل، كذلك أدت بعض الممرضات الممتازات واجباتهن على أكمل وجه. يجدر بك أن تعي أن نهايتها وشيكة جدا. اعتقدت أنها قد تتحسن. اعتقدت أنها ربما قد تريد إخبارك بشيء. اعتقدت أنك ينبغي أن تكون هنا حين تحتاج إليك، وقد أخبرتك بالحقيقة حين قلت إن ابنك صبي صغير جميل. فإنه مثال على جمال الطفولة. وبداخله بذرة رجل محترم، ونحن بحاجة إلى الرجال في هذا البلد. إذ يبدو أن لدينا فائضا من المنحطين في الوقت الحالي.»
مرة أخرى تجرع التوبيخ. وكان مذاقه مرا على لسانه؛ لأنه ليس «منحطا». ولم يكن كذلك قط. فلم يكن عليه أدنى التزام تجاه السيدة الراقدة أمامه، بخلاف الالتزام الذي يدين به أي رجل لكل النساء؛ أن يحبهن بإخلاص، ويهتم بهن برفق، ويحترم أجسادهن باعتبارها الأوعية التي يعمر من خلالها العالم. وقد غرس فيه ذلك المبدأ منذ أصبح بالغا كفاية ليفهم معناه ولو فهما طفيفا. لا بد أن يكون مهذبا مع النساء. لا بد أن يكون كريما معهن. لا بد أن يلقين الرعاية لأن بهن تكتمل الأسرة؛ فهن من ينجبن الأطفال الصغار. لا بد من احترامهن. إنهن الأوعية التي تحتوي بذور الحياة. ومن أرحامهن يخرج الرؤساء والساسة، والمحافظون ورجال الأعمال، والقباطنة والبحارة والجنود وفلاحو الأرض والقساوسة الذين يملئون المنابر والمعلمون الذين يشكلون عقول الصغار في مدارسنا.
وأمامه كانت تحتضر واحدة من النساء؛ تحتضر في شبابها، تموت وهي جميلة، من خجلها من نفسها، في خزي، وكرب شديد؛ لأن رجلا ما، في مكان ما، استخف بجسدها واستباحه ليحكم عليها بشهور من الوجع المعنوي، وساعات من الكرب المؤلم، ووحشة الموت من دون حبيب. ومن ثم ترنح جيمي فدفعت الممرضة مقعدا تحته.
ونظرت إليه نظرة نافذة ثم قالت بترو: «في الأمر شيء لا أعيه أيها الطبيب، لكنني لن أشاركك في الاعتقاد باقتران أي من صفات انعدام الرجولة بالسيد ماكفارلين. فخلال الأيام التي قضتها السيدة ماكفارلين هنا قبل ولادة الطفل بدا لي أنها تعشقه. فهي لم تبح بأي كلمة خبيثة في حقه.» «ماذا تقولين؟» سألها الطبيب محتدا.
فأجابته الممرضة: «أخبرك بالحقيقة. لقد قالت إنه أنبل الرجال، أرقى الرجال في العالم بأسره. قالت إنه أتى فعلا غاية في العظمة والسمو ما كان ليفعله أي رجل آخر. وقالت إنها تشعر أنها لن تعيش بعد ولادة الطفل. وحين أرتني عقد زواجها، اعتقدت أنها تريد مني استدعاءه. فبحثت عن عنوانه. فقد قالت إنه إن كتب لطفلها العيش، فقد أعدت له السبل لذلك، لكنها أبدت لي أمنيتها في أن يذهب إلى رجل شديد الفضل مثله. لا أدري كيف أفسر سبب انفصالهما بعضهما عن بعض خلال هذه الشهور، لكنني أعلم يقينا أن الخطأ ليس من ناحية السيد ماكفارلين.»
فقال الطبيب لجيمي: «في تلك الحالة، يبدو من المرجح أنني مدين لك بالاعتذار. فإنني أرى هذه الأيام الكثير من الأمور التي لا تصح البتة حتى إنني صرت فظا بعض الشيء. أعتذر بحق إن كنت قد تفوهت بشيء ما كان يجب أن أتفوه به. أما ابنك والاحتياطات التي اتخذت من أجله، فأمره يعود إليك. إن كنت تريد الطفل، فسوف يعطيك القانون إياه بموجب عقد الزواج هذا.»
تحول جيمي نحو الممرضة. «ما الذي قالته؟» سأل جيمي الممرضة.
فردت عليه الممرضة وقالت: «قالت ذات مرة، إنه مستحيل، لكن لو كان ممكنا، فهي ستضحي بحياتها مسرورة إذا بلغها أنك ستأخذ الطفل وتجعله رجلا من نفس عينتك.»
فقال جيمي باقتضاب: «حسنا. سوف آخذ الطفل. بإمكانك أن تجهزيه. لدي منزل مريح. ويمكنني تدبر طريقة لرعايته جيدا. سوف أبذل قصارى جهدي لأجعل من الفتى الذي يحمل اسمي رجلا من النوع الذي أرادته أمه.»
عندئذ اندهش جيمي والطبيب والممرضة وبهتوا. فقد صدرت ضحكة خفيفة عن شفتي الفتاة المستلقية على الوسادة، ضحكة خفيضة متهللة سعيدة، ضحكة مليئة بالاندهاش والبهجة وعدم التصديق، ومعها نفدت الأنفاس الأخيرة الباقية من الجسد المعذب، فتراجع الرأس المبتهج على الوسادة وظل راقدا بلا حراك.
غطى جيمي وجهه وجلس صامتا، وحين ألقى نظرة أخرى رأى جسدا تحت الملاءة. فنظر إلى الممرضة بعينين بائستين.
فسألها: «هل لديكم تعليمات بالترتيبات اللازمة؟»
هزت الممرضة رأسها بالإيجاب. «لقد اتخذت كل الاحتياطات، والأغرب أن كل النفقات سددت حين دخلت السيدة ماكفارلين المؤسسة. وقد أمرنا في مثل هذه الحالة بإعداد الجثمان وإرساله إلى ذويها.»
فقال جيمي ناهضا من مجلسه ومستجمعا قوته: «حسنا. أين الصبي؟»
بدا على الطبيب التردد.
سأل الطبيب جيمي: «هل لديك شخص مؤهل لتولي مسئولية طفل حديث الولادة؟»
فرد عليه جيمي قائلا: «لدي امرأة فاضلة منظمة ربت ثلاثة أطفال حتى بلغوا مرحلة النضج.»
فقال الطبيب: «ليكن إذن. أعطيه الطفل.»
اختفت الممرضة وعادت بعد قليل. فوضعت بين ذراعي جيمي قطعة من قماش تفوح منه رائحة الصابون بزيت الزيتون وحمض البوريك المطهر، ملفوف على شيء دافئ وحي ويتحرك. ووضعت حقيبة سفر في متناوله، فاعتمر جيمي قبعته، وضم ذراعيه حول اللفة النابضة بالحياة، والتقط الحقيبة وخرج من الحجرة.
نظرت الممرضة إلى الطبيب ونظر الطبيب إلى الممرضة، وقال كل منهما للآخر: «أيعقل هذا؟»
سأل الطبيب: «ما الذي حدث بينهما في ظنك؟» ثم استأنف قائلا: «إن كانت قد قالت أشياء كتلك عنه، فلماذا تركها، من دون أن يراها ثانية، من دون دمعة ندم، من دون لمسة حنان؟ لقد مررت بالعديد من التجارب الغريبة جدا خلال الثلاثين سنة التي مارست فيها الطب، لكن هذه الحالة تفوقها جميعا. فإنني لا أفهمها!»
فقالت الممرضة: «ولا أنا، والأكثر من ذلك أنني لا أعتقد أنه يفعل. لا بد أن أذهب لأجري اتصالات بالطرف الذي طلب مني استدعاؤه في حال موتها. أعتقد أنها كانت متوعكة بشدة طوال الوقت. وأعتقد أنها جاءت شاعرة أنها لن تنجو، وأعتقد أن ذلك الشعور انتابها لأنها لم تكترث بتاتا سواء عاشت أو لم تعش.»
التقطت الممرضة منشفة وجعلت تمسح يديها بهمة.
وقالت: «يغيظني ذلك النوع من الأشياء أحيانا، حتى إنني أود أن أخرج وأقف على المنصات وفي المنابر، وأود أن أخبر الناس ببعض من الأشياء التي رأيتها وسمعتها. أود أن أقضي يوما بطوله أتحدث مع فتيات هذا البلد. أريد أن أحدثهن عن الأسى وخيبة الرجاء والألم والخزي الذي يخترنه لأنفسهن في حياتهن المستقبلية حين يقررن أن يحدن عن الطريق الضيق القويم ويسمحن لأنفسهن طواعية أن يصبحن لعبة في أيادي الرجال؛ حين يتركن شرفهن يسلب منهن، وحين يسمحن بمحو حسناتهن، وحين يتركن سنوات التربية والرعاية المكللة بالحب التي أنفقت عليهن تذهب هباء، ويجلبن الخزي والعار على أهاليهن، ويفعلن بأرواحهن وأجسادهن ما فعلته هذه الفتاة الميتة المسكينة بروحها وجسدها.»
فقال لها الطبيب: «من الواضح أنك من الناس التي ما زالت تؤمن بالجحيم والخطيئة.»
فقالت الممرضة: «أجل، إنني كذلك. وإنني مؤمنة بأن أعلى درجات جهنم وأقصى درجات اللعنة هي جزاء الرجال المسئولين عن مثل ذلك الكرب الذي رأينا هذه الفتاة تكابده، وعن مثل تلك الميتة التي رأيناها تعانيها. أود أن آخذ الرجال الذين لا يطيقون الانتظار حتى يتزوجوا زواجا شريفا وحتى يصبح بإمكانهم أن يعولوا زوجة ويوفروا لها البيت ويمدوها بالوسيلة لتقوم بمهام الزوجة؛ من رعاية الأبناء وإنشاء منزل، الرجال الذين يقلبون كل الموازين ويفسدون كل شيء من أجل إشباع رغباتهم الشخصية الوقتية، أود أن آخذهم جميعا وأشنقهم من على الارتفاع نفسه الذي شنق عليه هامان. أشعر أحيانا أنني إنما أكره الرجال فحسب!»
ومما أثار دهشته أن الممرضة أجهشت بالبكاء واستخدمت المنشفة في تجفيف دموعها.
قال لها الطبيب: «لكن رويدك!» وتابع: «لقد دافعت عن السيد ماكفارلين. وقلت إنه ليس مسئولا عما حدث.»
قالت الممرضة: «وسأقولها ثانية!» ثم أضافت: «ألا ترى مما أخبرتني به، ومن الطريقة التي جاء بها، ومن الطريقة التي غادر بها، أنه لم ير الفتاة من قبل قط، وأنه لا يعلم من تكون؟ لكن لأنه كان هناك اتفاق ما من أجل أن يحمل الطفل اسمه، فقد تحمل مسئوليته. لكن مهلا، لن تستطيع إقناعي ولا بعد عشرة أعوام أنه رأى تلك الفتاة التي على الفراش من قبل قط، أو أن عقد الزواج الذي عبأته بين أغراضها بحيث يصبح مع الطفل كان عقدا رسميا! ألا تعتقد ذلك!»
بعد ذلك ذهبت الممرضة في سبيلها وذهب الطبيب في سبيله، وركب مربي النحل سيارة الأجرة وأمر السائق بإعادته إلى الحديقة الزرقاء.
الفصل السادس عشر
طفل الشراكة
بعد أن صرف جيمي السيارة الأجرة وسار عبر المسار الأمامي ومعه اللفة والحقيبة، فوجئ حين وجد الكشافة الصغير جالسا على الدرجات الأمامية وبجانبه زجاجة حليب شرب نصفها، وقد ظهرت آثار فتات على فمه حينما رفع وجهه في اتجاهه مستفسرا.
وقال الكشافة الصغير: «حسنا، انظروا من جاء!» وتابع: «يا إلهي، تبدو تماما مثل أبي حين أحضر جيمي من المستشفى!»
فقال جيمي: «حسنا، إنه منظر جميل لأبدو به. هل ظللت جالسا هنا منذ غادرت؟»
فرد عليه الكشافة الصغير قائلا: «كلا. لقد دخلت من خلال النافذة الخلفية واضطجعت عند نهاية فراشك ونمت نحو ثلاث ساعات، ثم شعرت بالجوع، فذهبت إلى مارجريت كاميرون لأطلب منها شيئا آكله، فصادفتها وهي في طريقها للمغادرة. إذ قالت إن مولي قد هاتفتها لتطلب منها المجيء لبضعة أيام. وما زلت أنتظرك لأخبرك بأنه سيتعين عليك أن تجد أي طريقة للحصول على طعام لحين عودتها. ولم يخطر لي أنني نسيت أن أطلب منها أي شيء لآكله أنا إلا بعد أن رحلت، لكنني أعلم أنها ما كانت ستهتم؛ لذلك تسلقت للدخول من نافذة الرواق الخلفي وأخذت قطعة خبز من صندوق الخبز. زجاجة الحليب تخصك ... ما تبقى منها. فلتخبرني بصراحة، يا صديقي، ما هذا الذي معك؟»
جلس جيمي من فوره. كان الحل الذي لديه بشأن ما هو فاعل بجيمس لويس ماكفارلين، الابن، أن ينقله إلى كنف مارجريت كاميرون. حيث خطط لأن يطلب من جارته أن تأخذ الطفل وترعاه إلى أن يستطيع العثور على السيدة المناسبة لتولي المهمة. وقد طاف به أمل عند مغادرته أن تستخدم مارجريت مع الطفل نفس النظافة والمهارة والعناية البارعة التي لم يشك جيمي، مما رآه من أسلوبها في تدبير المنزل والطهو، أنها أنشأت بها أسرتها. لكن من بين كل سوء الحظ الذي صادفه في الأيام التي جانبه فيها التوفيق، لا يوجد ما هو أسوأ من خروج مارجريت كاميرون للترفيه، واختيارها أن تبدأ عطلتها في اليوم الذي هو في أشد الحاجة إليها فيه. وضع جيمي الحقيبة وأخرج مفتاح الباب الأمامي.
وقال للكشافة الصغير: «افتح الباب»، ثم دخلا معا.
وضع جيمي اللفة الصغيرة على الأريكة ثم تراجع وضم يديه إلى وجهه المتحير وقال للكشافة الصغير: «أرجو أن تنصحني ماذا أفعل.»
سأله الصغير باستخفاف: «ما سبب قلقك؟»
فأشار جيمي إلى اللفة.
وقال له: «هذا طفل؛ طفل حي بحاجة إلى رعاية وتغذية وحب، وأنا ظننت أن مارجريت كاميرون هي السيدة التي ستفعل ذلك. هل أنت متأكد أنها قالت إنها ذهبت في زيارة وإنها ستغيب مدة غير محددة؟»
فقال قائد الكشافة: «لم تقل «مدة غير محددة». لقد قالت «بضعة أيام». أعتقد أن بضعة أيام قد تصل إلى أسبوع غالبا.»
فتساءل جيمي بحدة: «وماذا سأفعل طوال «أسبوع غالبا» مع طفل حي؟»
فقال الكشافة الصغير: «أف، فلتطعمه للطيور ودعنا نباشر عملنا! إننا نضيع الكثير من الوقت في الحديقة.»
قال جيمي: «أصغ إلي!» وتابع: «إنك لا تتحدث عن كسرة خبز. يوجد طفل في هذه اللفة، طفل صغير يتوق بشدة لفرصته في أن يعيش ويكبر ويجدف بزورق ويمتطي جوادا وأن يصبح قائد كشافة تماما كما تبتغي أنت!» «أف!» كان رد الصغير الساخط.
بعدها تقدم قائد الكشافة ورفع قطعة مربعة من القماش الرقيق المؤطرة برسومات لزهور أذن الفأر وجعل يتطلع فيما تحتها. وإذا بقائد الكشافة يهبط جاثيا على ركبتيه، ويميل إلى الأمام ويمعن النظر. ثم التفت بوجه زال عنه التجهم نحو جيمي من فوق منكبه الهزيل.
وقال: «عليك أن تحضر زجاجة رضاعة.» وتابع: «إنه طفل جميل. إنه طفل غاية في الجمال! إنه مخلوق صغير لطيف للغاية. إنه جميل مثلما كان جيمي شقيقي حين رأيته أول مرة، وظننت أنني لن أرى أبدا طفلا في مثل جماله. لكنه كذلك. فمما أراه، هذا الطفل لديه الملابس الرقيقة نفسها والوجه الجميل نفسه واليدان الصغيرتان الرقيقتان نفسهما كما كان لدى صغيرنا. أخبرني، من أين حصلت عليه!»
فقال جيمي: «إنه ابني. ويدعى جيمس لويس ماكفارلين، الابن.»
قال الكشافة الصغير: «يا للهول!» ثم استأنف قائلا: «ألم يمتلئ العالم بمن يدعون جيمس وجيميس وجيميز! أعرف نحو عشرة منهم. اسم أبي يبدأ بجيمس، وأخي الصغير يدعى جيمي، وهذا الطفل سيصبح جيمي وأنت جيمي. إنه مما لا يخطر على بال أحد أنه رغم كل الأسماء الموجودة في آخر القاموس والأعداد الكبيرة من الأسماء في الإنجيل والأسماء الغبية التي يبتكرها الناس، أن يحمل الكثير جدا من الناس اسم جيمس. قل لي، ماذا ستفعل به؟»
فقال جيمي مجيبا إياه: «هذا هو السؤال بالضبط. ماذا سأفعل به؟»
قال الكشافة الصغير: «هممم! دعني أفكر.»
خطر لجيمي أنه كاد يرى عملية التفكير كما لم يسبق له من قبل قط. فقد كان وجه الصغير منهكا من التفكير. في البداية هبط بجسده إلى قدميه، ثم طوى قدميه تحته جاعلا الأرض مقعده. واستند بذراع إلى الأريكة. وجعل بيد واحدة يلامس الغطاء متسللا عليه ليحتوي بها الأصابع الحمراء الصغيرة للطفل حديث الولادة. بعد ذلك رفع الكشافة الصغير ناظريه.
ليصدر أمرا قائلا: «أسدل ستار النافذة.» وتابع: «لا بد أن يكون الضوء خافتا. فإن عيونهم تكون حساسة خلال الأيام الأولى. ولا يستطيعون الرؤية. وإن واجهوا ضوءا أكثر من اللازم أصابهم الحول.»
ثم عاد للتفكير لبضع دقائق. وبعد ذلك بدأ الكشافة الصغير يفكر بصوت عال. «ويحي، ألسنا ننمو ونتزايد! أقصد من حيث الفائدة المركبة! أرى أن هذه الشراكة آخذة في الازدياد! فمن حيث لا ندري مطلقا أصبح لدينا منزل وزهور وأشجار ونحل، وها نحن لدينا الآن طفل، يا إلهي! وبالطبع، ما دام لدينا وهو ابنك، فعلينا أن نرعاه. لكن أخبرني، أين أمه؟»
تردد جيمي للحظة ثم ارتأى أن الحقيقة هي السبيل الأسرع والأيسر.
فقال: «يؤسفني ما سأخبرك به يا صديقي. يؤسفني أن أخبرك بذلك، لكن الحقيقة أن الطفل ليس لديه أم. فقد كانت مهمة إحضاره إلى العالم شاقة جدا عليها. ودفعت حياتها ثمنا لحياته. ستسر حين تعلم أنها كانت مثل عمتك بيث. فقد رحلت لترى ما الذي تخبئه لها السموات وهي تضحك، تضحك عاليا، تضحك أروع ضحكات الرضا والبهجة.»
من موقعه على الأرض جعل الكشافة الصغير يحدق إلى جيمي بعينين مفتوحتين على اتساعهما وهز رأسه موافقا ببطء. «أعتقد أن تلك كانت ابتسامة العمة بيث وقد تحققت. إنها نوع الضحكة التي كانت تقصدها بتلك الابتسامة لو كانت صدرت منها وجاءت عالية. لقد أخبرتك أن الموت شيء جميل، لكنني لا أعلم ماذا سيحدث لجيمي الصغير الجديد هذا. فإنك لم تر قط كم الترطيب بالزيت والتحميم والتضميد وتغيير الحفاظات والإكساء وقياس الوزن ... لم تر قط شيئا يعادل الأشياء التي تفعلها أمي بصغيرنا جيمي.»
وبعد ذلك نهض الكشافة الصغير فجأة على إحدى ركبتيه ثم على الأخرى، وإذا به يقوم واقفا بتأن، وفي غمرة انهماكه، سار مرتبكا إلى الهاتف وأخذ السماعة وطلب رقما. فيما ظل جيمي واقفا لاهث الأنفاس، خائفا، يستمع إلى طرف واحد من المحادثة. «أريد أمي.» «أهلا يا أماه، أهذه أنت؟» «اسمعي يا أماه، لقد وقعنا في مأزق صعب للغاية هذا الصباح! فلدينا طفل صغير نحيف حديث الولادة، يبدو تماما مثل جيمي حين جاء من المستشفى، مثله في الرقة والجمال وكل شيء. لكن سأخبرك بأصعب ما في المسألة يا أماه. إن إحضاره للدنيا كان شاقا جدا على أمه. فقد ماتت أمامنا ولم تعد معنا، فأخذنا الطفل بالطبع، وهو يدعى جيمي على اسم أبيه، مثل صغيرنا بالضبط! وقد ظننا يا أماه أن مارجريت كاميرون سوف تأخذه وترعاه من أجلنا لكن طرأت مشكلة أخرى. فقد ذهبت في زيارة ولن تكون في المنزل مدة ثلاثة أيام أو أربعة، وليس لدينا شيء لنطعمه إياه!»
أحكم الكشافة الصغير يده على ميكروفون السماعة، والتفت إلى جيمي، وسأله بهمس متوتر: «هل لدينا أي ملابس؟»
فقال جيمي: «أعتقد ذلك.»
التفت الصغير ليكمل المكالمة. «لدينا الكثير من الملابس. كل ما نحتاج إليه. ما نريده هو شخص ليدهنه بالزيوت ويطعمه ويغير ...»
عندئذ قفز الكشافة الصغير في الهواء وندت عنه صيحة. «أحسنت، يا أماه! كنت أعلم أنك ستستجيبين! هل تعلمين لماذا لم أطلب منك ذلك؟ حتى أعطيك الفرصة! كنت أعلم من البداية أنك ستفعلين. على الأقل، كنت متأكدا تماما من ذلك. اسمعي يا أماه، فلتأخذي السيارة المكشوفة وأسرعي في القيادة! فقد يبدأ في الصراخ في أي لحظة، ونحن لا ندري ما العمل. لقد ولد لتوه الليلة الماضية. جيمي مرتبك للغاية، وأنا خائف. خذي أقصر الطرق، وإذا قابلك شرطي السرعة فاهربي منه، وامضي في طريقك!»
وضع قائد الكشافة السماعة والتفت إلى جيمي. ثم رفع منكبيه، وشمخ بذقنه، وارتسم على ملامحه تعبير بالرضا، ثم انطلقت بغتة أنفاسه التي كانت مكتومة.
قال قائد الكشافة: «همم! أليست رائعة! ألاحظت ما حدث! لم أضطر حتى إلى أن أطلب منها المجيء! ستأتي في الحال، وبمنتهى السرعة! ما كان بيب روث لاعب البيسبول الشهير ليستجيب أسرع من ذلك! لقد قالت، قالت: «سوف أرعاه من أجلك»، بمنتهى البساطة!» وبرشاقة متناهية راح يؤرجح يديه جيئة وذهابا كأنه يمسك مضرب بيسبول. «بمنتهى البساطة! لو كانت الحياة مضمار خيل، فسوف أراهن بما معي من نقود على أمي!»
أثناء ذلك أعاد جيمي الغطاء فوق وجه الطفل النائم ونظر مرتابا إلى الحقيبة. ما الذي قالته الممرضة بشأن وضع أغراض خاصة بالطفل؟ من الأفضل أن يخرج تلك الأشياء ويحتفظ بها في حوزته. وبناء على ذلك حمل الحقيبة وأخذها إلى غرفة نومه، وفتحها على فراشه، وفتح أحد أدراج خزانة الملابس، فأزاح ما فيه من ملابس، وشرع يفرغ الحقيبة. أخرج ثياب نوم وفساتين صغيرة وأنواعا شتى من الملابس الناعمة النسائية والأكوام المطوية على شكل مربع، وحين عثر أسفل الحقيبة على صرة مربوطة، فتحها ووجد بداخلها عقد خرز وأساور وحليا نسائيا زهيدا.
لم يكن لديه الوقت بعد للتفكير في فتاة العاصفة. لكنه أدرك حين فكر فيها فعلا أن الوقت قد حان للبحث عنها، وأن الوقت قد حان ليصفي معها حسابا طويلا بعض الشيء. فقد ارتكبت خطأ. ولم تكن أمينة. «ومن بين كل النساء في العالم، ما كنت لأصدق أنها كاذبة!» قال جيمي ذلك وكان إحساسه بالحنق في تلك اللحظة طاغيا جدا لدرجة أنسته الارتياح الذي كان لا بد أن يشعر به لمعرفته أن السيدة التي هرع إلى المستشفى لمساعدتها لم تكن فتاة العاصفة. فقد جاشت بداخل جيمي النزعة الواقعية الاسكتلندية والنزاهة الاسكتلندية والعناد الاسكتلندي الحرون، التي لم تحد منها البيئة الأمريكية التي كانت كفيلة بتلطيفها إلى حد ملحوظ.
قال جيمي: «من الأفضل كثيرا لو كانت ذات سريرة صافية وماتت مثل أم الطفل على أن تسير بين الناس متعالية ومتمتعة بالصحة وتتحدث كذبا»، ثم ألقى الصرة بعنف وأعاد ربطها ووضع بعضا من ملابسه فوقها، وأغلق الدرج محدثا دويا.
وعاد من بعد ذلك إلى الفراش وأعاد تنظيم ملابس الطفل بحرص. كان بعضها مزينا بقطع من الدانتيلا، وكانت خاماتها رقيقة جدا حتى إنها كانت تلتصق بأصابعه التي باتت خشنة من العمل وتعلق بها فكان يضطر إلى نزع بعضها عنها. لكنها بدت على كل حال دافئة، وبدا أن هناك منها ما يكفي طفلين أو ثلاثة، وبدت حتى لعيني جيمي غير المتمرستين أشياء فاخرة، ومصنوعة بعناية، ومصممة بحب، زينت في أماكن متفرقة برسومات براعم قرنفل وأذن الفأر زرقاء وزهور أقحوان صفراء صغيرة. ما إن أغلق جيمي الحقيبة، حتى وقف منتصبا مواجها النافذة الخلفية. وربما كان يخاطب المحيط الذي تلألأ بالأزرق والذهبي خلفه.
حيث قال صوت الواعظ، صوت القاضي، صوت الناقد الصارم بداخل جيمي: «في هذه اللحظة، في هذه اللحظة إنما أحترم السيدة التي قضت نحبها أكثر مما أحترمك!»
حمل الحقيبة وأنزلها على الأرض بجانب الطفل النائم. ثم جلس وأزاح عنه غطاء الوجه وحسر الملابس وفك خيوط غطاء الرأس المربوطة أسفل ذقنه، وجعل ينظر طويلا وممعنا إليه. لم يذكره بأي شخص. كان صغيرا جدا. كان له عينان وأنف وفم. وكان بالغ الاحمرار. لم ير جيمي به شبها من الفتاة التي كانت مستلقية على الوسادة. وعندئذ، كما فعل قائد الكشافة، راح يتفحص يديه. وقد استغرق فيهما أكثر مما استغرق في الوجه. كانتا يدين مثاليتين، بديعتي الخلقة؛ بأصابع طويلة رشيقة، أصابع دقيقة الأطراف على نحو جميل، بأظفار صغيرة مكتملة ومستطيلة لما بعد أطراف الأصابع، في خلق مثالي، وقد بدت كأصابع خلقت لترسم لوحات وتعزف على الكمان وتمسك بشغف كتبا من نوعية الكتب التي وهبها سيد النحل للكشافة الصغير.
وأثناء ذلك، التفت جيمي، قائلا: «هل لاحظت يديه كيف هما جميلتان؟»
لم يتلق جوابا، فالتفت أكثر. كان الكشافة الصغير قد عبر الشرفة وقطع الممشى كله وفتح البوابة، ووقف منتظرا بلهفة في أقرب مسار للعربات، متطلعا بكامل اهتمامه نحو المدينة.
وخلال مدة قصيرة لدرجة لا تصدق، توقفت سريعا، عربة رياضية أنيقة، سيارة جميلة تصلح لتكون محط الأنظار في معرض للسيارات وقبل أن تتوقف مباشرة كان الكشافة الصغير فوق دواستها الجانبية. واستطاع جيمي أن يرى أن ذراعيه المتسختين قد اندفعتا بداخلها بينما ارتفع وجهه تجاه وجه امرأة متجهة نحو الباب. لم يستطع أن يسمع الحوار الذي تلا ذلك. كان ثمة طلب من ناحية قائد الكشافة، وقد قوبل ذلك الطلب بضحكة كان وقعها عذبا ورقيقا على أذني جيمي. لكن منع الباب من الفتح، فقد كان الكشافة الصغير مصرا، ووضع يده المتسخة على يد أمه التي حاولت فتح الباب، ثم سمع جيمي بوضوح عبارة: «آه، لا يا أمي، أرجوك!»
ثم سمع الإجابة: «ليكن، إذن.»
قفز الكشافة الصغير من فوق الدواسة الجانبية وفتح الباب، فدخلت امرأة بدت لجيمي بالشكل الذي يجدر بأي امرأة أن تبدو عليه حتى تكون في أفضل صورة، صورة مشرقة بوافر الصحة. رأس بخصلات ملتفة من الشعر البني الذهبي الناعم، قصر ليصبح مريحا، وملابس عملية، مهندمة وجميلة، بالغة الأناقة من ناحية حياكتها. وبخفة عبرت الحديقة، ودخلت من البوابة وسارت الممشى ذاهبة إلى جيمي، والكشافة الصغير يهرول أمامها. ثم انفتح الباب السلكي وتراجع جيمي، بينما انطلق منه الكشافة الصغير. «هذا هو جيمي يا أماه!»
انحنى جيمي لتحيتها على أفضل نحو ممكن ووقف ليخضع للفحص. فخضع له. كان فحصا دقيقا وثاقبا لكن ليس طويلا لدرجة مهينة. ثم امتدت نحوه يد راسخة.
تحدث الصوت الذي عرف فيه جيمي ذلك الذي سمعه مرارا على الهاتف: «كنت أنوي المجيء منذ وقت طويل. لكنني كنت مشغولة إلى حد ما بصغيري جيمي، وأميرة دنماركية ترأست مطبخنا، وانتظام الأطفال في المدرسة. أعتقد أنني افترضت أنه من البديهي أن يكون أي شخص يتركه سيد النحل ليتولى مسئولية المكان سيكون صالحا، ومن ثم لم آت لأتعرف عليك كما كان يجدر بي. لكن لا شك أن الكشافة الصغير كان معينا لك.»
تصادف أن عيني جيمي كانت على وجه الكشافة الصغير عند استخدام التعبير، وقد رأى زفرة ارتياح عميقة تفلت من شفتي الطفل. ثم على نحو مسرع ذهبت وراءه المرأة التي كان الكشافة الصغير قد دعاها «أماه». وجثت على ركبتيها أمام الأريكة. ثم رفعت الغطاء وضحكت برقة. وكان وجهها الذي رفعته نحو جيمي جميلا، وجها أشبه بمريم العذراء، وجه امرأة خلقت من أجل الأمومة.
وقالت له: «يؤسفني أن طفلك كلف أمه حياتها. إنني آسفة. لكن لا بد أن أهنئك على الطفل نفسه. سوف تجد فيه ما يعوضك. إنه طفل جميل، طفل غاية في الجمال!»
واندست اليدان الماهرتان، المتألقتان بخواتم لامعة، أسفل الطفل وحملته، وجلست الأم التي لديها نزعة أصيلة لأن تصبح أما لأي طفل، لكل الأطفال الذين يحتاجون إليها، على مقعد سيد النحل لتكون أول من يشغله منذ وفاته، ورفعت الطفل وضمته إلى صدرها ووجهها، وضحكت له وقالت له كلمات حلوة صغيرة لا معنى لها البتة، ومدحته وانحنت عليه واحتضنته، ثم توقفت ونظرت إلى جيمي.
ثم قال الصوت الرقيق: «لم أكن أعرف أنك متزوج.»
فقال جيمي: «أنا نفسي كنت لا أكاد أعرف. كان زواجا سريعا جدا بسبب ظروف ربما أشرحها لك يوما ما. لقد كنت خارج البلاد وعدت بإصابة، وهناك أسباب لعدم بقائنا معا لمدة طويلة. إنني مصدوم لدرجة تفوق الوصف لموت أم الطفل. فلم أتخيل قط أن يقع شيء من هذا القبيل، وكنت معتمدا على مارجريت كاميرون. لم أكن أعلم أن الطفل قد ولد حتى هاتفوني من المستشفى. فقررت أن أبقى مع الطفل وأترك أسرة أمه تتولى أمرها. لم يكن باستطاعتي أن أترك الحديقة، وكنت واثقا من وجود مارجريت لمساعدتي، لكنني عدت لأجد أنها تلقت اتصالا للذهاب في رحلة ما، فذهبت فجأة. وقبل أن أدرك ما الذي يفعله الكشافة الصغير، كان قد اتصل بك. أخشى أنني ألقي عليك عبئا فاق كل الحدود.»
لكن الوجه الذي لقي وجه جيمي كان ضاحكا.
وقالت السيدة ميريديث: «لا تقلق من تلك الناحية.» وتابعت: «إنني على استعداد لمنح بضعة أيام من أجل طفل جميل يدعى جيمي. سيكون الأمر أشبه بولادة طفلي من جديد. لست بحاجة إلى القلق مطلقا. هل لديك ملابس من أجله؟»
أشار جيمي إلى الحقيبة. «ملابس تكفي طفلين أو ثلاثة، على ما أعتقد.»
لإثبات قوله، فتح جيمي الحقيبة. فراحت عيناها الفضوليتان تستكشفان محتوياتها من خلف الطفل. «مهلا، تلك الأشياء جميلة، رائعة الصنعة! حتى إنني مترددة بشأن استخدامها. يمكنني استخدام بعض أشياء جيمي في البداية فقط حيث يدهن الأطفال كثيرا بالزيت، فالأطفال حديثو الولادة أمورهم تتسم بالفوضى بعض الشيء.»
فقال جيمي: «أظن أنك ستعاملين تلك الأشياء بحذر أكثر من المستشفى، وحتى من مارجريت كاميرون. فهلمي واستخدميها. وحين تبلى سيحصل جيمي الصغير على المزيد.»
قالت السيدة ميريديث: «هذا أمر جيد!» وتابعت: «هذا أمر جيد! سيصبح لديك شيء خاص بك لتعمل من أجله الآن.»
شعر جيمي أنه منافق بعض الشيء وهو يقر بهذا القول، لكن لم يكن ذلك الوقت المناسب للمعارضة في وجود الكشافة الصغير، فأمسك عن البوح باعتراضه وأغلق الحقيبة، وحين نهضت السيدة ذهب ليرافقها إلى السيارة. وهناك قابلتهم مشكلة.
إذ قالت السيدة ميريديث: «لا يمكنني القيادة وحمل الطفل في آن واحد.»
قفز الكشافة الصغير سريعا إلى المقعد الأمامي ومد ذراعيه بحماس. «بإمكاني أنا أن أحمله! أستطيع حمله كما تفعلين بالضبط والحفاظ على وجهه مغطى. أريد أن أحمله!»
ابتسم جيمي باندهاش. «وإذا جاء بيل السمين الطيب والطفل المطيع وذو الوجه الملائكي محتشدين على الطريق وشاهدوك تحمل طفلا ...»
قاطعه الكشافة الصغير قائلا: «مهلا، اسمع ما سأقوله!» وتابع: «فليفعل بيل السمين الطيب وذو الوجه الملائكي والمجموعة كلها ما يحلو لهم! فلا عمل لهم سوى أن يزدادوا بدانة. أولئك الضعاف شديدو السمنة! أي شخص لديه أي اعتراض على أن يحمل شخص طفلا حديث الولادة ليس لديه أم وبحاجة إلى من يطعمه سأسدد له أشد ضربة لدي في نظامي التدريبي، وسوف يحصلون عليها سريعا! أسرعي، يا أماه، لنصل به إلى المنزل قبل أن يبكي!»
شد قائد الكشافة ذراعين حذرتين حول اللفة الصغيرة وهتف مرة أخرى قائلا: «سوف أتصل بك مرتين يوميا. فسوف أبقى بالمنزل وأقوم بكل واجبات رعايته بنفسي ما عدا إطعامه وتغيير ملابسه وتحميمه. اتصل بي حين تأتي مارجريت وترتب أنت أمورك على نحو جيد.»
عاد جيمي إلى داخل المنزل وجلس من فوره على أول مقعد رآه. حاول أن يفكر تفكيرا بناء ومنطقيا وإنسانيا. إنها لتجربة غير متوقعة، تجربة مباغتة، تجربة مؤسفة، لم يحسب لها حسابا في مغامرته. لكنها وقعت، ولم يستطع جيمي أن يعرف السبب على وجه التحديد.
وأخيرا قال: «أعتقد أن الخالق كان يعلم حين خلق الأشجار والثمار والبذور فيما سيستخدمها. لم يكن يقصد بها أن توجد دون هدف، وعلى الأرجح فإن الخالق حين خلق الناس كان هدفه أن يستخدمهم. وقد جاء جيمي الصغير بيد رائعة إلى العالم. قد تصبح يدا مفيدة بقدر ما هي يد جميلة. وربما إذا تدربت هذه اليد بعناية، فستجد في العالم عملا تستطيع القيام به أفضل من أي يد أخرى خلقت يوما. فمن حين إلى آخر تأتي فعلا إلى العالم يد تستطيع أن تؤدي عملا ما أفضل قليلا، أحسن بقدر طفيف، من أي يد أخرى فعلته على الإطلاق. ثمة شيء واحد مؤكد تماما في هذه التجربة. وهو أن هذا الطفل لن تلحق به أي وصمة عار ما دمت حيا ولي فؤاد ينبض. سوف يحصل على فرصته، أيا من كانت أمه. أما تلك الأم المسكينة، بتلك الضحكة غير المتوقعة والعجيبة على شفتيها، وهي تعبر للعالم الآخر لتقابل خالقها ...» وقبل أن يعلم ما هو فاعل، هبط جيمي إلى الأرض، وجثا على ركبتيه. وضم يديه، ورفع وجهه، وجعل يتضرع: «يا إلهي! يا ربنا العظيم، يا خالق الكون والرجال والنساء وكل ما في هذا العالم؛ رباه، أنزل رحمتك، أنزل رحمتك على الفتاة التي توفيتها هذا الصباح! ومهما كانت زلتها، ومهما كانت خطيئتها، تذكر معاناتها والثمن الذي دفعته وارحمها! أغدق عليها من عطفك، وتقبلها في ملكوتك الأزلي حيث الأمان وطهارة البدن ونقاء السريرة، تقبلها مع أبي وأمي وكل الملائكة الأبرار، وعلمها أن ثمة طريقا أفضل من الطريق الذي اختارته. ارحمها، يا رباه!»
متعثرا، نهض جيمي وذهب إلى غرفة النوم. فجلس على جانب الفراش ووضع يديه على وجهه وبكى حتى اهتز جسده الهزيل، بكى بكاء غزيرا. وبعد وقت طويل، حين هدأت عاصفته، مسح عينيه واكتشف، حين بلغ الرواق الخلفي، أنه جائع. فذهب إلى مطبخ مارجريت كاميرون ودخل من خلال النافذة الخلفية. وعبأ في السلة التي تستخدمها كل ما استطاع العثور عليه مما سيفسد في غيابها وحمله معه للمنزل. بعد ذلك، أقدم لأول مرة على محاولة أن يطهو طعاما لنفسه. كان يعلم أين يمكنه ركوب الترام والعثور على مقهى صغير غير بعيد، لكنه لم يكن في حالة مزاجية لمقابلة الرجال. ولم يكن في حالة مزاجية تسمح بمواجهة نساء. فقد أراد أن يفكر. تساءل أين سيدفن ما تبقى من أليس لويز. تساءل إن كان سينصب شاهد صغير فوقها وإن كان اسمه سينقش عليه. وتساءل إن كان سيكتب عليه: «زوجة جيمس لويس ماكفارلين الحبيبة.»
ثم تساءل ماذا عساه كان اسم أم الطفل، وخطر له أنه لديه طريقة لمعرفته. بإمكانه في أول زيارة للمدينة أن يذهب إلى مكتب أذون الزواج ويطلب رؤية بعض السجلات بأي حجة قد يأتي بها بحلول ذلك الوقت. سيستطيع أن يكتشف الاسم الذي كتبته فتاة العاصفة ليتناسب مع أليس لويز. لم يتفحص جيمي من قبل في حياته عقد زواج. والعقد الذي كان يعنيه كتبه الموظف، وكشف لجيمي عن سطر ليوقع عليه، ثم وقعت فتاة العاصفة باسمها واستحوذت على الورقة على الفور.
حين وصلت أفكاره إلى فتاة العاصفة أصبحت في فوضى على الفور. ولم يتح له الوقت حتى تلك اللحظة ليتبين بتعقل السبب على وجه التحديد. سيطر عليه شعور بأنه قد خدع، وبأنه كان في غاية الحماقة، بيد أنه يعلم أن ذلك الشعور لم يكن منصفا. فالفتاة لم تطلب منه أي شيء. كان هو من جعل يتوسل بالذرائع جهد طاقته قبل أن تحكي له في كلمات قليلة مقتضبة ما الذي تحتاج إليه بالضبط. لكن ما جعل جيمي يشعر بالاستياء أنها لم تكن أمينة. فهي لم تقل الحقيقة. قالت ما كانت بحاجة إليه؛ لقد تركته يشعر أن الخدمة التي قدمها وقبلت بها كانت من أجلها.
وما علمه هذا الصباح أثبت أنها لم تستغله لخدمة أغراضها، ولكن لأغراض امرأة أخرى. أدرك جيمي أنه كان سيفعل ما تريده. في تلك العاصفة، مواجها نهايته في وقت قريب جدا، إذ كان يشعر آنذاك أنه سيواجهها، كان سيعطي أي فتاة يتصادف أن تبدو له في محنة حق الاستفادة من اسمه وما يمكنه تقديمه لحمايتها. لم يكن سيشكل أي فرق من تكون الفتاة ما دامت في ضيق شديد. كل ما في الأمر أنه قد ذهب إلى المستشفى وهرع إلى الحجرة متوقعا أن يجثو بجانب فراش فتاة العاصفة، وأن يأخذ يدها في يده ويقاوم من أجل حياتها في معركة أحس نوعا ما بالثقة من الانتصار فيها. لكنه حين رأى وجها غريبا كانت صدمته شديدة حتى إنه جلس في خضوع وامتثل لما قال الطبيب والممرضة إنه لا مفر منه، من دون حتى أن يبدأ المعركة التي كان ينوي شنها من أجل المرأة التي اعتقد أنه سيراها.
لقد انهزم. وضاعت من يديه مرة أخرى، وكان هذه المرة غاضبا، مغتاظا بحق. لم يتح له سوى وقت قصير للتفكير، وخلال ذلك الوقت ظل يردد لنفسه: «إنها لم تكن أمينة!» ومن وجهة نظر جيمي كانت تلك أسوأ خطيئة يمكن لأحد أن يرتكبها على الإطلاق. وخلال الشهور التي تعامل فيها مع الكشافة الصغير إنما اشتدت مشاعره في ذلك الصدد. فقد كان الكشافة الصغير شديد الاهتمام بالأمانة مثله، وكان في غاية الحرص في كل نشاط يمارسه. تذكر جيمي بشيء من التفكه وشعور بالكبرياء أنه حين استفسر عن جنسه بسؤال مباشر، رد بإجابة ليست بالكذب ولا بالمراوغة، وإنما إجابة مباشرة: «ما دمت لا تستطيع أن تعرف، فهل ثمة فرق؟» كان ذلك موقفا أمينا. فقد ترك المجال مفتوحا. كان ذلك الأسلوب الذي يروق لجيمي.
قبل أن يذهب إلى الفراش اتصل بالسيدة ميريديث. كان الطفل على ما يرام. لم يكن مزعجا. قال الصوت الذي حسبه جيمي أعذب الأصوات التي سمعها يوما على الهاتف إنه قد دهن بالزيت وأطعم ووضع في لفة مستدفئا، وإن الكشافة الصغير هو من قام بالمهمة. «لا يحظى أحد منا بأي وقت مع جيمي الصغير الجديد. فإن الكشافة الصغير قد استحوذ عليه وتولى أموره. أعتقد أنك ستحتاج إلى مساعدة كبيرة في رعاية النحل قبل أن يأتيك خلال الأيام القليلة المقبلة. يبدو أن لديه شعورا بالمسئولية لا أحد منا يفهمه. أعتقد أن الأمر برمته قد يكون جزءا من شعوره بالفخر النابع عن الامتلاك، امتلاك فدان من الأرض وصف من قفائر النحل وبستان وحديقة بديعة المنظر. حتى إنني لاحظت أن الكشافة الصغير يقول بزهو: «طفلنا»!»
حين عاد إلى غرفة نومه، كان جيمي لا يزال يفكر.
وقال لنفسه: «حسنا، مهما يكن من أمر، فإن «طفلنا» لا يشوبه العار. فلديه اسم مشرف تماما في السجلات، وسوف يحصل على فرصة عادلة تماما، أما فتاة العاصفة فلا تهمني البتة! فقد فرغت من أمرها!»
ثم أطفأ جيمي الأنوار واستلقى على وسادته وقرر أن يخلد للنوم سريعا جدا. لكن جاءه صوت من قلب العتمة يخاطبه بلهجة الكشافة الصغير الدارجة قائلا: «ما الذي يعكر صفوك؟ هل كنت تريدها هي أن تموت؟ هل كنت تريدها أن تخوض الأهوال التي تواجه جسد أليس لويز الجميل؟»
تقلب جيمي ودفن وجهه في الوسادة وصاح: «يا إلهي، كلا! لم يخطر لي ذلك! لا أريد أن ينفطر قلبها! لا أريدها أن تموت! إنما أريد أن أعرف من هي، وأين هي، وأن تعتمد علي، ويصبح بإمكاني أن أساعدها، وأتحرر من وعدي لها بعدم البحث عنها. لا! لا! أريد لها الحياة؛ أريد لها السعادة!»
الفصل السابع عشر
الدخيلة
لو لم يكن الكشافة الصغير يضطلع بضعف نصيبه من المسئولية عن جيمي الطفل الجديد، لكان من المرجح جدا ألا يحدث لجيمي الكبير قط ما حدث له خلال هذه المدة، وهو الذي لم يبتعد كثيرا هو نفسه عن كونه طفلا في الظروف الحالية. بداية، لم يستطع جيمي بعد أن يوطن نفسه على واقع امتلاكه فدانا من أرض كاليفورنيا، ومنزلا أنيق الأثاث باستثناء حجرة واحدة. لم يستطع أن يستوعب أنه أصبح يمتلك كما كبيرا من الزهور، وبستانا من أشجار الفاكهة، وحديقة خضراوات، وصفا طويلا من قفائر النحل الذي ينتج أشهى عسل؛ إذ جمعت نسبة كبيرة جدا منه في حديقة النحل الزرقاء الرقيقة والحدائق المجاورة، لم يستطع بعد استيعاب أن أبهى بيت صغير شاهده في حياته ونصف منحل سييرا مادري أصبحا ملكا له. لم يستطع أن يحمل نفسه على الشعور بأنه من العدل أو الصحيح أن تصبح تلك الأشياء من نصيبه.
كان لا يزال ينظر إلى أملاكه وهو في حالة من الذهول. لكن صحيح أنه مثل أمام قاضي الوصايا، وأوفى بمتطلبات القانون. وانتقلت الأملاك إليه هو وجين ميريديث وفقا لمقتضيات القانون. وسحبت الأموال من البنك وسددت ضريبة المواريث كما أمر سيد النحل. ورغم ذلك فما زال جيمي لا يشعر أنه يمتلك بالفعل الفدان الذي في حوزته. كان لديه شعور أنه لو مكث هناك مدة طويلة، لنقل عشر سنوات مثلا، ودرس النحل وعمل بإخلاص، ولو اتخذ من سيد النحل موقع الابن طوال تلك المدة، ثم توفي سيد النحل وترك له أملاكه؛ لأنه يعرفه معرفة جيدة ويشعر بأنه يستطيع الاعتماد عليه، كانت تلك ستصبح لجيمي صفقة مناسبة ومنطقية. وهو لم يدرك أن أي شخص يلقاه ويتمتع بنظرة ثاقبة تمكنه من الحكم على طبيعة البشر، كان من نظرة واحدة لجيمي من رأسه لأخمص قدميه، سيقول حتما رأيه فيه بالدقة نفسها التي كان سيصفه بها بعد عشر سنوات من معرفته به.
فقد كان جيمي من نوعية الرجال التي تثق فيها النساء والأطفال والرجال الآخرون من دون طرح أي أسئلة. كان جيمي من نوعية الرجال الذين قد ينسون أكبر المشاكل التي تكدر صفوهم لربط ساق مكسورة لكلب، أو لتضميد جرح طفل. وإن مأزقه الحالي دليل على ما قد يفعله من أجل رجل آخر، دليل ساطع على ما قد يفعله من أجل امرأة. لم يكن من طبعه قط أن ينشغل بنفسه جديا إلى أن مزق جرح الشظية صدره، فاضطر إلى الانشغال به طوال عامين. في ظل نظام المستشفيات والعلاج الطبي ظل يواجه مدة طويلة جدا فكرة أن نهايته لم تكن بعيدة حتى إنها صارت هاجسا. لكن شيئا فشيئا أتت الحديقة سحرها حتى صار جيمي رجلا من جديد، رجل يهتم لأمر الكشافة الصغير، ومارجريت كاميرون، والفتاة التي جازفت بحياتها وفقدتها، وتركت له بموتها إرثا ثانيا، إرثا كان لدى جيمي استعداد أكبر لقبوله من الأول.
كان جيمي في غياب مارجريت كاميرون ينظف المنزل. فقد عودته أمه المدبرة على أن يكون مساعدا لها في طفولته. فكان يعرف كيف يكنس ويزيل الغبار، وكيف يرتب الأثاث، وكيف يحافظ على نظافة المنزل. وبينما كان يعمل المكنسة في رواق المدخل توقفت سيارة أجرة أمام الباب. خرجت منها شابة شديدة الأناقة وتحققت من رقم المنزل. تفحصت المكان بعينين مستحسنتين وابتسامة ثقة على شفتيها أثارت الذعر في قلب جيمي. لم يكن قد شعر بأنه استحق الأملاك، ولم يكن يشعر بأن له أدنى حق فيها، لكنه كان على يقين تام من أن الله يعلم كم أحبها، وكم رغب فيها، وحين تفحصت هذه السيدة الشابة الجذابة المكان بابتسامة ثقة، ثقة بالغة حتى تكاد تجافي التربية الحميدة، وتساءلت: «هل أنا مخطئة في الظن بأن هذا هو مقر إقامة السيد مايكل ورذينجتون؟» هز جيمي رأسه نافيا.
فقالت السيدة الشابة بنبرة ثقة: «أعتقد أنني أستطيع تمييز منزل أبي عن أي منزل آخر في هذا الشارع. فإنه يبدو مثله تماما.»
كان جيمي يعتقد أنه متأهب لهذا الموقف بالذات، لكنه أدرك حين حدث أنه لم يكن مستعدا بالمرة. فقد شعر كأن أحدا قد ضربه على رأسه بقطعة ضخمة من الخشب بالغ الصلابة. كان ما تبقى لديه من وعي كافيا فقط ليلاحظ شيئا هو أكثر تأدبا من أن يجازف بالتعبير عنه، فحدث نفسه به قائلا: «حسنا، ربما يبدو المنزل تماما مثل «أبيك»، لكن الحق أنك لست كذلك!» وزاد على ذلك قوله: «وطالما سمعت أن احتمال أن تبدو الفتيات مثل آبائهن احتمال قوي.»
أما ما فعله جيمي ظاهريا فكان أن ضم قدميه، وشد قامته، وانحنى.
وسألها: «هل أفهم من ذلك أنك ابنة سيد النحل؟»
نظرت السيدة الشابة إلى جيمي وابتسمت، ربما بأقصى ما استطاعت من إغراء.
وقالت: «لست فقط ابنته، لكنني أسرته كلها. بالطبع، حين جاء خبر وفاة أبي فجأة وعلى حين غفلة، كان لا بد أن أقضي بعض الوقت للتأكد من دفنه على النحو الذي كان سيرضيه وفعل كل ما في وسعي لمواساة أمي.»
فجأة وجد جيمي نفسه يبدي ما اعتبره مقاومة.
إذ قال: «لكنني فهمت من سيد النحل أن كلا من زوجته وابنته قد توفيتا.» «لا أعرف الكثير عن زواجه الأول. لا شك أن زوجته الأولى ماتت قبل أن يتزوج أمي، وأعتقد أنهما كان لديهما طفلة فعلا. أعتقد أنه ذكر على مسامعي، لكن ذلك كان قبل أن أولد بزمن طويل بالطبع.»
قال جيمي: «فهمت.» «وما دمت مسئولا هنا، فيجوز لي أن أخبرك أيضا بأن أمي وأبي لم يستطيعا الانسجام قط. فدائما ما كانت تقابلهما صعوبات، وفي النهاية اضطرت أمي إلى الحصول على الطلاق. فإنها لم تستطع الحياة مع رجل حاد الطبع وشديد الصرامة، رجل لا يريد أن يفعل أي شيء سوى العكوف على كتاب أو الانشغال بأمور على شاكلة الثقافة الرفيعة التي لا يمكن أن تثير اهتمام أحد من البشر. وأنا لم ألمها البتة. بل كنت في صفها تماما. بعد أن حصلت على الطلاق، ذهب أبي إلى مكان ما. ولم تعلم قط أين ذهب. فإنه لم يتواصل معنا مباشرة. كان محاميه يرسل النقود لنفقاتي، وأعتقد أنه هو الذي لا بد أن ألجأ إليه للحصول على التركة التي تحق لي قانونا بصفتي طفلته الوحيدة، والوحيدة من ورثته على قيد الحياة.»
فسألها جيمي قائلا: «ألم يخبرك أحد أن سيد النحل قد ترك وصية وهب فيها هذه الأملاك لمساعده الذي كان قد ظل معه بضع سنوات، ولي؟»
ضحكت السيدة الشابة ضحكة لطيفة. «كانت هناك إشاعة. قال أحد الأشخاص شيئا عن عدم وجود أملاك - ربما في خطاب من الممرضة التي كانت في المستشفى الذي مات فيه أبي - لكن بالطبع، حين يعلم الناس هنا أنني الآنسة ورذينجتون والابنة الوحيدة لأبي، لن يكون هناك أي شك بشأن من يستحق المكان قانونا.»
جعل جيمي يمعن النظر في الشابة الماثلة أمامه. لم يستطع أن يرى سببا يجعله لا يصدق ما قالته، لكنها لم تكن تشبه سيد النحل بأي طريقة، ولو قليلا؛ لا في حركاته، ولا مفرداته، ولا شكل يديه أو قدميه، ولا في ملامح الوجه وتعابيره. وفي الوقت نفسه، إن كانت هي تحمل وثائق تثبت هويتها وأن ادعاءها صحيح، فليس ذلك سوى ما توقعه، وما هو إلا ما ظل يؤكد أنه سيحدث؛ لذلك فقد قال لها: «إن تقدمت بالدليل على أن سيد النحل كان أباك بالقرابة، إن تقدمت بالدليل على أن لك حقا قانونيا في تركته، فلن يكون هناك مجال للاعتراض على أن تئول لك؛ لكن سيد النحل كان في كامل وعيه، حسب شهادة الأطباء والممرضات، حتى وافته المنية وهو نائم، وكان جازما جدا في قوله بأن ليس له وريث مباشر من دمه. ما سيتحتم عليك فعله هو أن تعرضي دليلك، وتفصحي عن هويتك، وتجعلي ادعاءاتك مقنعة أمام محكمة الوصايا في هذه المقاطعة. إذا استطعت أن تفعلي هذا، فلا شك أن التركة ستصبح من حقك. أما الآن فهي مسجلة في الأوراق باسمي واسم مساعد سيد النحل، وأنا المسئول عنها وسأظل مسئولا لحين التحقق من هويتك وإثبات ادعاءاتك.»
فصاحت السيدة الشابة: «وأين لي أن أقيم؟ إن كنت سأضطر إلى الذهاب إلى المحكمة والدخول في صراع قانوني، فقد يستغرق هذا أسابيع أو شهورا، وما لدي من نقود كان كافيا بصعوبة لآتي هنا. فالمصروف الذي خصصه لي أبي لم يكفني أبدا.»
فقال جيمي: «لا علم لي بذلك الأمر. وليس لي علاقة به. لكن أعلم أنه ثمة ثروة صغيرة في نحل هذه التركة وأشجارها وزهورها، وأن قيمتها متوقفة على مراقبة النحل، حيث يغير الكثير منه مسكنه في الوقت الحالي. وهناك عسل لا بد من نقله لأحمي النحل من البدء في سرقته، وفي كاليفورنيا لا بد دوما من الاهتمام بالري بنظام. إن حدث وأثبت أمام المحكمة ما تمناه سيد النحل وأراده، فلن أحبذ، لخاطر مساعده، الذي صار مساعدا لي، ولخاطري، أن تتراجع قيمة المكان، كما سيحدث إن خرجت وتركته في رعاية شخص غريب.»
عندئذ ظهرت أول خصلة قبيحة بحق في سلوك الفتاة. إذ ضحكت ضحكة بغيضة.
وقالت: «حسنا، لا شك أنك ستخرج وستخرج بسرعة عاجلة. لا توجد محكمة في العالم تحرم ابنة وحيدة ووريثة وحيدة من ميراثها وتمنح تركة رجل لشخص يكاد يكون غريبا تماما. سيصبح ذلك تصرفا في غاية الوضاعة. وحيث إن هذا منزل أبي، فأعتقد أن لدي كل الحق في البقاء فيه.»
والتفتت نحو الشارع وأشارت لسائق سيارة الأجرة.
وقالت له آمرة: «أحضر لي صندوقي وحقائبي!»
وضع سائق سيارة الأجرة صندوق أمتعة صغيرا على عاتقه، وحمله إلى داخل المنزل فأنزله في منتصف حجرة المعيشة، واضعا فوقه حقيبة سفر وحقيبة ملابس. ثم أخذ مقابل خدماته وركب سيارته وانطلق بعيدا، وخلعت شابة ذات سمت شديد العزم قبعتها وجعلت تنظر حولها.
انهزم جيمي في الجولة الأولى. ما كان يجب أن يسمح لها بدخول المنزل. ما كان يجب أن يدع سائق السيارة الأجرة يترك الصندوق. لكنها قالت إن النقود التي لديها غير كافية بالمرة، وهناك احتمال أن يثبت القاضي ادعاءاتها، ومهما كان ما سيفعله جيمي أو لا يفعله فلا بد أن يكون رجلا نبيلا. فجعل يفكر سريعا وكان تفكيره صائبا. إذ حدث نفسه متأملا: «مارجريت كاميرون مسافرة. لو كانت هنا في هذا الظرف الطارئ لمنحتني حجرة. وسمحت لي بالنوم في فراش ابنة أخيها، وحيث إنني أعلم مؤكدا أن هذا ما ستفعله، فلم لا أدخل من نافذتها الخلفية وأستحوذ عليه؟ سوف أروي حديقتها وأحرص على رعاية زهورها حتى عودتها، وأستطيع في مطبخها أن أطهو شيئا لآكله.»
من ثم دخل جيمي غرفة النوم وجمع الملابس التي كان قد أتى بها، والأشياء التي اشتراها منذ سكناه، والصرة التي ضمت أغراض أليس لويز الشخصية. ووضعها كلها في حزمة وسلك الممشى، ومن خلال البوابة الجانبية، دخل المنزل من نافذة خلفية، وأقام نفسه في الحجرة التي تأكد له، من زينة جدرانها وموقعها، أنها تخص ابنة صهر مارجريت كاميرون. ثم ذهب إلى البقالة الواقعة في الزاوية واشترى بعض الطعام الذي ملأ به صندوق الثلج. وعلق لافتة «مطلوب ثلج» وأخرج ما يخصه من حليب وعصير طماطم وبرتقال في صندوق الثلج الخاص بسيد النحل، وخلال ساعة كان قد طرد؛ لكنه ظل محتفظا بعمله، ظل يقتلع الحشائش، وظل يروي الزرع ويقلمه ويراقب النحل وأشياء أخرى جيدا.
وبينما هو يعمل بدا له أن أول ما يجب عليه القيام به هو أن يتصل بالسيد ميريديث ويتركه يتخذ الإجراء الذي يراه في صالح صغيره. فذهب إلى الهاتف، وبعد أن سمع كل التفاصيل الأخيرة بشأن جيمي الصغير مروية بحماس، طلب السيد ميريديث. فأخبر بأنه خارج البلدة وسيغيب أسبوعا أو عشرة أيام. عندئذ تردد جيمي. فهو يستطيع رعاية مصالح شريكه الصغير بالأسلوب نفسه الذي سيرعى به مصالحه. يمكنه أن يرى الإجراء القانوني الواجب اتخاذه ويعلن عنه عندما يحين الوقت. فلم يكن ثمة ضرورة لإثارة قلق السيد ميريديث والكشافة الصغير وغالبا ليس في وسعهما فعل شيء. وهكذا وضع جيمي السماعة دون أن يقول إن المنحل كان في تلك اللحظة بين يدي شخص دخيل.
وبينما كان جيمي يعمل، جاءت الدخيلة إلى الحديقة في جولة للمراقبة. كانت قد بدلت فستانها بآخر، خفيف وجذاب. وقد بدت بعد إزالة آثار السفر أشبه بكثير من الفتيات اللواتي يراهن جيمي كل يوم في كل مكان. المشكلة أنها بدت شديدة الشبه بهن لدرجة أنها لم تثر اهتمام جيمي. فلا بد أن تكون الفتاة غير عادية، مختلفة، يبدو عليها ولو أقل أمارة من أمارات التمتع بقلب كريم وثقافة رفيعة والاهتمام بالآخرين حتى تشد انتباه جيمي. لكن كان جليا أن هذه الفتاة تفكر في نفسها أكثر من أي شيء آخر. شاهدها جيمي وهي تتقدم نحوه في الممشى الخلفي وقد جعلتها أشعة الشمس واضحة المعالم فكان أول ما خطر له: «إنها تبدو قاسية».
ظل هو يواصل عمله. حتى صارت الفتاة على بعد بضع ياردات منه. فتوقفت وجعلت تتفحصه بإمعان.
ثم قالت: «لقد خطر لي أنه لا يوجد من الأشياء التي هنا ما قد يتدهور تدهورا كبيرا خلال الأيام القليلة التي سنحتاج إليها لترتيب الأوراق حتى أتمكن من الاستحواذ على أملاكي. لذلك أفضل أن تتركني في ملكي بلا منازع.»
نظر جيمي إلى الفتاة وابتسم، فكانت ابتسامته ساحرة، ابتسامة جذابة.
وسألها: «ألا تعتقدين أن طلبك ثقيل جدا على أي كائن ذي طبيعة بشرية؟ فقد ظللت أرعى هذا المكان مدة طويلة، وظللت بعض الوقت أعتقد أنه ملكي. وإنك لتتمتعين بثقة غير عادية إن كنت تعتقدين أنني سأرحل وأسلمك الأملاك المكتوبة باسمي في السجلات دون أن أرى أي دليل لديك، ومن دون أن أعلم إن كنت تستطيعين إثبات ادعاءاتك أمام المحكمة. فهل تنوين إن استحوذت على هذا المكان أن تعيشي هنا، وتجعلي منه منزلك؟»
أخذت الفتاة تنظر حولها. فقد أثار حنقها شك جيمي.
ثم سألته: «يبدو أنك شخص متخلف، أليس كذلك؟» وتابعت: «أعتقد أننا ابتعدنا نحو عشرين ميلا عن المحطة التي نزلت فيها حتى نصل هنا.»
فأجابها جيمي: «هذا صحيح. إنك تجيدين التخمين.» «ولماذا قد ترغب فتاة في أن تنعزل في مكان كهذا، ولديها الحق في الاستمتاع بحياتها؟ فإن أكثر ما أخاف منه هو النحل. وأكثر الأشياء التي أبغضها هو الجبل. وما أبغضه أكثر من الجبل هو البحر. وإن أكثر الأشياء التي لا أطيقها بضع ساعات متواصلة هو هذا الهدوء، هذا الهدوء المضجر المنفر. هل تقع أي أحداث على الإطلاق هنا؟»
فأجابها جيمي: «أجل ؛ فقد جئت بينما النحل قد بدأ يغير مسكنه. والثمار قد حان قطفها. والزرع لا بد من رشه. وهناك أعمال عزق وتنظيف وأعمال كثيرة، أكثر من أن يستطيع شخص واحد أن يؤديها بالإتقان الذي يجب إنجازها به.»
فقالت له الفتاة: «إنك بعبارة أخرى تقترح البقاء هنا ومراقبتي.»
فقال لها جيمي: «هذا قولك أنت. أما ما قلته أنا فهو الاقتراح بالبقاء هنا ورعاية الأرض، ورش الزرع، ورعاية النحل.»
فقالت الفتاة: «لست مغفلة حتى لا أدرك سبب رفضك للرحيل.»
فأجابها جيمي: «هذه استنتاجاتك الخاصة.» وأضاف: «هذا الجانب من الحديقة بحاجة إلى الري اليوم. وسوف أرويه.» قال قوله ثم واصل عمله في هدوء.
وقفت الفتاة ساكنة لبرهة ثم قالت: «أريد مفاتيح الصندوق الذي كان أبي يحتفظ فيه دائما بأوراقه. فلا شك أن فيه أشياء ستساعدني في إثبات حقوقي.»
فقال لها جيمي: «أخبري قاضي الوصايا بذلك. إن أراد فتح الصندوق وتسليم الأوراق التي بداخله لك، فسيرسل موظفا للاطلاع معك عليها وتسجيلها ووضعها بين الأدلة قبل أن يتلاعب بها أحد.»
تصادف أن جيمي كان يتطلع إلى وجه الفتاة؛ بعينين مواربتين لكن يقظتين، وهو يدلي بقوله ذلك. فرأى أنفاسها وقد احتبست، ورأى وجهها وقد بهت، ورآها وقد سكتت تماما واستغرقت في التفكير، وقال له الصوت بداخله الذي يتحدث إليه أحيانا: «لا يروق لها ذلك. فهي لا تريد أن يكون أي شخص موجودا عند فتح الصندوق. لا تريد كتابة محضر بتلك الأوراق. لا تروقها فكرة أن يطلب من قاضي الوصايا إرسال رجل ليطلع عليها معها.»
وفي الحال أطال جيمي الخرطوم وجعل يعمل صاعدا المنحدر حتى صار في مواجهة النافذة التي لها أفضل إطلالة من غرفة المعيشة.
ومضى الوقت على هذا المنوال. حيث أقام في منزل مارجريت وظل يراقب الفتاة على مدى يومين وليلة، وكان متعبا بشدة حين مرت الفتاة بمنزل مارجريت كاميرون فشاهدها وهي تستقل الترام متجهة إلى المدينة. ثم مضى إلى المنزل. فلم يفهم كيف استطاعت واجهته أن تظل محتفظة بالتعبير نفسه الذي طالما بدا عليها. كان سيعزيه لو أنها بدت مشمئزة ومتكدرة بشدة، لكنها لم تبد كذلك. وإنما ظل المنزل يطل على الطريق وجانب الجبل مبتسما تماما ابتسامة الترحيب الهادئة الرائقة نفسها التي طالما طالعه بها. حاول فتح الأبواب، لكنها كانت جميعا موصدة. ونظر من النافذة، لكنه لم يستطع أن يرى أي شيء سوى صندوق الأمتعة واقفا في منتصف حجرة المعيشة وملابس الفتاة وقد بسط أغلبها على ما يبدو على مقعد سيد النحل. رأى أن هذا الوقت سيصبح مناسبا للعمل في حديقة مارجريت كاميرون، فذهب إليها وفتح خرطوم المياه. وكان منهمكا حين سمع خلفه خطوات خفيفة لحذاء شاطئ فالتفت ليجد الكشافة الصغير في وجهه. «مرحبا! كيف الأحوال؟» «بل كيف الأحوال لديك؟» بادره جيمي متفاديا الإجابة.
أجابه الكشافة الصغير: «بخير!» ثم واصل كلامه فقال: «ما زلت أتولى كل تلك الأشياء التي أخبرتك بأنني سأفعلها لطفلنا. سوف يصبح طفلا لطيفا للغاية. إن أمي مهووسة به. إنها تحتضنه وترعاه تماما كما كانت تفعل مع جيمي، إلا أنها لا تستهويها زجاجات الرضاعة. فهي تقول إن تثبيت الزجاجة أمر مزعج، وتقول إنه مؤسف جدا أن يكتب على أي طفل أن يفقد أمه؛ لأنها تقول إن الطفل، وهو في مثل تلك السن الصغيرة، يحصل على أشياء أخرى من أمه بخلاف اللبن. فهي تقول إنه يحصل على فيض متواصل من الحب. تقول إن الرضيع الذي ينام على صدر أمه وينظر في عينيها ويضع يده الصغيرة على عنقها، يحصل مع الغذاء على شيء يبقى معه طوال حياته. وتقول إنه ليس من الطبيعي ولا الصحيح أن تضع الرضيع وحده تماما على وسادة مثبتا زجاجة رضاعة قديمة في فمه. لكن ليس هذا حال جيمي؛ لأنني أحملها من أجله، ولحسن الحظ أنه جاء أثناء الإجازة المدرسية، فلن تصدق كل الأشياء التي أفعلها حين لا يراني أحد. فإنني أحمل الزجاجة وأحيط جيمي بذراعي فربما أستطيع بذلك أن أشعره نوعا ما بأنه حصل مع الحليب على فيض الحب نفسه الذي حصل عليه جيمي شقيقي. لكن الحقيقة أن جيمي صغيرنا رائع للغاية. يا إلهي! ها أنا قد استخدمت كلمة نانيت! إنه النعت الوحيد الذي تعرفه نانيت. فحذاؤها رائع، وفستانها رائع، وقصة شعرها رائعة، والحفل رائع، والصورة رائعة، وقد سمعتها كثيرا جدا حتى إنني أتمنى ألا أصبح أنا الآخر رائعا أيضا!»
ضحك جيمي.
وقال له: «لست بحاجة إلى أن «تصبح رائعا» يا سيدي قائد الكشافة.» وتابع: «فطالما كنت في غاية الروعة منذ ولادتك.»
بدا السرور جليا على الكشافة الصغير. فقد طالت قامته قليلا، وهز رأسه بمرح. «حسنا، من عساه يرمي النرد فيحسن الرمية، ويسيطر على مجموعة من فتيان الكشافة، ويفعل جملة الأشياء الأخرى الكثيرة التي ظللت أخوضها طوال حياتي، ولا يكون رائعا جدا؟ وأؤكد لك أنني حريص على هذا المكان! بل إن حماسي له شديد. كنت أخبر أمي هذا الصباح أنني بمجرد أن أفرغ من دراسة «القراءة» و«الكتابة» و«الرياضيات»، سآتي إلى هنا وأباشر عملي. إنها تقول إنني سأذهب إلى الكلية، لكن هناك أشياء كثيرة جدا لا تعلمها عني كما ينبغي لها، والكلية واحدة منها.»
ثم أثبت قائد الكشافة لجيمي أفضل إثبات ما كان قد زعمه. فقد شعر جيمي به يطالعه بنظرة طويلة. وشعر بجسده الصغير يقترب منه. وشعر بيده نظيفة على غير العادة تتلمس جانبه الأيسر. وسمع صوتا في غاية الرقة والعذوبة حتى إنه ذكره بصوت معين على الهاتف يعرفه.
إذ قال الصوت بعويل: «أوه، يا جيمي! هل تمزق جانبك؟ هل ستضطر إلى اتباع كل إجراءات علاجه مرة أخرى؟»
وضع جيمي ذراعه حول الكشافة الصغير.
وقال: «مهلا، بالقطع لا، إن جانبي على ما يرام! فهو يتحسن كل يوم. حتى إنني أنوي ألا أضع له ولو ضمادة أو رباطا خفيفا بعد شهرين أو ثلاثة.»
رفع قائد الكشافة ناظريه.
وقال: «ما الأمر إذن؟»
تردد جيمي. «يبدو وجهك شاحبا وعيناك متعبتان بشدة. تبدو في غاية الإنهاك. تبدو تماما مثلي حين يشاغب فتيان الكشافة وأضطر إلى ضربهم. أحيانا أطالع وجهي في المرآة وأنا أغسل أسناني فأستطيع أن أرى كم هي كبيرة المسئولية التي على عاتقي. أستطيع أن أرى ذلك حول عيني. والآن أستطيع أن أرى أشياء حول عينيك. فما الخطب؟»
فكر جيمي سريعا. لم يرد أن يخبر الكشافة الصغير ما الخطب، في غياب السيد ميريديث. إذ لم يرد أن يشغل السيدة ميريديث بتعقيدات قانونية وهي ترعى رعاية مفرطة الرضيع الذي تحملت مسئوليته. فكر سريعا وبإمعان وجعل الموقف يمر بسلام.
فقد قال: «إنك على حق أيها الكشافة الصغير. أنت قوي الملاحظة بعض الشيء. لقد كنت قلقا ليلة أمس ولم أنم جيدا. إذ ظللت أراقب أرضنا وأرض مارجريت.»
فقال قائد الكشافة: «ألم تعد مارجريت بعد؟ تبدو الأمور محاطة بسرية تامة.»
فقال جيمي: «أعتقد أنها ذهبت إلى المدينة في زيارة بهدف الترفيه مع مولي التي تتحدث عنها دائما. وأنا أرعى لها شئونها في غيابها.»
قال قائد الكشافة مبتسما لجيمي ابتسامة عريضة: «أعتقد أنني سأذهب إلى هناك وألقي نظرة على أرضي.»
فقال جيمي: «حسنا.»
لم يلحظ أي منهما أن الدخيلة كانت قد مرت بمنزل مارجريت كاميرون بينما كانا يرويان حديقتها وفتحت الباب الأمامي ودخلت المنزل المرحب بالزوار. قفز قائد الكشافة من فوق السياج، وسار في الممشى المفروش بالحصى هرولة، ولوح محييا شجرة الجاكرندا، وانعطف مارا بمقدمة المنزل لسبب بديهي؛ ألا وهو أن الفدان المكتوب في سجلات المقاطعة باسم جين ميريديث يقع على يمين المنزل حين تأتيه من المدخل. وحين عبر الطفل الممشى كان ثمة حركة ملحوظة في غرفة المعيشة، ونفحة عطر كان وقعها على الكشافة الصغير مثل وقع نفحة قوية من حمض الفورميك، الذي يفرزه الإنسان عند الشعور بالخوف، حينما يشمها حيوان ما. بفيض هائل من الاطمئنان عبر قائد الكشافة الرواق بقفزة واحدة، وفتح الباب الأمامي، فوجد في وجهه صندوق الأمتعة المفتوح، والفساتين المبسوطة على مقعد سيد النحل، ووجد أيضا فتاة ذات شعر مصبوغ صبغة غير لائقة ووجه مبالغ في زينته، فتاة بدت لعيني قائد الكشافة مزيجا فريدا من كل الأشياء التي لا يجدر أن تجدها في أي فتاة لطيفة. جعل الصغير يحدق مشدوها. «كيف هذا؟» كانت التحية التي وجهها إلى الدخيلة. وأشار بيديه معبرا عما كان يجيش في نفسه، واحدة في اتجاه صندوق الأمتعة، والأخرى في اتجاه المقعد.
قالت الفتاة: «مرحبا أيها الصغير. إنه لمن حسن حظي أنك قد جئت الآن! خذ العشرة السنتات هذه واذهب إلى أقرب بقالة وأحضر لي زجاجة حليب، وحين تعود لي بها سأعطيك نكلة مقابل ذهابك.»
وقف قائد الكشافة ساكنا وجعل يحدق في الفتاة، نظر إليها طويلا وبإمعان وتذكر شيئا لكنه لم يستطع أن يعرف ما هو على وجه التحديد. «لست؛ لست أم جيمي، أليس كذلك؟ بالطبع لا يمكن أن تكوني أم جيمي؛ لأن مجيء جيمي جعلها في غاية التعب حتى إنها اضطرت إلى الانتقال إلى الرفيق الأعلى رغم أنفها. فمن أنت وماذا تفعلين هنا؟»
فأجابته الفتاة قائلة: «هذا أمر لا يخصك. اجر وأحضر لي الحليب، وعندي بعد ذلك نحو خمسين حاجة أريدك أن تقضيها. تستطيع الحصول على جزء كبير من الفكة التي لدي خلال الساعة أو الساعتين التاليتين إن كنت نشيطا.»
وقف قائد الكشافة دون حراك. وبعينين محدقتين، تكادان أن تكونا مغتاظتين تفحص وجه المرأة. تفحص عينيها على وجه الخصوص باستغراق. صندوق الأمتعة والملابس، والروائح الكريهة للصابون الرخيص والعطور الرديئة، كلها أشياء انطبعت في ذهن الطفل بالسلب. هذه المرأة في المنزل وجيمي في منزل مارجريت كاميرون، لا يفعل شيئا حيال الأمر! ذلك هو طبع جيمي بالضبط. طالما كان من رأي الكشافة الصغير الخاص أن جيمي كمقاتل قد يصمد بين الألمان، لكنه لم يبد رغبة كبيرة في الصمود حين أراد أحد الأشخاص أن يعطيه جزءا رائعا من أملاكه. وبطريقة ما أخذت تتطور الفكرة التي بزغت في رأس قائد الكشافة واتخذت شكلا. فمد يده الصغيرة.
وقال: «أعطني العشرة السنتات! سأقضي لك حاجاتك بالطبع!»
قابضا على العشرة السنتات بإحكام في إحدى يديه؛ قفز قائد الكشافة من على السياج وحط قرب قدمي جيمي، وعندئذ جعل الطفل يحملق فيه بعدوانية. «من تلك المرأة ذات الماكياج السيئ والتنورة القذرة؟»
كان السؤال موجزا ومباشرا.
فسأله جيمي: «هل هناك أحد في المنزل؟»
كان مرتبكا للغاية حتى إنه تحدث بلكنة أبيه (الاسكتلندية) التي كان يتحدث بها في طفولته.
صاح الكشافة الصغير باللكنة نفسها: «أقول لك إن ثمة أحدا في المنزل!» وتابع: «ثمة مهرجة هناك»! تلك المرأة غطت ملابسها مقعد سيد النحل بالكامل وصندوقها مفتوح في منتصف الغرفة! لماذا أدخلتها المنزل؟»
فقال جيمي: «هي التي دخلته.»
سأله الكشافة الصغير بحدة: «ألست كبيرا كفاية لمنعها؟» واشرأب برأسه لينظر نحو جيمي الذي يفوق طوله ست أقدام.
فقال جيمي: «بلى، إنني كذلك، إن كنت سأستخدم القوة، لكنني لست معتادا على استخدام القوة مع السيدات.» «ولذلك انسحبت وجئت إلى هنا مسلما أملاكنا لتلك المرأة الشبيهة بجبن ليمبورجر (نوع من الجبن قوي الرائحة)!»
قال جيمي: «للأسف هذا ما فعلته.»
قال قائد الكشافة: «حسنا، لقد وضعت أكبر عقبة وضعها أحد يوما في طريقي. إنني متأكد أنك خرجت مثل ديك رومي وديع، دون حتى أن تطلق صيحته العدوانية!»
فقال جيمي: «لقد طلبت منها أن تخبر قاضي الوصايا بالأمر.» «آه!» صاح قائد الكشافة بأجش وأخشن نبرة سمعها جيمي تأتي من حنجرته الصغيرة. «آه! ما نفع قاضي الوصايا؟ لقد كنت تعرف سيد النحل وتعرف أنه لم يكن ليفعل أي شيء غير منصف أو غير صحيح. إن أردت أن تكون متراخيا، فكن كذلك! بإمكانك أن تعطيها نصيبك إن كنت تريد ذلك، لكن تأكد» راح يتكلم معبرا بيديه «تأكد، يا سيد جيمس لويس ماكفارلين أنك لن تضيع النصف الخاص بي من حديقة النحل تلك؛ لأنها كانت الفرصة الوحيدة التي تسنت لي يوما للحصول على حصان. لم يكن السبب لعدم حصولي على حصان أن أسرتي ليس لديها المال الكافي لشراء حصان، وإنما لأنني لا أستطيع الاحتفاظ بحصان في المدينة. أما هنا فلا أرى سببا يمنعني من ذلك. فلا يوجد جيران بجانبي ليعترضوا. سأرى إن كانت تلك المرأة ذات الشعر المستعار الأشقر هناك ستستطيع أن تحول بيني وبين امتلاك حصان!»
مد الكشافة الصغير يدا وكشف عن عشرة سنتات. «سأذهب إلى البقالة وأشتري لها حليبا، ويوجد «خمسون مهمة أخرى» بعد ذلك»، ثم على نحو مفاجئ قلد الكشافة الصغير تلك المرأة التي في المنزل بالنبرة والأسلوب نفسهما اللذين تعرف عليهما جيمي، إذ قال: ««يوجد نحو خمسين مهمة أخرى بإمكانك إنجازها لي، أيها الصغير».» ثم تغيرت نبرته مرة أخرى. واستأنف: «تأكد تماما أن «الصغير» سوف يؤدي المهام، فسوف يجد «الصغير» طريقة ما ليخرج بها تلك المرأة من المنزل وسوف يخرجها منه بأقصى سرعة. فقد تصادف أن «الصغير» على علم بأشياء جمة لا تعرفها أنت، وقد بدأ لتوه يدرك من هي تلك الخصم!»
ثم لوح بيديه؛ إحداهما مبسوطة، والأخرى قابضة على العشرة السنتات. «أؤكد لك أن «الصغير» يدخر سهما أخيرا لتلك الخصم التي بالداخل! فإن «الصغير» مدين لسيد النحل بأن أصيبها فلا أترك فيها موضعا سليما! ربما تظن أنني لا أعلم حقيقتها الآن. ربما تظن أنني لا أعلم من الذي دفع بماري الصغيرة فحطم ظهرها وجعلها تموت! فلتر ماذا سأفعل! إن كنت لا تنوي المقاومة، فإنني سأقاوم. كيف دخلت هذا المنزل؟»
فأجابه جيمي قائلا: «سرت عبر الباب.»
فقال الكشافة الصغير: «حسنا. سوف أهاتف أمي وأكلف فتياني بالمهمة، أما أنت فضع أذنك على الأرض وأصغ للمعركة. وثق أن «الصغير» سوف يشعل فتيل الحرب!»
أنزل قائد الكشافة قدميه محدثا صوتا معبرا، وفي الحال سمع جيمي رنين الهاتف وسمع أيضا صوت الكشافة الصغير. «مهلا يا أمي! لقد سافرت مارجريت كاميرون وشريكي هنا بحاجة إلي. غالبا سأضطر إلى أن أطهو له العشاء. وربما لا أعود إلا متأخرا. إن تأخر الوقت كثيرا، فسيصحبني. لا تقلقي علي. إنني بخير، لكن هذا الطفل الكبير الذي هنا بحاجة إلى رعاية أكثر من جيمي الطفل. وسوف أقص ذلك على كل الناس!»
ارتطمت السماعة بالحامل ارتطاما كاد أن يحطمهما، ثم جاء قائد الكشافة من الباب الأمامي ومضى يجري بخفة في اتجاه البقالة الواقعة في الزاوية بعيدا. أما جيمي فقد جلس وجعل يفكر. ثم ذهب إلى الهاتف واتصل بجون كاري. وسأله إن كان بإمكانه الاعتماد عليه ليساعده إذا أنذر أي من النحل بتغيير مكانه في اليوم التالي. فكان جوابه بالموافقة. حيث سيأتي كاري في الصباح ويتفحصان القفائر، ويحضران بعض القفائر الجديدة الجاهزة لسكن النحل.
وبعد قليل رأى جيمي قائد الكشافة وهو يدخل من البوابة الأمامية ويسير في الممشى ومعه زجاجة الحليب. ورآه بعد ذلك يحمل رزمة من الأوراق وأشياء متفرقة إلى فرن النفايات. ثم رآه وهو يجمع الطماطم والخضراوات، ويقطف الفاكهة ويحملها إلى المطبخ، وحين اقترب ليفهم ما كان يحدث، رأى أثناء مروره بإحدى النوافذ قائد الكشافة واقفا في منتصف حجرة المعيشة يعلق الفساتين على شماعات معاطف سيد النحل ويعلقها في خزانة ملابسه. وبعد قليل خرج إليه الكشافة الصغير.
كان جيمي مندهشا من التعبير الذي ارتسم على الوجه الصغير. فقد صار غامضا تماما. لا يشبه أي شيء رآه جيمي يوما. كان شاحبا قليلا، وجامدا قليلا، وثابتا لأقصى درجة. فقط حين دنا جيمي بنظره رأى أن جسده كله كان متأهبا مثل وتر كمان، مشدودا وموترا ومستعدا للاستجابة بالنغمة التي تطلب منه. وعلى نحو مفاجئ بزغ في قلب جيمي شعور بالثقة. فقد قال سيد النحل إن الكشافة الصغير على علم بأسراره. وعندئذ بدا لجيمي أنه سيصبح من الحكمة أن يتولى هو الحراسة بينما يتصرف الكشافة الصغير بناء على ما لديه من معلومات أيا كانت.
قال قائد الكشافة: «إنها تجرب كل المفاتيح التي في المنزل لتفتح بها صندوقي، وقريبا جدا ستجد مفتاحا مناسبا، وذلك الصندوق إنما هو مليء بأشياء لا تخصها البتة. فبداخله أغراض ماري هايلاند وأغراض ماري الصغيرة. وبه عقود زواج وحجج. وبداخله أوراق عمل. وبداخله الاتفاق الموقع الذي يجعل تلك الفتاة التافهة تستقر هناك مدى الحياة. فإنني أعلم من هي. وأعلم ماذا تظن أنها فاعلة. وصدقني إنها ستستطيع أن تفعله إن فتحت ذلك الصندوق، وذلك الصندوق يخصني. فماذا ستفعل حيال ذلك؟»
سأله جيمي: «أين المفتاح؟»
فأجابه الكشافة الصغير: «إنه مع أبي.» وتابع: «لقد كان بين الأشياء التي بحوزة سيد النحل في المستشفى، ويوم تسوية الأمور أعطاه قاضي الوصايا لأبي ليحتفظ به حتى أبلغ السن القانونية. إنه في مكتبه في المنزل. بإمكاني إحضاره بالذهاب سريعا إلى هناك، لكنني لن أفعل ذلك. فقد تذكرت أنها لن تستطيع أن تفتح ذلك الصندوق بأي مفتاح تجده في المنزل، ولا أي مفتاح يصنع لها؛ لأن ذلك الصندوق به قفل من نوع خاص فهناك نقش لورقة شجر حيث يجب أن تضغط على زنبرك حتى يعمل القفل. في تلك الأيام حين كنت أفرغ من كل الأعمال وأستعد للذهاب إلى منزلي، وكان سيد النحل يشعر بوحشة شديدة لشيء حي وشخص ليتحدث إليه، كان يسمح لي بفتحه بتلك الخطوات ويريني ما بداخله ويسمح لي بمطالعة الصور ورؤية ما بداخله من الأشياء الخاصة بماري الكبيرة وماري الصغيرة. وذلك ما كان يجول بخاطري. فثمة صورة في الصندوق لتلك المرأة وهي صغيرة، وكانت تبدو قميئة الشكل كما تبدو الآن. وقد كتب عليها اسم وتاريخ، أيضا، ومن شأن ذلك أن يردعها إلى حد ما إن لم تراع ما ستخبر به قاضي الوصايا. ولا يمكنها أن تفتح ذلك الصندوق إلا إذا حطمته بمطرقة، فإن أقدمت على ذلك بالفعل ... ويحي!»
كان الوجه الذي تطلع نحو جيمي وجه شخص وثني صغير يحقق العدالة. لم يبد عليه ذرة رحمة، ولم يش بلمحة تسامح. كان عازما، وساكنا مثل وجه تمثال العدالة الذي يحمل الميزان فوق مقعد القاضي في مكتب محكمة الوصايا. وقد شعر جيمي بقشعريرة باردة تتسلل إلى ظهره. ولأول مرة خاطب شريكه الصغير باسمه.
إذ خاطبه قائلا: «توخ أشد الحذر فيما ستفعله يا جين. لا أدعي أنني لا أتألم بالغ الألم من احتمال طردي من الحديقة، والتنازل عما أراد لي سيد النحل امتلاكه، لكن مهما كانت أهمية نصيبك لديك فهذا لا يبرر أن تفعل شيئا فظيعا فتؤدي بنفسك إلى السجن أو يشينك طوال حياتك. ثمة طريقة واحدة لعلاج هذه الأمور، وهي ترك العدالة تأخذ مجراها.»
جاءه قول الكشافة الصغير متفقا معه: «هذا ما خطر لي بالضبط!» وتابع: «لا أعتقد أنه لا يوجد عدالة في هذه القرية ، ولا أعتقد أنها لن تأخذ مجراها إذا قفزت في الوقت المناسب من مكمني مثل زعيم من الهنود الحمر. لقد أخبرتك من قبل، وأقول لك الآن ابتعد عن المسألة وشاهد ما سأفعله!»
استدار الكشافة الصغير وعاد أدراجه إلى المنزل. وبينما يواجه الدخيلة، وبنبرات مهذبة دمثة، أبلغها هذه الرسالة: «يقول السيد ماكفارلين إن مفاتيح صندوق السيد ورذينجتون في عهدة السيد ميريديث، وإن السيد ميريديث سيظل خارج البلدة عدة أيام ولا يمكن إحضارها قبل رجوعه.»
قالت الآنسة ورذينجتون: «حسنا، وأنا ليس لدي وقت لأنتظر!» وتابعت: «لا بد أن أطلع على الأوراق الموجودة في ذلك الصندوق. لا بد أن أفتحه حتى إن كنت سأحطمه!»
ابتسم الكشافة الصغير. «كان السيد ورذينجتون قد قال إن الصندوق جاء من الجهة الأخرى من المحيط مع أغراض جده المنزلية وهو منحوت نحتا يدويا وكان في الماضي يخص إحدى الملكات. فإن حاولت كسره لفتحه وأتلفته، وإن لم يرض ما وجدته بداخله قاضي الوصايا بشأن من تكونين وما تفعلينه هنا، فسوف توقعين نفسك في مشكلة خطيرة؛ لأننا هنا في كاليفورنيا نبدأ تربية الأطفال وهم ما زالوا يرضعون من زجاجتهم - وهي مخالفة للطبيعة ولا أحبذها، لكنني رأيت أنها ستبدو أكثر تهذيبا من ذكر الطريقة الأخرى للرضاعة - على أي حال، نبدأ تربيتهم من تلك السن المبكرة على الانحناء احتراما أمام أي شيء «عتيق». ونضربهم على رءوسهم ضربة شديدة إن لم يفعلوا ذلك. فإننا نعشق العتيق من الصناديق والطاولات والمقاعد والأبسطة وغيرها، ويحسن بك توخي الحذر لأنه ليس مقبولا في كاليفورنيا أن تتلفي أي شيء عتيق.»
قالت الآنسة ورذينجتون: «مهلا، فلتخبرني!» وأضافت: «من أنت؟» «آه، إنني طفل من هذا الحي. ما هو طلبك التالي؟» «جر صندوق الأمتعة ذلك إلى حجرة النوم.»
تقدم قائد الكشافة وانحنى عند أحد زوايا الصندوق، ونظر عن يمينه وعن يساره ثم قال بتهذيب: «أرجوك أن تحملي الطرف الآخر. فهذه الأبسطة عتيقة هي الأخرى ولا يجوز جر الأثاث فوقها، كما أن صندوقك يزيد عن حجمي مرتين، مع أنه مجرد صندوق أمتعة .»
ترددت الآنسة ورذينجتون لوهلة ثم تناولت الطرف الآخر للصندوق وساعدت في حمله إلى غرفة نوم سيد النحل. نظر الكشافة الصغير إلى خزانة الملابس المفتوحة التي أخذت منها ملابس جيمي، والأدراج المفتوحة التي أخذ منها متعلقاته، فهاجت بداخله مشاعر غضب كادت تخل بطابع الرصانة الذي حاول قائد الكشافة الصغير الحفاظ عليه. كان التساؤل الذي طرأ في الرأس الصغير آنذاك هو ما إن كان بقبضات محكمة بما يكفي وعضلات مفتولة كما ينبغي قادرا على مهمة إلقاء هذه الدخيلة من النافذة لتهبط على جانب شديد الانحدار من الجبل يؤدي بها إلى البحر. لكن عقل الصغير هو الذي علا صوته. «امض وألق بها من النافذة! أغلب الظن أن جيمي ضخم الجثة رقيق القلب سيكون واقفا بالخارج ليتلقفها في ملاءة ويحملها إلى الداخل ويضعها في الفراش ويظل واقفا طوال الليل بنفسه ليرى إن كانت ستفتح ذلك الصندوق أم لا، واحتمال ألا يمنعها إن فعلت. فما الفائدة إن رميتها؟ فإنه لن ينفعني شيئا. من الأفضل أن ألازم المكان وأواصل مهمتي فحسب لأرى ماذا ستفعل.»
من ثم أدى قائد الكشافة عددا لا حصر له من المهام وشاهد ودماؤه تكاد تغلي حرفيا المنزل وهو يفتش من أعلاه لأدناه. فقد أفرغت الأدراج، ونقلت الكتب من أماكنها على الرفوف. حتى نفد أخيرا صبر الكشافة الصغير. «حسنا، ما الذي يثير جزعك؟»
فزعت الآنسة ورذينجتون بعض الشيء. «هل تعتقدين أنك ستعثرين على جوهرة كوهينور أو طبول الخطر؟»
سألت الآنسة ورذينجتون بحدة: «ماذا تقصد؟»
فقال قائد الكشافة: «يبدو غريبا جدا أن أسمعك تقولين إنك الآنسة ورذينجتون، ثم تتحدثين بلهجة دارجة. أعتقد أن سيد النحل كان سيعلمك وأنت في الثانية من عمرك تقريبا أن تتحدثي بلهجة رصينة، ولم أفترض أنك ستعرفين ما الذي كنت أشير إليه، لكن من الغريب أنه لم يثقف ابنته. فهو من علمني أن كوهينور هي أكبر ماسة في العالم، أما طبول الخطر فهي أكبر أحجار زمرد. لقد علمت بها من أحد الأفلام. لقد كان مثيرا أيضا. وبه فتاة غاية في الحسن، فتاة داكنة العينين والشعر وتضع كمية معقولة من أحمر الشفاه ومساحيق زينة بسيطة، وكانت تجيد التمثيل علاوة على ذلك! أرى أنها إنما كانت رائعة!»
فقالت الآنسة ورذينجتون: «ما دمت قد تعلمت تعليما رفيعا فلماذا تتحدث العامية؟»
ضحك الكشافة الصغير. «أوه، لا بد أن أستخدم هذا النوع من اللغو حتى أحافظ على حظوتي لدى فتيان الكشافة. فإنني إن تحدثت معهم بالأسلوب الذي يجعلني أبي أتحدث به في البيت فلن أبقى قائد الكشافة على مجموعتي مدة طويلة. إننا حين نلعب نمثل أدوار هنود وقطاع طرق وقراصنة وأشياء من ذلك القبيل، ونتحدث بتلك الطريقة ليبدو الأمر أكثر واقعية، وعلى أي حال لا أحد يتوقع من طفل في العاشرة من العمر أن يتحدث مثل امرأة في الثلاثين.»
قالت الآنسة ورذينجتون محتدة: «لست في الثلاثين!»
فقال قائد الكشافة: «معذرة، أعلم أنك دنوت من الأربعين. وإنما قلت ثلاثين من باب التأدب.»
فقالت الآنسة ورذينجتون: «لقد فرغت من أمرك الآن.» وتابعت: «يمكنك العودة إلى منزلك، لكن يفضل أن تعود مرة أخرى في الصباح لنرى إن كان هناك ما يمكن أن تفعله من أجلي.»
قال قائد الكشافة: «حسنا. سوف آتي في الصباح، أما الآن فسأنصرف إلى منزلي متى دفعت لي أجري على ما فعلته اليوم. فقد ظللت أدور بنشاط بالغ وقت ما بعد الظهر بأكمله، وإنني أتضور جوعا لدرجة أنني على استعداد لالتهام كل السجق الموجود في كشك الزاوية!»
فقالت الآنسة ورذينجتون: «سوف أدفع لك في الصباح.»
فقال الكشافة الصغير: «سآخذ أجري الآن.» وتابع: «فليس معي فكة، كما أنني جائع كما قلت لك.»
أخرجت الآنسة ورذينجتون محفظة جيبها، وأخذت منها بعض الفكة الصغيرة وأسقطتها في اليد الممدودة. فعدها الكشافة الصغير مرتين. «مهلا، هل تلقين بهذه الفكة إلى الطيور؟»
بيد أنه كان استفسارا مرحا. فقد قرر قائد الكشافة استئناف مهمته في الصباح. «متى تريدين أن آتي؟» «يفضل أن تأتي قرب التاسعة.»
فقال قائد الكشافة: «حسنا؛ قد أستطيع المجيء قبل ذلك بساعة فأزيل الغبار عن الأثاث أو أنظم الأشياء من أجلك، أو ألمع أحذيتك. فإنني كثيرا ما ألمع أحذية أمي. وأعرف الطريقة.»
فقالت الآنسة ورذينجتون: «فليكن؛ فلتأت مبكرا كما تريد.»
فقال الكشافة الصغير: «سوف آتي مباشرة، من أجلك أنت؛ لأنني أكترث لأمرك، ولذلك أؤكد عليك قبل أن أذهب أنه من الأفضل أن تتذكري كيف تقدر كاليفورنيا الأثاث العتيق.»
أغلق الكشافة الصغير الباب ومضى في الممشى، وقفز من فوق السياج وقال لجيمي: «لا أستطيع أن أتعلل بسبب للبقاء هنا أكثر من ذلك، كما أنني أتضور جوعا. إذا استطعت البقاء ليلا وفعل شيء لردعها عن ذلك الصندوق حتى الصباح، فسوف أستأنف مهمتي بعد السابعة بوقت قصير وسأظل مرابطا عليها حتى أتأكد من أنه ليس في وسعي شيء.»
ثم اتخذ خط سير نحو أقرب كشك للسجق. وبعد عدة ياردات استدار الكشافة الصغير. «دعني أنبهك إلى شيء؛ إن استبدت بها الرغبة في الليل شأن المجرم العتيد، فربما تحاول كسر صندوقي. لذلك من المستحسن أن تأخذ المطرقة أو أي شيء يمكنها خلعه به من مخزن الأدوات وثبت النوافذ من الداخل حيث تقفل وأوصدها من الخارج. فإن لم تستطع العثور على أي شيء مناسب لتستخدمه في التكسير، فربما تترك الأمر حتى الصباح.»
وكان ذلك ما فعلته الآنسة ورذينجتون. فقد كانت متعبة هي نفسها. ولتكاسلها عن الطهو، تناولت خبزا وحليبا، ثم تحممت، وذهب إلى الفراش مبكرا، وكانت لا تزال نائمة حين وصل قائد الكشافة في الصباح. ومعتمدا على التأكيد باستدعائه إن لزم الأمر، جعل جيمي يترنح من قلة النوم، ثم استلقى على الفراش وراح في النوم. ومن ثم أصبح الموقف في ذلك اليوم معتمدا على الكشافة الصغير.
الفصل الثامن عشر
الكشافة الصغير يستعد للحرب
ظل الكشافة الصغير حتى الساعة العاشرة يؤدي مهام الطاهي والوصيفة وخادمة المنزل والمرسال، وأي شيء تطلبه الدخيلة. وفيما بعد أرسلت كومة من الأوراق غير المهمة إلى فرن النفايات القائم في منتصف الجزء الأسفل من جانب جيمي من الحديقة، في منتصف الطريق بين قفائر النحل الأسود الألماني والصف الطويل لقفائر النحل الإيطالي. وحين أشعل قائد الكشافة عود الثقاب وأشعل النار في الأوراق ووقف بضع دقائق ليشاهدها وهي تحترق، بلغه دوي مشئوم من مكان ما في اتجاه النحل الإيطالي حتى بات ملحوظا.
فقال الكشافة الصغير: «هممم. لا أدري سوى أنه من الأفضل استدعاء جيمي. فسوف يهاجر بعض من نحله.»
وبينما كان يسير في الممشى راجعا توقف برهة بجانب صنبور المياه. فقد أراد قائد الكشافة رش بضع قطرات للحفاظ على انتعاش حوض النعناع، لكن كان الخرطوم الأثقل وزنا هو المتصل به وممتدا في الممشى. حيث يمكن رؤية فوهته فوق إحدى أشجار الجاكرندا، مفتوحة بالحد الذي يسمح بخروج سيل ضعيف من القطرات بسرعة مناسبة لتمتصه الأرض وتروي الأشجار. بدا أن شجرة الجاكرندا تلك ذات معزة خاصة، فتحت ظلها الرقيق الأزرق الهادئ أمضى سيد النحل بعضا من أفضل الساعات التي عاشها في حياته وهو يسلي الكشافة الصغير. من ثم غادر قائد الكشافة الممشى الخلفي ودار حول المنزل، وفتح الفوهة أكثر بدرجة صغيرة، وأنزلها في موضع جديد كتعبير صغير على اهتمامه بتلك الجاكرندا المميزة.
حين لمست الفوهة الأرض بلغه من داخل المنزل صوت شيء يتحطم. فانتصب الكشافة الصغير بقامته بغتة، واتسعت عيناه، وانقبضت عضلاته، وبخطوة أخف من خطوته وهو يؤدي أفضل دوران أداه يوما، عبر نحو النافذة الجانبية. وبحذر، جعل الكشافة الصغير يشب حتى أطل من خلال النافذة المفتوحة في الوقت المناسب ليرى غطاء الصندوق العتيق مفتوحا عن آخره. وكانت المطرقة، التي لا بد أنها أخذت وخبئت في مكان ما في المنزل قبل أن يحكم جيمي إغلاقه، ملقاة على الأرض.
بأنفاس لاهثة تشبث قائد الكشافة بالنافذة وجعل يمعن النظر. لقد فات أوان الدبلوماسية. وأعلنت الحرب. فقد غزا العدو أقدس حصن لسيد النحل والكشافة الصغير ومربي النحل. وحان وقت التصرف. متشبثا بحافة النافذة، بعينين متسعتين وفم فاقهما اتساعا بكثير، جعل الكشافة الصغير يشاهد سلة المهملات التي كانت بجوار طاولة كتابة سيد النحل، سلة الطهي الهندية الكبيرة، وهي تملأ عشوائيا بكل ما يمكن التقاطه من الصندوق من صورة أو ورقة بدا أنها قد تحتوي على أقل تسجيل لأي معاملة. لم يترك سوى لعب ومجوهرات وحلي وأشرطة وأوشحة. كانت السلة مكدسة عن آخرها. بعد ذلك نهضت الآنسة ورذينجتون، وأخذت حفنة من عيدان الثقاب من صحن فوق رف المدفأة، والتقطت السلة، ومضت نحو الباب الخلفي.
بخفة هبط قائد الكشافة من حافة النافذة، وأسرع إلى شجرة الجاكرندا، والتقط الخرطوم، وانطلق بجانب العريشة المحملة بالكروم حتى وصل إلى الصنبور. توقف ليغلق الخرطوم ويفتح الصنبور حتى انتفخ الخرطوم وتلوى مثل الثعبان. جثم الكشافة الصغير وراء جدار الكروم شديد السمك وتشبث بالخرطوم، موجها عينيه نحو فرن النفايات، وما زال ينبعث منه دخان الأوراق التي كانت تحترق بداخله. حين اختلس النظر من خلال كروم العريشة وجد قائد الكشافة أن الفتاة لم تأت بعد، ومرة أخرى استرعى الطنين الرقيق انتباهه للمنطقة المجاورة للفرن. انحنى الكشافة الصغير وجعل يختلس النظر ذات اليمين وذات اليسار، وبينما هو يخطو بخفة، مع بقائه مستترا ليحصل على رؤية واضحة، شاهد الفتاة وهي تقترب. ثم جاء من قفيرين للنحل الإيطالي في الوقت نفسه تقريبا، مع هدير مشئوم، أسراب متدفقة من النحل مغادرة قفائرها، التي امتلأت بأقراص العسل واكتظت بالنحل، باحثة عن منازل جديدة بأمر من الملكة القديمة.
زاد اتساع عيني الكشافة الصغير. وسقط الخرطوم من أصابعه الصغيرة. وانتقل بقفزة واحدة إلى فتحة في العريشة. فخرج منها، وركض مسرعا بقدميه الصغيرتين في الممشى الخلفي ومنه إلى الرواق الخلفي والتقطت يداه المرتعشتان طبلة النحل. حين رنا إلى المطبخ كانت الآنسة ورذينجتون جاثية على ركبتيها بجانب السلة تفرز بأصابع متوترة الأوراق والأشياء التي دستها فيها بقليل من التمييز.
فقال قائد الكشافة وهو يلتقط الطبل: «لا شك أنني سأحظى بوقت قصير.» ثم بدأ يعدو سريعا نحو منطقة الفرن، ليتصاعد في نسيم الصباح برفق الإيقاع البطيء: «دوم دوم دوم»، فبدأ يتجمع النحل الذي كان سارحا في الهواء. قادهم الطبل في البدء إلى شجرة برتقال على بعد ثلاث ياردات من الفرن، ثم غير اتجاه مجموعة أخرى ووجههم نحو فرع شجرة تين على الجانب المقابل. «دوم، دوم»، وقف الكشافة الصغير بعينين جاحظتين وشفتين مفترتين في سحابة من النحل، يشاهد سربا ومن بعده سربا آخر. كان الجو ما زال ممتلئا به، لكن كان واضحا للعين الخبيرة أن ملكة كل سرب قد استقرت وكان ذلك كل ما يلزم. «دوم، دوم، دوم دوم دوم.» تنقلت عيناه بين النحل والرواق الخلفي. حتى جاءت؛ بالسلة ممتلئة حتى فاضت، وقد أحاطت بها بيد ممتلئة بعيدان الثقاب، بينما امتلأت اليد الأخرى بالأوراق التي وجب إتلافها. مستترا بستار الأشجار والزهور والعريشة، منحنيا، من دون إحداث جلبة، تسلل الكشافة الصغير عائدا إلى الصنبور، فتأكد من أنه مفتوح إلى آخره، ورمى الطبل، والتقط فوهة الخرطوم الذي كان في اندفاعه بضغط المياه الجارية بتلك القوة مثل تيار جار في أنابيب كبيرة لدرجة الانطلاق بسيارة صغيرة والانتقال إلى أماكن عدة هابطا سفوح الجبال.
ظل الخرطوم يتلوى كأنه كائن حي، فأغلق الكشافة الصغير الصنبور قليلا؛ خوفا من احتمال انفجار الخرطوم.
هرعت الدخيلة في الممشى الخلفي سريعا بقدر ما حملتها قدماها في سبيله المتعرج المنحدر، ثم أسقطت محتويات السلة في الفرن. وألقت فوقها الأوراق المهمة، ثم حكت عود الثقاب وحملته للحظة للتأكد من اشتعاله قبل أن تشعل الأوراق من فوق. وعندما امتدت اليد الحاملة عود الثقاب نحو الأوراق، أصابها تيار من المياه هز قاعدة الفرن وراح يغرق محتوياته كلها من فوره، ثم صاح صوت حاد، علا لأقصى درجة من فرط الهياج: «انتبهي! فأسراب نحل تحيط بك من كل جانب! سوف يلدغك حتى الموت في غضون دقيقة، فرائحتك حقا لن تروق له!»
لم يكن قدر معرفة الآنسة ورذينجتون بالنحل أمرا معلوما. إلا أن الكشافة الصغير أدرك شيئا واحدا؛ إنها تعرف ما يكفي ليجعلها خائفة. فقد نظرت عن يمينها وعن يسارها وقررت المجازفة، حتى مع اقتراب النحل أكثر.
وصرخت: «أغلق ذلك الخرطوم! أغلق ذلك الخرطوم!»
أجابها الكشافة الصغير محتدا: «مستحيل!» وتابع: «فلن تحرقي تلك الأوراق! إنها لا تخصك. فلا تلمسيها. لا تلمسي واحدة منها! إن لمستها فسأصيبك بهذا الخرطوم حتى أطيح بك مباشرة عند النحل الذي وراءك! إنك لا تعرفين قوة ضغط مياه الجبال، لكنني أستطيع أن أفعل ذلك!»
صاحت الفتاة: «أغلق ذلك الخرطوم!» بينما تتشبث بجانب الفرن وهي تنظر بعينين جاحظتين إلى سربي النحل الذي راح يحتشد مقتربا لدرجة تثير الفزع، وتنظر عاليا إلى الجو من فوقها وهو يمتلئ رويدا بأزيز أجنحة النحل الذي شم شيئا لم يرق له، نحل متوتر مسبقا من ضغط مغادرة القفير الذي نشأ فيه، متبعا ملكته إلى موقع جديد.
صرخت الآنسة ورذينجتون: «ما الذي تحاول فعله؟»
فهتف قائد الكشافة: «إنني لا أحاول». وتابع: «إنني أفعل! سوف أنتزع منك الحقيقة أو أطلق عليك سربي النحل، فيلدغونك حتى تصبحي جثة هامدة، لتموتي الميتة الشنيعة التي تستحقينها جزاء لك على ما فعلته بماري الصغيرة. فإنني أعلم من أنت! لقد رأيت صورتك! التي وضعتها هناك في ذلك الفرن. أنت لست ابنة سيد النحل مطلقا! فقد أنجبتك أمك حين أغوته حتى يتزوجها. وأنت تحاولين الادعاء بأنك ماري. تحاولين الخداع حتى تحصلي على هذه الأرض. شاهديه وهو يحيط بك. شاهديه وهو يقترب أكثر! اسمعي أزيزه!»
نظرت الفتاة المرتعبة حولها. كان سبيل الهروب مقطوعا من الخلف، والخرطوم الهادر يتهددها من الأمام. إن غادرت الفرن بالأوراق التي أودعتها فيه دون أن تحرقها فلن يصبح ثمة أمل لإثبات ادعائها، ولا أي فرصة لأي برهان أحضرته معها حتى يؤتي أثره. لا بد أن تحصل على الأوراق أو تنهزم. لكن العفريت الصغير الواقف عند طرف الخرطوم الهادر ... بعزم انحنت على الفرن وبدأت تلتقط الأوراق بيدين مرتجفتين. وفي تلك اللحظة صوب الكشافة الصغير الخرطوم، الذي انطلق بأقصى قوته، على ظهر قفائر النحل الألماني الأسود بالضبط، وظل مصوبا وحاملا إياه حتى اهتزت قوائم القفائر فتدفق منها في حشود مبعثرة أشرس نحل شهده تاريخ تربية النحل يوما. كان الهدف الأبرز أمامه هو الفرن وقد تصاعد منه الدخان، والتلوث الذي انتشر في الجو، أشد أنواع التلوث التي عرفها إثارة للسخط، تلوث من إنسان ينفث عبر كل مسامه رائحة حمض الفورميك؛ رائحة الخوف. بدأ النحل الألماني الأسود يرتفع في الجو محدثا هديرا. فتح الكشافة الصغير صنبور المياه عن آخره وبلغ بفوهة الخرطوم أقصى قوتها وشاهدها وهي تحدث ثقبا في حوض زهور المخملية، وتقتلعها من الأرض. وطغى على هدير النحل، وعلى تدفق المياه، الصوت الأنسب للوجه الذي كان جيمي قد رآه في الليلة السابقة، صوت إنسان وثني صغير عازم على إقامة العدل، وهو يعلو ويجلجل ويقول: «ها قد حوصرت! ها قد أحاط بك من ثلاث جهات! ها هو يحيط بك تماما! الآن ستنالين عقابك! لكنني سأمنحك فرصة واحدة فقط! اتركي تلك الأوراق!»
نظرت الفتاة لأعلى. فمن جانبها كان النحل الإيطالي يهدر على بعد بضع ياردات منها. ومن خلفها وأكثر اقترابا سرب آخر، بينما جعل يهبط عليها من الأمام النحل الألماني الأسود.
فصرخت: «وجه ذلك الخرطوم نحوي!» «احمني بالمياه! صده عني بها!»
فخرج الكشافة الصغير حتى أصبح ظاهرا تماما على أطراف أصابعه محتفظا بالخرطوم حيث كان بالضبط. «هل تريدين مني أن أطلق ذلك الخرطوم على نحلنا، نحلنا اللطيف البريء، الذي يؤدي عمله، ويصنع الأطياب ليغذي بها العالم؟ هذا النحل صديقي! إنني مساعد سيد النحل. وقد أعطاني نصف هذا المكان. تعتقدين أنك ستسرقينه! تعتقدين أنك ستحرقين أوراقه! اعترفي بالحقيقة الآن، وإلا نال منك النحل، وفي ظرف خمس دقائق ستصبحين جثة هامدة ... ستهلكين مثل أي كاذب بل أشد هلاكا! انتبهي! إنه أمامك! اعترفي بالحقيقة! قولي إنك لست ابنة سيد النحل!»
وبينما هي متشبثة بالفرن، ألقت الفتاة نظرة مذعورة حولها. كانت في وسط دائرة من النحل وهي قد سمعت عن النحل الألماني الأسود. وتعرفت إليه بمجرد أن رأته. فقد رأت في طفولتها حدائق النحل حين كانت تسكن منزل سيد النحل. ومن ثم صرخت بأعلى صوتها.
قال قائد الكشافة: «توقفي عن الصراخ!» وتابع: «اعترفي بالحقيقة، في رأيي، عليك أن تعترفي بالحقيقة! قولي: «مايكل ورذينجتون لم يكن أبي».»
وفي تلك اللحظة أصابت أول نحلة من النحل الألماني ضحيتها في رأسها في مكان غير بعيد عن أذنها اليمنى وواصل البقية مهمته.
فصرخت الفتاة: «لا! لا! لم يكن أبي!»
قال الكشافة الصغير: «قولي إنك تحاولين سرقة هذا المكان وإنك لا تملكين حقا فيه.»
اعتدلت الفتاة وحاولت أن تخطو خطوة إلى الأمام. لكن أصابتها نحلة ألمانية سوداء أخرى في جبهتها مباشرة.
فاستمرت في الصراخ: «نعم! نعم! إنني أحاول سرقته! وليس لي حق فيه!»
قال الكشافة الصغير: «آمم! والآن قولي إنك تحاولين حرق تلك الأوراق للتخلص من كل الأدلة التي ستحول دون ارتكاب السرقة التي تحاولين ارتكابها! قولي ذلك، وقوليه بأقصى سرعة!»
قالت الفتاة المعذبة بأنفاس متقطعة: «نعم! نعم! سأقول أي شيء! أسرع! أسرع، وإلا فات الأوان!»
فقال الكشافة الصغير: «ستقولين الحقيقة بشأن شيء آخر أولا.»
كان الخرطوم الفائر في تلك اللحظة يحدث حفرة في حوض زهور المخملية، حفرة كبيرة حتى ليغرق فيها عجل. جعل الكشافة الصغير يقفز من قدم إلى الأخرى، متمسكا به بكل ما في ذراعيه الفتيتين بالغتي الصلابة من قوة. «قولي حقيقة ما حدث لماري الصغيرة أيضا! قولي إنك دفعتها! أعلم أنك فعلت ذلك. كان سيد النحل يعلم أنك فعلت ذلك، لكنه لم يستطع إثباته. سأجعل النحل يلدغك حتى ينفذ إلى أحشائك إن لم تقولي حقيقة ذلك الأمر!»
أحدثت النحلة الألمانية الثالثة أثرها في العضلات الرقيقة قرب إحدى العينين.
قالت الفتاة المنكمشة وهي تلهث: «أجل! أجل! أجل! الخرطوم بحق الله! وجه الخرطوم نحوي!»
هتف قائد الكشافة: «خري إلى الأرض ملاصقة لها!» ثم أضاف: «ارقدي على بطنك وازحفي! ازحفي مثل الدود الذي تنتمين إليه! لن أحول الخرطوم على نحلنا. انبطحي على الأرض، يا نبوخذ نصر، ألصقي بطنك بالأرض وكلي الحشائش! كلي الأوساخ، إنني لا أكترث! يمكنك بعد ذلك أن تبدئي الزحف! يمكنك أن تبدئي الزحف مثل دودة حقيرة! توجهي إلي وسوف أرشك بالمياه حتى لا يصل إليك! لن أوجه الخرطوم نحو أصدقائي! سدي أنفك! فسوف تنزل الثلوج.»
أصاب الخرطوم ببالغ قوته الكائن البائس المنبطح على الأرض، أصابها وانطلق فوقها وأصاب بضعة من النحل الذي كان يطير على ارتفاع منخفض شاردا. جاءت المخلوقة الجديرة بالرثاء تزحف مرتقية التلة، تلهث لالتقاط أنفاسها، وقد راحت إحدى عينيها تنغلق ببطء، وأصبح ألم القرصات الثلاث أشبه بعذاب لا يحتمل، يزوم فوقها نحل يصل عدده إلى ألف. تراجع الكشافة الصغير على مهل صاعدا التلة، يجرجر الخرطوم الملتوي، متوقفا كل بضع ثوان ليطلقه على الضحية مرة أخرى. وأخيرا وصل إلى مسافة كافية للسماح بإقامة هدنة.
أمرها قائد الكشافة، وهو يدور سريعا ليقلل من اندفاع المياه: «توقفي الآن حيث أنت!» وتابع: «توقفي حيث أنت بالضبط!»
صاحت الفتاة، وهي تنهض على ركبتيها بمشقة: «لا! لن أتوقف في مكاني! سأمسك بك وأفصل رأسك عن عنقك! يا أيها الشيطان الصغير! أيها الشيطان الدنيء الصغير!»
انطلقت الفوهة، فتدفقت المياه على رأس الفتاة وكتفيها بالضبط. فسقطت. «هل هذه نيتك إذن؟ هكذا تشكرينني على إنقاذك، أيتها الكاذبة اللصة! لم تعرفي أن باستطاعتي سحر النحل، أليس كذلك؟ لم تكوني على دراية بأنني أستطيع الركض إلى الجانب الآخر منه ورشه برفق حتى أسوقه نحوك، أليس كذلك؟ ولم تعلمي أنه ما زال لدي في جعبتي حيلة أفضل من تلك، أليس كذلك؟»
كادت الفتاة أن تنهض على ركبتيها مرة أخرى، ومجددا اقترب الخرطوم منها وهو يفور مهددا.
قال الكشافة الصغير: «توقفي الآن، توقفي عن اندفاعك الأهوج حيث أنت تماما إلى أن تدركي مقصدي.»
من الحبل المتسخ حول عنق الكشافة الصغير ظهرت صافرة الشرطة. واستجابة للنغمة الحادة انبثق من وراء شجيرة الليلك، ومن وراء البلمباجو، ومن وراء بنت القنصل، ثلاثة عفاريت صغيرة بعيون متسعة يتقافزون هائجين وقد جعلهم ما شهدوه في انسجام مع روح المعركة.
ثبت قائد الكشافة صافرة الشرطة أمام قميصه المتسخ. «فتى الكشافة رقم واحد!» جاء الأمر مقتضبا، فأمسك بيل السمين الطيب عن الحركة وأدى التحية. «فتى الكشافة رقم اثنان!»
وهنا قفز الفتى المطيع في مكانه. «فتى الكشافة رقم ثلاثة!»
فانتظم ذو الوجه الملائكي في الصف.
قال قائد الكشافة: «فلتمسك بهذا الخرطوم يا فتى الكشافة رقم ثلاثة! فقد أوشك أن ينهكني في السيطرة عليه. ساعدني في تصويبه قريبا من رأس السيدة الشابة التي راحت تصلي أمامنا. لقد هددت بإيذائي.
صاح بيل السمين الطيب: «حسنا، فلتقدم على إيذائك!» وتابع: «فلتقدم على إيذائك! فلتحاول ذلك! فلتحاول ذلك! فما الذي ستجده يا رفاق؟»
هتف فتيان الكشافة في نفس واحد: «المزعج!»
عندئذ أيقظت جيمي صافرة الشرطة والصخب، ليدور حول منزل مارجريت كاميرون من الخلف بعدها بقليل فيلتقي بجون كاري الذي كان يدور حوله من المقدمة.
إذ قال له: «شيء ما يدور في حديقة النحل. أعتقد أن فتيان الكشافة يتعاركون في إحدى معاركهم التمثيلية. ابق خلف الشجيرات واتبعني. قد تجد ما يثير اهتمامك فيما ستراه وستسمعه. فأحيانا يكون الأمر ممتعا!»
ومن ثم مر الرجلان من البوابة، وفي ستار الأشجار والشجيرات، اقتربا كثيرا من سياج الزهور القائم خلف شجرة الجاكرندا، حيث توقفا.
قال قائد الكشافة آمرا: «فتى الكشافة رقم واحد! فلتخبر قاضي الوصايا بما سمعت. هل سمعت الشاهدة التي أمامك تقول إنها كاذبة؟» «سأخبر العالم أجمع بذلك! وقالت إنها سرقت الأوراق، وإنها كانت تحاول حرقها حتى تتمكن من سرقة هذه الحديقة. لا شك أنني سأخبر القاضي!» «فتى الكشافة رقم اثنان!» قال قائد الكشافة، بينما مال جيمي وجون كاري إلى الأمام يحدقان من خلال الشجيرات، بعيون متسعة كعيون الصغار.
رد عليه ذو الوجه الملائكي: «بالتأكيد! بالتأكيد سمعتها!» وتابع: «لا شك أنني سمعتها تقول إنها كذبت، وإنها حاولت سرقة هذا المكان وإنها دفعت ماري الصغيرة كي تموت. سمعتها بالتأكيد! ورأيناك وأنت تطلق عليها النحل فعلا! ولا شك أننا رأيناه وهو يقرصها من رأسها! ولا شك أننا نعلم أنها نالت ما تستحق! ولا شك أننا سنخبر القاضي بذلك!»
قال قائد الكشافة: «فتى الكشافة رقم ثلاثة. ماذا عنك؟ فلترني ما لديك!»
كان الخرطوم قد سلم وسط المعمعة ليسيطر عليه فتى الكشافة الثالث، الذي فعل كل ما في استطاعته لكبحه. أما الكشافة الصغير فقد ذهب ليخفف من ضغطه. «مثل الباقين. كل شيء. سمعت كل شيء من البداية للنهاية. وأستطيع أن أحكي له بالتأكيد. كل شيء عن كذبها. وكل شيء عن سرقتها. وكل شيء عن الفتاة الصغيرة التي دفعتها كي تموت. بالتأكيد أستطيع أن أخبر أي قاض طيب بالأمر!»
جعل قائد الكشافة يتراقص ويتمايل ويحيط ركبتيه النحيلتين بكفيه مطلقا صيحة حرب لعلها كانت ستصل إلى أجزاء كثيرة من الكرة الأرضية لو كانت بثت بطريقة مناسبة من جهاز لاسلكي أحسن ضبطه. «وأنا سأخبر العالم بما حكاه لي سيد النحل، كما أن الأوراق التي في الفرن آمنة ولم تتعرض للإتلاف، يحرسها ثلاثة أسراب من النحل، وإن لم نستطع نحن الأربعة السيطرة عليك، فإنني أعرف شخصا يستطيع ذلك! انهضي أيتها الدودة! انهضي أيتها الكاذبة! انهضي أيتها اللصة! انهضي أيتها المخلوقة الكريهة! انهضي واقفة! اذهب إلى الهاتف يا فتى الكشافة الأول واتصل برقم صفر صفر سبعة خمسة. اتصل بعربة الأجرة التي كنت أنا وسيد النحل نركبها دائما لتأتي إلى هنا سريعا. كشافة رقم اثنان، ابق مع الكشافة رقم ثلاثة. كشافة رقم ثلاثة، احتفظ بالخرطوم حيث أنت تماما. فإن تحركت فأمطرها به. لا تكن متهاونا. لم ترق كاليفورنيا للسيدة؛ فهي قاسية عليها. لذلك تريدني أن أجهز صندوق أمتعتها. أستمحيكم عذرا!» واختفى قائد الكشافة في منزل سيد النحل.
بعد الانتهاء من الاتصال الهاتفي، جر الكشافة الأول وقائد الكشافة صندوق الأمتعة بينهما إلى وسط حجرة المعيشة وألقيا فيه بملابس الدخيلة. وأزاحا أغراض الزينة من فوق خزانة الأدراج الخاصة بجيمي إلى صندوق الزينة. وانتزعا قبعة ومعطفا من خزانة الملابس، وسحبا لوازم السفر حتى الرواق الأمامي، بينما وقف جيمي ماكفارلين وجون كاري وراء سياج زهر العسل يشاهدان الأحداث شبه مشلولي الحركة.
وأسرع مما توقعا، توقفت عربة الأجرة لدى البوابة، بينما سار قائد الكشافة مثل شاب متأنق شبه مخمور يؤدي رقصة ريل الأيرلندية، يتبختر ويتمايل يمينا ويسارا، واضعا يديه على خاصريه حين لا ينهمك في التلويح بهما في الهواء موزعا حركات مستفيضة، ثم قال آمرا: «ضع ذلك الصندوق في المقعد بجوارك. وضع حقيبة السفر وحافظة الملابس في الخلف. سوف أخرج هذا المشهد كما يخرج أبي المشاهد في الاستديو الكبير. سيدي سائق سيارة الأجرة، خذ هذا المعطف وضعه على السيدة وخذ هذه القبعة وألبسها إياها، وأحطها بذراعك، وإن لم تستطع المشي، فاحملها إلى الخارج وضعها في السيارة. اتجه بسيارتك إلى محطة سانتا في مباشرة، وإن احتاجت إلى مساعدة، فساعدها في الحصول على تذكرة إلى أي مكان في بنسلفانيا تقول إنها ذاهبة إليه، ولتفعل ذلك سريعا جدا أيضا!»
وقف قائد الكشافة ساكنا حتى اختفت السيارة، ثم استدار وقال: «أشكركم أيها الفتيان! سأغيب اليوم. فلدي عمل، لكنني لن أنسى مكافآتكم، وسوف أضاعفها لكم! أؤكد لكم أنها ستكون رائعة. أفضل من سائر المكافآت. ولا ينس أحد منكم كلمة مما سمعتموه أو رأيتموه. ثمة احتمال أن تذهبوا إلى المحكمة وتخبروا قاضي الوصايا به كما قلت، أما الآن فقد انتهت حاجتي منكم وأريدكم أن تتفرقوا سريعا. سوف أكافئكم غدا ولترفعوا رءوسكم عاليا جدا؛ لأن ما حدث اليوم لم يكن تمثيلية. فقد كنتم فتيان كشافة، فتيان كشافة بحق، وقمتم بمهمة حقيقية، وقد أديتموها على أكمل وجه! تبقى شيء واحد فقط. تذكروا عهودكم المغلظة. تذكروا واجباتكم وما إلى ذلك. تذكروا أنكم إن أخبرتم أحدا، فستفصلون وتنبذون. فلتتفرقوا تصحبكم السلامة. أما أنت يا فتى رقم ثلاثة، فأرجو أن تهرع لغلق الصنبور قبل ذهابك، لأنني لا أخفي عليكم يا رفاق أن هذه المناوشة كانت شاقة جدا وأنني في غاية التعب! والآن انطلقوا في مسيرتكم معتزين بأنفسكم.»
وقف قائد الكشافة مستقيما، يراقب البوابة بينما فتيان الكشافة رقم ثلاثة واثنين، وبيل السمين الطيب وراءهم، يومئون جميعا، ويتحدثون جميعا في الوقت نفسه، إلى أن اختفوا عبر الطريق. وبعدئذ، على الفور، هبط الكشافة الصغير بوجهه على الوحل وراح يصرخ بأعلى صوته، وهو يبكي ويرتعش، صياح حاد مقتضب، صيحات مذعورة أوجعت فؤاد جيمي، فاخترق زهرات العسل وأخذ الكشافة الصغير بين ذراعيه، وجلس على المقعد أسفل شجرة الجاكرندا وقد ضم إليه حمله الصغير بشدة وراح يمطر الوجه والرأس الصغيرين بقبلات لا حصر لها.
من شأن الرجل الاسكتلندي أن يكون متحفظا في كلامه، بيد أن لسان جيمي سبقه في تلك اللحظة المحمومة.
إذ قال: «أيها الصغير! أيها الصغير الشجاع! لقد نجحت. لقد أنقذت هدية سيد النحل لنا. كان جون كاري معي هناك في الخلف وشاهدنا وسمعنا ما يكفي لإرسال تلك المرأة إلى السجن. فلا تبك بعد الآن! دعني أضمك بشدة واسترح قليلا. كان جهدا كبيرا. كان مجهودا شاقا عليك يا أيها الصغير العزيز!»
لوهلة ظن جيمي أن الحمل الذي بين ذراعيه سينطلق بعيدا عنه تماما، فقد اشتد عوده واستقام على حين غرة.
قال قائد الكشافة مستهزئا: ««الصغير العزيز»!» ثم أضاف: ««الصغير العزيز!» أظن أنك ستدعوني بعد ذلك ب «الطفل»! فذلك هو الاسم الذي نادتني به تلك الفتاة. إن ناداني أي شخص يوما في العالم مرة أخرى ب «الطفل» فسأحطم أسنانه. حسم الأمر!»
جعل قائد الكشافة يبحث عن شيء مناسب ليجفف به عينيه، ولما لم يجد، جلس ساكنا تماما أثناء استخدام جيمي منديله.
قال الكشافة الصغير مزدردا لعابه: «لا أعلم ماذا ستفعل بي. أعتقد أنني كدت أدمر حوض زهور المخملية، وكان الجزء الخاص بك هو الذي أصابه الضرر.»
فقال جيمي: «حسنا، انس تماما أمر المخملية. فبإمكاننا زراعة حوض جديد وغرس المزيد من البذور. دعك تماما من أمر المخملية! وأخبرني بما حدث.»
فقال قائد الكشافة: «كان هذا جل ما استطعت فعله للسيطرة على الخرطوم وهو مفتوح عن آخره، فقد كنت مرعوبا لدرجة الموت من أن ينفجر. فقد ظل يتلوى ويتقلب مثل الحية، وكان لا بد أن أبقيه قريبا منها؛ لأنه لو كان النحل بدأ يحيط بها حقا، لكنت سأضطر إلى صده، لكنني ما كنت سأفعل ذلك لأنه أصابها مرتين أو ثلاثا؛ إذ كان لا بد أن يصيبها بعض الأذى وإلا ما كانت ستعترف. ما كنت سآبه لو حدث التلف في الجانب الخاص بي، لكنني مستاء بشدة من تدمير جانبك. بإمكانك أن تأخذ الخرطوم في الحال وتذهب إلى جانبي وتحدث حفرة في مثل حجم الحفرة التي أحدثتها لديك.»
قال جيمي: «إنني مندهش من كلامك. أن يأتي من شخص لديه من رجاحة العقل ما لديك! كيف لحفر حفرة بالحجم نفسه في أرضك أن يساعدني في استعادة حوض زهور المخملية الخاص بي؟ ليس هذا منطقيا.»
قلب الكشافة الصغير الأمر على وجوهه، ثم نظر لأعلى نحو جيمي بعينين متسعتين متعبتين.
ثم رد قائلا: «حسنا، إنما أرى أنها مسألة عدل.»
فقال جيمي: «ربما، لكن العدل وحسن التمييز الحق لا يتفقان دائما.»
وإذا بالكشافة الصغير يبتهج. «حسنا، على أي حال لست وحدك من أصابك بعض الدمار. انظر ما الذي تجرأت وفعلته تلك الفتاة بصندوق الملكة! حسبك أن تدخل وتنظر ما فعلته بأملاكي!»
قال جيمي: «في «صندوق الملكة»؟ ماذا تقصد؟»
صاح الكشافة الصغير: «ماذا أقصد؟» وتابع: «أقصد أنها ذهبت إلى مخزن الأدوات قبل أن توصده، وأخذت المطرقة، وخبأتها في المنزل. وفتحت صندوق الملكة محطمة إياه، مستخدمة المطرقة.»
فقال جيمي: «ويحي، يا للقسوة! لكن لا تستأ. سوف أصلحه حتى إنك لن تلحظ الفرق أبدا حتى إن اضطررت إلى ترميم الجزء الأمامي كله.»
فقال الكشافة الصغير: «لقد حطمت الجزء العلوي من حول القفل حيث يعمل الزنبرك الخفي.» ثم أضاف: «الأمر وما فيه أنني لا أحب أن تحطم الأشياء ثم ترمم. أحبها وهي سليمة كما كانت حين أعطاها لك الشخص الذي تحبه.»
فقال جيمي: «حسنا، دعك من هذا. فذلك الصندوق لم يكن جديدا من الأساس. أعتقد أن عمره يقدر بنحو خمسمائة عام على الأقل، وعلى أي حال، يستطيع الناس الآن إصلاح مثل تلك الأشياء ببراعة شديدة. وما دام الكسر حول القفل فقط، فإنني متأكد أننا سنستطيع إصلاحه فلا يلحظ أحد أبدا ما كان به.»
استخدم الكشافة الصغير منديل جيمي في تجفيف عينيه الحمراوين. «فليكن إذن» جاءت موافقة الصغير في واحدة من التغيرات السريعة المعتادة منه ثم استأنف: «فليكن إذن. سوف نصلحه، غير أننا لم نكن بحاجة إلى صندوق مرمم ليذكرنا بها. فلدينا الحديقة بأكملها تذكارا من تلك السيدة!»
وعلى نحو مفاجئ شرع الكشافة الصغير في الضحك. «ويحي! ألم تبد مذهلة وسائق السيارة يلبسها قبعتها ومعطفها؟ ألم تبد السيدة أنيقة؟ ترى لو كانت نانيت قد رأتها هل كانت ستقول إنها تبدو رائعة؟»
فأجابه جيمي مقهقها.
وقال: «لا؛ لا أعتقد أن النعت المفضل لدى نانيت كان سينطبق عليها. لا أعتقد حتى أنها كانت سترى أن السيدة عند رحيلها بدت رائعة.»
فقال الكشافة الصغير: «سيتعين عليها الذهاب إلى غرفة الملابس مباشرة وتبذل أفضل ما في وسعها في وضع أصباغ الحرب والريش.»
فسأله جيمي: «هل تعتقد حقا أنها سترحل؟»
تنهد الكشافة الصغير تنهيدة عميقة. «لا آبه البتة إن ذهبت أو بقيت. فإن المهر الذي راهنت عليه بنقودي في هذا السباق يخبرني بأن تلك السيدة لن تعود إلى منحل سييرا مادري أبدا. لقد نالت نصيبها من العقاب المؤلم، وإنني على يقين من أنها لا ترجو المزيد، سواء من الخرطوم بتدفقه الشديد، أو قرصات النحل في عينها، أو أي شيء آخر! لقد حصلت على نصيبها حتى وإن كنت اضطررت إلى إتلاف زهور المخملية كي أعطيها إياه!» «أستحلفك بالله ألا تقلق بشأن حفرة في حجم حوض الاستحمام وقد تمكنت لتوك من أن تنقذ لي فدانا!»
فقال قائد الكشافة: «حسنا إذن. ما دام هذا ما تراه فأنا أوافقك فيه. هل تمانع إن لبثت هنا قليلا؟»
كان جيمي يعلم ما المقصود بذلك. المقصود أن يذهب شريكه الصغير ويعتلي نهاية فراشه ويذهب في سبات عميق، وقد رأى أن ذلك أفضل شيء ممكن. ولذلك لم يمانع البتة؛ لأنه وجون كاري كانا سيعودان لتسكين النحل. فانسل قائد الكشافة إلى الأرض. وشعر جيمي بغتة بذراعين صغيرتين نحيلتين حول عنقه تضمانه بشدة حتى شعر كأن رأسه سينخلع. ثم، وللمرة الثالثة، تلقى على خده بالضبط قبلة أخرى صغيرة وقوية وحارة أدرك أنه لن ينسى وقعها وأسلوبها أبدا.
مضى الكشافة الصغير نحو المنزل، لكن بعد بضع ياردات فقط أمسك عن الحركة، ثم التفت الصغير. وقال: «هلم! يا للحماقة! لقد نسينا الفرن! فأشياء هايلاند ماري وماري الصغيرة وسائر الأوراق المهمة غارقة وسط الرماد وقد يكون مشتعلا تحتها قبس من النار! عليك أن تحضرها سريعا، وعلي أن أفتح عليك الخرطوم أثناء ذلك! أيا كان الشيء الذي أرادت بشدة أن تحرقه، فهو بالضبط ما يجب أن يكون بحوزتنا لإثبات أننا نستحق ما أعطانا إياه. ولا يمكننا أن نخبر قاضي الوصايا ليصدقنا بذلك من دون الأوراق التي في الفرن، ولا يبدو أنك رابط الجأش بما يكفي لمعالجة أمر الفرن الآن من دون التعرض لخليط من النحل الألماني الأسود والإيطالي والألماني، يهجم دون مقدمات!»
فقال جيمي: «اذهب أنت في سبيلك. فسوف أرتدي الملابس الخاصة بالنحل. وربما أرتدي فوقها معطف المطر، ومن المحتمل أن أضع قناع النحل بما أن الحال مضطربة، لكن لا تقلق، فسوف أصل إلى الفرن وأخرج كل ما فيه. ولن أتوقف لأسكن النحل حتى يصبح كل شيء على طاولة المطبخ موزعا عليها ليجف.»
أسرع جيمي إلى الرواق الخلفي ليعد نفسه، وبينما كان يدور حول زاوية المنزل، جاء جون كاري مرتقيا السلم الخلفي مخلفا رمادا في أثره، حيث وضع الفرن في الرواق الخلفي. «رأيت أنه من الأفضل أن أحضره ونترك الأشياء لتجف تماما. لم أرد أن نخرج أيا من الأشياء مخافة فقدان شيء أو ضياعه. وأريدك أنت أن تفعل ذلك بنفسك.»
فدخل جيمي إلى حجرة المعيشة وهتف قائلا: «لقد أحضر جون كاري الفرن من أجلنا. إن لديه مناعة من النحل بحق!» «إنني على يقين من ذلك»، جاء صوت الكشافة الصغير، لكنه بدا مكتوما كأنه صدر منه وكأنه قد دس رأسه في الوسادة.
جمع الرجلان بعض المناشف الناعمة وجعلا يعملان حثيثا، فجففا الوثائق والدفاتر المصرفية والأوراق المهمة والخطابات والصور التي عثرا عليها، ووضعاها على طاولة المطبخ. ثم أسرعا إلى السقيفة لإعداد قفائر جديدة للنحل الذي غادر قفائره. وحين وصلا إليه، كان نحل السربين اللذين قد خرجا رابضا على فروع الأشجار حول ملكاته ولا يحتاج إلا إلى القليل من الدخان ليفقده الحس حتى يسهل تنظيم عملية انتقاله. أما النحل الألماني الأسود، فهو ما زال هائجا، لكنه ربض بعيدا، بينما جعلت الشمس الحارة تجفف محيط قفائره سريعا ، وقد توقف ضجيج الخرطوم، وزالت الرائحة التي نفر منها، فأخذت ثائرته تهدأ بالوتيرة المتوقعة من نحل عصبي المزاج.
وأثناء عملهما، راح الرجلان يتبادلان الحديث؛ أحاديث لاهثة، عبارات دهشة في أغلبها. فكان مما يسمعه المنصت لحديثهما، كلام في فحواه مثل: «يا للعجب! لقد أخضعها ذلك الكشافة الصغير وحده وجعلها تعترف! إنني لأدفع خمسين دولارا لأرى المشهد بأكمله!»
كان هذا كلام جون كاري.
فقال جيمي: «إنه يستحق أكثر من ذلك.» «لقد تجنبت غالبا دعوى قضائية كانت ستستمر شهورا وتكلفك أموالا طائلة وتثير الكثير من الدعاية السيئة.» «بعد أن نجهز هذا النحل سأذهب إلى منزل مارجريت كاميرون وأرتب كل شيء هناك وأستعيد أغراضي. فقد كنت أنوي البقاء هناك إلى حين عودة مارجريت.» «كان من الحماقة أساسا أن تسمح لتلك الشخصية بدخول المنزل، ثم تغادره تاركا لها الأشياء!»
ابتسم جيمي، ابتسامة اسكتلندية بطيئة.
ثم قال: «لتعلم أننا لا نعرف من أمور أنفسنا في هذا العالم شيئا. فقد كنت أظن أنني لم أستحق هذه الأرض، وأنها ليست من حقي، وأنها من حق شخص تربطه به صلة دم؛ لم أظن أنني متعلق بها، لكنني حين خرجت منها وشرعت في محاولة التنازل عنها وجدت أن خسارتها تكاد تقتلني. صدقني؛ إنني لن أتنازل عنها بعد الآن لأي أحد، وهذا قرار نهائي!»
من ثم أسكنا النحل الذي غادر قفائره، وتفحصا القفائر الأخرى لإزالة الملكات القديمة وتدمير خلايا الملكات والبحث عن أنسجة عثة على الأقراص، وحين أصبح كل شيء في موضعه المناسب عاد جون كاري إلى منزله، وأخذ جيمي جاروفا وبدأ إصلاح التلف في حوض المخملية. ثم ذهب لينظف منزل مارجريت كاميرون، واستعاد بعض أغراضه بقلب مفعم بالامتنان حتى إنه تذكر فجثا على ركبتيه وشكر الله.
حين استيقظ الكشافة الصغير في منتصف وقت ما بعد الظهر، كان جيمي في انتظار إعادة أغراضه إلى خزانة الأدراج وخزانة الملابس. ثم ذهبا إلى المطبخ وجمعا أغراض سيد النحل، التي كان الهواء البارد الجاف قد أتى أثره عليها، فأعاداها بحرص إلى الصندوق، وأعادا الخشب المهشم في مكانه، وقيما التلفيات. خطر لجيمي أنه قد يعثر على رجل يستطيع إصلاحه بمهارة شديدة فلا يدرك أحد أن ذلك الصندوق الجميل كان قد تحطم. ثم ذهب إلى حجرته ليعلق ملابسه ويعيد أشياءه إلى خزانة الأدراج.
لم يعهد أحد يوما قائد الكشافة الصغير وهو يضيع أي وقت. فلم يكن في هذا الجسد الصغير ذرة كسل. ومن ثم حصل جيمي على مساعدة في تطبيق الأوراق ووضعها في الصندوق. وكذلك أيضا في إعادة قمصانه وملابسه الداخلية وجواربه في أماكنها الصحيحة. وحين بلغا الصرة الصغيرة، محكمة الربط، دس قائد الكشافة يديه الصغيرتين تحتها ورفعها، ثم نظر إلى جيمي بعينين متسائلتين. «تبدو مثل متعلقات نسائية.»
ابتسم جيمي للتعليق. «إنها «متعلقات نسائية». إنها أشياء تخص أم جيمي الصغير.»
وقف الكشافة الصغير ساكنا جدا وهو يحمل الصرة نحو جيمي، ورأى جيمي شفتيه تفتران فعرف أنه سيسأله على النحو التالي: «هل يمكنني أن أرى ما بداخلها؟» لكن بطريقة ما لم يشعر أنه يطيق لمس تلك الأشياء. فمد يده وقال على عجالة: «سوف أسمح لك يوما ما برؤية ما بداخل تلك الصرة.» ولم يخطر للكشافة الصغير أن جيمي نفسه لا يعرف ما بداخلها. ومن ثم أعادا الصرة داخل الدرج وغطياها بالملابس، ثم ذهبا إلى بقالة الزاوية واشتريا ما أسماه الكشافة الصغير «لوازم الاحتفال».
وبعد أن فرغا من «الاحتفال»، وأخبر جيمي بكل تفاصيل ما حدث في الصباح، نهض الصغير عن الطاولة وساعده في رفع الطعام ومسح الصحون.
تساءل جيمي: «والآن ماذا نفعل؟»
فقال الصغير: «حسنا، إنني لا أدري ما الذي ستفعله، لكنني أعلم ماذا أنا فاعل. سوف أذهب إلى المنزل لأمي وجيمي. فقد كنت أرعاه كثيرا في الأيام القليلة الماضية حتى إنه بات يألفني أكثر مما يألف أي شخص آخر، ويحبني أكثر أيضا. وأصبحت الآن أعرف كيف أجهز زجاجته، وأجعل حرارة الحليب مناسبة له مستخدما ميزان الحرارة وسائر تلك الأشياء. وأستطيع الاعتناء به بنفسي في الأمور الأخرى إذا اضطررت إلى ذلك. لقد اقتربت جدا من ذلك، على أي حال.»
فأشار جيمي قائلا: «لكن ذلك من عمل الفتيات.»
فقال الكشافة الصغير: «أجل، أعلم ذلك، ولأنه العمل الذي يجدر بالفتيات أن يقمن به بالفعل، فمن الغريب نوعا ما أنني أرغب في القيام به، لكنني أريد حقا الاعتناء بجيمي. فأنا أرغب بشدة في رعايته حتى إنني بالكاد أطيق أن أرى أمي تلمسه. إنه شيء غريب جدا. كنت أظن أنني أحب الخيل أكثر من أي شيء آخر في العالم، لكنني لست كذلك الآن. فإنني أحب جيمي شقيقي أكثر من الخيل، وأحب جيمي ابنك كما أحب شقيقي. أعتقد أنني أحبه مثله بالضبط، ولا أكترث البتة من يراني وأنا أعتني به. وذلك أمر غريب أيضا. فإن الفتيات لا يثرن اهتمامي. وليس بيني وبينهن شيء مشترك. ولا أستطيع أبدا أن أفكر في شيء لأقوله لهن. ولا أعرف كيف ألعب معهن، ولا تروق لي الأشياء التي يفعلنها على أي حال. إنهن واهنات جدا. ولسن مفعمات بالحماس. فلا يحدوهن حماس ولا نشاط. ولا يلعبن لعبة الهنود أو اللصوص أو رجال الشرطة أو الكشافة.»
فقال جيمي: «مهلا، ارجع عما قلت.» وتابع: «إنك مخطئ. الفتيات يلعبن لعبة الكشافة. بل إنهن لا يلعبنها فقط، وإنما هن من الكشافة، وأن تفعل الشيء خير من أن تدعي فعله تحت أي ظرف. هناك معسكرات لفتيات الكشافة وهناك فتيات يستطعن امتطاء الخيل والتصويب بدقة والصيد وفعل كل ما يفعله الفتيان، بل فعل بعض الأشياء أفضل من الفتيان، وكلهن فخر أنهن فتيات.»
لم يبد على الكشافة الصغير تأثر بالغ. «أف للفتيات! إنني لا أحبهن مطلقا! لكنني ذاهب إلى المنزل وسأقوم بعمل الفتيات لأنني أريد أن أتأكد بنفسي أن جيمي على ما يرام. إنه صغير ولطيف للغاية. يا إلهي! سوف تحبه! ويحي! سوف يسرك أنك رزقت به!»
سأله جيمي: «هل سأسر حقا؟» «بالتأكيد! لا بد أن ترى أبي وهو مع جيمي شقيقي. إنما هو مهووس به. فهو يقول إن جيمي شقيقي قد فاق كل أطفال العالم.»
سأله جيمي: «وهل تعتقد أن جيمي ابني لديه فرصة أن يصبح طفلا طيبا هكذا؟»
فقال الكشافة الصغير: «لا أعتقد أي شيء بهذا الشأن. إنني على معرفة جيدة بكليهما وليس هناك ما يعيب جيمي ابنك. إنه لا يبكي ولا يثير ضجة. إنما هو يتناول طعامه ويخلد للنوم ويظل راقدا رقيقا جدا وساكنا جدا حتى إنه يكاد يمزق قلبك أنه لا يملك من أمره شيئا، وليس لديه أم لتحتضنه. وإنه يستحق بعض الرعاية، وسوف أذهب لأتأكد أنه يحصل عليها.»
فقال جيمي: «نعم، لقد خطر لي ذلك أنا أيضا. لا شك أنه مسكين صغير لا حول له ولا قوة.»
فقال قائد الكشافة مؤيدا له بشدة: «أجل، إنه كذلك. إنه مسكين صغير لا حول له ولا قوة. وهنا تأتي وظيفتنا؛ لذلك لا بد أن نباشر عملنا ونتعهده برعايتنا.»
فقال جيمي: «حسنا، سنباشر عملنا ونرعاه. فلتفعل أفضل ما في وسعك بضعة أيام أخرى حتى تعود مارجريت كاميرون.»
عند ذكر مارجريت كاميرون نظر كلاهما في اتجاه منزلها، فرأياها في اللحظة نفسها وهي تدخل من بابها الخلفي وتتحرك في أنحاء الجزء الخلفي من منزلها.
هتف الكشافة الصغير: «عجبا، ها هي قد أتت!» ثم أضاف: «هل أذهب إليها وأخبرها بأمر جيمي وأسألها إن كانت ترضى أن تأخذه؟»
فقال جيمي: «لا، لنمهلها وقتا لتخلع قبعتها وترتب منزلها، فربما ما اعتبرته ترتيبا لن تعتبره هي كذلك. سوف أتحدث إليها هذا المساء، ثم أهاتفك لأبلغك بما قالته.»
فقال الكشافة الصغير: «حسنا.»
ربما تحتوي تلك الكلمة على السر الذي اكتسب به الكشافة الصغير أصدقاء عدة؛ فهو كشافة صغير محبوب. إذ لم يكن في عالم ذلك الشخص الصغير وقت للمجادلة. فقد طبق الدرس نفسه الذي تلقاه في تدريب الكشافة على حياته الشخصية. لقد تعلم قائد الكشافة كيف يطيع. ومن ثم راقب جيمي الجسد المبتعد عبر الطريق والمتجه إلى الترام، مستعدا لتولي مهام الفتيات في هذا الموقف؛ لأن «المسكين الصغير كان بلا حول ولا قوة». فابتسم جيمي على نحو مفاجئ ومضى لمقابلة مارجريت كاميرون.
الفصل التاسع عشر
مسئولية الصديق
وقف جيمي عند الباب الخلفي لبيت مارجريت كاميرون وهتف بمرح قائلا: «أين كنت طوال المدة الطويلة الماضية، يا أيتها الجارة؟»
تقدمت مارجريت كاميرون إلى باب حجرة المعيشة واستندت بيديها إلى جانبي إطار الباب، فأصابت جيمي صدمة هزته حتى الأعماق. وما لبث أن عبر الحجرة في خطوة واسعة سريعة ليتلقفها بين ذراعيه.
وهو يصيح: «أوه، مارجريت! مارجريت!»
أمسكها بعيدا عنه لينظر إليها، فبدا وجهها وجه امرأة في مصيبة. لكنها كانت أمامه. وهي في حالة جيدة. فلم يخطر على باله سوى شيء واحد.
فسألها: «هل هي لولي؟» وتابع: «ماذا حدث لابنتك؟»
فتحت مارجريت كاميرون فمها، لكن لم تخرج منه كلمات. ساعدها جيمي حتى جلست على مقعد وهرع إلى المطبخ ليأتي بكوب ماء. ثم جثا على إحدى ركبتيه بجانبها وأخذ بيديها بينما يحدق فيها بعينين متسائلتين.
وجعل يحثها قائلا: «أخبريني يا صديقتي. أخبريني ما الذي يمكنني أن أفعله لك. أين أذهب؟ بمن أتصل؟»
على مهل هزت المرأة رأسها، وأخيرا جاء صوتها، صوت مبحوح أجش لم يألفه من قبل. «لقد ذهبت في تلك الرحلة للتجوال في شمال الولاية. وسقطت من فوق منحدر وأصيبت إصابة بالغة. لم يدرك أحد مقدار خطورتها. إذ كانوا في مكان لا يمكنهم فيه الحصول على أي شيء. لا بد أنه كان التهاب الزائدة الدودية أو التهاب الغشاء البريتوني. كان جسدها بأكمله مضمدا. على أي حال، إن لولي الآن راقدة بجوار أبيها في مقابر باينهيرست.»
صاح جيمي: «أوه. أوه!»
هبط إلى الأرض وأمسك بيدي مارجريت كاميرون وجلس يحدق فيها.
فقالت من فورها: «لقد تلقيت اتصالا هاتفيا من ابنة صهري، مولي، تريدني أن آتي عاجلا لمسكنها في البلدة؛ لأنها قلقة بشأن لولي. قالت ذلك لأن هذا من شأنه أن يجعلني أذهب إلى هناك. لا بد أنهم قد أبلغوها بأن لولي كانت قد رحلت. كانت مولي قد أرسلت إليها خطابا وقد حصلوا على العنوان منه وأرسلوا لولي إليها. لقد كانتا دائما، ليس شقيقتين، وإنما أقرب من شقيقتين. لو كانتا شقيقتين ما كانتا ستنسجمان مثلما كانتا منسجمتين. لقد ظللت مستاءة من مولي وقتا طويلا. فقد ظننت أنها ضالعة بدرجة كبيرة في موت لولي، لكنها ربما لم تكن كذلك. ربما كنت متألمة للغاية من رحيلها حتى إنني تخيلت ذلك فحسب. فالأم كما تعلم تفكر كثيرا جدا، وأبناؤها هم قرة عينها حتى إنها لا تملك ألا تنشغل بهم ولو كلفها ذلك حياتها. لكنني لم أعد بحاجة إلى القلق بشأن لولي بعد الآن. فلم يعد بيدي شيء لأفعله لها على الإطلاق.»
وجلست ساكنة في حالة من الاستسلام الذي خلا من الدموع.
فأمسك جيمي بيديها.
وقال: «فلتبكي! ابكي ملء جفنيك على الأمر!» وتابع: «ضعي رأسك على كتفي ودعيني أضمك بشدة. ما دام الأمر يمزقك أشلاء فمن الأفضل أن تبكي على أن تجلسي بلا دموع هكذا.»
هزت مارجريت كاميرون رأسها.
وقالت: «أعتقد أن جرحي أعمق من أن يطيب بالدموع. أعتقد أنني أشبه بمن قتل. ليته كان لدي شيء أفعله بخلاف الأعمال المنزلية اليومية، شيء مختلف، شخص يحتاج إلي! أردت أن تعود مولي معي، لكن بدا أن لديها أشياء تستدعي أن تمكث في البلدة، فأرادت هي أن أبقى معها؛ لكن رغم بشاعة المنزل الآن ولولي لن تعود إليه مجددا أبدا فإنني لا أراني قادرة حتى على التفكير في مغادرته. لقد كان مصابي أليما جدا، لخسارتي جاري وكل الضوء والحب والمرح الذي كان في حياتي وبيتي. وأنا لن أتحرج من إخبارك يا جيمي بأن سيد النحل لم يحبني البتة. فقد كان قلبه محطما من ناحية النساء.
لا أعلم كل التفاصيل، لكنني أعلم المهم. فقد كان متزوجا من زوجته الأولى التي يعشقها، وبعد موتها استسلم لخداع امرأة أخرى أوهمته أنها سترعى طفلته وتعطيه أسرة وتواسيه. لكنها لم تكن امرأة مناسبة وقد جاءته ومعها ابنة، ثم وقعت مأساة ألمت بابنة سيد النحل الصغيرة. لا أعتقد أنه استطاع إثبات ما حدث، لكن أظن أنه كان يشعر في سريرة نفسه أن الطفلة الأخرى قد دفعتها كي تموت، وحين وصلوا إليها كان عمودها الفقري قد أصيب ولم تستطع السير مرة أخرى أبدا. وكان عذابها رهيبا حتى إنها لم تستطع تحمله طويلا. وحين ماتت ترك كل شيء لتلك المرأة مستبقيا ما يكفي لشراء هذا المكان، ثم طلب من المحكمة أن تمنحه حريته كي يطلقها ثم جاء إلى هنا. كان حرا بعد أن طلقها وكان باستطاعته أن يتزوجني، لكنه لم يرغب في. لم يرغب في أي امرأة بتلك الطريقة. لقد نال عقابه. فقد أنهكه الأسى والإحباط. إنه لم يحبني، لكن آه، يا جيمي! لقد أحببته! لم أستطع أن أمنع نفسي من حبه. وكلما نظرت إلى مقعده بجانب المدفأة، رأيت شعره الأبيض الحريري، وجبهته الشماء، ووجهه النحيف النحيل الرقيق مثل الورق المصنوع من الجلد، دوما كريم، ودوما صبور ... كنت على استعداد للتضحية بحياتي لمواساته! وحين أدركت أن هذا لا يمكن أبدا، رحلت لولي، رحيلا مباغتا ومن دون أي داع.
إنني لا أستطيع أن أفهم ما حدث يا جيمي! لم يكن ثمة سبب يستدعي رحيلها عن ديارها. فقد كانت درجاتها جيدة دائما. وكانت متفوقة في دراستها. وقد عرض عليها وظائف هنا مع نهاية الحرب حين كان المدرسون قليلين جدا، حين كان العديد جدا من الفتيات يفضلن حرية العمل في المتاجر والمكاتب على قيود التدريس. لا أستطيع أن أجد مفرا من حقيقة أنها رحلت لأنها لم ترد البقاء في المنزل. لم ترد البقاء قربي، ولا أعلم السبب. فقد كنت أمضي الأيام وأسهر الليالي وأنا أحاول التفكير في أشياء ترضيها، لكنني لم أستطع مواكبة التطور. لا أستطيع الإقرار بأن الكثير من الأشياء التي يفعلها الشباب صحيحة. ولا بأنهم لن ينتهي بهم الحال في مهانة وألم وربما موت، وها هي قد لاقت حتفها ومن حادثة تافهة هينة فحسب. لا بد أن قدمها زلت على الجبل، وذلك ما لا أستطيع استيعابه. فقد كانت قدمها راسخة مثل الماعز. فقد قضت حياتها كلها على الجبال. آه يا جيمي، لا جدوى من ذلك كله. ماذا أنا فاعلة؟»
عندئذ تردد جيمي.
ثم قال: «لقد جئت إليك، يا مارجريت، لأخبرك بقصة مفجعة، لكن ما سأحكيه يبدو هينا مقارنة بما تقاسينه.»
استقامت مارجريت كاميرون في مقعدها. وسحبت يديها من بين يدي جيمي ووضعت إحداهما على رأسه.
وصاحت: «آه، يا بني، يا بني المسكين!» وتابعت: «هل فعلها ذلك الجرح الفظيع وانفتق مرة أخرى؟ هل سنضطر إلى أن نعيد الاعتناء به مجددا؟»
أسرع جيمي ليطمئنها: «لا! لا!» ثم أضاف: «ليس ذلك. إن جانبي على ما يرام. وإنني متأكد بدرجة كبيرة أنني لن أضطر إلى وضع ضمادات أو أربطة لمدة تزيد عن شهرين أو ثلاثة أشهر أخرى. لم أستطع أن ألتزم تماما بالنظام الغذائي منذ غيابك لأنني لا أجيد الطهو على نحو جيد؛ لذلك لم يتيسر لي الحصول على ما كنت بحاجة إليه.»
راحت مارجريت كاميرون تمسد شعره.
وقالت: «أعتقد أنك كل ما تبقى لي يا جيمي. أعتقد أنك صرت شغلي الشاغل. إن بقائي في المنزل لهو الجحيم بعينه والأشد عذابا هو مغادرتي إياه. لا أظن أنني قادرة على الذهاب إلى مولي. إن أرادت هي أن تكون معي، فستضطر إلى أن تأتي إلى هنا. وأما أنت يا فتى، فإن لم يكن جنبك ما يتعبك فما هو؟»
فأخبرها جيمي بالأسلوب الاسكتلندي الموجز. «لقد تزوجت من فتاة إبان قدومي إلى هنا. ومنذ بضعة أيام وضعت طفلها في مستشفى ستار أوف ميرسي، لكنها لم تكن بالقوة الكافية لتنجو. ولم يتبق لي منها سوى الطفل.»
فأبعدته مارجريت كاميرون وراحت تنظر إليه بهدوء.
وقالت: «مهلا يا جيمي، ذلك شيء لا أستطيع فهمه. لماذا لم تأت بها هنا في الحديقة؟ لماذا لم تجعلني أرعاها هي الأخرى؟ ربما لو كانت اتبعت نظاما غذائيا صحيا ووجدت الرعاية التي تجدها الفتاة لدى أمها، لما كان حدث ذلك.»
فقال جيمي: «كلها احتمالات لا تجدي أي نفع الآن. فقد أملت علي الظروف ألا آتي بها إلى هنا. المهم أنها قد رحلت وتركت لي فتى بديعا يدعى جيمس لويس ماكفارلين، الابن.» «في المستشفى؟ هل هو في المستشفى؟»
فأجابها جيمي قائلا: «لا. فقد أخبرتهم قبل أن أصل إلى هناك أنها تريدني أن أحتفظ به، وأنها تريد تسميته باسمي. وقد جهزوه تماما ووضعوه بين ذراعي، ومن دون أن أدري ماذا أنا فاعل، خرجت به. إنني من فصيلة البشر نفسها التي أنت منها يا مارجريت. إنني أعود لمكاني، للمكان الوحيد الذي لدي، للمكان الوحيد الذي يعرفني أو يحتاج إلي على وجه الأرض. لم يمض علي وقت طويل فيه، لكن ما دمت أعيش في هذه البقعة فستظل لي سكنا. ومن ثم عدت إلى داري ومعي طفل صغير حديث الولادة.»
هنا نهضت مارجريت كاميرون.
وسألته: «هل هو هناك في المنزل؟» وتابعت: «هل تحاول أن ترعاه بنفسك؟»
هز جيمي رأسه نافيا.
وقال: «لا، لم أستطع فعل ذلك.» وأضاف: «فإن يدي غليظتان ومرتبكتان. ولست على دراية كافية. كان الكشافة الصغير هنا فذهب إلى الهاتف وأجرى مكالمة، وبعد نصف ساعة جاءت السيدة ميريديث. فلديها طفل صغير ويبدو أن وجود واحد آخر لم يزعجها.»
صدر عن مارجريت كاميرون صوت غريب، شهقة مبهمة كان ليظن أنها ضحكة مقتضبة لو لم تكن في حال أتعس من أن تضحك.
ثم قالت باقتضاب: «لا؛ لن يزعج طفل آخر تلك المرأة! فقد سمعت عنها. عند ولادة طفلها الأول كان في المستشفى نفسه طفل يعيش على الصدقات وطفل ثري صغير وكان كلاهما يتضوران جوعا، وقد أرضعتهما طوال الوقت الذي أمضته هناك، مع طفلها فأنقذتهما. لقد ساعدتهما خلال مرحلة حرجة حيث استطاعا الحصول على التغذية السليمة والاستفادة منها، وبعد ذلك استطاعوا أن يستمروا في تغذيتهما. وحين جاء طفلها التالي كان هناك طفلان آخران يتضوران جوعا وقد أخذتهما في كنفها وشاركتهما غذاء طفلها. وحين جاء طفلها الثالث كانت إحدى النساء ولدت ولادة قيصرية قبلها بعدة أيام فعاش الطفل لكن لم يكن هناك لبن لإرضاعه، فأرضعته كما أرضعت طفلها. إن السيدة ميريديث لا تتوانى عن فعل أي شيء لأي طفل، ذلك مما تستطيع أن تعول عليه. وليس من الصعب أن تعرف من أين جاء الكشافة الصغير بالكثير من الصفات المحببة، بيد أنه ما دام لديها طفل صغير لترعاه فإنها ليست بحاجة إلى طفلك. قد تكون هذه هي المهمة التي كنت أبحث عنها. قد يكون وجود كائن حي بحاجة إلي هو الشيء الذي سيساعدني على تجاوز محنتي. فلتذهب وتأت بصغيرك يا جيمي، أحضره لي.»
نهض جيمي وذهب إلى الهاتف. حيث اتصل بالسيدة ميريديث وطلب منها أن تعيد الطفل إليه. فقد عادت مارجريت كاميرون وهي على استعداد لأن تقوم على رعايته. وسرعان ما ظهرت في الشارع سيارة بنية صغيرة. ووقف جيمي عند البوابة يشاهدها آتية. كانت السيارة بلون شعر المرأة التي تقودها. كانت عيناها نجلاوين ولامعتين، متألقتين بابتسامة. وفي المقعد الأمامي بجانبها جلس الكشافة الصغير، حاملا اللفة بحرص. أخذ جيمي ينظر إليه بفضول متسائلا ما كان سيدور في رأسه وكيف كان سيشعر لو كان ذلك الطفل ابنه بحق.
في محاولة لتوفير العناء على مارجريت كاميرون مد جيمي ذراعيه لتناول الطفل، لكن السيدة ميريديث كانت شخصية لطيفة الطبع. وأصرت على أن توصل الطفل بنفسها. كان لا بد أن تبسط ملابسه وتشرح كيف استخدمت أغراضه. فقد شكت أن مارجريت كاميرون، التي لم تنجب منذ أكثر من عشرين عاما، ستعلم كيف تدهن الطفل وتلبسه الملابس المناسبة وتحمله بالطريقة المناسبة للزمن الحالي. فإن عشرين عاما مدة طويلة والعلم يتوصل إلى أشياء عدة في تلك المدة الزمنية. كانت في غاية من كرم الطبع، وغاية من انشراح الصدر، راضية جدا عن نفسها لرعايتها الطفل حتى عادت مارجريت كاميرون، حتى إنها لم تلحظ وجه المرأة في شحوبه وذبوله، المرأة التي كادت لا تعرفها من الأساس. وقد صدمت مارجريت كاميرون عتيقة الطباع حين وضعت بين ذراعيها طفلا لا يرتدي ملابس تحتانية من الصوف الناعم، وبقدمين حافيتين يركل بهما، ورداؤه لا يتعدى قدميه. فبدا لمارجريت كاميرون أن الشيء الوحيد الذي فعلته السيدة ميريديث على غرار ما كان للأطفال قديما هو الحرص على تغطية عيني الطفل، لكيلا يمتد إليهما الضوء الساطع.
رفعت مارجريت صوتها اعتراضا.
وقالت: «أين ملابسه التحتانية الصوفية؟» فلوحت السيدة ميريديث بيديها في حركة معبرة تعرفت عليها مارجريت وجيمي في الحال.
وردت عليها ضاحكة: «إنه لن يرتدي ملابس تحتانية صوفية!» وتابعت: «إذ لم يعد أطفال كاليفورنيا يرتدون الملابس التحتانية الصوفية. فهي تشعرهم بحرارة شديد وتحك جلودهم الرقيقة وتجعلهم يتضايقون ويبكون.»
قالت ذلك وجلست على الأريكة وفتحت سلة الأطفال التي جاءت بها وعرضت الأدوات التي كانت تستخدمها في العناية بجيمس لويس ماكفارلين، الابن، خلال الصباح.
وجلست مارجريت تحدق. فأصغت إلى ما قيل. وشاهدت ما فعل. وتفحصت الطفل ثم هزت رأسها.
ثم قالت: «إن أخذت هذا الطفل، يا جيمي، وحاولت رعايته بهذه الطريقة ومات، هل تحملني وزره؟»
وهنا ضحك جيمي والسيدة ميريديث ما شاء لهما الضحك.
فقال جيمي على سبيل الوعد: «كلا، لن أحملك وزره، وبما أن السيدة ميريديث قد وفقت كما يبدو مع صغيرها الذي لا يكبر جيمي صغيرنا بشهور كثيرة، فلنا أن نجرب ما تقوله. أما الأشياء التي معها هنا فهي الأشياء التي صنعتها أم الطفل من أجله. إنك ترين أنها قصيرة. لكنها كانت تريد استخدام الأردية والملابس الصغيرة التي صنعتها.»
فقالت السيدة ميريديث: «أجل، بالقطع، كل هذه الأشياء أحضرها السيد ماكفارلين من المستشفى.» ثم قالت متوجهة إليه: «هل لديك المزيد؟»
فقال جيمي: «أجل، يوجد. لكن الممرضة قالت إن الصرة الصغيرة بها أغراض شخصية تخص أم الطفل. إنها في الدرج الأوسط في خزانة الأدراج يا مارجريت. متى احتجت إلى شيء غير موجود فربما تجدينه هناك. لست قادرا بعد على محاولة الخوض فيها بنفسي، لكنني لا أبالي بأن تبحثي فيه لتري إن كان فيها أي شيء ربما يحتاج إليه الطفل.»
فقالت مارجريت: «حسنا، لا بد أن أقول صراحة إنني مندهشة! فإنني متأكدة أنه سيلقى حتفه. إنني متأكدة أنه سيصاب ببرد ويموت جراء التهاب الحنجرة. فإنني أعتقد أن الأطفال والملابس التحتانية الصوفية لا ينفصلان.»
فقالت لها السيدة ميريديث ضاحكة: «حسبك إزالة حرف النفي. تخلصي من حرف النفي وقولي إنهما «منفصلان!» إن طفلي الصغير أفضل طفل سترينه أبدا. فإنه لا يصرخ من المغص المعوي ويحرمنا النوم ليلا. ويزداد وزنا حتى صار وجهه مستديرا مثل البدر. ولا نشعر به في المنزل مطلقا إلا إذا شعر بالجوع أو احتاج إلى اهتمام، فإنه مثل سيد نبيل صغير يعلمني في الحال حين يكون بحاجة إلى اهتمام. أما فيما عدا ذلك فإنني لا أشعر أن لدي طفلا صغيرا البتة. فلتجربي الطريقة الجديدة مع جيمي الصغير الآخر؛ جربيها معه، وإن لم تجديه في حال أفضل وأسهل في رعايته، أقل مشقة في كل شئونه، وأكثر سعادة، فعندئذ تستطيعين استدعاء الطبيب لتتبيني ما الأفضل له.»
ثم توجهت بحديثها إلى جيمي. «لا بد أن تعد فراشا من نوع ما من أجله. ولا بأس إن أحضرت سلة ملابس. فوضعت بها بضع وسائد ووضعت عليها شيئا على سبيل البطانة. سوف يأتي لك صغيرنا الكشافة بوسادة رخوة تماما من أجل رأسه. فلدى صغيرنا جيمي وسادتان أو ثلاث. وبإمكانه دائما أن يتقاسم أشياءه مع طفل آخر، وأعتقد أن لديه ما يكفي من الأغطية الصغيرة حتى إنه من الممكن الاستغناء عن بعضها، ويوجد الكثير من الملابس في تلك الحقيبة. وسيظل عدة شهور دون أن يحتاج إلى أي شيء، إلا إذا نما حجمه سريعا حتى تضيق عليه.»
ونهضت وذهبت إلى الهاتف، فتناولت قلم رصاص مربوطا بسلك وعلى هامش قائمة معلقة هناك كتبت رقما. «ذلك رقمي، اتصلي وستجدينني عندك في الثامنة صباحا، أو الثانية عشرة ظهرا، أو السادسة مساء. إذا طرأت مشكلة، هاتفيني وسوف آتي في الحال لأرى ما في وسعي فعله لأساعدك.»
ثم حملت الطفل وضمته إليها بشدة وقبلت وجهه الصغير ويديه وانتهت بقدميه، ثم ناولته لمارجريت كاميرون. رافق جيمي السيدة ميريديث والكشافة الصغير في عودتهما إلى السيارة. وبينما كان يغلق الباب، مال قائد الكشافة إلى الأمام ووضع يده على يد جيمي ورفع شفتيه يريد أن يقول شيئا. فاقترب جيمي بأذنه منه.
فسأله هامسا: «هل أخبر أمي بشأن تعدي فتاة سانتا تلك على حديقتنا؟»
ارتد جيمي إلى الوراء ونظر إلى الصغير في اندهاش.
وسأله: «ألم تخبرها؟»
فهز الكشافة الصغير رأسه بشدة نافيا. «لا. لقد قلت إنها قد تقلق، ورأيت ألا أخبرها حتى يأتي أبي، لكنه سيأتي الليلة.»
فقال جيمي: «حيث إن المسألة برمتها قد انتهت، فلا يوجد ما يستدعي القلق. فإنك لم تترك للسيدة حجة لتستعين بها. وجعلتها تعترف أمام ثلاثة شهود ثقة، وتصادف أنه كان في الخلفية شاهدان آخران لم تعرف بوجودهما. وبحوزتنا الأوراق، وذلك يذكرني بأنه ما دام قفل الصندوق مكسورا فمن الأفضل أن أراجع ما بداخله وأنتقي الأشياء المهمة بحق لأضعها في مكان آمن. أعتقد أنه من الأفضل أن أسلمها للسيد ميريديث.» «ما الذي تتحدثان عنه؟» استفسرت السيدة ميريديث.
فقال جيمي: «حيث إنني لم أشهد المشهد كاملا فمن الأفضل أن يقص عليك الكشافة الصغير ما جرى من البداية للنهاية، وإن كان بإمكاني إضافة أي تفاصيل مما رأيته وسمعته بنفسي، فسيسرني أن أتقدم بكل ما لدي من أدلة مصدقة.»
ومع تحرك السيارة سمع جيمي صوت الكشافة الصغير وهو يقول: «منذ مدة طويلة، أخبرني سيد النحل ذات يوم حين كان حزينا ...» وهذا هو ما سمعه من القصة. لكن ما رآه منها كاف بالنسبة إليه. ومن ثم عاد إلى المنزل وهو يضحك ومن دون أن يدرك أن مارجريت كاميرون تتوقع أن يكون في حداد. وقد رأى الدهشة في عينيها فاعتدل وجهه عن الابتسام في الحال. وسريعا ما فرضت صراحته الاسكتلندية نفسها.
فقال: «مارجريت، لا أنوي الاستمرار في خداعك. ثمة أشياء لا أريد الخوض فيها لأنني لا أفهم من أمرها ما يكفل أن أوضحها لأي شخص آخر. لكنني سأخبرك بما لدي. لقد رأيت الفتاة التي تزوجتها مرة واحدة فقط، وعرفت من أمرها أقل القليل قبل زواجنا، ولم أرها بعد ذلك إلا عند رحيلها عن العالم. هذا الطفل يحمل اسمي وقد ترك لي، وسوف أبذل ما في وسعي لتربيته على النحو الصحيح، لكنني لست في حداد على أمه، ولا تتوقعي مني إظهار أي مظهر من مظاهر الحزن العميقة؛ لأنني لا أستطيع ذلك ما دمت لا أشعر به.»
وقفت مارجريت كاميرون جامدة، تنظر إلى الطفل.
وقالت: «لا تبدو تلك القصة لائقة بك يا جيمي، لكن إن كنت على أي وعي بمسئوليات الصديق فهي في أغلبها التزام الصمت وفعل الأشياء التي تعود بأكبر قدر من المنفعة. وأنا أود بالطبع أن أعرف كيف كانت تبدو أم هذا الطفل، وأي نوع من الفتيات كانت، لكنني أظن على أي حال أنها كانت تشبه الطفل حيث إن الصبية في العموم يشبهون أمهاتهم، وإنني لا أستطيع أن أتبين شكل طفل في عمر ثلاثة أيام أو أربعة. إن كنت سأحكم عليها من ناحية حقيبة ملابس الرضيع، فسأقول إنها ذات ذوق رفيع جدا. فهذه الأشياء الصغيرة الأنيقة مصنوعة بحرص وإجادة. وذلك يشي بأشياء كثيرة عن أي أم.»
ومع مرور الأيام، بدا لجيمي أنه لم تحظ امرأة في يوم بنعمة تجاوز نعمة طفل العاصفة لمارجريت كاميرون. فقد ساوره شعور قوي جدا بأن ذلك الإنسان الصغير كان له على مارجريت كاميرون تأثيره نفسه على السيدة ميريديث والكشافة الصغير. فهو ذو جاذبية شديدة. فكان يختلق بعض الأعذار عدة مرات يوميا ليتسلل إلى حجرة المعيشة ويلقي نظرة على السلة التي وضع فيها جيمي الصغير. فإن كان الصغير نائما، كان يغطيه ويرحل بهدوء. وإن كان مستيقظا، فهو ينحني فوقه ويظل يحدثه ويتفحص يديه وقدميه. كانت يداه كأنما خلقتا لعزف الموسيقى، ورسم اللوحات، وحمل الكتب النادرة، وربما لكتابتها.
وكان أحيانا حين يذهب يجد مارجريت كاميرون مشغولة بتحميم الصغير، أو إلباسه، أو غسيل ملابسه الصغيرة، أو كيها بعناية. وذات يوم أدرك فجأة أن الشيء نفسه الذي طلبته مارجريت قد منح لها. فهو شيء حي، شيء تعمل من أجله، شيء مختلف، شيء سوف يقدر ما تفعله. ولذلك توقف عن الشعور بالذنب حيال الجهد البدني الذي كان يطلب منها بذله مع الطفل الصغير، وشعر بدلا من ذلك أن الطفل هو ربما أعظم نعمة أتت في حياتها. وقد أمضى وقتا صعبا يوم حاول أن يناقش مع مارجريت الأمور المالية الخاصة بالطفل. فبعد بضع كلمات رفضت رفضا قاطعا الإصغاء إليه.
وأخيرا قالت له: «إن هذا الطفل كان بمثابة نعمة لي يا جيمي؛ فقد خفف حبه ورعايته ما أعانيه في ذهني من توتر بدرجة كبيرة حتى إنني أجدني عاجزة عن شرح ما فعله لي. ولا أستطيع أن أتقاضى مالا مقابل العناية به. لا أستطيع حقا! لكن مع مرور الوقت، حين يحتاج إلى مزيد من الملابس أو تنشأ له حاجة، مثل حوض استحمام صغير بالشكل المناسب للأطفال، الأشياء التي لا بد له من الحصول عليها، فسوف أخبرك، وإنه من حقك واختصاصك أن تأتي بها، أما تقاضي المال مقابل ما أفعله له، فهو ما لا طاقة لي به. ونحن لن نتحدث في ذلك الأمر ثانية.»
فقال لها جيمي: «حسنا»، وخرج من المنزل وشرع في عملية تفقد أرض مارجريت بدقة ليكتشف ما يسعه القيام به في الحديقة التي صارت تهملها، وللزهور التي باتت ترويها على عجالة، وهو ما رأى أنه سيكون مكافئا لرعاية الطفل.
ما لبثت مارجريت أن أدركت أن هذا ما كان يحدث، وقد ناسبها الترتيب تماما. فقد ظلت بضعة أيام لا تأبه إن عاشت الزهور أو ماتت. ولم تكترث ما إن كان المنزل نظيفا ومنظما، أو إن كان الطعام في مكانه من أجل الطيور المحاكية والعصافير الوردية. لكنها الآن تهتم بكل هذه الأشياء اهتماما لا حدود له لأنه سريعا جدا ما سيكبر جيمي الصغير فيلاحظ الزهور الجميلة، ويلقي بالفتات للطيور، ولا بد دائما من حماية صحته بمراعاة النظافة التامة والظروف الصحية فيما حوله. وهكذا صارت مارجريت كاميرون أشد اهتماما بشئون المنزل وأقل ميلا إلى الخروج، ووجد جيمي مع الاستيقاظ كل صباح أنه اكتسب المزيد من البأس ليعينه على أن يضيف إلى أعمال يومه ما ينبغي إنجازه من مهام في المنزل المقابل للسياج الأبيض.
والتزم جيمي مواظبا بتناول عصير الطماطم في الصباح، وعصير البرتقال في العصر، والحليب ليكون شرابه مع الوجبات، النظام الغذائي الذي طالما أكدت مارجريت كاميرون أن لديها كل الوقت لتحضيره له. وبدأ يشعر أنه أصبح رجلا بحق، شديد الثقة من قوته، شديد الاعتزاز بنسيج الجلد الذي صار أغمق لونا، وأكثر سمكا، ممتدا بأمان على جانبه الأيسر، شديد الاعتزاز بالدماء الحرة النقية المتدفقة في عروقه، شديد الامتنان لله على فرجه، على الفرصة التي منحه إياها، ومن ثم وجد شفتيه مضمومتين تصفران صفيرا خافتا كل لحن من الألحان التي يعرفها أثناء مباشرة عمله. كان بعضها من أغنيات الجيش، الألحان التي ينشدها الصبية في المعسكرات، لكن أغلبها أغنيات كان ينشدها في مدرسة الأحد أو أشياء سمع أمه تتغنى بها وهو صغير. كان أحيانا يحفظ الألحان التي يسمعها في الشارع أو وهو مستلق لينعم بالشمس على الشاطئ. فقد تنوعت مجموعة أغاني جيمي من «فلتسمعني يا يسوع، أيها المخلص الطيب!» حتى «لن تمطر السماء مرة أخرى»، وبينما هو يعمل الخرطوم للمساعدة في إنتاج أغزر محصول عرفه يوما من الثمار والزهور، وبينما يفكر في جانبه الملتئم والمعجزة النادرة التي حدثت بشفائه، بدا له أنه لن يفرق كثيرا سواء أمطرت السماء أم لم تمطر. إذ يبدو أن كاليفورنيا في خير حال من دون مطر.
لكن كل هذا كان سطحيا؛ فكلها أمور تجري لضروريات الحياة. لكن الفكرة الكامنة، الشيء المعتمل في أعماق قلب جيمي، الشيء الذي جعله في اضطراب وجعله يضرب أخماسا في أسداس منذ ذلك الحين، الشيء الذي لم يفهمه ولم يستطع أن يغفره، هو الشيء الذي خادعته فيه فتاة العاصفة.
إذ ظن مما قالته أنها بحاجة إلى مساعدته من أجل نفسها، وقد منحها إياها في الحال، بلا مقابل. لكن لم يعجبه أن يكذب عليه. لم يعجبه أن يخدع. لقد تزوج من فتاة، ودعي لتولي مسئولية تربية طفل لفتاة مختلفة تماما. لم يكن هذا تصرفا عادلا. ولم تكن تلك أمانة. إذا كان خاتمه وإذا كان عقد الزواج الذي حرر له من أجل فتاة العاصفة قد أعطيا لفتاة أخرى في محنة بحيث تستخدمه حتى لا يزعجها الأطباء والممرضات، فبإمكانه أن يفهم فيما كان استخدامهما. لكن إذا كان الاسم الذي وثق به الزواج لم يكن الاسم الحقيقي للفتاة التي تزوجها، فالزواج لم يكن شرعيا، ومن يدقق في الأمر يجد أن الطفل الصغير طفل خطيئة بعد كل ما حدث. لقد جرت المسألة بأسلوب أحمق. كان جيمي، بالحال التي كان عليها آنذاك، وبالمشاعر التي اعترته، سيعطي اسمه لأي امرأة بحاجة إليه في أي مكان. أخرج جيمي الخطاب الذي يعتز به من جيبه ووضعه بعيدا. فلم يعد من المقتنيات الشخصية. فالمسألة برمتها ليست منصفة.
وحين بلغ سخطه الذروة، وفاق غضبه الحدود، نشأ في قلبه شعور قوي نابض ومتدفق وطاغ بالراحة. فمهما كان كذبها، وأيا كان دافعها إلى خداعه، فقد ظلت حقيقة واحدة في أفق جيمي. لقد كان ظنه في فتاة العاصفة في محله. إذ لم يشعر أن امرأة يعبق شعرها بعبير المريمية وتفوح رائحة زهور رعي الحمام الرملية وزهور الربيع حول ركبتيها مثل البخور وقد فاحت بهذه الروائح ملابسها الليلية، لم يخطر له أن الشعر الحرير الذي التصق بوجهه، وأن القوة البدنية، والردود الحاضرة الواثقة، لم يخطر له أن هذه الأشياء قد تقترن بامرأة سوء. وكان على استعداد لقبول أي عذر، وتصديق أي شيء. أما الآن فلا يوجد شيء ليصدقه عدا أنه قد كذب عليه، لكن في العالم من الكذب ما كان نبيل القصد نوعا ما على أي حال. وثمة احتمال ضئيل أن تكون هذه الكذبة، ذلك الشيء الذي حدث، وراءه سبب ربما يجد استعدادا لقبوله. وهكذا أمضى جيمي جل أيامه وبعض لياليه ممزقا بين عواطف متضاربة.
الفصل العشرون
تمرد الكشافة
حل منتصف الصيف في الحديقة، وجاءت أيام الإجازة الطويلة المشمسة. وأصبح النحل مزدهرا. حيث امتدت أسراب لا حصر لها في صفوف القفائر على جانبي الحديقة، بل تخطت حدودها، فبدأ جيمي يشعر بأنه يجب أن يستغني عن بعضه بحلول الموسم التالي وإلا فسيصبح لديه أكثر مما يستطيع السيطرة عليه. وازدهرت الزهور في استعراض صاخب للألوان. وأصبحت الأشجار محملة بالثمار. وقد اقترب هو من الشفاء التام حتى إنه بدأ يستخدم ذراعه اليسرى وهو يكاد لا يشعر بشيء من استخدامها. كان يدهن جلده الرقيق بالزيت بحرص. وهو ما زال يحميه بضمادة خفيفة . كما أن الأربطة خفيفة للغاية حتى إنه لم يكن يشعر بها ولا بالإسار الخفيف الممتد حول كتفيه ليبقيها في مكانها. كان كل يوم هو يوم عمل يهواه في موقع يحبه. وفي كل مساء يجد ملاذا في الكتب التي علمته الأشياء التي يجب أن يعرفها لإتقان مهنته الجديدة، وقد بدأ الآن يتفرع لتلك الكتب الأخرى، إبداعات أنبغ العقول في أقدم الأعمال الأدبية المجمعة.
وبعد أن أصبح له دخل، وأصبح مطمئنا لأنه لن يقع مرة أخرى تحت رحمة الحكومة أو الناس، فقد أقدم جيمي على الاشتراك في ست من أكثر المجلات الكبرى التي أثارت اهتمامه، وقد جلبت إليه قصصا رائعة عن العالم الذي ظل مدة طويلة فاقدا الاتصال به. وكانت بعض الأشياء التي جلبتها مسلية وتثقيفية جدا، والبعض الآخر مزعجا، مما جعله يشرع في التساؤل عن الاتجاه الذي سيأخذه بلدنا، وما المتوقع على وجه التحديد كنهاية للبدايات الفريدة التي حدثت. ومن بين الأشياء التي اطلع عليها، والتي بدت مقبولة ويكتب عنها من حين إلى آخر وتذاع في العالم مطبوعة ومنطوقة، ما جعل وجنتيه تشتعلان وألهب مكامن روحه الاسكتلندية.
وعندئذ بدأ يحمل في صدره شعورا بأن الوقت قد حان ليخرج إلى العالم، ويحطم قيود الأمان والسلام التي ربطته بالحديقة، ويفتش عن الرجال الذين يؤسسون رابطة المحاربين القدامى التي يجدر به الانتماء إليها. وبدأ يستمع، في صباح أيام الأحد المتراخية الناعسة، لرنين أجراس الكنائس، ويتساءل إن كان من الممكن بأي حال من الأحوال أن يجد في مكان غير بعيد كنيسة بروتستانتية فيها قس من اسكتلندا بحيث يجد في صوته ولو أثرا خفيفا لحرف الراء المفخم المحبب إليه. وبدأ يشعر أنه قريبا جدا سيهم بالسعي بحثا عن هذه الأشياء.
وبينما هو منهمك يفكر في الأمر ذات صباح وصل بالخرطوم الذي يستخدمه لحوض من زهور البتونيا قبالة شجرة الجاكرندا مباشرة، فانحنى ليغمر بالماء جذور الزهور الزاهية. والتقطت أذناه المستكشفتان وقع أقدام مندفعة، وصوت البوابة تصفق، ولاح لناظريه الكشافة الصغير يتقدم نحوه مادا ذراعيه، بوجه مكفهر، وملابس ممزقة تمزيقا. فرمى جيمي الخرطوم وأسرع بذراعين ممدودتين. فأخذ في حضنه الجسد الصغير المرتجف وجلس برفق على المصطبة أسفل شجرة الجاكرندا وهو يضم الطفل، الجسد الذي جعل يتلوى ويرتجف، وقد جاشت نفسه، بينما تنهمر دموعه وتتدفق في سيل من كبر حجمها. كان جل ما في وسعه أن يلملم الصغير ويضمه وينتظر. شرع يملس بوجنتيه على الرأس الصغير وهو يهمس، بأفضل ما في وسعه، بكلمات لمواساته.
فقال بأنفاس متقطعة: «أيها الكشافة الصغير، عزيزي الكشافة الصغير، فلتخبر جيمي ما الذي آذاك هكذا؟ آه، ما الذي آذاك هكذا؟ أيها الكشافة الصغير، يا شريكي الصغير!»
وبعد ذلك على نحو مفاجئ ضم جيمي الجسد الصغير أكثر بين ذراعيه وتوغل بشفتيه في شعره حتى وصل إلى وجنته المتسخة، فأخذ يقبل الكشافة الصغير بكل ما في جسده من طاقة مرارا.
وهمس له قائلا: «يا حبيبي، يا أيها الصغير الحبيب العزيز؛ فلتخبر جيمي، أخبر جيمي بما حدث.»
وأخيرا، صدرت من الجسد الهزيل المحتشد على صدره همسة لاهثة: «من الذي أخبرك؟»
فقال جيمي: «لم يخبرني أحد بأي شيء. فلتخبرني أنت. ما الأمر؟ ماذا حدث لك؟ أين كنت؟ إن كان أحد آذاك ...» وهنا اندلعت ثورة في صدر جيمي، واشتعل في عينيه غضب متأجج. وتابع وهو يلهث: «هل مسك أي صبي من الصبية بسوء؟»
هز الكشافة الصغير رأسه بالنفي.
قال جيمي وهو يستحثه: «من إذن؟ ماذا؟» وأضاف: «إنني على أهبة الاستعداد لارتكاب جريمة قتل. فلتخبرني أين أذهب، وماذا أفعل!»
اندس الرأس باهت اللون في صدره أكثر، وأحكمت اليدان المتسختان قبضتهما عليه أكثر. وهمس بشيء ما. مال جيمي بعنقه إلى أقصى حد ممكن وهو ينزل بأذنه بحيث يسمعه.
فاندفعت الكلمات مصحوبة بأزيز: «فتيان الكشافة» - تدفقت الدموع غزيرة مرة أخرى وشهق لاهثا مرة ثانية - «تمردوا علي! أرادوا ... الذهاب إلى الشاطئ، وحدهم، وخلع ملابسهم بالكامل والسباحة، وأنا ... وأنا ...»
وهنا فهم جيمي كل شيء وفهم أنها فتاة لا صبي، وضمها بشدة وبسط يديه الكبيرتين على الجسد الصغير ليغطيه بقدر ما يستطيع. وانحنى ليلتقط الهمس. «... لم أستطع. فتمردوا علي وكادوا يمزقونني أشلاء!»
فقال جيمي مستفسرا: «هل تقصدين أن أولئك المتوحشين الصغار هجموا عليك وضربوك؟»
تلوت فتاة الكشافة الصغيرة بين ذراعيه.
وقالت بأنفاس متقطعة: «أعتقد أنني كنت أتوقع ذلك. أعتقد أنني كنت أوسعهم ضربا بما فيه الكفاية. لكنني كنت متعبة هذا الصباح. ولم أستطع أن أبسط سيطرتي المعهودة عليهم. لم أستطع السيطرة عليهم، فتمكنوا مني.»
سألها جيمي وهو منقطع الأنفاس: «وماذا حدث؟» «جاء رجل، رجل على صهوة حصان، فمد يده ورفعني على حصانه وابتعد بي عنهم حتى طلبت منه أن ينزلني هنا. آه يا جيمي! لقد هلكت! سوف أصعد إلى الصخرة وألقي بنفسي في التيار حيث لا أستطيع أن أنجو بنفسي وإن أردت.»
ضمها جيمي بشدة.
وقال: «مهلا، أيتها الحمقاء الصغيرة. فلتفكري في أبيك، فكري في أمك، فكري في نانيت وجيمي الصغير! فكري في! لا يمكن أن تفعلي ذلك!»
قالت الكشافة الصغيرة وهي تبكي: «لم يتبق لي أي شيء. ليس لي رغبة في فعل أي شيء. إن كنت لن أستطيع أن أقود فتية الكشافة، فلن أرغب في اللهو في أي مكان!»
خاطبها جيمي بصرامة، وقد خشن صوته من الانفعال: «أصغي إلي!» وتابع: «أصغي إلي، يا عزيزتي! لقد أخطأت من البداية لأنك لم تحبي ما تفعله الفتيات، فظللت ترافقين الفتيان حتى صرت بلا هوية أنت نفسك. وما الذي جنيته من ذلك؟ الإحراج وخيبة الرجاء وجسد منهك. لا يجدر بك أن تظني أنك الفتاة الوحيدة من نوعك في العالم. لا تظني أنه لا يوجد أخريات كثيرات لا يروق لهن البقاء في المنزل والقيام بالأشياء الواجب على الفتيات القيام بها. لا تظني أنه لتصبحي قائدة كشافة يجب أن تكوني قائدة لمجموعة من الفتيان. سحقا لهم!»
نهض جيمي.
وقال: «ادخلي معي إلى المنزل.» وتابع: «سوف أنظفك وآخذك إلى أمك، وسوف تلبسك بعض الملابس المناسبة لنخرج وحدنا اليوم. سوف نذهب إلى مكان سيروق لك. سنفعل شيئا ترغبين فيه أكثر من أي شيء في العالم. وسأخبرك هنا في التو ماذا نحن فاعلان. سنذهب لنأتي لك بأفضل حصان صغير مشى على الأرض يوما! ظللت أبحث عنه وأنشر إعلانات في الصحف، حتى عثرت عليه. وقد حصلت عليه، وهو جاهز تماما من أجلك. إنما كنت سأنتظر بضعة أيام لأنني قد طلبت بعض الأخشاب. إذ كنت أنوي بناء إسطبل على الجزء الخاص بك حيث لا يجاوره أحد. كان جون كاري سيأتي غدا ليساعدني، وكنت بعد أن أفرغ منه سآتي بالحصان الصغير هناك لأفاجئك، لكن بإمكانه أن ينتظر الإسطبل. فسوف نذهب ونحضره اليوم.»
أفلتت فتاة الكشافة الصغيرة من بين ذراعي جيمي ووقفت أمامه. ومدت يدها طلبا للمنديل الذي بات ملكية مشتركة لهما. حيث قدمه جيمي واستخدمته فتاة الكشافة الصغيرة. «حصان حقيقي، حصان جميل، حصان خاص بي وحدي لا يمتطيه أحد غيري؟»
فأجابها جيمي، مستعدا لأن يعد بأي شيء في العالم: «أجل، أجل.» «هل بإمكاننا أن نشتريه، بإمكاننا أن نشتريه اليوم؟»
قال جيمي، وهو ما زال مستعدا للوصول إلى أقصى حد من الوعود: «نعم.»
قالت فتاة الكشافة الصغيرة: «يا للروعة!» ثم أضافت: «لن ألقي بنفسي في التيار إذن. ولن أكترث عندئذ لما يقوله بيل السمين الطيب والطفل المطيع وذو الوجه الملائكي. إن أراد أي منهم الحصول على سيف القيادة وكل شاراتها، فليحصلوا عليه. فليحصلوا على كهف اللصوص ووكر قطاع الطريق، وليستولوا على معركة الهنود. أما أنا فسأذهب معك، وسأحصل على حصاني.»
قال جيمي: «ستحصلين على حصانك بكل تأكيد!» وتابع: «سأتجول معك، وسنرى ما في الوديان وما قد نجده فيثير اهتمامك بالخلاء، ولتعلمي أنك إذا خرجت للاستكشاف، فستجدين معسكرات للفتيات حيث يقمن بكل حيل الكشافة التي يفعلها الصبية، ولا أشك أنهن يفعلن بعضا منها على نحو أفضل حتى!»
انتصبت قامة قائد الكشافة السابق وأخذت نفسا عميقا. «هل تعتقد ذلك يا جيمي، هل تعتقد بأمانة أنهن يفعلنها أفضل منهم؟»
قال جيمي: «أراهنك بربع دولار أنهن يستطعن!» وأضاف: «سأعرف أين مواقعهن، وسوف أذهب معك وسنرى. لكنني أراهنك بربع دولار أن أولئك الفتيات يستطعن إشعال النار بالطريقة الصحيحة ويجعلن الشرر يتطاير أسرع، أراهن أنهن يستطعن إقامة الخيام، ويفعلن أي شيء يردنه، ويفعلنه أسرع من فتيان الكشافة أولئك الذين كنت تتدربين معهم على أي حال. وما كنت لأتعامل مع أولئك الكشافة المستقلين. إنهم مثل الخارجين عن القانون. وكنت سأبتعد عن أولئك الفتية تماما!» ثم تجاسر مربي النحل أكثر وقال: «كنت سأبتعد عنهم، يا جين. ولو كنت مكانك، كنت سأرى أين أجد فتيات من جنسي وأصاحب من هم من نوعي، ولا أشك أنك مع التدريب الذي حصلت عليه والحيل التي كنت تؤدينها ستستطيعين الترقي حتى تصبحي القائدة ربما خلال ستة أشهر. ستستطيعين أن تفعلي شيئا ليس هو باللهو وإنما شيء حقيقي، أنشطة كشافة مفيدة، شيء تتقدمين به للأمام. ستستطيعين التدرب حتى يصبح بإمكانك المساعدة في إطفاء حرائق الجبال، أو العثور على طفل مفقود، أو فعل شيء جيد ومفيد، وليس مجرد لهو. وسيصبح لديك حصان تستطيعين اصطحابه وامتطاءه. وأنا نفسي أجيد ركوب الخيل بعض الشيء. ولا توجد مهارة من مهارات ركوب الخيل لا أستطيع تعليمك إياها.»
عاد المنديل إلى صاحبه. وبدأت جين ميريديث تتحسس جسدها لترى إن كان تبقى لديها ما يكفي من الملابس ليسترها.
ومن ثم سألها جيمي: «هل اتفقنا؟» وتابع: «هل ستركبين السيارة وتسلكين طريق الشاطئ إلى الإسطبلات حيث ينتظرك هذا الحصان المخصوص الذي حدثتك عنه؟ هناك ثلاثة ممتازون. لك أن تختاري من بينهم. هلا ذهبنا؟»
جاءت صيحتها في دهشة شبه منقطعة الأنفاس: «يا إلهي!» وتابعت: «هلا ذهبنا؟ هلا صبغنا زهور البتونيا، هلا عطرنا الورود؟ هلا مشينا مشية عسكرية أمام النحل الألماني الأسود؟ هلا حثونا التراب في وجه أول فتى كشافة نلقاه؟ فلنذهب بكل تأكيد! أما بيل السمين والطفل المطيع وذو الوجه الملائكي فليذهبوا إلى الجحيم رأسا! فلن ألعب معهم ثانية أبدا، حتى إن جاءوا راكعين، حتى إن رجوني بالدموع في عيونهم. لن ألعب معهم ثانية أبدا ...»
قاطعها جيمي قائلا: «أجل، وإنني أراهنك بربع دولار آخر. أراهنك بربع دولار أنهم خلال أسبوع سيأتون ويطلبون اللعب معك مجددا!»
دست جين ميريديث ذيل قميصها في حزام سروالها. كانت ابتسامة الخجل التي رسمتها على وجهها الملطخ المبلل بالدموع بديعة. ثم انحنت بجسدها. ولمست بسبابتها اليسرى شفتها السفلى لمسة خفيفة. ونفضت بيدها اليمنى من فوق كتفها اليسرى كتلة من الطين لم تكن خيالية بالمرة.
ثم قالت بلكنة شابات تلك الأيام: «آه، شكرا!» وتابعت: «آه، شكرا يا فتياني الأعزاء! إنكم رائعون، رائعون حقا، لكنني تجاوزتكم. لقد تخطيت مرحلة الصغار وصرت من علية القوم. فلتمرحوا في سحابة التراب التي سأثيرها حين أمضي ممتطية حصاني!»
وإذا بالشابة المعاصرة تعود لتصبح فتى الكشافة الصغير مرة أخرى. «هل حصاني حصان ذكر أم حصان أنثى يا جيمي!»
فقال جيمي: «يوجد اثنان أو ثلاثة. لم أستقر عليه تماما. يوجد اثنان أو ثلاثة في المكان الذي سأصطحبك إليه. أود أن أرى ما إن كنت ستفضلين الحصان الذي فضلته أنا. ولك أن تحصلي على ذلك الذي تريدينه على كل حال.»
قالت جين: «حسنا. حسنا. لقد خطر لي أنه إن كان حصاني ذكرا فسأسميه تشيف، وإن كان أنثى فسأسميها سوالو، وأيا كان فسوف أمتطيه هناك، سواء كنا أعلى سفح الجبل أو في أعماق المحيط. أنا وحصاني سنسبح مثلما سنتسلق!»
فقال جيمي، مادا يده التي سريعا ما قبلت: «حسنا، هيا بنا!»
بعد أن ارتدت جين ملابس مناسبة واستقر بهما المقام في السيارة المتجهة نحو الإسطبل الذي سمع جيمي عن بيع خيل ركوب فيه على بعد عدة أميال على امتداد الشاطئ، تطرق جيمي مرة أخرى لموضوع الحصان.
إذ سألها: «هل لديك فكرة محددة في رأسك بخصوص نوع الحصان الذي تريدينه بالضبط يا جين؟»
جعل جيمي يشاهدها بنظرات جانبية. فرأى نظرة عابسة عبوسا طفيفا، وتصلبا بسيطا في جسدها، فعرف المغزى وراء ذلك. ومرت دقيقة أو دقيقتان من الصمت، وبدلا من إجابة السؤال، جاء سؤال بصدد موضوع مختلف. «ألن تناديني «الكشافة الصغير» مرة أخرى أبدا؟»
فكر جيمي جديا وسريعا.
وقال: «لا، لن أفعل. لن أفعل مجددا أبدا. من الآن فصاعدا سأدعوك باسمك. إنه اسم جميل للغاية ومن الأسماء التي أحبها كثيرا. إنه اسكتلندي، وكذلك أنا، حتى النخاع. وأرى أنه يجدر بك التوقف عن التنكر. ولتكوني على طبيعتك من الآن فصاعدا، حين تكونين معي. فإنك تؤكدين بشدة على أهمية أن يسلك الناس سبيل النزاهة في الحياة. وقد نجوت بفعلتك مرات كثيرة حتى الآن بحق، لكنك من الآن فصاعدا ستصيرين كبيرة بما يكفي لأن تثيري انطباعات سيئة للغاية إن نويت الاستمرار في التنكر.» «هل تقصد أنك لا تريد أن أرتدي السراويل أمامك بعد الآن؟»
قال جيمي: «بالقطع لا، أيتها الحمقاء!» وأضاف: «أعتقد أن السراويل هي الملابس المناسبة لترتديها وأنت تعملين في الحديقة وتمتطين الخيل، وأثناء اللعب، وحين تؤدين التمارين. ما أريده منك هو أن تتوقفي عن اللعب مع الصبية وأن تعرفي مدى روعة نوعك. لا تظني أنك الفتاة الوحيدة في العالم التي تحب ركوب الخيل أو التسلق أو الخروج أو قيادة فريق كشافة. أريدك أن تكوني في مكانك الطبيعي، حيث تنتمين.»
تفكرت جين في الأمر بتأن، كما كان دأبها.
ثم قالت ببطء لكن بنبرات أكثر مرحا: «حسنا، قد تكون محقا في هذا الشأن، لكن عليك أن تدلني على السبيل؟»
فقال جيمي: «حسنا، سوف أدلك! أول ما سنفعله هو التوجه مباشرة إلى مكان معي عنوانه هنا في هذا الجيب. سوف نشركك في معسكر لفتيات الكشافة، وسأرافقك للاجتماع الذي ينعقد مرة أسبوعيا. إن لم يسمحوا لي بالدخول، فسأظل أتسكع بالخارج حتى تفرغي من الاجتماع، لكن لست بحاجة إلى أن تخبريني أن أي فتاة قد تنضم لمعسكر فتيات الكشافة لا بد أن تكون من الفتيات اللواتي يهوين السباحة والتجديف بالزوارق وامتطاء الخيل والخروج إلى الطبيعة. ولست بحاجة إلى أن تخبريني سيكون بين كل الفتيات اللواتي يتكون منهن المعسكر ولو فتاتان أو ثلاث على الأقل حسناوات المظهر، ومهذبات السلوك، فتيات من أسر كريمة، ممن يسر أمك أن ترافقيهن.»
قالت جين: «حسنا. سنلعب لعبة «احذ حذوي.» أنت تحدد الوجهة وأنا أتبعك مباشرة.»
لم تواجههما أي صعوبة من أي نوع في العثور على مكان السكرتير الذي رحب بتسجيل جين ميريديث ، وتزويدها بالبطاقات والمعدات اللازمة، بينما دفع جيمي الفواتير. وعندما ركبا مرة أخرى في السيارة المتجهة إلى الإسطبل، نظرت جين إليه.
وقالت: «إن المبلغ الذي دفعته هناك كبير يا جيمي. لم أر كم كان، لكنه أكثر مما يجدر بك أن تدفعه لي. لا بد أن تخصمه من نصيبي عند بيعة العسل القادمة. وسوف أخبر أبي أنك فعلت ذلك.»
فقال جيمي: «لا تنشغلي بتلك الأمور. فأنا وأبوك سنهتم بالمسائل المالية. ولا تنزعجي من إنفاقي القليل من المال من أجلك؛ لأنني لم أبدأ إنفاق المال بعد. فثمة شيئان آخران سأفعلهما قبل أن ينتهي اليوم. وكلاهما سيكلفانني مبلغا كبيرا، لكنها ستكون أسهل النقود التي أنفقتها يوما في حياتي لأنه لولا أنك أعدت لي ميراثي، ما كان سيصبح معي أي نقود لأنفقها على أي شيء، باستثناء ما ادخرته من أجري هذا الصيف. لولاك ما كان سيمضي وقت طويل قبل أن أهوي إلى الحضيض ماديا، ومعي جيمي الصغير لأرعاه علاوة على ذلك. من ثم، ما دمت قبلت منك فداني الشرقي بكل ما عليه، فليتك تقبلين ما أريد أن أعطيك إياه اليوم من دون إبداء أي اعتراضات على ذلك، هل تستطيعين ذلك؟»
قالت جين: «بالطبع أستطيع»، وتسللت إلى عينيها اللمعة التي كان جيمي يعرفها. «لقد قلت شيئين. ما هو الشيء الآخر علاوة على الحصان؟»
فقال جيمي: «سنتوقف هنا وستعرفين.»
غادرا السيارة مرة أخرى، وأخذ جين هذه المرة إلى متجر حائك حيث أخذت مقاساتها لتحصل على سروال فتيات لائق خاص بركوب الخيل ومعطفين، أحدهما بكمين والآخر من دون، وكلاهما مزود بمشد وتنانير متسعة بعض الشيء عند الأطراف وذات جيوب أنيقة. كانت الملابس ستفصل من قماش بديع ناعم رمادي ضارب إلى الزرقة قريب جدا من لون عيني الصغيرة التي ستلبسها. ثم اختار جيمي من المكملات المعروضة قميصين حريريين وربطة عنق زرقاء في رمادي، ومناديل بحواف تليق بالقمصان. انطلقت صيحات بهجة خافتة فرحا بقياس زوجين من الأحذية الرمادية طويلة الرقبة ذات ثنايا ناعمة حول الكاحلين ورقاب صلبة، وقفازات تليق أساورها عليها. رمقت جين القفازات بنظرات تردد. وهزت أصابعها وتحدثت صراحة. «من المؤسف أن تنفق نقودك عليها. فإنني أراهن بدولار أنني سأضيعها في أول يوم أخرج بها.»
فقال جيمي: «لا أعتقد أنك ستبدين لي حق التقدير حين تستخفين بأول هدية أهديك إياها على الإطلاق لدرجة أن تضيعيها. ما كنت لأفعل ذلك إن أهديتني زوجي قفازات.»
فقالت جين: «حسنا، هذا لأن لديك الكثير من الجيوب.»
فأجابها جيمي: «وأنت أيضا ستحصلين على جيوب»، ثم التفت إلى الحائك المبتسم وطلب منه قائلا: «فلتزود تلك المعاطف بجيوب داخلية، وجيوب صدر على اليسار من الخارج، وزود السروال بكثير من الجيوب. لا نريد أن نعطي هذه الآنسة الشابة أي فرصة لفقد مناديلها وقفازاتها.»
وأثناء مغادرتهما المتجر، قال جيمي: «بذلك نكون عكسنا الأمر بحق. فقد اشترينا اللوازم أولا. والآن سنشتري الحصان، وبعد أن نختار الحصان، سنذهب إلى متجر جلود ونبتاع سرجا وسوطا أنيقا.»
هزت جين رأسها.
وقالت: «لا تنفق نقودك على أي سياط. فإنني لا أستخدمها! إنني أوجه حصاني مستخدمة يدي.»
فقال جيمي: «ومع ذلك يا آنستي الشابة تمر على أي فارس أوقات حيث يتعرض للخطر إن لم يكن مسلحا بسوط جيد لاذع. فإن ارتعب الحصان على الجبال وجعل يتراجع نحو منحدر تهبطين منه إلى العالم الآخر، وكان في يدك سوط سميك متين تستطيعين أن توقعي به بضع ضربات توجعه وجعا شديدا، فربما تفلحين في جعل الحصان ينسى ذعره ويمضي بك قدما.»
وافقته جين الرأي على الفور قائلة: «ليكن ذلك أيضا. لم يخطر لي ذلك لأنني لم أمتط الخيل كثيرا في أماكن خطيرة بحق من قبل. لقد تسلقت أنا وكوين بضع مرات، لكن كوين أعقل من أن تتراجع على مرتفع.»
قال جيمي: «إنني لا أراهن على ما لدى الحصان من عقل؛ لأنه إن طرأ شيء على غفلة وجعله في ذعر شديد فسيقفز ليحمي نفسه، وسيقع الضرر قبل أن يدرك الحصان حقا ما حدث. لا يمكن أبدا أن تكوني في أمان على صهوة جواد حقيقي من دون سوط سميك متين. إنه جزء من المعدات الضرورية، ومهما تكن نظريتك بشأن المعاملة بلين وعطف، ففي هذا العالم بعض الكائنات التي لا يمكن السيطرة عليها إلا بالقوة حين يصيبها الذعر.»
فقالت جين معلقة: «تماما مثل الآنسة ورذينجتون.» وتابعت: «والحق أنه مما يثير غيظي أن أدعوها «ورذينجتون»، فقد تصادف أنني أعلم أن اسمها يانج، مجرد يانج عادية الملامح، صهباء، بأنف أفطس ووجه مليء بالنمش. إنني لم أر قط شخصا لم أطقه البتة مثل تلك الشخصية التي ظلت تدعوني ب «الصغير». لم يكن الأمر يسيرا، لكن من المؤكد أنها نالت ما تستحق، وإنني ربما أصادف حالة أخرى مثلها تماما. فلتشتر السوط!»
حين وصلا إسطبل الخيل، انعطف جيمي ليصل إلى البوابة. كان يعلم مكان البوابة جيدا فأدركت جين أنه قد ذهب هناك من قبل، وأدركت أيضا أن الرجال الذين جاءوا لملاقاته كانوا على معرفة به.
خاطبهم جيمي قائلا: «أود أن أعرفكم إلى الآنسة جين ميريديث، وأود أن تعرضوا عليها الخيول الثلاثة التي رأيتها ذلك اليوم.»
وقفت جين مفتونة والخيول الثلاثة تساق أمامها. كانت أمهارا بحق، حيوانات بالحجم المناسب لتمتطيها وتبدو على صهوتها بمظهر حسن، وتكون لديها القوة لتجعلها تطيعها.
قال جيمي: «حسنا، سوف نضع السرج عليها الواحد تلو الآخر، وبإمكانك ركوبها لساعتين أو ثلاث ساعات. بإمكانك أن تجربيها مرارا حتى تتبيني أيها يعدو بالطريقة التي تناسبك. لقد تفحصتها بإمعان شديد. كلها بأعمار معقولة، وكلها في حالة جيدة. والاختلاف بين أسعارها قليل جدا.»
ثم أدرك جيمي أنه كان يحدث نفسه. إذ لم تكن جين مصغية لكلمة مما قاله. وإنما ظلت واقفة أمام الخيول الثلاثة، تحدق فيها. وبتأن ذهبت إلى الأول وشدت رأسه لأسفل. ومرت بيدها على جبهته. وجعلت تنظر بإمعان في عينيه. وأخذت أذنه بين يديها. ثم وضعت يدها اليسرى أسفل ذقنه وفرقت بين شفتيه بيدها اليمنى ونظرت إلى أسنانه. ثم طافت بجانبه نزولا بالعنق وحول الصدر حتى هبطت للقائمتين الأماميتين. قارنت بينهم من حيث العمود الفقري، والخاصرة والجوانب والذيل، من كل زاوية. مثلما يبحث الجراح عن الداء الخفي، راحت الصغيرة تتفحص تلك الخيول، وقد أدرك جيمي فجأة أنها تعلم من أمر الخيول أكثر مما يعلم هو. إذ راحت تتفقد نقاطا لم تخطر له. هكذا وقف على مسافة مستمتعا وظل يشاهدها وهي تتفحص الخيول الثلاثة فحصا دقيقا. وحين فرغت من الأمر، تقدمت أمامهم.
وأشارت إلى واحد وقالت: «ذلك أفضلهم طباعا، لكنه ضعيف وبطيء. وذلك حسن الطباع. سوف يكون رزينا ويعمل اليوم بطوله. أعتقد أن نفسه طويل.»
ثم نظرت إلى الأخير. «وهذا بداخله قدر كبير جدا من المشاغبة. لن تعلم متى سيرفس ومتى سيشب، لكنه لن يعلم حين تريده أن ينعطف سريعا أو ينزلق على سفح جبل بدلا من أن يسير. ربما هذا يجعلكما متعادلين. إنه سيذهب إلى أي مكان وسيظل محتفظا بنشاطه لأطول وقت، لكنه سيستغرق وقتا طويلا قبل أن يستطيع الشخص الذي يملكه أن يثق فيه بحق.»
قال جيمي: «حسنا، غالبا ما يكون الأمر كذلك بقدر ما أعلم. الآن، فلتضعي السرج وسأعطيك ساعتين لتجربيهم. سوف أمضي للشاطئ وأستلقي في الشمس بعض الوقت. لقد اعتدت ذلك في هذا الوقت من النهار حتى إنني أشتاق إلى حمام الشمس حين لا أحصل عليه. أما الماء المالح فسأستغني عنه اليوم.»
قالت جين: «انتظر برهة. ابق قليلا.»
أطلقت ساقيها السريعتين للريح متجهة إلى كشك قريب. وعند رجوعها جاءت لجيمي وناولته كيسا ورقيا.
فقال جيمي بجدية وهو يتناول الكيس: «شكرا جزيلا.»
ثم اتجه للعامل.
وقال: «فلتسمح لهذه السيدة الشابة بركوب كل من الخيول الثلاثة في أنحاء المضمار بقدر ما تريد. وحين تقرر ما ستختاره، سأعود لأصطحبها إلى المنزل. هلا حرصت على أن تحصل على أي شيء تريده إذا تكرمت؟»
قال العامل إنه سيفعل وذهب لإحضار السرج. نكزت جين بمقدمة حذائها تراب الإسطبل ثم رمقت جيمي بنظرات جانبية.
وسألته: «ما الغرض من الإصرار على ذكر الأمر؟»
ولم يلجأ جيمي إلى حيلة أن يسأل: «ذكر أي أمر؟» إذ كان يعلمه، وكان طبعه الاسكتلندي لا يسمح له بالتظاهر بعدم معرفة شيء وهو يعرفه.
قال جيمي: «إنك لا تستسلمين بسهولة، أليس كذلك؟» وتابع: «لكن أعتقد أنك ما دمت قد قضيت حياتك كلها في هذه التمثيلية فإنك لن تستطيعي التخلص منها تماما في لحظة. وسأشرح لك على أي حال لماذا ألح إلحاحا على ذكر أنك فتاة. أقر بأنك تبدين كثيرا مثل الصبية حتى إنه من الممكن أن يظنك البعض واحدا منهم وأنت تبذلين ما في وسعك لإثبات أنك كذلك. وإنني أؤكد أنك فتاة لأن الرجال أحيانا فيما بينهم يصيرون غليظين بعض الشيء ويقولون أشياء ويأتون تصرفات لا يقولونها ولا يأتونها إن عرفوا أن الطفل الموجود بينهم هو فتاة. إن ما أحاول أن أفعله يا جين هو أن أوفر لك النوع نفسه من الرعاية والحماية النابعتين من المحبة اللتين كنت سأمنحك إياهما لو كنت شقيقتي الصغيرة.»
نظرت جين إلى جيمي وجعلت تتفرسه بإمعان. ثم فاجأته بسؤال غريب. «لن أكون أبدا بالغة ولا كبيرة بما يكفي لأصبح حبيبتك، أليس كذلك؟» سألته السؤال ببساطة كأنها تطلب شربة ماء.
لاحت في مخيلة جيمي في اضطراب صورة الحبيبة التي ستبدو عليها الطفلة التي أمامه بعد عشر أو اثنتي عشرة سنة، فجمح الخيال برأسه قليلا؛ بيد أن الرجال الاسكتلنديين مشهورون بالعقل والرصانة والنزاهة؛ لذا تماسك وأجاب برصانة قائلا: «لا أتخيل أنني قد أريد في العالم حبيبة غيرك يا جين، لكنه لن يكون منصفا لك. فإنني أكبر منك بكثير. والشباب يريد الشباب. وأي شيء خلاف ذلك ظلم. ومن تجاربي في الحياة لاحظت أن الأوضاع تسوء دائما حين يكون الرجل أكبر من المرأة بكثير. ليس من الإنصاف لفتاة أن تربط برجل في عمر أبيها. إذا تزوجت مرة أخرى يوما، فسوف أتزوج من امرأة أقرب لسني.»
سألته جين بهدوء: «هل كانت أم جيمي قريبة جدا من سنك؟»
فقال جيمي: «حسنا، كانت أقرب بكثير منك.» ثم أضاف: «فلتذهبي الآن لتمتطي الخيل وسأمضي أنا لأحصل على حمام شمس، وحين تختارين حصانا سأختار السرج المناسب له، وإنني لست متأكدا تماما من أننا لم نخطئ بطلب الملابس أولا. ربما يجب أن تليق بالحصان هي الأخرى.»
تفكرت جين في الأمر. «حسنا، لا أعتقد أن البدلة ستقص وتفصل في الحال. ربما نستطيع أن نغير الألوان عصر اليوم بالهاتف. كان هناك قماش أسمر في بني مثل ذلك الأزرق في رمادي.»
قال جيمي: «صحيح. ربما نضطر إلى تغييره. فلتفكري في الحصان الآن، وتأكدي من الحصول على الحصان المناسب. فلا نريد أن نكتشف لاحقا أنك حصلت على وحش عضاض يستنزف طاقتك في كل مرة تخرجين به. إنك بحاجة إلى جواد يصبح صديقا لك؛ تجدين فيه بعض الراحة، ويحبك.»
فقالت جين: «أجل، ذلك هو نوع الجواد الذي أريده بالضبط. أريد حصانا يحبني مثل كلب أبي في حبه له.»
فقال جيمي: «حسنا، أشك أنك ستجدين حصانا لديه ما لدى الكلب من قدرة على الحب. فقد جاور الكلب الإنسان قرونا عديدة ونال اهتماما كبيرا جدا حتى إنه أصبح أشبه بالبشر. فقد سبق ورأيت كلبا يفكر، وسبق وكدت أسمع كلبا يتكلم، وسبق وتمكنت الكلاب من أن تأتي أصواتا تفصح عما تريده.»
قالت جين: «بالتأكيد!» وتابعت: «كثيرا ما يستطيع كلب أبي أن يفعل ذلك، وكذلك تشام كلب أمي أيضا.»
ثم ذهبت هي إلى الخيول وذهب جيمي نحو الشاطئ.
الفصل الحادي والعشرون
ثم تأتي رؤية
حين بلغ جيمي الطريق، عبره ومضى هابطا عبر جسر منحدر يؤدي لرمال البحر الساخنة وأمواجه المتلاطمة. وأثناء نزوله، لاحظ على يمينه صخرة ناتئة بطريقة جعلت منها مقعدا ذا جاذبية خاصة. ومن خلال ملمس الكيس الذي يحمله ظن أنه عرف ما بداخله. ومن ثم مضى جيمي ليجلس على الصخرة، التي ظللتها من ناحية نبتة داتورا ضخمة ضخامة غير مألوفة، وقد تألقت تألقا شديدا أبواقها البيضاء الشبيهة بالزنابق بحوافها الزرقاء. وعلت بجانبها نبتة خطمي وردي، بارتفاع عشر أقدام، في سحابة زاهية ذات لون قرنفلي ضارب للوردي زادها تألقا أوراق خضراء فضية شبيهة بأوراق القيقب. مد يده في جيبه، وأخرج سكينه وفتحها، وفتح الكيس أيضا، ووجد ما توقعه؛ ثمرتي طماطم كبيرتين جدا وشديدتي الحمرة. فقد حان ميعاد احتسائه عصير الطماطم الصباحي. وقد اهتمت جين بحاجته؛ إذ رأت أنه إن كان لا يستطيع الحصول على العصير، فبإمكانه تناول الطماطم والحصول على فيتاميناته بشكل مختلف قليلا. وهكذا وضع جيمي إحدى الثمرات على الورقة بجانبه ونزع بسكينه طرف الساق واللب من الأخرى وبدأ ينزع القشر الرقيق قطعا صغيرة ويقطع الطماطم إلى شرائح صغيرة. وقد وجد نفسه مستمتعا بها أيما استمتاع. لقد أصبح معتادا على تناول الطماطم. وقد بلغ مرحلة تثور فيها معدته وتطالب به إن لم يحصل على عصير الطماطم في الساعة العاشرة وثلاثين دقيقة.
بينما هو جالس يستمتع بثمراته ويشاهد المئات يتدفقون جيئة وذهابا على الشاطئ، وجماعات أسرية هنا وهناك يحتمون بمظلات الشاطئ، وأناس بملابس السباحة يستلقون على الرمال، وأطفال يلعبون في الأمواج، وسباحون يسبحون بعيدا - وهي مظاهر الحياة اليومية للشاطئ في أوان الصيف - تنامى إلى أذنيه من خلفه جلبة أقل ما يقال عنها إنها تسترعي الانتباه، ثم جاء في تدافع على الجسر الذي على يساره أعجب تجمع من البشر رآه يوما مجتمعا في حشد. مكسيكي صغير ذو شعر أملس أسود وعينين سوداوين، ووجنتين متوردتين وشفتين حمراوين وأسنان لامعة. وشخص من الياكي، وهي إحدى قبائل السكان الهنود الأصليين، صغير رزين، ذو شعر أسود مزرق، ووجه مربع صغير، وفم واسع وعينين لامعتين وشفتين حمراوين. وإيطالي صغير، وسيم للغاية، بخصلات شعر مسترسلة ووجنتين بلون قمحي وكالعادة شفتين حمراوين وأسنان بيضاء. وهناك أيضا صغير إسباني وسيم ذو عينين نجلاوين، ومن الصين واليابان واليونان، ووجوه هندية صافية صغيرة نحاسية اللون بشعور ملساء وعيون غائرة يقظة، ووجنات بارزة ووجوه رزينة، ذات أجسام رشيقة مستقيمة ورءوس مرفوعة بإباء من ينتمي إلى أشد الأجناس التي سارت على الأرض فخرا.
أثناء تدفق هذا الخليط العجيب على الجسر من حوله، لاحظ جيمي أن كل واحد من الصغار كان إما يحمل سلة صغيرة أو يمسك بكيس صغير. بعضهم من الفتيان، والبعض الآخر من الفتيات. وجميعهم ذوو عيون متألقة، وجميعهم صغار، وجميعهم يتمتعون بالجمال، كل بطريقته، جميل جمال الشيء المثالي في زهرة الصبا.
توقف أولئك الذين وصلوا الشاطئ أولا ونظروا وراءهم، فيما جاء عند نهاية الجسر، بجانب جيمي، قريبا جدا منه حتى إنه كان بإمكانه أن يمد يده ويطولها، قدم صغيرة مقوسة وساق رفيعة تنتعل حذاء برقبة مرتفعة مخصصا للمسافات الطويلة. ثم ظهر سروال ذو لون كاكي، وبعد لحظة أخرى ظهرت فتاة طويلة رشيقة، مولية ظهرها له. كان الشكل لا ينم عن صبي بالمرة. فقد بدت واضحة ربلتا الساقين اللتين غطاهما الحذاء ذو الرقبة. كما بدت الأرداف والذراعان مستديرة والصدر ممتلئا. وكان العنق مشرئبا بسمو، يعلوه رأس جرى قص شعره شديد الكثافة على نحو جعله يبدو واقفا على الجوانب ومن الأعلى بينما تبعثر في خصل ملتفة كبيرة ناعمة، وتدلى على العنق من الوراء مثل شعر صبي.
حين رفعت القدم وأخذت خطوة إلى الأمام، نزل جيمي بنظره إلى المسار الممتد في الرمال وأخذ نفسا عميقا تعرف فيه على عبير المريمية وزهور الربيع وزهور رعي الحمام الرملية، رغم أن الهواء يمتلئ بشدة برائحة الثوم والمانجو والتامال (طبق مكسيكي). عندئذ تحديدا توقف قلب جيمي وظل متوقفا وقتا طويلا جدا حتى إنه لم يعرف إن كان سيعود للنبض ثانية أم لا. أغمض عينيه بشدة فرأى خصلة من شعر مبلل ترتطم بوجهه وتجتذبه. ثم فتح عينيه ليتأكد فرأى الرأس ذا الشعر المقصوص، فصاح في أعماقه وقال: «آه، يا لها من خسارة! يا لها من خسارة كبيرة! كيف تأتى لها أن تضحي بتاج جمالها، شعر حريري كشعرها؟»
جعل يشاهد الفتاة الرشيقة وحركاتها الخفيفة وهي تسير عبر الشاطئ وتجلس قبالته على بعد بضع قصبات. ثم اجتمع الحشد الصغير حولها. وسمع الصوت الذي سمعه من قبل، والذي يعرفه حق المعرفة، وهو يقول: «والآن، يا أيها الصغار، قبل أن نتناول غداءنا وقبل أن نبدأ اللعب، لا بد أن نتعلم درسنا، لنرى فقط إن كنتم تتذكرون حتى وأنتم في إجازة. ما هذا الذي أمامكم؟»
هتف الأطفال مجتمعين: «المحيط الهادئ!» «وما الذي وراءكم؟» «جبال سييرا مادري!» «وما الذي فوقكم؟» «السماء!» «وما الذي تجلسون عليه؟» «رمال!» «وبلد من هذا؟»
فهتف كل من الصغار سواء صبي أو فتاة: «بلدي!» «ومن يستطيع أن يلقي علينا نشيد «بلدي»؟»
جعلت الأيادي الصغيرة تلوح في الهواء. وأشارت المعلمة في اتجاه الصبي الياكي الهندي الصغير. «فلتجرب، يا إزادور!»
وقف الطفل الصغير، وضم قدميه معا، وخلع قبعة القش التي يعتمرها، ولأن جيمي كان يعلم ما سيقوله الطفل قبل أن يبدأ، فقد استطاع أن يميزه: «بك يا بلدي أتغنى،
يا أرض الحرية الجميلة ...»
ابتسمت معلمة مادة القومية الأمريكية للطفل وقالت: «أصبت يا إزادور! يكفي هذا. الآن، من يستطيع أن يخبرنا ما هي «الحرية»؟»
مرة أخرى زخر الهواء بالأيادي.
أشارت المعلمة إلى فتاة صغيرة مكسيكية. «فلتجيبي، يا ماريا.»
أجابت ماريا على الفور، ملوحة بذراعيها مثل طاحونة هواء نحو الرمال وصوب الجبال والسماء والبحر: «كل هذا ... من دون معارك.»
صفقت المدرسة. ثم سألت: «ومن هو مؤسس بلدكم؟»
كان الياباني الصغير يعلم فقال: «جورج واشنطن.» «ومن رئيسنا؟»
هتف الصغار اليوناني والإسباني والصيني في فم واحد: «ألفين أوليدج (كالفين كوليدج)!» فضحكت المعلمة وصفقت مرة أخرى.
في هذه الأثناء اجتمع حشد كبير. إذ احتشد أطفال بوجوه ذات بشرة فاتحة وراحوا يستمعون ويتطلعون. ومر أناس كبار أمام وخلف المجموعة المكونة من واحد وعشرين شخصا، حسب إحصاء جيمي. لكنهم ظلوا يباشرون شئونهم من دون إبداء أي اهتمام. وفتحت المعلمة كتابا بحجم أطلس المدرسي، وتناولت قلما وشرعت ترسم.
في حركات آلية، انتهى جيمي من الطماطم، ومسح سكينه في الرمال ثم في ساق سرواله، وأغلقها وأعادها إلى جيبه. ثم نهض وسار على الشاطئ حتى صار على بعد ثلاث أقدام من ظهر الفتاة التي كان يعرفها ووقف ينظر من فوق كتفها بصحبة عدة أشخاص آخرين.
كانت الفتاة قد رفعت إحدى ركبتيها إلى جسدها ووضعت عليها الكتاب الكبير. بينما تمددت الساق الأخرى على الرمال بمرونة وراحة. وانحنى رأسها وهي ترسم بيدها اليمنى بحركات سريعة دقيقة ما ظنه جيمي رسما كروكيا لجسد رجل. حين انتهت من العمل بما يكفي لتبدو الأعضاء الرئيسية واضحة ، وضعت القلم على الرأس المستدير، وفي الحال لمس أغلب الأطفال رءوسهم وهتفوا: «رأس!» ثم انتقلوا لأسفل الجسم، ذاكرين العنق والكتفين والذراعين واليدين والجسم والركبتين والقدمين. ثم عادت بالقلم إلى الرأس وبدأت ترسم عليه خطوطا واقفة فرفع كل واحد من الصغار يده أو يدها إلى رأسه أو رأسها وصاح: «شعر!» ثم جاءت الجبهة والحاجب والعينان والجفنان والأهداب، وعندئذ كانت المعلمة مع ذكر اسم كل جزء من الوجه ترسم خطا ممتدا لهامش الورقة ينتهي بدائرة وداخل تلك الدائرة تكتب بخط واضح جدا: «أنف». «عين». «أذن». كان كل ملمح من ملامح الوجه يرسم ويكتب اسمه.
لاحظ جيمي مع تقدم هذه العملية من الأذنين إلى أسفل أن الفراغ الذي خصص للفم كان كبيرا. وقف شبه منقطع الأنفاس وهو يشاهد كتابة لثة في دائرة الفم، ثم الأسنان وسن واحدة. كان صوت المعلمة العذب يكاد لا ينقطع. وقد فتحت فمها فكشفت عن أسنان قوية في بياض الحليب. ومرت بممحاة القلم الرصاص عليها لتشير إلى أنها جميعا أسنان. فكشف كل الأطفال عن أسنانهم ومروا بأصابعهم عليها وصاحوا: «أسنان!»
ثم لمست إحدى أسنانها الأمامية وقالت: «سن»، ورفعت إصبعا واحدة وأشارت إلى سن واحدة. فأشار كل الأطفال الصغار ذوي البشرة البنية إلى سن «واحدة». أخرجت لسانها، وهي تضحك، لسانا في غاية التورد ينطق بالصحة، لا أثر لصفار على امتداده، فأخرج كل الصغار ألسنتهم وضجوا بالضحك وسريعا ما شرع كل منهم يتلاعب بملامح وجهه للآخر. وقد أغاظ إزادور الطفل المكسيكي بعد أن افتعل وجها قبيحا جدا حتى إن المكسيكي رماه بحفنة من الرمال ونشبت مشاجرة على الهامش. بينما جلست المعلمة تشاهدهما وهي تضحك. ثم علا صوتها لتدعوهما للهدوء. ونطقت كلمة «لسان» نطقا شديد الوضوح، فظل الصغار يظهرون ألسنتهم وهم يقول بعضهم لبعض إنها ألسنة. ثم رسمت لسانا داخل فم الشكل الذي صاغته، ومن طرفه جرت القلم حتى الهامش ورسمت دائرة أرادت أن تكتب بداخلها الكلمة.
في تلك الأثناء ثارت خلفها حركة غاية في الخفة. إذ جثا شخص على ركبتيه وراءها . ثم امتدت يد كبيرة بنية اللون من فوق كتفها وقبضت بإحكام على يدها وهي تمسك القلم، وأمسكت بها في قبضة لا خلاص منها، وبوضوح شديد انكتب في الدائرة التي كانت قد رسمتها، كلمة صغيرة قبيحة مكونة من أربعة حروف. وأجبرت على كتابتها ثلاث مرات أخرى، وتحت الأولى وضع خط واضح، وتحت الثانية خطان، وتحت الثالثة ثلاثة خطوط، عريضة جدا وسوداء. كانت الكلمات التي كتبت:
ثم حررت يدها. وصار لها حرية استئناف درس مادة التربية القومية الأمريكية.
ظلت عينا جيمي على ظهر الفتاة وهو ينهض على قدميه، فرأى أنه، باستثناء التوتر البسيط في جسدها الذي شعر به وهو يميل إلى ظهرها، لم تظهر أقل إشارة على أنها أحست بوجود أي أحد وراءها. لم تكن اليد التي أمسك بها قد أظهرت مقاومة. فقد استسلمت لاستخدامه، فاستخدمها في كتابة الكلمة البغيضة بقدر ما تأتى له من قوة. وبعد أن أطلق اليد، رأى اللون الأحمر وهو يتصاعد ملتهبا في الوجنة المجاورة له، ورأى القلم وهو يرسل سريعا ليبدأ في مسح الكلمات التي كتبها.
كان قد نهض على قدميه وسار عبر الشاطئ. كان متلهفا للنظر خلفه، لكنه لم يفعل. وكان السؤال الذي ظل يلح في قلبه وعقله هو ما إن كانت ستتبعه، ما إن كانت ستحدثه. ليت هناك حجرا على الشاطئ. ليت بإمكانه أن يصدم إصبع قدمه؛ ليت باستطاعته التظاهر بأنه قد سقط، فينظر خلفه ويرى ما إن كانت ستأتيه. لكن لم يكن هناك حجر. ولم يكن ثمة أدنى عذر للنظر خلفه إلا أن يفعل ذلك عمدا، وقد كان عناده الاسكتلندي أقوى من أن يسمح للفتاة أن تراه وهو يدير رأسه من أجلها، هذا إن كانت تنظر نحوه.
كان الأمر برمته مباغتا جدا ومربكا للغاية حتى إن دماغه توقف عن العمل مع انتهاء الموقف. فلم يستطع بعده أن يفكر مستشرفا التبعات مخمنا لها. إنما كان يضع مسافة بينه وبين الفتاة التي كذبت عليه؛ كذبا شنيعا. وقد شعر براحة أنه أعلمها بمعرفته بها وأنه نعتها بالكاذبة بقدر ما يتيسر لرجل من تأكيد وتشديد، لكنه لم يكن قد تمادى في أفكاره أكثر مما تمادى في فعله.
وعندئذ بلغ نتوء صخري يمتد لأسفل حيث تتكسر الأمواج عند قاعدته، وكل موجة تعلو عن التي قبلها. لم يكن جيمي في حالة مزاجية تسمح بالتوقف من أجل المياه. فمضى في سبيله، وأثناء انعطافه وراء الصخور، بدت له الفرصة سانحة ليلقي نظرة سريعة وراءه من دون أن ينكشف. فألقى نظرة سريعة وراءه وما رآه جعل قلبه يتوقف مرة أخرى.
حيث وقف بعيدا خلفه على الشاطئ في دائرة هادئة، صامتين وبعيون متسعة، قابضين على غدائهم بإحكام، منتظرين الأمر من معلمتهم المحبوبة، أطفال صغار ببشرات سمراء وحمراء وبلون الشوكولاتة والنحاس، ولدوا في الولايات المتحدة، من إنتاج أرضنا، منحتهم قوانيننا وحكومتنا حق أن يتعلموا مع أطفالنا، ويعيشوا معهم، ويحبوا معهم، ويحاربوا معهم، ويموتوا معهم، جميعهم أحرار، وجميعهم متساوون أمام القانون. وقد تجمعوا هناك وينتظرون، بينما راحت معلمتهم تقطع الشاطئ بخطوات سريعة.
خال لجيمي أنه لم ير قط شيئا بهذا الجمال. إذ كانت فتاة العاصفة تركض كما يركض الهنود، لكن ربما كانت قامتها أكثر استقامة قليلا، وذقنها أشد شموخا قليلا. بينما يلتقط نسيم المحيط شعرها الكثيف البني الضارب للحمرة ويرسله للخلف. فاستطاع أن يرى جبهتها الواسعة البيضاء. ولمعة عينيها الرماديتين الضاربتين للبني. وتدفق الدم ليصبغ وجنتيها وشفتيها، بل عنقها أيضا. استطاع أن يرى تناثر النمش الكثيف الذي لم تكتف الشمس بعبوره قصبة أنفها فوزعته في أنحاء الوجه بالكامل. كانت ستصل إليه خلال دقيقة بالسرعة التي تعدو بها. وكل ما استطاع جيمي أن يفكر فيه هو أنه لا ينبغي أن يضبط وهو يختلس النظر من وراء الصخرة. حفظا لكرامته لا بد أن يمشي سريعا على الشاطئ برأس مرفوع، وقامة منتصبة، موليا ظهره لها. فلتركض الكاذبة الصغيرة وراءه! فلتلحق به إن كانت تظن أن لديها ما تقوله له!
وفي تلك اللحظة، والغضب مستعر في صدره منها، استدار جيمي سريعا ونظر وراءه. فاكتشف أنه يقف قبالة صدع في الصخرة المعلقة يؤدي إلى الخلف لما بدا أنه قد يكون ممرا تحت الأرض من نوع ما. وقبل أن يدرك ماذا يفعل، راح يتوغل في لجاج الظلام حتى اصطدم فجأة بجدران لم تتح له أن يتراجع أكثر من ذلك. فالتفت في الحال ليرى ظل فتاة العاصفة وهي تسير خلال الأمواج أثناء مرورها أمام الفتحة. فعاد على الفور إلى المدخل. كانت لا تزال تركض عبر الشاطئ في بحث منهمك. انطلق جيمي عبر الماء متخذا مسارا دائريا وجعل يعدو هو الآخر. حين استطاعت فتاة العاصفة أن تعود إلى حيث كانت، أصبح هو على الجهة الأخرى من الطريق محتجبا وراء أشجار البلوط الحي والمادرونو والمانزانيتا ونباتات المريمية التي تنمو على سفح الجبل. وعلى عجل أخذ طريق العودة إلى الإسطبل.
وقد وجد جين تماما حيث توقع أن يجدها، على صهوة فرس، تدور في المضمار الذي أحاط بالإسطبل حيث تباع الخيول.
وحين رأته، تقدمت للسياج وسألته: «ما رأيك في هذا؟»
كان «هذا»، من وجهة نظر جيمي، أسوأ الخيول الثلاثة.
سألها جيمي: «ما هي مميزاته؟» ثم ضحك على الفور من النزعة الأنثوية في الرد الأول. «حسنا، إنه يليق على بدلتي من ناحية. فلن نضطر إلى إجراء اتصال هاتفي. ومن ناحية أخرى، نفسه طويل ويسهل امتطاؤه، كما أنه يحبني. يبدو أنه يحتاج إلى من يجزل له الحب والتدليل. ويبدو أنه سيصبح أفضل شكلا إن تحمم كثيرا، وتغذى تغذية سليمة، وامتطي ببعض الحكمة. فأغلب الأطفال الذين يمتطون هذه الخيول يعتقدون أنهم راكبون آلة، ولا يهتمون بالرفق بها وعدم تعريضها للإجهاد، ما دامت لا تخصهم. هذا الحصان يستحق حقا أن يعامل معاملة لائقة.»
وقفت جين على أحد الركابين، وسحبت ساقها الأخرى من فوق الحصان وهبطت إلى الأرض بخفة.
وقالت: «لم أخضع أيا منهم للاختبار النهائي. فهيا نجريه.»
ثم نادت العامل وقالت: «فلتأت بخيولي وأوقفها في صف مواجه لي. هناك بالضبط.»
كان المقصود ب «هناك بالضبط» خطا خياليا على بعد أربع أقدام تقريبا قبالتها. وحين رتبت الخيل على هذا النحو، وقفت جين أمامها. وتفحصتها بعناية. حيث اقتربت من كل حصان، وألقت برأسه كله على جسمها، واحدا تلو الآخر. وأحاطت أذنيه بيديها، وضغطت على قاعدتها، وشدتها بيديها مرتين أو ثلاثا، ثم نزلت بيدها تحت كل من خديه وتحت عنقه واحتضنت الرأس بشدة. لم يستطع جيمي أن يفهم ما الذي كانت تفعله على وجه التحديد بالعنق والخطم. وقد كررت هذه الحركات مع كل منهم، وحين جاءت للحصان الذي كانت تمتطيه أخيرا بدا لجيمي أن لمساتها كانت متأنية، وأنها ضمته أشد قليلا. وبالطبع أنهت الأمر بوضع خدها أمام أنف كل منها. ثم تراجعت مبتعدة ثماني أقدام أو عشرا وأطلقت صهيلا غريبا قصيرا، ومن بين الخيول الثلاثة تقدم الحصان الذي ركبته أخيرا وذهب إليها في الحال وأحنى رأسه مرة أخرى لتلمسه.
وضعت جين يدها عليه وقالت لجيمي: «إذا كان هذا الحصان كما أظنه، إذا كان حصاني، فسوف يتبعني.»
وربتت عليه بخفة مرة أخرى حول أذنيه وفوق أنفه وقالت للحصان: «هيا، يا تشيف!» وسارت عبر الإسطبل. فتبعها الحصان كما قد يتبعها كلب ظلت تدربه مدة طويلة.
وهكذا حسمت مسألة الحصان. كل ما تبقى لجيمي ليفعله هو أن يحجزه، ويحدد التاريخ والمكان الذي سيصل فيه تشيف، ثم التوقف في طريق العودة لشراء السرج والسوط اللذين أصر عليهما، ثم الذهاب إلى حديقة النحل في أقصر مدة ممكنة؛ لأنه من المفترض وصول أخشاب لبناء الإسطبل كما سيأتي جون كاري في اليوم التالي لمساعدته وكذلك النجار الذي استعان به لبناء مكان لمبيت تشيف.
حين غادرا السيارة ومشيا في الطريق متجهين إلى حديقة النحل، بدافع لم يستطع أن يخمن منشأه، واجه جيمي جين.
وسألها: «هل لاقى كل شيء قبولك؟»
وقفت جين ساكنة، وأخيرا رفعت عينيها فرأى جيمي فيهما ما رآه بالضبط في وجه فتاة العاصفة حين تركته من دون كلمة لتكتب له خطابا فيما بعد تبوح فيه؛ ومن ثم فقد تفهم.
قبلها مرة أخرى وقال: «فلتهرعي إلى المنزل الآن وسوف أتصل بك حين أنتهي من بناء الإسطبل ويأتي الحصان. تستطيعين عندئذ أن تأتي في السيارة وتحضري أباك وأمك ونانيت لتريهم تشيف وتريهم كيف تستطيعين امتطاءه. سوف أخبرهم أن الحصان ولوازمه هدايا مني لك لإعفائي من الدخول في دعوى قضائية أو أي تعقيدات مزعجة من أجل الحفاظ على أملاكي. هل سيصبح ذلك مناسبا؟»
لكن جين واسعة الحيلة، جين المستعدة دائما للكلام، جين المسيطرة على فناء المدرسة، المحبة لطوف الغطس، والشواطئ والجبال، واستديو التصوير، والمدينة والريف على حد سواء، أدارت ظهرها الصغير وهي ترتجف، ومضت بعيدا، وهي صامتة، بلا كلام.
ذهب جيمي إلى بابه وحيدا ليكتشف أي هاجس منعه من إحضار الطفلة معه.
الفصل الثاني والعشرون
الكذبة النبيلة
حين فتح البوابة ودخل، لاحظ جيمي أن الباب الأمامي كان مفتوحا. مما يعني أن مارجريت كاميرون، التي لديها المفتاح، موجودة في المنزل لتنظيم المكان. وبينما هو يفتح الباب السلكي ويجتاز الباب أيقن أنه يسمع أنينا منخفضا. فاجتاز حجرة المعيشة على عجل ووقف عند باب غرفة نومه. كان الفراش أول ما رآه، وقد تناثرت عليه تشكيلة نسائية من الخرز والدبابيس والخواتم والأساور والأمشاط، أغراض الزينة التافهة لفتيات اليوم، وقد ألقي بجانبها مفتوحا عقد الزواج الذي لم يكن قد تفحصه هو نفسه عن قرب بعد. وعلى مقربة شديدة منه وضعت لفة صغيرة بدا أن ما بداخلها حي، بينما جثمت مارجريت كاميرون على ركبتيها بجانب الفراش، بذراعين ممدودتين، ويدين قابضتين ممتلئتين بالخرز والأساور، وهي ساكنة تماما حتى إنه لم يدل على أنها تتنفس إلا أنينها الخافت.
كانت خزانة الأدراج مفتوحة، وقد تكوم فوقها جوارب جيمي الملفوفة وقمصانه وملابسه الداخلية، فأدرك أن مارجريت كاميرون كانت تتفحص ملابسه، بحثا عن القطع التي بحاجة إلى ترقيع. فعثرت تحت قمصانه على الصرة التي أعطيت له في المستشفى. كان فحوى ما حصل له ولها مبسوطا أمامه، مكتوبا بخط غاية في الوضوح. استطاع أن يفهم كل شيء، من العقد الماثل أمامه الذي كتب فيه: «أليس لويز كاميرون»، لولي.
قبل أن يتحرك، وقبل أن تشعر مارجريت بوجوده، كان ثمة شيء على جيمي أن يفعله. كان لا بد أن يقرر ما إن كان سيخبرها أنه كان متزوجا زواجا شرعيا من الفتاة التي كانت تعشقها لحد العبادة بتفان مزدوج لأم مترملة. فهو إما أن يخبرها بالحقيقة، أو يضطر إلى العيش في كذبة. لا بد أن يلتزم بقوله إن الطفل ابنه واسمه جيمس لويس ماكفارلين. قرر أن هذا ما سيضطر إلى فعله. بيد أنه إذا جعل مارجريت كاميرون تظن أنه كان متزوجا من لولي، وأنه يأبه لأمرها ولو بأقل درجة، وأن الطفل ابنه، فإنها ستتوقع منه الالتزام بمدة حداد على الأقل. وكان قد أخبرها بالفعل أنه لا يستطيع التظاهر بأنه في حداد على أم الطفل، التي لا يكاد يعرفها. كانت تلك أول مشكلة تخطر له. على جيمي أن يكون نبيلا مهما كبده ذلك من معاناة ذهنية أو جهد بدني، أو كلفه ماديا. ومن ثم فقد حسم أمره. فتقدم خطوة للأمام ومد ذراعيه.
وقال: «أماه، أيتها الأم كاميرون» لكنه لم يزد على ذلك.
ضغطت مارجريت كاميرون، التي كانت لا تزال قابضة على الخرز والأساور، بيديها على الفراش لتتوكأ عليه ونهضت. والتفتت نحوه، غير أن وجهها لم يعد الوجه الجامد المتصلب لامرأة معرضة لفقد صوابها. وإنما أصبح وجها منكسرا مليئا بالخطوط والتجاعيد من الأسى، لكنه وجه قد انسابت عليه دموع الارتياح المباركة حتى كادت منابع الحزن أن تجف. كان جيمي في دهشة شديدة حتى إنه لم يدر ماذا يقول. وكانت مارجريت كاميرون من بادر بالكلام.
إذ قالت: «لست بحاجة إلى اختلاق أي كذبة نبيلة يا جيمي. لست بحاجة إلى أن تجعلني أصدق أنك أبو هذا الطفل. لست بحاجة إلى أن تجعلني أصدق أنك خضعت قط لمراسم زواج من ابنتي أليس لويز شخصيا. لا يمكن أن تكون فعلت ذلك. فإنك لا تعرفها. إنني متأكدة أنك لم ترها قط. لا أعلم أين صادفت مولي. هناك على الشاطئ وأنت تأخذ حمام شمس، على الأرجح. ولا أعلم ما الذي رتبتماه فيما بينكما لتحاولا إنقاذ الموقف، لكنني متأكدة من شيء؛ إنني متأكدة مثلما أنا متأكدة من وقوفي أمامك أن دون كان الفتى الذي أحبته لولي. فكل مشكلة تورطت فيها يوما، كانت بسبب دون. فلم أعهدها مع أي شخص آخر. لم تحب أي شخص آخر ذلك الحب الذي أنساها نفسها. فهمت الآن أنهما ظلا طيلة حياتهما يهوى أحدهما الآخر، وحين أتأمل الأمر، أدرك أنه لا بد أن خطأ ما قد ارتكب بطريقة ما. لكنني لا أفهم الأمر بالضبط فحسب.»
أحاطها جيمي بذراعيه.
وقال: «صحيح يا مارجريت أنني لم أر ابنتك قط إلا حين استدعوني إلى المستشفى حيث جعلهم ذلك العقد يتوقعون مني أن أتسلم الطفل. لقد أعطيت مولي حق استخدام اسمي. وهي استخدمته في صالح أليس لويز. أعتقد أن من شأن ذلك أن يساعدك على فهم الأمر.»
ظلت مارجريت كاميرون واقفة بلا حراك، قابضة على عقود الخرز الرخيص والأساور البائسة الزهيدة، والدموع تنحدر على وجنتيها، وعيناها مثبتتان على جيمي.
ثم قالت: «حيث إن دون هو والد الصبي، فإنني على استعداد لأن أذكره بالخير بقدر ما أستطيع، وإنه مما يسرني أن تمحى في قلبي مشاعر الاستياء التي ظللت أكنها ضد مولي طيلة شهور. كنت أعلم أنها من ساعد أليس لويز على الرحيل، لكنني بالطبع لم أعلم أنها كانت تفعل ذلك لتنقذني، أنها كانت تبذل محاولات محمومة في تدبر طريقة ما تخفي بها عني المعلومة التي ستؤلمني أشد الألم. لم أكن على علم بذلك، لكنني عرفت الآن. ثمة شيء واحد فقط بإمكانك أن تفعله من أجلي. قد تكون هناك بعض التعقيدات القانونية. ربما يستطيع طبيب لويز أن يتدبرها من أجلك. لكن مهما يكن من أمر فلن يحمل هذا الطفل اسمك. لن يدعى جيمس لويس ماكفارلين. وإنما سيكون دونالد كاميرون. لا شك أن لي حقا في هذا القرار. سوف يسمى في السجلات باسم أبيه، وسوف يظل معي بالطبع. هلا غيرت أوراقه من أجلي؟»
فأجابها جيمي: «سأفعل بالطبع، فهو جائز قانونيا. سوف أتحدث مع الطبيب وأرى. أعتقد أنه غالبا سيستطيع تسوية الأمور على النحو الذي تريدينه من دون أي متاعب كبرى .»
ومن ثم اقترب من مارجريت كاميرون وأخذ من بين أصابعها الأغراض البائسة المتبقية من ابنتها وكومها. وأعاد عقد الزواج في الدرج.
وقال على سبيل التوضيح: «ربما أحتاج إليه في إنجاز ما تريدينه. أقسم لك إنني لم أكن قد اطلعت على العقد وهذه الأشياء. لم أكن أعلم، حين غادرت المنزل هذا الصباح، أنه سيحدث أي فرق إن صادفت تلك الصرة. لم أكن أعلم أنني قد تبرعت باسمي لأنقذ ابنتك حتى رأيت ذلك العقد على الفراش حين دخلت الحجرة.»
حمل جيمي الطفل والصرة وأحاط مارجريت كاميرون بذراعه وساعدها على العودة إلى منزلها. وفي طريقهما إلى هناك، حاول أن يقول لها كل ما أمكنه التفكير فيه لعله يعزيها، ولعله يهون عليها. وحين بلغا حجرة المعيشة، تحررت من ذراعه، وأخذت الصرة الصغيرة التي كانت تحملها فوضعتها على الطاولة، ووضعت الطفل برفق في سلته.
ثم قالت: «إنني ممتنة لك يا جيمي على لين قلبك وعلى نواياك الطيبة. أعلم أنك تحاول تعزيتي، لكن شاءت الظروف أن أصبح في اللحظة الراهنة امرأة لا يعزيها شيء. ربما أستطيع بعد سنوات أن أحظى بشيء من صفاء الذهن بشأن لولي. ربما أستطيع بعد سنوات أن أحب طفلها، وأستطيع أن أحبه ملء قلبي وأجد فيه نوعا من السلوى في مواجهة الشيخوخة، لكنني أؤكد لك الآن أن ذلك يبدو لي أشبه بافتراض ميئوس منه. يبدو لي أن شباب هذه الأيام، بجموحهم وهروبهم، في حالتي على الأقل، قد أصابتهم مصائب بغيضة. كان دون شابا طيبا، وتحت ضغط الحاجة إلى السفر وكسب المال وكسبه سريعا حتى يتمكن من الزواج من لولي، التحق بعمل قاده لهلاكه، وقضت هي مدة حملها في عذاب. ويشهد على مقدار عذابها أن صحتها تدهورت حتى إن العملية التي لا يفترض أن تسبب لها أذى دائما، قضت عليها. وها قد مات الاثنان. وها هو طفل من دون حق واضح وقانوني في اسم، ووصمة عار تلاحقه طوال حياته مع علم عدة أشخاص. وها هي مولي قد عانت معاناة تفوق التحمل طوال شهور . وها أنا ذا، بعد أن عشت حياتي أفعل أفضل ما في وسعي، لم يتبق لي سوى أن أحني رأسي لضربة لا يمكن تأويلها بأي شيء سوى أنها ضربة شائنة. لم يعد لي فيما تبقى من أيام سوى الاستكانة، والعلم بأن لدي شيئا لا بد أن أخفيه، لا بد أن أبقيه سرا، وأنني لن أرفع رأسي ثانية أبدا بكبرياء آل كاميرون أو كبرياء أسرتي. لا جدوى، يا جيمي. عد إلى منزلك، وإذا حدث واكتشفت أنت ومولي أنكما يحب أحدكما الآخر، فلا تستبقا الأمور. استقيما أمام الرب وأمام القانون. التزما بالشرف الأصلي لقومك وعشيرتك. التزما بقوانين بلدكما، وشرائع كنيستكما وشرائع الخالق. قد يبدو كلامي وعظا، لكن من أحق مني بالوعظ ولدي جنازتان بين يدي، جنازتا صغيرين ربيتهما في منزلي وأقسم أمام الله إنني فعلت أفضل ما في وسعي.
لكنه لم يكن كافيا. فقد اعتقد الصغيران أنهما يعرفان سبيلا أفضل، وتجاهلاني وتركاني، وإنني أتمنى أن يجعل الخالق الرحيم بطريقة ما آلاف الشباب في أنحاء البلاد، الذين يفكرون في تجربة نفس السبيل، آه، أتمنى أن يطلعهم الخالق الرحيم على الوجهين الميتين اللذين رأيتهما مؤخرا، وقد ماتا في ريعان الشباب، ماتا في عز رونقهما، غابا عن الحياة، وانتفى عنهما الحب! لا يستطيع ذانك الطفلان الوقوف بين يدي خالقهما والإجابة بأي شيء سوى أنهما «مذنبان»، ولا بد طوال ما تبقى لي من عمر أن أحمل عبء خطيئتهما. وإنني على حق حين أقول إن علي السير في ذلة محنية الرأس خلال ما تبقى لي من أيام. عد إلى منزلك واتركني، يا جيمي. فهذا أمر لا بد أن أخوضه وحدي.»
أخذ جيمي السيدة المكروبة بين ذراعيه وقبلها ثم تركها. لم يكن في يده شيء آخر يفعله. كان ما قالته صحيحا. لا سبيل لإنكاره. ولا مفر منه. ولا توجد كلمات عزاء يمكنه التفوه بها. لكنه عقد العزم على أن يحاول استخدام كل ما قد يكون لديه من تأثير على الشباب الذين يتعامل معهم من أجل التمسك بشريعة الخالق، وقوانين الإنسان، وقوانين الطبيعة التي تحث على عفة وطهارة الجسد.
الفصل الثالث والعشرون
ما زالت المغامرة مستمرة
سلك جيمي طريقه إلى المنزل متعثرا وسط الظلام الذي راح يهبط سريعا. تعثر لأن عينيه كانتا مشغولتين بمنظر ألهاه عن أي شيء آخر، حتى الطريق الذي يسير فيه. فكل ما استطاع أن يراه هيئة فتاة رشيقة ممشوقة القوام ممتلئة المنحنيات، ذات وجنتين متوردتين، وشعر طيرته الريح، ولهيب السخط يتطاير من عينيها الرماديتين البنيتين وهي تجري على الشاطئ بحثا عنه. خطر له أنه ربما كان في صالحه أنها لم تعثر عليه، فربما تتوفر له فرصة أفضل معها إذا تسنى لها مزيد من الوقت لتفكر قبل أن يحاول التحدث معها.
حين وصل إلى المقعد الواقع تحت شجرة الجاكرندا هوى إليه وجلس هناك، رجلا حائرا ومحطما. وراح يفكر في أنه قد تصرف تصرفا متسقا مع الصفة التي اشتهر بها الاسكتلنديون. فقد كبح غضبه وتحين فرصته وانتظر طويلا حتى يضرب ضربته. لكنه حين ضرب، كانت ضربته غاية في القسوة، غاية في العنف. لم تكن ثمة جدوى من محاولة تخيل أي شيء آخر، من التفكير بأي طريقة أخرى. لقد أصبح الموقف بأكمله واضحا أمامه الآن. لا يمكن أن تكون فتاة العاصفة أي أحد سوى مولي كاميرون، ابنة صهر جارته وصديقته. لا يمكن أن تكون سوى معلمة التربية القومية الأمريكية التي تعشقها فتاة الكشافة الصغيرة، وربما ما شهده كان نزهة أعقبت نهاية العام الدراسي مع مجموعة من التلاميذ الصغار. إذ أتى أمامه جمع متألق من الوجوه الصغيرة منها السوداء والسمراء والحمراء، ومنها ما هو بلون الشوكولاتة وبلون النحاس، وجوه أطفال ولدوا في أمريكا متمتعين بجميع حقوق المواطن الأمريكي. ثم جاء الوجه المنهمك للفتاة التي تقبلت الوضع على ما هو عليه إسهاما بنصيبها في سبيل النهوض ببلدنا وأمانها عبر محاولة تشكيل هذه المادة الغريبة واستخدامها لتصبح قوى يستعان بها مع مرور الوقت لتؤدي دورها في المساعدة على الحفاظ على حكومتنا وحمايتها.
بدا لجيمي في تلك الساعة أن الرجال الذين سافروا للخارج من أجل الحرب لم يفعلوا شيئا أنبل، ولا أشجع ولا أهم مما تفعله هذه الفتاة، هذه الفتاة التي تعايش الموقف عن قرب، التي تعد هؤلاء الأطفال الذين يمثلون لأوطانهم البذور التي قد تزدهر وتصبح أشجارا باسقة.
لن تواجهه صعوبة في العثور على فتاة العاصفة الآن. فإنه يعرف اسمها. ولمعرفة مكانها فكل ما عليه أن يسأل مارجريت كاميرون. كما أدرك، أيضا، وهو جالس في العتمة بينما يهب عليه عبير الزهور، وتلوح النجوم المتلألئة من خلال الفروع المتداخلة لشجرة الجاكرندا، التي ظلت طيلة شهور متتالية مغطاة بزهور في زرقة سماء الليل، أدرك لأول مرة حجم الألم الذي كان يمتلئ به قلب فتاة العاصفة يوم أتته وهو جالس بمفرده يحارب معركته على العرش بجوار البحر. كان يظن أنه أمام قلب جريح، مفطور من مشكلاته الخاصة. والآن أدرك أن ما كانت ستشعر به فتاة مثل مولي كاميرون، كيفما عهدها، حيال نفسها هو لا شيء مقارنة بما لا بد أنه قد اعتراها حين استيقظت على الحقيقة المزعجة أن شقيقها التوءم، القريب الوحيد الذي تبقى لها في العالم، هو المسئول عن الحسرة التي تقود أليس لويز كاميرون إلى هلاكها. لا بد أنه قد أثقل على عقل مولي كثيرا اليقين من أن وقوع لولي في مأزق سيودي بعقل العمة مارجريت العزيزة، إن لم يود بحياتها، وهي التي فتحت لهما بيتها حين كانا بلا مأوى ولا صديق ولا مال. استطاع جيمي أن يرى، متخيلا السنوات، كيف شعرت فتاة العاصفة بواجبها نحو امرأة فاضلة مثل مارجريت كاميرون، واستطاع أن يفهم لماذا كانت جزعة لدرجة أنها عزمت على أن تلقي بنفسها في التيار السفلي للمحيط لأنها لم تستطع تدبير المفر، لم تستطع أن تتصور سبيلا لتصحيح الخطأ الذي وقع، حيث امتدت يد القدر التي لا يمكن لقانون أن يتحكم فيها أو يصرفها وصرعت دونالد قبل أن تتاح له أي فرصة لإصلاح الضرر الذي كان سيصلحه قطعا كونه ليس رجلا نذلا. فقد قالت مارجريت إنه لم يكن فتى فاسدا، وقد رغبت أن يسمى ابنه على اسمه.
ظل جيمي جالسا تحت شجرة الجاكرندا حتى وقت متأخر من الليل، وحين بدأ أخيرا يتألم من وجع عظامه جراء البرد، نهض ودخل المنزل. أشعل المدفأة وجلس قبالتها على كرسي مقابل لكرسي سيد النحل ليمد ساقيه الطويلتين مستدفئا بالنيران. وبينما كان قلبه مضطربا وذهنه مشوشا لدرجة استعصاء التفكير منطقيا، تمنى من أعماقه أن يرى سيد النحل. تمنى لو يعود مايكل ورذينجتون إلى ذلك البيت الصغير، وهو الذي ظل سنوات عديدة روحه وحياته، فيستطيع الجلوس ساعة في كرسيه المعتاد بجانب المدفأة ويتشاور معه، ويساعده على أن يجد الأمل والتفاؤل، ويخبره ما الذي عليه فعله للتصالح مع فتاة فاضلة فضلا تعجز الكلمات عن وصفه، حتى إن جيمي لم يجد طريقة يصف بها رأيه فيها.
في ذلك اليوم، أجبر يدها، مكرها إياها بوحشية، على أن تكتب أمام العيون المندهشة لمجموعتها واحدة من أكثر الكلمات رداءة في أي لغة، ليس كتابتها فحسب، وإنما إعادة كتابتها ووضع خط تحتها. لقد أوجعها بالطريقة التي يعلم أنها ستوجعها، ثم اختفى وتركها موصومة بوصمة كريهة لنفسها ربما مثل أي شكل من العذاب خلق خصيصى لها.
جعل جيمي يحملق في الكرسي الشاغر متسائلا. إذ وجد نفسه يبتهل بالدعاء أن يحضر سيد النحل. لكنه لم يأت. ظل الكرسي شاغرا. في خياله فقط أمكن لجيمي أن يرى الرأس الأبيض، والوجه النحيف، والعينين الكبيرتين الداكنتين، واللحية الحريرية، واليدين النحيفتين الحساستين التي ترافق الأرواح المرهفة والمبدعة. لكنه لم يأت. وقد أحس في أعماقه أنه يعلم لماذا لم يأت. كان سيد النحل سيسلك سلوك الرجل النبيل، فقد هذبته معاناته الخاصة بعذاباتها المصيرية، وكان سيتصرف برقة بالغة، وما كان سيلقي بتلك الكلمة البشعة في وجه امرأة، وما كان سيجبرها على كي قلبها بها. ما كان سيد النحل سيفعله هو أن يقول: «عزيزتي مولي، يبدو أنك لم تقولي الحقيقة، أنك لم تكوني صريحة؛ لكن حيث إنني أعرفك حق المعرفة، فإنني أعلم أن هذا لا يمكن أن يكون حقيقيا، فهلا شرحت لي حقيقة الأمر؟ ما الذي حدث حقا؟»
أما الآن فلم يعد ضروريا أن يخبر جيمي بأي شيء. فقد عرف المسألة برمتها حين أرسل بصره فوق رأس مارجريت كاميرون المحني والحلي الزهيد الذي قبضت عليه بيديها؛ ليرى عقد الزواج مبسوطا على الفراش أمامها مكتوبا فيه اسمه واسم طفلتها الوحيدة.
كان الصباح بلونه الرمادي قد بدأ يتسلل للنوافذ حين ألقى مربي النحل بنفسه على الفراش من دون أن ينزع ملابسه ليستغرق في نوم مضطرب. ولم يستيقظ حتى سمع مارجريت كاميرون في المطبخ ومعها فطوره. فنهض وخرج إليها. نظرت إليه نظرة واحدة وقالت: «إنك لم تخلع عنك ملابسك يا جيمي، وأشك أن تكون قد نمت من الليل كله ساعة!»
فأجابها: «كذلك أنت يا مارجريت، ومن ثم ليس لديك أي أساس تستندين إليه في تأنيبي.»
فقالت مارجريت: «بل لدي. فإنني لم أمرض يوما في حياتي مرضا حقيقيا. ليس في صدري جرح لا بد من رعايته بعناية قصوى شهورا قادمة. إنما أحتمل جراحي حيث لا يمكن للعالم أن يكتشفها.»
صاح جيمي: «لا تفعلي ذلك!» وتابع: «لا تصبحي ناقمة يا مارجريت. إننا لا نعلم، ولا نستطيع أبدا أن نعلم لماذا تجري الأمور في هذا العالم على النحو الذي تجري عليه بالضبط؛ لكننا نعلم شيئا: نعلم أن الله موجود في ملكوته السماوي، وأنه رحيم ويحب العفو والرحمة، ونعلم أننا إذا عصيناه واتبعنا أهواءنا وخالفنا وصاياه سنعاقب عقابا قاسيا. ولكن للأسف لا يوجد إنسان يمكن أن ينال عقابه بمفرده في هذه الحياة. ولا يمكن لأحد أن يعاني دون أن يجعل شخصا آخر يعاني، لكن بطريقة ما لا بد أن تنتهي الأمور لصالح الجميع، حتى إن لم نستطع أن نرى كيف يمكن ذلك ونحن نلاقي من أحداث الدهر ما يؤلمنا أشد الألم. لقد ظننت حين نهضت وخرجت من المستشفى أنني سأقدم على مغامرة كبرى تخصني وحدي. وشعرت بحماس شديد للوقوف على قدمي ولفعل ما يحلو لي لبضعة أيام، ولتنفيذ أوامري أنا. وقبل الاسترسال فيما حدث لي، قد يكون هذا دليلا على أن الله قد أمرني بالنهوض والهروب وأن أكون تحت رحمة الطريق؛ لعلي أصبح ممتنا بحق حين يأتيني المأوى، وربما أرادني أن أكون هنا لتقديم ما أستطيع من عون لروح فتاة كسيرة في الأيام التي عاندتها فيها الحياة لدرجة مثيرة للشفقة.»
كانت مارجريت كاميرون تجهز أصناف الفطور على الطاولة والدموع الغزيرة تجري على وجنتيها، دموع امتن لها جيمي امتنانا تعجز الكلمات عن وصفه. فمن الممكن أن يعول على العقل في الحفاظ على توازنه حين يمنح الله راحة سكب الدموع في وقت الأزمة.
قال جيمي: «الآن سأتناول فطوري وأغتسل هنا في المنزل. وبعد ذلك سأرتدي أفضل ثيابي وأذهب للبحث عن مولي كاميرون. وبإمكانك تسهيل ذلك البحث علي بدرجة كبيرة إذا أعطيتني عنوانها، إذا أخبرتني أين قد أجدها.»
سألته مارجريت كاميرون: «منذ متى وأنت تعرف مولي؟»
قال جيمي: «منذ جئت إلى هنا تقريبا، لكن أرجو أن تدركي أنني لم أعلم أنها جارتي في الدار المجاورة، وأنها ابنة صهرك، حتى أمس.»
فقالت مارجريت كاميرون: «يمكنني أن أفعل شيئا. من الممكن أن أتصل بها على الهاتف وأسألها أن تأتي إلى المنزل اليوم وإذا كان من الممكن أن تأتي لتراها وفي أي ساعة تود أن تراك.»
سألها جيمي: «هلا تكرمت وفعلت ذلك؟»
جلست مارجريت حتى انتهى جيمي من فطوره. ثم مضى معها ليحمل الأشياء في طريق العودة، بزعم رؤية دونالد الصغير، والحقيقة أنه أراد أن يوعز إليها بالاتصال ومعرفة ما سيكون الرد. وحين ألمح إليها به فعلا، اتصلت مارجريت كاميرون مرتين أو ثلاثا ولم تلق ردا. كان رنين الهاتف على الطرف الآخر مسموعا بوضوح، وهكذا أدركا أن مولي ليست في المنزل. فقالت مارجريت إنه ليس بيدهم شيء سوى الانتظار لحين عودتها. وهكذا عاد جيمي إلى منزله في خيبة أمل. وبدلا من الاغتسال في حوض الاستحمام كما كان ينوي نزل إلى البحر، وفي مياهه الباردة المالحة ألقى بعضا من الألم والتعب من جسده. ثم استلقى على الرمال الساخنة وراح في النوم على الفور تقريبا.
ظل نائما حتى كاد النهار أن ينتصف. ثم عاد مارا بمارجريت كاميرون، وهذه المرة نسخ رقم الهاتف وأخذه معه. فقد عزم أن يبقي الخطوط مشغولة حتى يلقى ردا. بعد فشله المرة الأولى، أخرج أبهى الملابس التي استطاع أن يعثر عليها بين أشيائه وبين تلك التي منحه إياها سيد النحل وبسطها. متكلفا أقصى درجات الاهتمام التي تكلفها يوما، فاختار قميصا حريريا فاخرا ذا لون أرجواني شاحب رقيق مع ربطة عنق أغمق لونا لتناسبه. وارتدى السروال الرمادي والحذاء الأسود وأخرج المعطف الأسود. ساوره شعور أنه يود الظهور بأفضل مظهر في إمكانه. فقد كان سجله حافلا بما يؤخذ عليه لدرجة أنه شعر بأن عليه التأنق في مظهره الشخصي بقدر ما يستطيع. وبينما هو يرتدي قميصه أمام خزانة الأدراج، ويربط بعناية ربطة العنق التي أراد ارتداءها، سمع صوت سلك الباب الأمامي ينفتح وينغلق ثم أتاه صوت واضح، غشيته قليلا النبرات التي يحبها، مناديا: «هل أنت هنا يا مربي النحل؟»
تقدم جيمي إلى باب غرفة النوم، فأصبح في مواجهة مولي كاميرون على الجهة الأخرى من حجرة المعيشة. كان من المفاجأة في غاية حتى إنه لم يقو على قول «يا إلهي!» للتعبير عن مفاجأته. شعر أنه مجنون لاعتقاده أنه عثر على لمعة في العينين الرماديتين المائلتين للون البني، ونصف ضحكة التوت بها شفتا هذا الفم الفاغر الحمراوان. بينما تقف مولي كاميرون أمامه، مرتدية حذاء عالي الرقبة وسروالا قصيرا كما لو كانت على سفر، مع شعرها القصير الذي بعثرته الريح، ووجنتيها المتوردتين من الجهد، أو لعله الغضب.
لكن لا يمكن أن يكون غضبا؛ فإنه على يقين تام من أنه رأى الضحك على وجه مولي وهي تسأله: «جيمي ماكفارلين، هل ما زلت على اقتناع راسخ بأنني كاذبة؟»
مد جيمي ذراعين متوسلتين.
وقال: «يا فتاة العاصفة، إنني على اقتناع راسخ بأنك رائعة للغاية. ولطالما كان هذا ما اعتقدته. إذ لم أستطع أن أصدق، قط، ولو للحظة، أن حاجتك إلي كانت لنفسك، وقد تأكدت الآن من ذلك، علمت بشجاعتك وجسارتك، ولا أملك كلمات لتفسير التصرف الجبان الذي أقدمت عليه أمس. هل من الممكن أن تسامحيني؟ هل من الممكن أن تسامحيني، يا عزيزتي مولي؟»
لم يبد الأمر ممكنا بالفعل أن مولي كاميرون كانت تقف في مدخل بيته تنظر إليه بوجه مبتهج، يكاد يضحك.
وهي تقول: «بالنظر إلى ما حدث، وبالنظر إلى الطريقة التي استغللتك بها لتحقيق أغراضي؛ فلا بد أن أقر بأنني قصدت خداعك؛ أردت أن تصدق أنني أردت المساعدة لنفسي وأنا كنت أريدها طوال الوقت من أجل لولي، وكنت في أمس الحاجة إليها، لما أحمله من دين أنا ودون لأمها ...»
أمسكت بغتة عن الكلام، واختفت ضحكتها.
واستأنفت حديثها فقالت: «لقد تحدثت مع العمة مارجريت، وعرفت الآن أنك علمت بكل جوانب الموقف ما عدا شيئا واحدا. ثمة شيء آخر لا بد أن تعرفه. نتيجة لضياع أو تأخير في البريد، وصلني بعد شهر من وفاة دون خطاب منه فكان ذلك العزاء الوحيد لي أنا ولولي في الأيام المريرة حين كنت أخفيها في مسكني في المدينة وأتدبر خطاباتها لأمها، التي كان يفترض أنها تكتبها من ساكرامنتو. ستخمن بالطبع أنني رتبت دخولها المستشفى، وسددنا الفواتير من دخولنا مجتمعة. لم يخطر لي قط أنها لن تستطيع تحمل ولادة الطفل. لم أتوقع أن تغيب عن عالمنا، لكن أعتقد أنها توقعت ذلك لأنها أصرت على اتخاذ الاحتياطات لتلك الطارئة. لقد صغنا خطاباتها بحيث لا تفاجئ العمة مارجريت مفاجأة بالغة، وظننت أننا احتطنا لكل شيء. لكن لولي أخذت معها ذلك العقد في المستشفى. فقد كانت تشعر بالخزي الشديد، فأرادت أن تأخذه معها فقط حتى يمكن للأطباء والممرضات أن يروه. كانت مضطرة إلى تقديم دليل إذ كانت كرامتها في خطر كبير، وكان جرحها مؤلما؛ ومن ثم تصادف أن عثرت عليه العمة مارجريت أمس حين ذهبت لتبحث بين أشيائك لترى الثياب التي هي بحاجة إلى الرتق.»
قال جيمي: «فلتصدقيني أنني لم أفتح تلك الصرة. ولم أعلم لمن أعطيت العقد والخاتم. ولم أعلم باسم من استخرجت رخصة الزواج. لم أعلم سوى أنني لو كنت قد فتحت فمي وقلت إنني لم أر قط الفتاة التي اقتادوني إليها حين وصلت المستشفى كنت ربما عرضتها علانية للخزي الذي فقدت حياتها وهي تتحمله وحدها، فلزمت الصمت حتى حين وبخني الطبيب توبيخا لاذعا.»
مدت مولي كاميرون يديها وتقدمت لمنتصف الحجرة.
وهي تصيح: «ويحي!» وتابعت: «ويحي، وا أسفاه! لكن لولي أخبرت الممرضة - سمعتها وهي تخبرها - أنك كنت رائعا، أنك كنت كريما، أنه ما من رجل كان سيفعل مكرمة واحدة من المكارم التي فعلتها! لقد سمعتها!»
قال جيمي: «لقد دافعت الممرضة عني.» وتابع: «لقد أخبرته بأشياء جعلته يعتذر. دعك من ذلك! فليس له علاقة أو، على وجه الدقة، هو وثيق الصلة بما فعلته أمس.»
وعندئذ تقدم جيمي وفتح ذراعيه. «هل هناك أي أمل على الإطلاق، يا فتاة العاصفة؟ هل هناك أي أمل على الإطلاق، يا مولي كاميرون، أن تستطيعي الصفح عني؟ وهل ستصدقين أن الجرح الذي كنت مصابا به تلك الليلة على الصخرة، الجرح الذي كنت مؤمنا إيماني بوجود الله، بأنه سينهي حياتي خلال بضعة أشهر على الأكثر، هل ستصدقين أننا عالجناه، أنا وعمتك مارجريت، بالماء المالح وأشعة الشمس والغذاء الصحي؟ هل ستصدقين أنني أصبحت رجلا سليم البدن مرة أخرى، حتى إذا ترك الجرح في جسدي ندوبا؟ هل ستصدقين؟»
قالت مولي: «مهلا، يا جيمي! لم أعرف قط اسكتلنديا يستطيع أن يطيل الحديث هكذا! لقد أثرت عليك أمريكا تأثيرا فظيعا! لست رجلا اسكتلنديا حقيقيا على الإطلاق! إن الاسكتلندي الحقيقي كان سيختصر المسافات التي بيننا ويسألني: «هل تتزوجينني؟» ثم يعتبر موافقتي أمرا مسلما به وينصرف للمفيد!»
رفع جيمي منكبيه. وأخذ نفسا بلغ أعماق رئتيه وفعل ما قالته.
وبعد برهة، حين استعادت أنفاسها لتقوى على فعل أي شيء، أدارت مولي كاميرون رأسها وولت وجهها للسقف وقالت بلكنة اسكتلندية: «سأفعل. وقتما تريدني، سأفعل!»
فقال جيمي: «إنني أريدك حالا، اليوم إذا وافقت، بمجرد أن نصل إلى مكتب الزواج ونحصل على الوثائق الرسمية. فقد سئمت من المغامرات. وأريد أن أستقر وأقضي ما تبقى من حياتي أحبك وأرعى النحل.»
فسألته مولي كاميرون: «وماذا سيظن مكتب الزواج إذا جاءته الفتاة نفسها من أجل إذن آخر باسم آخر في تلك المدة القصيرة؟»
نظر جيمي إلى عينيها مباشرة وضحك وهو يحيطها بذراعيه بقوة. وأجاب: «فلتتركي لي مسألة المكتب! لا بد أنه في عهدة شخص إنساني النزعة. سأذهب وأتحدث معهم، وسأحرص على ألا يقع أي شيء مزعج حين تأتين. فقد استطعت في أوقات من حياتي إقناع الناس بمهارة.»
فقالت مولي كاميرون مصدقة على قوله: «صحيح، لا بد أن أؤكد على صحة ذلك القول! فإنني أوافق الرأي أنك أكثر الناس الذين عرفتهم يوما قدرة على الإقناع! إن لم يكن لديك قدرة هائلة على الإقناع ما كان سيخطر لي أن أعرضك لكل الإزعاج الذي عانيته بسببي منذ العاصفة العاتية.»
قال جيمي: «لا تشغلي بالك بالإزعاج أو معاناتي بسببك.» وتابع: «ثمة شيء واحد أريدك أن تعرفيه. هل تدركين في أعماق قلبك أنني لم أستطع قط أن أصدق أنك أردت ذلك العقد وذلك الخاتم واسمي لنفسك؟»
نظرت مولي كاميرون في عينيه مباشرة.
وقالت: «لم تستطع بالطبع!» وتابعت: «بالطبع لم تستطع! فأنت نفسك رجل مجبول على الانطلاق في الطبيعة بما يكفي لتعرف الفتاة التي تهوى الطبيعة حين تلتقيها. بالطبع ما كنت ستظن بي مثل هذا الظن!»
ثم وضعت ذراعيها حول عنق جيمي، ولم تشد رأسه إلا مسافة قصيرة حتى أصبح في مستوى رأسها.
ثم قالت: «إن رأيي فيك يا جيمي ماكفارلين ليس مما يكتب في كتب كثيرة، لكن لدي شيء أريد معرفته قبل أن تذهب إلى مكتب الزواج. هل ستسمح لي بالاستمرار في تدريس التربية القومية الأمريكية مرتين أو ثلاث مرات أسبوعيا؟ فإنني شغوفة بعملي! وأعتقد أنها من أهم الوظائف لأي امرأة في هذا البلد في عصرنا الحالي!»
فقال جيمي: «بالطبع، بالطبع سأسمح لك. سوف أسمح لك بفعل ما يحلو لك تماما، وسوف أذهب معك لأرى قدر العون الذي أستطيع تقديمه في تدريس التربية القومية الأمريكية. فقد حصلت على قدر من التدريب الصارم بعض الشيء؛ مما يجعلني ملائما لتدريس التربية القومية الأمريكية. وأعلم عن الحرب بضعة أشياء كما يجدر بأي رجل أن يعلم بها. ولدي سؤال أود أن أسألك إياه قبل الذهاب إلى مكتب الزواج. أود أن أعرف هل من الممكن أن نأتي بقس اسكتلندي من الكنيسة المشيخية البروتستانتية ليزوجنا هنا في هذا المنزل الذي يخصنا؟ أود أن أعرف هل ستذهبين إلى الكنيسة ومدرسة الأحد معي فيما بعد؟ أود أن أعرف هل سنراعي الله وتسود الأجواء الدينية في منزلنا؟ أود أن أعرف هل من الممكن لأولادنا أن ينشئوا على تقاليد كالتي ورثتها، والتي ورثتها بالطبع من والديك؟»
قالت مولي كاميرون: «بالطبع. بالطبع. لن أرغب في أن تسير الحياة على أي نحو آخر، وسيسرني كثيرا أن أتزوج هنا في المنزل الصغير الذي هو صرح مشرق للرجل الذي كان صديقا لنا نحن الاثنين. فأنا أيضا كنت أعرف سيد النحل وأحبه. لقد قرأت كل الكتب التي في مكتبته تقريبا. وكنت أنفض الغبار عن صوره وأثاثه الثمين. ولولا سقوطه مريضا كنت ستلقاني هنا قبل وقت طويل.»
قال جيمي: «لكن يبدو لي أنك جئت هنا عدة مرات.»
فقالت مولي: «قليلا جدا. فإنني لم أستطع الابتعاد طوال الوقت، يا عزيزي جيمي. فمنذ تلك الليلة على الصخرة وأنا غير قادرة على حمل قلبي على حسن التصرف متى فكرت فيك. لأحدثك بالحقيقة المحضة، إنني أحبك! أحبك يا جيمي ماكفارلين! أحببتك في العاصفة، وأحبك هنا وأنت في الحديقة، وأحببتك حتى على الشاطئ أمس حين واتتك الجرأة لتخبرني برأيك عني حقا. كنت حانقة إلى حد ما حين ركضت في أثرك، لكن حتى لو كنت وجدتك وفرغت من قول ما لدي فقد كنت غالبا سأخبرك بأنني أحبك، يا عزيزي مربي النحل.» «مهلا، كيف هذا؟» قال صوت من ورائهما، فاستدار جيمي ومولي ليريا فتاة الكشافة الصغيرة واقفة في المدخل بعينين متسعتين دهشة.
حياها جيمي تحية رقيقة: «مرحبا يا جين ميريديث!» وتابع: «تعالي لتري ماذا حدث في هذه العائلة للتو؟»
دخلت جين ميريديث ووضعت يديها عند محيط خصرها، وبمرفقين في مستوى خاصرتيها ورأس مائل، أخذت تحدق في الاثنين.
وقالت: «حسنا، إن سألني أحد عنك فسوف أقول إنك سريع في اغتنام الفرص! لا أظن أنه قد مضى أسبوع على وفاة زوجتك، وها هي مولي تتودد إليك، تماما مثل أبي وأمي! أيعقل ذلك!»
فقال جيمي: «ليس الأمر كذلك.» ثم أضاف: «لا بد أن تسلمي بأن في العالم بعض الأشياء التي لا يفهمها الصغار في سنك.»
فقالت: «حسنا، لا تبالغ أنت في التسليم بالأشياء. فربما أدرك أكثر مما تظن. لا تظن على أي حال أنني صدقت مطلقا أن جيمي الصغير كان له أم وماتت فأخذته أنت ورحلت تاركا إياها. ليست تلك الطريقة التي يتصرف بها الرجال حين تموت زوجاتهم. كانت قصة جيدة، لكن تستطيع أن تحدث بها من تشاء. أما أنا، فلا! يبدو منطقيا أكثر أن أجد مولي بين ذراعيك. ذلك مما أصدقه! لو كنت مكانك كنت سأفعل ذلك. صحيح، هل الأخشاب المكدسة في الخارج من أجل إسطبل تشيف؟»
فقال جيمي: «إنها كذلك.» «حسنا، أليس من الأفضل أن نبدأ العمل إذن؟»
ابتسم جيمي.
وسألها: «أليس من الممكن أن تمهليني يوما إجازة؟» وتابع: «ألا تعلمين أنني أرتدي معطفي حين أكون في كامل أناقتي بملابس يوم الأحد؟»
فقالت جين: «بلى، أعلم، لكن مولي ليست متأنقة بملابس يوم الأحد، وأنا لست متأنقة بملابس يوم الأحد. إن أنسب ما يمكنك فعله أن تذهب وتخلع عنك ملابسك وترتدي ملابس العمل وتأتي لتبدأ العمل في بناء إسطبلي. كذلك إن لم تكن أذناك مسدودتين تماما فقد كنت ستسمع أسراب النحل الثلاثة التي انتابتها حالة هياج؛ واحد منها يخصني، والاثنان الآخران يخصانك. لقد سمعتها من بعيد في آخر الشارع.»
تردد جيمي، وانفتح فمه، ونظر إلى مولي كاميرون. لكن مولي نفسها كانت تنتسب إلى أبوين اسكتلنديين.
فقالت: «لا بد أن تنقذ النحل بالطبع!» وأضافت: «ارتد ملابسك الخاصة بالنحل وسيطر على الأسراب. إذا كنت تريد الاحتفال فسأذهب حيث أستطيع التزين وسوف نحتفل هذا المساء.» «حسنا»، قال جيمي ذلك، وذهب إلى حجرته.
وبينما كان يغير ملابسه على عجالة سمع صفيرا حادا، فنظر من النافذة في الاتجاه الذي جاء منه الصوت. فرأى في اللحظة المناسبة بيل السمين الطيب والطفل المطيع وذا الوجه الملائكي، يطلون من فوق السياج من الموقع المميز الذي تكدست عليه الأخشاب، صف من الوجوه الحزينة إلى حد يفوق الوصف. يبدو أن أذني جين ميريديث قد انتبهت إلى أصوات أخرى غير النحل. فقد شاهدها جيمي وهي تقترب من جانب المنزل وتمضي صوب النداء، وهي تبدو تماما بهيئة الكشافة الصغير نفسها الذي عرفه من البداية.
فتح جيمي الباب ونادى على مولي بصوت خفيض: «تعالي لتشاهدي هذا. لقد تمرد فتيان الكشافة من بضعة أيام وضربوها ضربا مبرحا حتى كاد قلبها ينفطر. والآن ينادونها.»
وقف الاثنان عند النافذة ليشاهدا ما سيحدث.
توقفت جين على بعد عدة ياردات من السياج، وعلقت إبهاميها في حزام سروالها، وجعلت تتفحص فتيان الكشافة بوجه جامد.
وقالت باقتضاب: «حسنا. ماذا تريدون؟»
يبدو أن بيل السمين الطيب كان قد اختير متحدثا.
إذ وقف وقال: «هيا بنا! لننزل إلى الشاطئ لنلعب! سوف نلعب لعبة الهنود أو القراصنة أو قطاع الطرق، أو أي شيء تأمر به!»
أجابته قائدة الكشافة السابقة بسخرية متقنة: «أجل، بالطبع!» ثم أضافت: «أجل، بالطبع! بعد الطريقة التي عاملتموني بها ذلك اليوم! بعد الطريقة التي حنثتم بها في قسمكم! يا لكم من فتيان كشافة مطيعين، تقسمون يمينا مغلظة، ثم تتراجعون عنها. أجل، سأظل دائما أرافقكم!»
عندئذ عمد الطفل المطيع إلى استخدام عينيه السوداوين على أكمل وجه.
وتوسل إليها قائلا: «مهلا، أرجوك!» وتابع: «لم يعد هناك شيء مسل من دونك! لم ندرك أنك كنت تبتكر كل شيء. صراحة لم ندرك ذلك! لم نكن ندرك أننا ننفذ ما تخبرنا به. لقد أصبحنا بلا شاغل ينظر كل منا إلى الآخر مثل ثلاثة حمقى أغبياء. لم نعد نجد تسلية منذ أتينا ذلك الفعل بالغ الوضاعة. أرجوك! لن نفعل ذلك مرة أخرى! إننا في غاية الأسف. ألسنا كذلك يا بيل الطيب! ألسنا كذلك يا ذا الوجه الملائكي ؟ ألسنا في غاية الأسف؟»
قال ذو الوجه الملائكي: «بلى، إننا في غاية الأسف. ونقدم اعتذارنا. وكما قالا. لم نعد نجد أي متعة في اللعب. هلا أتيت أرجوك؟ بإمكانك أن تصبح القائد المزعج مرة أخرى. لن ينبس أي منا بكلمة.»
ارتفع منكبا جيمي، وانقبض صدره. ومال إلى الأمام وأراح يديه على حافة النافذة وجعل وجهه على مستوى رأس الطفلة نفسه. فتح فمه ثم تريث لحظة ليتأكد. لكن لم تبد جين ميريديث أي تردد البتة من جانبها؛ إذ جعلت تهز رأسها بتأن.
وقالت: «يحسن بكم أن تذهبوا وتتدبروا شيئا يمكنكم القيام به. كرروا كل الأشياء التي اعتدنا فعلها، وافعلوها على نحو أفضل. أما أنا فقد فرغت من أمركم. لن أعرض نفسي مرة أخرى لما فعلتموه بي ذلك اليوم! وأنا أغسل أسناني هذا الصباح رأيت التقويم ووجدت أن تاريخ اليوم هو الحادي والثلاثين. وأنا لن أعرض نفسي للضرب من ثلاثة صبية مرة أخرى إلا في الثاني والثلاثين من الشهر! هل فهمتم؟ فلتمضوا في سبيلكم فحسب! إنني لست خائفة منكم. فما زلت أستطيع أن أضرب أيا منكم، بل أستطيع ضربكم جميعا. ولست خائفة منكم. وإنما فرغت من أمركم. وعلى كل حال، تلك الألواح التي تقفون عليها هي من أجل بناء إصطبل لتشيف، وسوف أؤدي الحركات التي يؤديها معسكر الكشافة رقم اثنان وعشرون. فقد انتهيت من التمثيل. ومن الآن سأصبح من الكشافة الحقيقية، وسوف أمتطي حصانا وأحمل سوطا وأقرعه به إن راح يتراجع فوق مكان شديد الانحدار. لكنني لن أضربه فيما عدا ذلك. ولن أضرب أي شيء لا يعادلني في حجمي وقوتي. دعوا عنكم أمري! فقد انتهيت من أمركم!»
دارت جين ميريديث على عقبيها، ورفعت سروالها، وسارت في اتجاه الرواق الخلفي. كان مربي النحل متكئا على حافة النافذة، فأحكم ذراعه حول فتاة العاصفة وجعل يتفرس وجه جين وهي تتجه نحوه. كانت ملامحها ثابتة لا تتغير.
فقالت مولي كاميرون: «إنها تقصد ما قالته! سوف تثبت على موقفها!»
فضمها جيمي بشدة وقال: «آمين!»
অজানা পৃষ্ঠা