بسم الله الرحمن الرحيم [وبه ثقتي يا كريم] الحمد لله الذي نطقت بحديث وجوب وجوده وأزليته آيات سلطانه وعجائب عظمته، وشهدت بكماله في ذاته وصفته بينات عدله وحكمته، وأدهشت ألباب العارفين آثار جلال عزته، وأسلم من في السماوات والأرضين طوعا وكرها لقضائه ومشيته، الذي لا يضيع عنده عمل عامل بصحيح نيته، ولا يخيب لديه رجاء راج حسن الظن برحمته، بل لا يتعاظمه الغريق في لجة خطيئته أن ينقذه بسعة مغفرته.
أحمده شكرا لنعمته، وأعوذ بعفوه من عقوبته، وأسأله أن يشعرنا كثرة خشيته، ويشرب قلوبنا شدة مراقبته، ويجعل أقوالنا وأفعالنا كلها خالصة لوجهه، ويهدينا لما اختلف فيه من الحق بإذنه، ويدخلنا في عداد أوليائه الذين سبقت لهم منه الحسنى، وأسعدهم في الآخرة والأولى.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة تقربنا إليه زلفى، وتبعدنا عما يوجب لنا الندامة في العقبى.
وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله، أرسله هاديا إلى الطريقة المثلى، وداعيا إلى سبيله بالحكمة والموعظة الحسنة التي هي لما في الصدور شفاء.
صلى الله عليه وآله مصابيح الدجى، والحجج الواضحة لأهل الحجى، وسلم تسليما.
أما بعد: فهذا كتاب منتقى الجمان في الأحاديث الصحاح والحسان، أجمعنا على أن نورد فيه بتوفيق الله تعالى ما تبين لنا انتظامه في سلك الاتصاف
পৃষ্ঠা ১
بأحد الوصفين في الجملة (1) من الأخبار المتضمنة للأحكام الشرعية المتداولة في الكتب الفقهية التي اشتملت عليها الكتب الأربعة المختصة بين المتأخرين من علمائنا بزيادة الاعتناء لما رأوا لها من المزية، بحيث استأثرت الآن من بين كتب حديث [أهل البيت عليهم السلام] على كثرتها بالوجود والمعلومية، وهي الكافي للشيخ الجليل أبي جعفر محمد بن يعقوب الكليني، وكتاب من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق أبي جعفر محمد بن علي بن بابويه القمي، وتهذيب الأحكام، والاستبصار للشيخ السعيد أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي - رضي الله عنهم -.
والذي حدانا على ذلك ما رأيناه من تلاشي أمر الحديث، حتى فشا فيه الغلط والتصحيف، وكثر في خلاله التغيير والتحريف، لتقاعد الهمم عن القيام بحقه، وتخاذل القوى عن النهوض لتلافي أمره، مع أن مدار الاستنباط لأكثر الأحكام في هذه الأزمان عليه، ومرجع الفتاوي في أغلب المسائل الفقهية إليه. ولقد كانت حاله مع السلف الأولين على طرف النقيض مم هو فيه مع الخلف الآخرين، فأكثروا لذلك فيه المصنفات، وتوسعوا في طرق الروايات، وأوردوا في كتبهم ما اقتضى رأيهم إيراده من غير التفات إلى التفرقة بين صحيح الطريق وضعيفة، ولا تعرض للتميز بين سليم الإسناد وسقيمه، اعتمادا منهم في الغالب على القرائن المقتضية لقبول ما دخل الضعف طريقه، وتعويلا على الأمارات الملحقة لمنحط الرتبة بما فوقه كما أشار إليه الشيخ - رحمه الله - في فهرسته حيث قال: إن كثيرا من مصنفي أصحابنا وأصحاب الأصول ينتحلون المذاهب الفاسدة وكتبهم معتمدة.
وقال المرتضى - رضي الله عنه - في جواب المسائل التبانيات المتعلقة بأخبار الآحاد: إن أكثر أخبارنا المروية في كتبنا معلومة مقطوع على صحتها،
পৃষ্ঠা ২
إما بالتواتر من طريق الإشاعة والإذاعة، أو بأمارة وعلامة دلت على صحتها، وصدق رواتها، فهي موجبة للعلم، مقتضية للقطع، وإن وجدناها مودعة في الكتب بسند مخصوص معين من طريق الآحاد.
وغير خاف أنه لم يبق لنا سبيل إلى الاطلاع على الجهات التي عرفوا منها ما ذكروا حيث حظوا بالعين وأصبح حظنا الأثر، وفازوا بالعيان، وعوضنا عنه بالخبر، فلا جرم انسد عنا باب الاعتماد على ما كانت لهم أبوابه مشرعة، وضاقت علينا مذاهب كانت المسالك لهم فيها متسعة، ولو لم يكن إلا انقطاع طريق الرواية عنا من غير جهة الإجازة التي هي أدنى مراتبها لكفى به سببا لإباء الدراية على طالبها.
وأنا أرجو من كرم الله تعالى الإمداد بالمعونة على ما أنا بصدده في هذا الكتاب من بذل الجهد في استدراك ما فات، وصرف الوكد (1) إلى إحياء هذا الموات، ليكون مفتاحا لباب الدراية الأشب (2)، ومعوانا على بناء ربع الرواية الخرب، ومثابة يتبوؤها المستعدون لاستنباط الأحكام، ويلتقط منها المجتهدون درر الفوائد الموضوعة على طرف الثمام (3) ومفازة تنجيني من أخطار الآثام، وتلحقني بالصالحين في درجات دار السلام، واعتمدت فيه إيثار سلوك [سبيل] الإحتضار مع التزام الإشارة في موضع الإشكال إلى ما به ينحل، والتنبيه في محل التعارض على طريق الجمع حرصا على توفر الرغبة في تصحيحه وضبطه، وحذرا من تطرق الملل إلى الاشتغال بقراءته ودرسه.
পৃষ্ঠা ৩
ولهذين الوجهين أضربت عن الموثق مع كونه شريكا للحسن في المقتضى لضمه إلى الصحيح، وهو دلالة القرائن الحالية على اعتباره غالبا، على أن التدبر يقضى برجحانها في الحسن عليها في الموثق، والله سبحانه ولي التوفيق والتسديد، وهو حسبي ونعم الوكيل.
مقدمة تشتمل على فوائد اثنتي عشرة الفائدة الأولى: اصطلح المتأخرون من أصحابنا على تقسيم الخبر باعتبار اختلاف أحوال رواته إلى الأقسام الأربعة المشهورة وهي: الصحيح، والحسن، والموثق، والضعيف، واضطرب كلام من وصل إلينا كلامه منهم في تعريف هذه الأقسام، وبيان المراد منها.
فقال الشهيد في الذكرى: الصحيح ما اتصلت روايته إلى المعصوم بعدل إمامي.
والحسن ما رواه الممدوح من غير نص على عدالته.
والموثق ما رواه من نص على توثيقه مع فساد عقيدته ويسمى القوي، قال: وقد يطلق الصحيح على سليم الطريق من الطعن وإن اعتراه إرسال أو قطع.
وقد يراد بالقوي مروي الإمامي غير المذموم ولا الممدوح، أو مروي المشهور في التقدم غير الموثق. والضعيف يقابله، وربما قابل الضعيف الصحيح والحسن والموثق.
وأورد والدي - رحمه الله - على تعريف الصحيح أن إطلاق الاتصال بالعدل يتناول الحاصل في بعض الطبقات وليس بصحيح قطعا، وعلى تعريفي الحسن والموثق أنهما يشملان ما يكون في طريقه راو واحد بأحد الوصفين مع ضعف الباقي، فزاد في التعريفات الثلاثة قيودا أخرى لتسلم مما أورده عليها، فعرف في بداية الدراية الصحيح بما اتصل سنده إلى المعصوم بنقل العدل الإمامي عن مثله في جميع الطبقات وإن اعتراه شذوذ.
পৃষ্ঠা ৪
وعرف الحسن بما اتصل كذلك بإمامي ممدوح بلا معارضة ذم مقبول من غير نص على عدالته في جميع مراتبه أو بعضها مع كون الباقي بصفة رجال الصحيح.
وعرف الموثق بما دخل في طريقه من نص الأصحاب على توثيقه مع فساد عقيدته، لم يشتمل باقيه على ضعف، وقال في تعريف الضعيف: إنه ما لا يجتمع فيه شروط أحد الثلاثة.
وكلامه فيما عدا الصحيح جيد، وأما فيه فيرد عليه وعلى الشهيد أيضا أولا أن قيد العدالة مغن عن التقييد بالإمامي لأن فاسد المذهب لا يتصف بالعدالة حقيقة (1)، كيف والعدالة حقيقة عرفية في معنى معروف لا يجامع فساد العقيدة قطعا، وادعاء والدي - رحمه الله - في بعض كتبه توقف صدق وصف الفسق بفعل الماضي المخصوصة على اعتقاد الفاعل كونها معصية عجيب! وكأن البناء في تخيل الحاجة إلى هذا القيد على تلك الدعوى، والبرهان الواضح قائم على خلافها، ولم أقف للشهيد على ما يقتضي موافقة الوالد عليها ليكون التفاته أيضا إليها فلا ندري إلى أي اعتبار نظر.
ويرد عليهما ثانيا أن الضبط شرط في قبول خبر الواحد، فلا وجه لعدم التعرض له في التعريف، وقد ذكره العامة في تعريفهم وسيأتي حكايته. ولوالدي - رحمه الله - كلام في بيان أوصاف الراوي ينبه على المقتضى لتركه فإنه لما ذكر وصف الضبط قال: وفي الحقيقة اعتبار العدالة يغني عن هذا لأن العدل لا يجازف برواية ما ليس بمضبوط على الوجه المعتبر فذكره تأكيد أو جري على العادة، يعني عادة القوم حيث إنهم ملتزمون بذكر الضبط في شروط
পৃষ্ঠা ৫
قبول الخبر.
وفي هذا الكلام نظر ظاهر، فإن منع العدالة من المجازفة التي ذكرها لا ريب فيه وليس المطلوب بشرط الضبط الأمن منها، بل المقصود منه السلامة من غلبة السهو والغفلة الموجبة لوقوع الخلل على سبيل الخطأ كما حقق في الأصول، وحينئذ فلا بد من ذكره، غاية الأمر أن القدر المعتبر منه يتفاوت بالنظر إلى أنواع الرواية، فما يعتبر في الرواية من الكتاب قليل بالنسبة إلى ما يعتبر في الرواية من الحفظ كما هو واضح.
ويبقى الكلام على الزيادة الواقعة في آخر التعريف، أعني قوله: (وإن اعتراه شذوذ) فقد ذكر في الشرح أنه نبه بذلك على المخالفة لما اصطلح عليه العامة حيث اعتبروا في الصحيح سلامته من الشذوذ، وقالوا في تعريفه: (إنه ما اتصل سنده بنقل العدل الضابط عن مثله وسلم من شذوذ وعلة) واحترزوا بالسلامة من الشذوذ عما رواه الثقة مخالفا لما رواه الناس، فلا يكون صحيحا، ومن العلة عما فيه أسباب خفية قادحة يستخرجها الماهر في الفن كالإرسال فيما ظاهره الاتصال، ولا تنتهى المعرفة بها إلى حد القطع بل تكون مستفادة من قرائن يغلب معها الظن، أو توجب التردد والشك.
قال وأصحابنا لم يعتبروا في حد الصحيح ذلك، والخلاف في مجرد الاصطلاح وإلا فقد يقبلون الخبر الشاذ والمعلل، ونحن قد لا نقبلهما وإن دخلا في الصحيح.
وقال في آخر بحث المعلل: العلة عند الجمهور مانعة من صحة الحديث على تقدير كون ظاهره الصحة لولا ذلك، ومن ثم شرطوا في تعريف الصحيح سلامته من العلة، وأما أصحابنا فلم يشترطوا السلامة منها، وحينئذ فقد ينقسم الصحيح إلى معلل وغيره وإن رد المعلل كما يرد الصحيح الشاذ.
واتفق له في هذا الباب نوع توهم فذكر الشاذ في جملة ما اشتركت
পৃষ্ঠা ৬
فيه أقسام الحديث الأربعة من الأوصاف، والمعلل في عداد ما اختص بالضعيف.
ثم إنه ذكر المضطرب أيضا مع المعلل في المختص بالضعيف ولم يتعرض لبيان حال الاضطراب في قضية المنع من الصحة بالتصريح، وبعد نصه على عدم مانعية العلة يحصل الشك في استفادة مانعية الاضطراب من مجرد ذكر المضطرب في عداد المختص بالضعيف، فيحتمل أن يريد من الضعف فيه ما أراده في المعلل وهو عدم القبول، وقد وقع في أثناء كلامه التصريح بهذا الحكم حيث قال: (إن الاضطراب مانع من العمل بمضمون الحديث). ولعل فيه إشعار بمضاهاته للمعلل، وذكر في جملة هذا البحث: (أن الاضطراب مشروط بتساوي الروايتين المختلفتين في الصحة (1) وغيرها من موجبات الترجيح لإحديهما على الأخرى). وظاهر هذا الكلام يعطي عدم المانعية من الصحة أيضا لكنه محتمل لإرادة الصحة المنتهية إلى محل الاضطراب بالنظر إلى ما يقع منه في السند، فإنهم يستعملونها في نحو هذا المعنى كما سنذكره، وبالجملة فلكل من احتمالي إرادة المانعية من الصحة وعدم إرادتها وجه.
أما الأول فلتصريحه بها في بعض كتبه الفقهية فقال: (إن الاضطراب في الاستناد يمنع من صحة الرواية).
وأما الثاني فلأن ظاهر تعريفه للصحيح يقتضيه إذ هو متناول للمضطرب إذا اتصلت روايته إلى المعصوم بنقل العدل الإمامي - إلى آخر التعريف، ولأن له في موضع آخر من الكتب الفقهية كلاما يكاد أن يكون صريحا في نفي المانعية من الصحة وأنه إنما يمنع من القبول حيث قال: (إن اضطراب السند يلحق الخبر الصحيح بالضعيف كما حقق في دراية الحديث) وحينئذ فالمناقشة متوجهة إليه على كل حال، إما باضطراب كلامه وإما بانتقاض تعريفه للصحيح في طرده بالمضطرب.
وأقول: الذي يقتضيه النظر والاعتبار في هذا المقام أن مدار تقسيم
পৃষ্ঠা ৭
الحديث إلى الأقسام الأربعة على رعاية حال الرواة وصفاتهم التي لها مدخل ما في قبول الرواية وعدمه، وأن مناط وصف الصحة هو اجتماع وصفي - العدالة والضبط في جميع رواة الحديث مع اتصال روايتهم له بالمعصوم، فيجب حينئذ مراعاة الأمور المنافية لذلك، ولا ريب أن الشذوذ بالمعني الذي فسره به، وهو ما روى الناس خلافه لا منافاة فيه بوجه.
نعم وجود الرواية المخالفة يوجب الدخول في باب التعارض وطلب المرجح، وظاهر أن رواية الأكثر من جملة المرجحات فيطرح الشاذ بهذا الاعتبار، وهو أمر خارج عن الجهة التي قلنا: إنها مناط وصف الصحة، كما لا يخفى.
وأما عدم منافاة العلة فموضع تأمل من حيث إن الطريق إلى استفادة الاتصال ونحوه من أحوال الأسانيد قد انحصر عندنا بعد انقطاع طريق - الرواية من جهة السماع والقراءة في القرائن الحالية الدالة على صحة ما في الكتب ولو بالظن، ولا شك أن فرض غلبة الظن بوجود الخلل أو تساوى احتمالي وجوده وعدمه ينافي ذلك، وحينئذ يقوى اعتبار انتفاء العلة في مفهوم الصحة، ودعوى جريان الاصطلاح على خلاف ذلك في حيز المنع لإنه اصطلاح جديد كما سنوضحه، وأهله محصورون معروفون.
والتعويل في هذه الدعوى إما على ظاهر تعريف الشهيد، وما في معناه باعتبار عدم التعرض للتقييد بانتفاع العلة، وإما على وصفهم الأخبار المعللة بالصحة، وكلا الوجهين لا يصلح لإثباتها، أما التعريف فلما عرفت من قصوره عن إفادة ما هو أهم من ذلك فكيف يؤمن قصوره في هذه المادة أيضا، وأما الوصف فالحال يشهد بوقوعه حيث يتفق عن غفلة وعدم التفات لا عن قصد وشعور بالعلة واعتماد لعدم تأثيرها، وهذا بين لمن تدبر.
وبقى الكلام في حكم الاضطراب، ولابد من بيان حقيقته أولا، وقد ذكر والدي - رحمه الله - في شرح بداية الدراية: أن الحديث المضطرب
পৃষ্ঠা ৮
هو ما اختلف راويه فيه، فيروي مرة على وجه، وأخرى على وجه آخر مخالف له.
ثم قال: ويقع في السند بأن يرويه الراوي تارة عن أبيه، عن جده مثلا، وتارة عن جده بلا واسطة، وثالثة عن ثالث غيرهما، كما اتفق ذلك في رواية أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالخط للمصلي سترة حيث لا يجد العصا، ويقع في المتن كخبر اعتبار الدم عند اشتباهه بالقرحة بخروجه من الجانب الأيمن فيكون حيضا أو بالعكس.
وما ذكره في بيان اضطراب المتن جيد وأن كان وقوعه بشرطه في أخبارنا الخالية من مقتض للضعف سواه غير معلوم (1) وليس للبحث عن الواقع فيما ضعف بغيره طائل. وأما بيان اضطراب السند فللنظر فيه مجال.
أما أولا فلأنه اعتبر فيه وقوع الاختلاف على ثلاثة أوجه، وصرح في بعض كتبه الفقهية بأن (رواية الراوي عن المعصوم تارة بالواسطة وأخرى بدونها اضطراب في السند يمنع من صحته).
وقد أشرنا إلى هذا الكلام آنفا، وهو يقتضي الاكتفاء في تحقق الاضطراب بوقوع الاختلاف في السند على وجهين فقط كما هو ظاهر.
وأما ثانيا فلأن تمثيله للاختلاف الواقع على الأوجه الثلاثة التي ذكرها بالحديث المروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم غير مطابق لما في دراية حديث العامة
পৃষ্ঠা ৯
مع أن رواية الحديث المذكور إنما وقعت من طرقهم، وهي الأصل في هذا النوع من الاضطراب كغيره من أكثر أنواع الحديث، فإنها من مستخرجاتهم بعد وقوع معانيها في حديثهم فذكروها بصورة ما وقع، واقتفى جماعة من أصحابنا في ذلك أثرهم، واستخرجوا من أخبارنا في بعض الأنواع ما يناسب مصطلحهم وبقي منها كثير على محض الفرض.
ولا يخفى أن إثبات الاصطلاح للمعنى بعد وقوعه وتحققه أبعد عن التكلف واحتمال الخطأ من إثبات المعنى للاصطلاح بعد وقوعه وتحققه، وأن البحث عما ليس بواقع واتباعهم في إثبات الاصطلاح له قليل الجدوى، بعيد عن الاعتبار، ومظنة للإبهام، هذا، وصورة الاضطراب الواقع في سند الحديث المذكور على ما حكاه بعض محققي أهل الدراية من العامة (1) أن أحد رواته رواه تارة عن أبي عمر ومحمد بن حريث بساير الإسناد، وتارة عن أبي عمرو بن حريث، عن أبيه بالإسناد، و ثالثة عن أبي عمرو بن محمد بن عمرو بن حريث، عن جده حريث بن سليم بالإسناد، ورابعة عن أبي عمرو بن حريث، عن جده حريث، وخامسة عن حريث بن عمار بالإسناد، وسادسة عن أبي عمرو بن محمد، عن جده حريث بن سليمان، وسابعة عن أبي محمد بن عمرو بن حريث عن جده، حريث - رجل من بني عذرة -.
وقال بعد حكاية هذا القدر: إن فيه اضطرابا غير ما ذكر.
وأما ثالثا فلأن منع الاضطراب الواقع على الوجه المذكور في كلام العامة من صحة الخبر وقبوله أمر واضح لدلالته على عدم الضبط الذي هو شرط فيهما، وبهذا عللوا اقتضاء الاضطراب ضعف الخبر، ولا ريب فيه كما لا شك في عدم وقوع مثله في أخبارنا لا سيما السليمة من الضعف بغيره، فالبحث عن حكمه وبيان منعه من الصحة لا طائل تحته.
وأما ما يقع منه على الوجه الذي ذكره والدي - رحمه الله - وخصوصا
পৃষ্ঠা ১০
المصرح به في بعض كتبه الفقهية، فدعوى منعه من الصحة أو القبول لا يساعد عليها اعتبار عقلي ولا دليل نقلي، وقد أحال معرفة وجه المانعية فيما ذكره في الكتب الفقهية على ما تقرر في علم الدراية فعلم أنه توهم، وربما أعان عليه ما يتفق في كلام الشيخ من رد بعض الأخبار الضعيفة معللا باختلاف رواية الراوي له، ويكون ذلك واقعا في الاسناد على وجهين، والشيخ مطالب بدليل ما ذكره إن كان يريد من التعليل حقيقته.
نعم يتفق كثيرا في أخبارنا المتكررة وقوع الاختلاف في أسانيدها بإثبات واسطة وتركها، ويقوى في النظر أن أحدهما غلط من الناسخين فيجب حينئذ التصفح لمظان وجود مثله ليعثر على ما يوافق أحد الأمرين بكثرة فيترجح لا محالة به، وما أظن وقوع الاختلاف على هذا النحو في طرق أخبارنا إلا ويمكن التوصل إلى معرفة الراجح فيه بما أشرنا إليه من الطريق، ولكنه يفتقر في الأغلب إلى كثرة التفحص والتصفح. وإذا كان احتمال الغلط في النسخ مرجوحا في نظر الممارس المطلع على طبقات الرواة حكم لكل من الطريقين المختلفين بما يقتضيه ظاهره من صحة وغيرها، ولا يؤثر هذا الاختلاف شيئا لأن رواية الحديث بالواسطة تارة وبعدمها أخرى أمر ممكن في نفسه، غير مستبعد بحسب الواقع، ولا مستنكر. واستبعاد رواية الراوي بواسطة هو مستغن عنها مدفوع بأنه من المحتمل وقوع الرواية منه بالواسطة قبل أن يتيسر له المشافهة، وبأنه قد يتفق ذلك بسبب رواية الكتب حيث يشارك الراوي المروي عنه في بعض مشيخته، ويكون له أيضا كتب ثم يورد المتأخر عنهما من كتب كل منهما حديثا يرويانه معا عن بعض المشيخة موصول الإسناد في محل إيراده من كتب المروي عنه مع اشتماله على ذلك الراوي إما لاختصاص الرواية عن المروي عنه به أو إيثارا له، وهذا مما لا بعد فيه، ولا محذور، وهو يقتضي الرواية بالواسطة تارة وبدونها أخرى.
পৃষ্ঠা ১১
ومن المواضع التي هي مظنة ذلك رواية أحمد بن محمد بن عيسى لكتب - الحسين بن سعيد، فإنه يشاركه في جملة من مشيخته، فإذا أورد الشيخ من كتب ابن سعيد حديثا متصلا من طريق ابن عيسى عن بعض من يشتركان في الرواية عنه، وأورده في موضع آخر من كتب ابن عيسى صار مرويا بالواسطة وبدونها، وبالجملة فانتفاء الاضطراب في مثل هذه الصور معنى وحكما أظهر من أن يحتاج إلى بيان. وقد علم بما حررناه أن الاضطراب داير في كلام من ذمره بين معنيين: أحدهما غير واقع في أخبارنا، فلا حاجة لنا في تعريف الصحيح إلى الاحتراز عنه، والآخر غير مناف للصحة بوجه، فهو أجدر بعدم الاحتياج إلى الاحتراز عنه، فتحصل مما حققناه في المقام أن المناسب في تعريف الصحيح أن يقال: هو متصل السند بلا علة إلى المعصوم عليه السلام برواية العدل الضابط عن مثله في جميع المراتب.
إذا عرفت هذا فاعلم أن إطلاق الصحيح على سليم الطريق من الطعن وإن اعتراه إرسال أو قطع كما ذكره الشهيد - رحمه الله - موضع بحث، وقد اتفق فيه لجماعة من المتأخرين توهم غريب، وشاركهم فيه والدي - رحمه الله - فذكر في شرح بداية الدراية: (أنه قد يطلق الصحيح على سليم الطريق من الطعن بما ينافي الاتصال بالعدل الإمامي وإن اعتراه مع ذلك إرسال أو قطع).
ثم قال: (وبهذا الاعتبار يقولون كثيرا: روى ابن أبي عمير في الصحيح كذا، وفي صحيحته كذا مع كون روايته المنقولة كذلك مرسلة، ومثله وقع لهم في المقطوع كثيرا) قال: (وبالجملة فيطلقون الصحيح على ما كان رجال طريقه المذكورون فيه عدولا إمامية وإن اشتمل على أمر آخر بعد ذلك حتى أطلقوا الصحيح على بعض الأحاديث المروية عن غير إمامي بسبب صحة السند إليه، فقالوا: في صحيحة فلان، ووجدناها صحيحة بمن عداه، وفي الخلاصة وغيرها: أن طريق الفقيه إلى معاوية بن ميسرة، وإلى
পৃষ্ঠা ১২
عائذ الأحمسي، وإلى خالد بن نجيح، وإلى عبد الأعلى مولى آل سام صحيح مع أن الثلاثة الأول لم ينص عليهم بتوثيق (1) ولا غيره، والرابع لم يوثقه وإن ذكره في القسم الأول.
وكذلك نقلوا الإجماع على تصحيح ما يصح عن أبان بن عثمان مع كونه فطحيا) قال: (وهذا كله خارج عن تعريفي الصحيح خصوصا الأول المشهور).
وأقول: إن من أمعن نظره في استعمالهم للصحيح في أكثر المواضع التي ذكرها عرف أنه ناش من قلة التدبر، وواقع في غير محله إذ هو نقض للغرض المطلوب من تقسيم الخبر إلى الأقسام الأربعة، وتضييع لاصطلاحهم على إفراد كل قسم منها باسم ليتميز عن غيره من الأقسام، والأصل فيه على ما ظهر لي أن بعض المتقدمين من المتأخرين أطلق الصحيح على ما فيه إرسال، أو قطع، نظرا منه إلى ما اشتهر بينهم من قبول المراسيل التي لا يروي مرسلها إلا عن ثقة، فلم ير إرسالها منافيا لوصف الصحة، وستعرف أن جمعا من الأصحاب توهموا القطع في أخبار كثيرة ليست بمقطوعة فربما اتفق وصف بعضها بالصحة في كلام من لم يشار كهم في توهم القطع، ورأى ذلك من لم يتفطن للوجه فيه فحسبه اصطلاحا واستعمله على غير وجهه، ثم زيد عليه استعماله فيما اشتمل على ضعف ظاهر من حيث مشاركته للإرسال والقطع في منافاة الصحة بمعناها الأصلي، فإذا لم يمنع وجود ذينك المنافيين من إطلاق الصحيح في الاستعمال الطاري فكذا ما في معناهما، وجرى هذا الاستعمال بين المتأخرين، وضيعوا به الاصطلاح هذا،
পৃষ্ঠা ১৩
وما استشهد به والدي - رحمه الله - في [هذا] المقام من الخلاصة وغيرها لا يصلح شاهدا، فإن الغرض منه بيان حال الطرق إلى الجماعة المذكورين لا عنهم، وإن وقعت العبارة فيه بكلمة (عن) في الأغلب وذلك واضح لمن نظر.
ثم إن إطلاق الصحة على تلك الطرق المعينة استعارة لحظت فيها علاقة المشابهة بينها وبين طرق الأخبار الصحيحة في كون رجالها كلها ثقات، والقرينة فيه واضحة بخلاف قولهم: صحيح فلان، وصحيحته مع كون الطريق ضعيفا، فإن إطلاق الصحة فيه واقع على مجموع السند المفروض ضعفه، وذلك تعمية وتلبيس من غير ضرورة. وقوله: (إنهم يقولون كثيرا: روى ابن أبي عمير في الصحيح) وهم، إنما يقال: روى الشيخ أو غيره في الصحيح عن ابن أبي عمير مثلا، وبين الصورتين فرق ظاهر، فإن إطلاق الصحة على طريق الشيخ إلى ابن أبي عمير نظير إطلاقها في الخلاصة على الطريق إلى الجماعة المجهولين وقد وقعت وصفا لذلك القدر المعين من السند، وأما بالصورة التي ذكرها فالصحة وقعت فيها وصفا لمجموع الطريق مع اشتماله على موجب الضعف، ولو وجد مثله في كلام بعض أوساط المتأخرين، فلا شك أنه واقع عن قصور معرفة بحقيقة هذا الاستعمال. وما ذكره أخيرا من نقلهم الإجماع على تصحيح ما يصح عن أبان بن عثمان مع كونه فطحيا ليس من هذا الباب في شئ، فإن القدماء لا علم لهم بهذا الاصطلاح قطعا لاستغنائهم عنه في الغالب بكثرة القرائن الدالة على صدق الخبر وإن اشتمل طريقه على ضعف كما أشرنا إليه سالفا، فلم يكن للصحيح كثير مزية توجب له التمييز باصطلاح أو غيره، فلما اندرست تلك الآثار واستقلت الأسانيد (1) بالأخبار اضطر المتأخرون إلى تمييز الخالي من الريب وتعيين البعيد عن الشك، فاصطلحوا على ما قدمنا بيانه، ولا يكاد يعلم وجود هذا الاصطلاح قبل زمن العلامة، إلا من السيد جمال الدين بن طاووس - رحمه الله -.
পৃষ্ঠা ১৪
وإذا أطلقت الصحة في كلام من تقدم فمرادهم منها الثبوت أو الصدق، وقد قوي الوهم في هذا الباب على بعض من عاصرناه من مشايخنا، فاعتمد في توثيق كثير من المجهولين على صحة الرواية عنهم واشتمالها على أحد الجماعة الذين نقلوا الإجماع على تصحيح ما يصح عنهم وهم ثمانية عشر رجلا ذكرهم الكشي، وحكى كلامه في شأنهم جمع من المتأخرين، وأبان بن عثمان أحد الجماعة.
وتكرر في كلام من تأخر الطعن في (أبان) بالفطحية، وأول من ذكره فيما يظهر المحقق - رحمه الله - ولو يأتي به مجردا لوقع في حيز القبول، لكنه عزاه في المعتبر إلى الكشي بطريق التنبيه على المأخذ بعد إيراده بعبارة تعطي الحكم به، فعلم بذلك أنه وهم لأن المذكور في الكشي حكاية عن علي بن الحسن بن فضال أن أبان بن عثمان كان من الناووسية، وعلي بن فضال فطحي لا يقبل جرحه لأبان، على أنا لو قبلناه باعتبار توثيق الأصحاب له كان أبان أحق بقبول الخبر لما علم من نقل الإجماع على تصديقه، فاللازم قبول خبر أبان على كل حال.
وقد تحرر مما أوضحناه أن الصحة إذا وقعت وصفا للحديث أفادت سلامة سنده كله من أسباب الضعف، وكذا إذا وصف بها الإسناد بكماله، وهي في الموضعين جارية على قانون الاصطلاح المتحقق، وأما إذا وصف بها بعض الطريق فهي استعارة مقترنة بها القرينة، ويبقى إطلاقها في صورة الإضافة إلى بعض الرواة على جملة السند مع اشتماله على موجب الضعف، وليس له وجه مناسب وإنما هو محض اصطلاح ناش عن توهم كما بيناه، والأولى هجره رأسا لبعده عن الاعتبار، وإضراره بالاصطلاح السابق، وإن كان قد يكثر في كلام أواخر المتأخرين استعماله فليترك لهم، ويجعل استعمالا مختصا بهم.
পৃষ্ঠা ১৫
الفائدة الثانية الأقرب عندي عدم الاكتفاء في تزكية الراوي بشهادة العدل الواحد، وهو قول جماعة من الأصوليين، ومختار المحقق أبي القاسم بن سعيد (1)، والمشهور بين أصحابنا المتأخرين الاكتفاء بها.
لنا أن اشتراط العدالة في الراوي، يقتضي اعتبار حصول العلم بها، وظاهر أن تزكية الواحد لا تفيده بمجردها، والاكتفاء بالعدلين مع عدم إفادتهما العلم إنما هو لقيامهما مقامه شرعا، فلا يقاس عليه.
حجة المشهور وجوه: أحدها أن التزكية شرط للرواية، فلا تزيد على مشروطها، وقد اكتفى في أصل الرواية بالواحد. الثاني عموم المفهوم في قوله تعالى: (إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا (2)) نظرا إلى أن تزكية الواحد داخلة فيه، فإذا كان المزكي عدلا لا يجب التثبت عند خبره، واللازم من ذلك الاكتفاء به. الثالث أن العلم بالعدالة متعذر غالبا، فلا يناط التكليف به، بل بالظن وهو يحصل من تزكية الواحد.
والجواب عن الأول: المطالبة بالدليل على نفي زيادة الشرط على المشروط فهو مجرد دعوى لا برهان عليها، وفي كلام بعض العامة أن الاكتفاء في التزكية بالواحد هو مقتضى القياس، ولا يبعد أن يكون النظر في هذا الوجه من الحجة إلى ذلك، ولم يتفطن له من احتج به من المنكرين للعمل بالقياس، سلمنا ولكن الشرط هو العدالة، والمشروط هو قبول الرواية، والتقريب معهما لا يتم، وإن توهم بعض المتأخرين خلافه فهو من نتائج قلة التدبر لأن الواحد غير كاف في الاخبار بالقبول الذي هو المشروط على هذا التقدير ليلزم مثله في الاخبار بالشرط الذي هو العدالة، بل الذي يكفي فيه الواحد هو نفس الرواية، والعدالة ليست شرطا لها. وأما التزكية فإنما
পৃষ্ঠা ১৬
هي طريق من طرق المعرفة بالعدالة، والطريق إلى معرفة الشرط لا يسمى شرطا، سلمنا ولكن زيادة الشرط بهذا المعنى على مشروطه بهذه الزيادة المخصوصة أظهر في الأحكام الشرعية عند العاملين بخبر الواحد من أن تبين إذا أكثر شروطها تفتقر المعرفة بحصولها على بعض الوجوه إلى شهادة الشاهدين، والمشروط يكفي فيه الواحد. والعجب من توجيه بعض الفضلاء المعاصرين لدعوى عدم زيادة الشرط على المشروط، بأنه ليس في الأحكام الشرعية شرط يزيد على مشروطه، وأعجب من ذلك استبعاده للجمع بين الحكم بعدم قبول قول العدل الواحد في التزكية والحكم بقبوله في إثبات الأحكام الشرعية به كالقتل، وأخذ الأموال، قائلا: إن ذلك غير مناسب شرعا.
وليت شعري كيف يستبعد ذلك ويتخيل عدم مناسبته لقانون الشرع من عرف حال العدل في الشهادة وفي تزكية الشاهد، فإن المعنى الذي استبعده في تزكية الراوي متحقق في الشهادة، وتزكية الشاهد على أبلغ وجه ألا ترى أن العدل الذي يثبت بخبره الأحكام الجليلة كالقتل وأخذ الأموال، لو شهد لزيد بفلس يدعيه على عمرو لم يثبت بشهادته وحدها، وكذا لو زكى شاهدين به غير معروفي العدالة، من طريق آخر، والوجه الذي يدفع به الاستبعاد هنا قائم هناك بطريق أولى، إذ لا شك أن عدالة الراوي أقوى حكما من مثل هذه الدعوى، ومن عدالة الشاهد بها، فإذا لم يبعد عدم القبول ههنا مع ضعف الحكم فكيف يبعد هناك مع قوته، على أن لعدم الاكتفاء بالعدل الواحد في تعديل الراوي مناسبة واضحة للحكم بقبول خبره.
وذلك لأن اعتبار الزيادة على الواحد فيه يوجب قوة الظن الحاصل من الخبر وبعده عن احتمال عدم المطابقة للواقع الذي هو العلة في اشتراط عدالة الراوي. وفي ذلك من الموافقة للحكمة والمناسبة لقانون الشرع ما لا يخفى، فلو صرف الاستبعاد إلى قبول الخبر في إثبات تلك الأحكام الجليلة مع الاكتفاء في معرفة عدالة راوية بقول الواحد - الموجب لضعف الظن الحاصل
পৃষ্ঠা ১৭
منه وقربه إلى احتمال عدم المطابقة - لكان أقرب إلى الصواب وأوفق بالاعتبار عند ذوي الألباب، لا سيما بعد الاطلاع على ما وقع للمتأخرين من الأوهام، في باب التزكية وشهادتهم بالثقة لأقوام حالهم مجهولة، أو ضعفهم مترجح لقلة التأمل وخفة المراجعة، حيث اعتمدوا في التأليف طريقة الإكثار وهي مباينة في الغالب لتدقيق النظر وتحرير الاعتبار، ولولا خشية الإطالة لأوردت من ذلك الغرائب، وعساك أن تقف على بعض الفوائد التي نبهنا فيها على خفيات مواقع هذه الأوهام، لتتدرب بمعرفتها إلى استخراج أمثالها التي لم يتوجه إلى إيضاحها، وأهمها ما وقع للعلامة في تزكية حمزة بن بزيع فإنه قال في الخلاصة: (حمزة بن بزيع من صالحي هذه الطائفة وثقاتهم كثير العمل). والحال أن هذا الرجل مجهول بغير شك، بل وردت في شأنه رواية رواها الكشي تقتضي كونه من الواقفة، وحكاها العلامة بعد العبارة التي ذكرناها، وردها بضعف السند، ومنشأ هذا التوهم أن حمزة عم محمد بن إسماعيل الثقة الجليل، واتفق في كتاب النجاشي الثناء على محمد بهذه المدحة التي هو أهلها، بعد ذكره لحمزة استطرادا كما هي عادته.
ثم إن السيد جمال الدين بن طاووس، حكي في كتابه صورة كلام النجاشي، بزيادة وقعت منه، أو من بعض الناسخين لكتاب النجاشي توهما، وتلك الزيادة موهمة لكون المدحة متعلقة بحمزة مع معونة اختصار السيد لكلام النجاشي، فأبقى منه هنا بقية كانت تعين على دفع التوهم. والذي تحققته من حال العلامة - رحمه الله - أنه كثير التتبع للسيد، بحيث يقوى في الظن أنه لم يكن يتجاوز كتابه في المراجعة لكلام السلف غالبا فكأنه جرى على تلك العادة في هذا الموضع، وصورة كلام النجاشي هكذا:
(محمد بن إسماعيل بن بزيع، أبو جعفر مولى المنصور أبي جعفر، وولد بزيع بيت منهم حمزة بن بزيع، كان من صالحي هذه الطائفة وثقاتهم، كثير العمل، له كتب، منها كتاب ثواب الحج وكتاب الحج). وموضع الحاجة من
পৃষ্ঠা ১৮
حكاية السيد لهذا الكلام صورته هكذا:
(وولد بزيع بيت منهم حمزة بن بزيع، وكان من صالحي هذه الطائفة وثقاتهم كثير العمل) ولم يزد على هذا القدر، ولا ريب أن زيادة الواو في قوله (وكان) وترك قوله (له كتب) سببان قويان للتوهم المذكور وخصوصا الثاني، فإن عود الضمير في (له) إلى محمد بن إسماعيل ليس بموضع شك، فعطفه على الكلام الأول من دون قرينة على اختلاف مرجع الضميرين دليل واضح على اتحاده مضافا إلى أن المقام مقام بيان حال محمد لا حمزة، وهذا كله بحمد الله ظاهر.
ومن عجيب ما اتفق لوالدي - رحمه الله - في هذا الباب أنه قال في شرح بداية الدراية: (أن عمر بن حنظلة لم ينص الأصحاب عليه بتعديل ولا جرح). ولكنه حقق توثيقه من محل آخر، ووجدت بخطه - رحمه الله - في بعض مفردات فوائده ما صورته: (عمر بن حنظلة غير مذكور بجرح ولا تعديل، ولكن الأقوى عندي أنه ثقة لقول الصادق عليه السلام - في حديث الوقت -:
(إذا لا يكذب علينا). والحال أن الحديث الذي أشار إليه ضعيف الطريق، فتعلقه به في هذا الحكم مع ما علم من انفراده به غريب، ولولا الوقوف على الكلام الأخير، لم يختلج في الخاطر أن الاعتماد في ذلك على هذه الحجة. وذكر في المسالك أن داود الرقي فيه كلام، وتوثيقه أرجح كما حقق في فنه، والذي حققه هو في فوائد الخلاصة تضعيفه لا توثيقه، وليس له في الفن غيرها. وحكى السيد جمال الدين بن طاووس - رحمه الله - في كتابه عن اختيار الكشي أنه روى فيه عن محمد بن مسعود، عن محمد بن نصير، عن أحمد بن محمد بن عيسى أن الحسين بن عبد ربه كان وكيلا، وتبعه على ذلك العلامة في الخلاصة، وزاد عليه الحكم بصحة الطريق، وهو إشارة إلى الاعتماد على التوثيق فإنه يعول في ذلك على الأخبار، ومقام الوكالة يقتضي الثقة، بل ما فوقها، والمروي بالطريق الذي ذكره - على ما رأيته في عدة نسخ للاختيار بعضها مقروء
পৃষ্ঠা ১৯
على السيد (رحمه الله) وعليه خطه - أن الوكيل علي بن الحسين بن عبد ربه، نعم روى فيه من طريق ضعيف، صورته: (وجدت بخط جبرئيل بن أحمد، حدثني محمد بن عيسى اليقطيني أن الحسين كان وكيلا)، وفي الكتاب ما يشهد بأن نسبة الوكالة إلى الحسين غلط مضافا إلى ضعف الطريق. وبالجملة فنظائر هذا كثيرة، والتعرض لها مع بيان أسباب الوهم فيها لا يسعه المجال.
والجواب عن الثاني (1) أن مبنى اشتراط عدالة الراوي على أن المراد من الفاسق في الآية من له هذه الصفة في الواقع، كما هو الظاهر من مثله وقضية الوضع في المشتق، وبشهادة قوله تعالى: (أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين) فإنه تعليل للأمر بالتثبت أي كراهة أن تصيبوا، ومن البين أن الوقوع في الندم، بظهور عدم صدق المخبر يحصل من قبول إخبار من له صفة الفسق، حيث لا حجر معها عن الكذب، فيتوقف قبول الخبر حينئذ على العلم بانتفائها عن المخبر به، والعلم بذلك موقوف على اتصافه بالعدالة، وفرض العموم في الآية على وجه يتناول الإخبار بالعدالة يفضي إلى التناقض في مدلولها من حيث أن الاكتفاء في معرفة العدالة بخبر العدل يقتضي عدم توقف قبول الخبر على العلم بانتفاء صفة الفسق عن المخبر به، ضرورة أن خبر العدل بمجرده لا يوجب العلم، وقد قلنا: إن مقتضاها توقف القبول على العلم بالانتفاء، وهذا تناقض ظاهر فلا بد من حملها على إرادة الإخبار بما سوى العدالة.
فإن قيل: هذا وارد على تزكية العدلين، إذ لا علم معه.
قلنا: الذي يلزم من قبول تزكية العدلين، هو تخصيص الآية بدليل من خارج، ولا محذور في مثله بخلاف تزكية الواحد، فإنها على هذا التقدير، يؤخذ من نفس الآية، فلذلك يأتي المحذور، ومع هذا فالتخصيص لابد
পৃষ্ঠা ২০