نص الكتاب
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وبه نستعين
قال أبو محمد، الحسن بن علي بن وكيع: أما بعد، حمدًا لله والصلاة على رسوله الكريم وعلى آله المصطفين الأخيار الطيبين الأبرار فإِنه وصل إليّ كتابك الجليل الموضع اللطيف الموقع، تذكر إفراط طائفة من متأدبي عصرنا في مدح أبي الطيب المتنبي وتقديمه وتناهيهم في تعظيمه وتفخيمه، وإنهم قد أفنوا في ذلك الأوصاف وتجاوزوا الإِسراف حتى لقد فضلوه على من تقدم عصرة عصره وأبرّ على قدرة قدره وذكرت أن القوم شغلهم التقليد فيه عن تأمل معانيه فما ترى من يجوز عليه جهل الصواب في معنى ولا إعراب، وذكرت أنهم لم يكتفوا
1 / 97
بذلك حتى نفوا عنه ما لا يسلم فحول الشعراء من المحدثين والقدماء منه، فقالوا: ليس له معنى نادر ولا مثل سائر إلا وهو من نتائج فكره وأبوا عذره وكان بجميع ذلك مبتدعًا ولم يكن متّتبعًا ولا كان لشيء من معانيه سارقًا بل كان إلى جميعها سابقًا فادعوا ذلك ما ادعاه لنفسه على طريق التناهي في مدحها لا على وجه الصدق عليها فقال:
أنا السابقُ الهادي إلى ما أقولُهُ ... إذا القولُ قَبْلَ القائلينَ مَقُولُ
وهذا تناه ومبالغة منه كاذبة، وقد يأتي الشاعر بضد الحقائق، ويتناهى في الوصف وهو غير صادق وذكرت أنك عارضت دعواهم بأبيات وجدتها في شعره مسروقات فادعوا فيها اتفاق الخواطر ومواردة شاعر لشاعر واحتجوا عليك بامرئ القيس في قوله:
وُقُوفًا بها صَحْبي عليَّ مطّيهُم ... يقُولونَ لا تَهْلِكْ أسىً وتَجمَّلِ
فوافق خاطره خاطر طرفة في قوله:
وُقُوفًا بها صَحْبي عليَّ مطَّيهُم ... يقُولونَ لا تَهْلِكْ أسىً وتَجَّلدِ
وأحببت إنهاء ما عندي إليك غير متحيَّف لك ولا عليك.
قال أبو محمد: فأقول والله الموفق للصواب:
إن القوم لم يصفوا من
1 / 98
أبي الطيب إلا فاضلًا، ولم يشهروا بالتفريط منه خاملًا بل فضلوا شاعرًا مجيدًا وبليغًا سديدًا ليس شعره بالصعب المتكلّف ولا اللين المستضعف بل هو بين الرقة والجزالة، وفوق التقصير ودون الإِطالة، كثير الفصول قليل الفضول لكنه بعد هذا لا يستحق التقديم على من هو أقدم منه عصرًا وأحسن شعرًا كأبي تمام والبحتري وأشباههما فإني لا أزال أرى من منحلي الأدب من يعارض شعريهما بشعره، ويزن قدريهما بقدره من غير انتقاء للشعر، أستعمل فيه كدّ فكره ولا استقصاء نظره وإنما قلد الخطوة الرافعة والشهرة الذائعة، والنفوس مولعة بالاستبدال، والنقل لهجة بالاستطراف والملل ولكل جديد لذة فلما كان شعره أَجدَّ فيهم عهدًا كانوا له أشدَّ وِدًّا، وهبنا أغضبنا لهم عن تفضيلهم إياه على من لا يشق غباره ولا يعشر مقداره مع علمنا في ذلك أن مذهبهم أوضح فسادًا من أن تطلب لهم المعارضة أو تتكلف من أجلهم المناقضة فكيف بالإِغضاء عن نفيهم عنه ما لا يسلم منه بدوي أو حضري جاهلي أَمْ إسلامي من استعارة الألفاظ النادرة أو الأمثال السائرة وإذا كانت الألفاظ مستعملة في أشعار جميع الناظمين من القدماء والمحدثين وسلمنا لهم نفيهم عن أبي الطيب ذلك كنا قد سلمنا لهم أنه أفضل أهل الشعر في كل أوانٍ وعصر، وهذه دعوى لا بد من كشف أسرارها وإظهارها وهي بالعناية أولى من الأولى لأن تلك دعوى خصّت طائفة وهذه تعم جميع القائلين من الأولين والآخرين ولقد ادعى قائلها إفكًا واسعًا وظل للحق فيها دافعًا، لأنه ادعى وقوع جميع الشعراء فما سلم أبو الطيب منه، وفقرهم إلى ما غني عنه وهذه تتجاوز الصفات وتكاد تشبه المعجزات ولو علم صدقها أبو الطيب من نفسه لجعلها آية له عند تنبيئه ودلالة على صحة
1 / 99
ما ادعاه من نبوته يتحدى بها أنها دعوته. أو لم يسمع الباقون عنه أخذ الكلام من النثر والنظام قول الفرزدق:) نحن معاشر الشعراء أسرق من الصاغة (أو ما سمعوا من قول الحكماء:) من العبارة حسن الاستعارة (. وما شيء بأعجب من وقوع جملة الشعراء في أمر يشترك فيه قديمهم ومحدثهم من استعارة الألفاظ والمعاني على مرّ الزمن بتحكيك الفحول منهم الشعر وتنقيتهم إياه حتى إنهم يسمون قصائدهم الحوليات لأنهم كانوا يعيدون فيها النظر حولًا قبل ظهورها، فلم يعصمهم طول النظر وكدّ الخواطر والفكر من أن يلمَ بعضهم بكلام بعض ثم لا يرضى مقرض أبي الطيب حتى يدعي له السلامة الكاملة من عيبٍ لم يتكامل في أحد قط تكامله فيه وأتى له بالسلامة من ذلك، وقد جاء على ساقة أهل الشعر بعد استيلاء الناس على حلو الكلام ومرّه ونفعه وضره، وهذا الظلم الواضح الفاضح وسأدلُ أولًا على استعمال القدماء والمحدثين أخذ المعاني والألفاظ ثم
1 / 100
أعود إلى تنخل شعر أبي الطيب ومعانيه وإثبات ما أجده فيه من مسروقات قوافيه التي لا يمكن فيها اتفاق الخواطر ولا تساوي الضمائر لأن ذلك يسوغ في النزر القليل ويمتنع في المتواتر الكثير وسأنْصفه في كل ذلك فما أستحقه على قائله سلّمتهُ إليه وما قصر فيه لم أدع التنبيه عليه لئلاّ يظن بنا الناظر في كتابنا خورًا في قصد أو تقصيرًا في نقد وذلك يلزمنا إلحاق ما فيه عيب غير السرقة بالمسروق خوفًا من أن يقول قائل قد تجاوز عن أشياء من الغثاثات واللحون والمحالات كانت أولى من الذكر للمسارقات، هذا إن لم يعبر عنا بالغفلة عنها إلا لتجاوز لها وينبغي إذا عملنا على تسليم ما له من السرقات إليه وردّ المقصّر منها عليه، إن أثبت لك وجوه السرقات محمودها ومذمومها وصحيحها وسقيمها وأعرّفك ما يوجب للسارق الفضيلة وما يلحقه الرذيلة ليكون ما نورده له وعليه مقيسًا على أُسٍ قد أحكمناه ونهج قد أوضحناه وما غرضنا في ذلك الطعن على فاضل ولا التعصب لقائل وإنما غرضنا إفادتك ما استدعيناه وكفايتك الفحص عما استكفيناه لتظهر على خصمك وتزداد قوة في علمك، وبالله نستعين وعليه نتوكل وهو حسبنا ونعم الوكيل.
1 / 101
هذا باب تفسير وجوه السرقات
اعلم وفقنا الله وإياك للسداد، وقرن أمرك بالرشاد، أن مرور الأيام قد أنفد الكلام فلم يبق لمتقدم على متأخر فضلًا إلا سبق إليه واستولى عليه فأحذق شعرائنا من يخطي المنظوم إلى المنثور لأن المعاني المستجادة والحكم المستفادة إذا وردت منثورة كانت كالنوادر الشاردة وليس لها شهرة المنظوم السائر على ألسنة الراوين كالمحفوظ على قائله كالتدوين فالعارف بأخذ المنثور قليل والجاهل به كثير وقد نفى قائل الحكم المنثورة لسارقها من فضيلة النظم ما يزيد في رونق
1 / 102
مائها وبهجة روائها فهي كالحسناء العاطلة حليها في نظامها فإذا حلاها النظم نسبت إلى السارق واستخفت على السابق والمعنى اللطيف في اللفظ الشريف كالحسناء الحالية، فقد استوفى بالنظام غاية الحسن والتمام فقد فاز قائلها بالحظين واستولى على الفضلين فلا يشركه السارق في فضلته ولا البارع في براعته إلا بوجوه أنا ذاكرها وهي عشرة أوجه: الأول من ذلك: استيفاء اللفظ الطويل في الموجز القليل.
والثاني: نقل اللفظ الرّذل إلى الرصين الجزل.
والثالث: نقل ما قبح مبناه دون معناه إلى ما حسن مبناه ومعناه.
والرابع: عكس ما يصير بالعكي هجاء بعد أن كان ثناء.
والخامس: استخراج معنىً من معنى احتذى عليه وإنْ فارقَ ما قصدَ به إليه.
1 / 103
والسادس: توليد كلام من كلام لفظهما مفترق ومعناهما متفق.
والسابع: توليد معان مستحسنات في ألفاظ مختلفات.
والثامن: مساواة الآخذ المأخوذ منه في الكلام حتى لا يزيد نظام على نظام وإن كان الأول أحق به لأنه ابتدع والثاني أتبع.
والتاسع: مماثله السارق المسروق منه في كلامه بزيادة في المعنى ما هو من تمامه.
والعاشر: رجحان السارق على المسروق منه بزيادة لفظة على لفظ من أخذ عنه.
فهذه وجوه تغفر ذنب سرقته وتدل على فطنته فأما استيفاء اللفظ الطويل في الموجز القليل كقول طرفة:
أرى قَبْرَ نحّامٍ بخيل بمالهِ ... كَقْبرِ غويّ في البطالة مُفْسِدُ
اختصره ابن الزيعري فقال:
والعطَّياتُ خِساسٌ بيننا ... وسواءٌ قَبرُ مُثْرٍ وَمُقِلْ
فَقَدْ شغلَ صدر البيت معنىً، وجاء بيت طرفة في عجز بيتٍ أقصر منه بمعنى لائح ولفظ واضح ومن ذلك قول بشار بن برد:
مَنْ راقَبَ النَّاسَ لمْ يظفر بحاجتهِ ... وفازَ بالطَّيبات الفاتِكُ اللَّهيجُ
1 / 104
أخذه سَلَمُ الخاسر فقال:
مَنْ راقبَ النَّاس ماتَ غمًا ... وفازَ باللذة الجسور
فلما سمع بشار هذا البيت قال: يعمد إلى معاني التي أسهرت فيها ليلي وأتعبت فيها فكري فيكسوها لفظًا أخف من لفظي فيروى شعره ويترك شعري والله لا أكلت اليوم ولا صمت. ومن ذلك قول أبي تمام يصف قصيدة:
يراها عيانًا مَنْ يراها بسمعه ... ويَدنْو إليها ذو الحجى وهْوَ شاسِعُ
يَودّ ودادًا أنَّ أعضاءَ جِسْمِه ... إذا أنشدتَ شوقًا إليها مسامِعُ
1 / 105
سمعه الثاني وهو للأخيطل في رواية ابن قتيبة في بعض القيان. فقال:
جاءتْ بوجهٍ كأنَّهُ قمر ... على قوامٍ كأنَّهُ غُصُنُ
حتى إذا ما استقرَّ مجلسُنا ... وصار في حِجْرها لها وثنُ
غنّتْ، فلم تَبْق فيَّ جارحةٌ ... إلاّ تَمنيتُ أنها أذُنُ
فأخذ بيت أبي تمام بلفظ قد استوفى طويله في أحسن نظامٍ وأوفى تمامٍ فهذا أول الأقسام.
ويلي ذلك الثاني: وهو نقل اللفظ الرذل إلى الرصين الجزل. منه قول العباس بن الأحنف:
زعموا لي أنها صارت تُحّمْ ... ابتلى الله بهذا مَنْ زَعمْ
اشتكت أكمل ما كانت كما ... يَشْتكي البدرُ إذا ما قيل تَمْ
هذا معنى لطيف أخذه ابن المعتز فقال:
طوى عارضُ الحمَّى سَناهُ مخالا ... وألبسه ثوبُ السَّقام هُزالا
كذا البدر محتوم عليه إذا انتهى ... إلى غايةٍ في الحسن صار هلالا
ومنه قول أبي العتاهية:
مَوتُ بَعْضِ الناس في الأرْ ... ضِ على بعض فُتوحُ
معناه لطيف، ولفظه ضعيف،
1 / 106
قال بعض الأعراب:
لا تكنْ محتقرًا شأن امرئٍ ... ربّما كانت من الشأن شؤونُ
رُبّما قَرّتْ عُيونٌ بشبحي ... مُرْمُضٍ قَدْ سَخنتْ منهُ عيونُ
أخذه أبو تمام فحول صيغته فقال:
وحُسْنُ مُنقلب تَبْدو وعواقُبُه ... جَاءتْ بشاشَتُهُ مِنْ قبح مُنْقلب
فهذا مثال كاف.
القسم الثالث: نقل ما قبح مبناه دون معناه إلى ما حسن مبناه ومعناه من ذلك قول أبي نواس:
بُحّ صوتُ المالِ ما ... مِنك يَشكو ويصيحُ
ما لهذا آخذ ... فوق يَديْه أو نَصِيحُ
معناه صحيح ولفظه قبيح، أخذه مسلم فقال:
تَظلّم المالُ والأعداءُ مِنْ يَدِهِ ... لا زالَ للمالِ والأعْداء ظلاّما
فجود الصنعة وجميع بين تظلمين كريمين ودعا للممدوح بدوام ظلمه للمال والأعداء، وكل ذلك مليح جزل، نقل من ضعيف المبنى. وقال أبو العتاهية:
كأنَّها في حسنها دُرّةٌ ... أخْرجها اليّمُّ إلى السَّاحلِ
شبهها بالدرة بياضًا وحسنًا ثم إن بقية البيت حشو، لأنها إذا خرجت إلى
1 / 107
الساحل أو غابت في اللج فليس ذلك بزائد في حسنها، والذي قال بشار من هذا أحسن، وذلك:
تُلقي بتسبيحةٍ من حُسْن ما خُلقت ... وتستقرُّ حَشى الرَّائي بإِرعَادِ
كأنّما خُلقتْ في قِشْرِ لُؤلؤةٍ ... فكلُّ أكتافها وَجْهٌ بِمرصادِ
وقد أخذ التشبيه البحتري فقال وجودّه:
إذا نَضونَ شُفوفَ الرَّبط آونةً ... قَشرْنَ من لُؤلُؤ البحرينِ أصْدافَا
هذا لفظ سديد ومعنى مفيد لا يفضل لفظه عن معناه.
القسم الرابع: عكس ما يصير بالعكس ثناء بعد أن كان هجاء، منه قول البلاذري:
قَدْ يرفعُ المرء اللئيمَ حجابُه ... ضعة ودونَ العرف مِنْه حِجَابُ
وقال البحتري:
وإنْ يحل بَيننا الحجاب فَلنْ ... يحجبَ عنّا آلاَءَهُ حُجُبهْ
1 / 108
ومثله:
إنْ يحتجَب شخصُك عَنْ أعْيُنٍ ... عَنْك فَما جُودك بالمحتجِبِ
ومثله لابن الرومي:
ما شئت مِنْ مالٍ حِمىً ... يأوي إلى عِرْضٍ مباح
معكوسة قوله:
هو المرءُ أمّا ماله فمحلَّلٌ ... لِعافٍ، وأمّا عِرْضُهُ فمحرَّمُ
وهذا مثال كاف.
القسم الخامس: استخراج معنىً من معنىً احتذى عليه وإنْ فارق ما قصد به إليه، منه قول أبي نواس في الخمر:
لا ينزلُ الليل حيثُ حلَّتْ ... فليلُ شُرَّابِها نَهارُ
احتذى عليه البحتري وفارق مقصد أبي نواس فجعله في محبوب فقال:
غابَ دُجاها، وأيُ لَيلٍ ... يَدْجُو عَليْنا وأَنْتَ بَدْرُ؟
ومثله قول أبي نواس:
مِنْ شُراب كأنَّه كلَ شيءٍ ... يَتمنَّى مخَّيرٌ أن يكُونَا
1 / 109
احتذى عليه حبيب في صفة ممدوح فقال:
فَلَوْ صَوَّرْتَ نَفْسَكَ لم تَزدْها ... على ما فِيك مِنْ كَرمِ الطباع
قوله:) صَوَّرتَ نَفْسك (يشبه قول أبي نواس) مخيَّرٌ (في المعنى ومثل ذلك قول أبي تمام:
كَريمٌ متى أمْدحْهُ أمْدَحْهُ والورَى ... معي، ومَتى ما لمتُهُ لمتهُ وَحْدي
احتذى عليه المتأخر في محبوب فقال:
وإذا شَكوتُك لمْ أجدْ لي مسعدًا ... ورُميتُ فيما قُلتُ بالبُهتانِ
فهذا مثال من هذا القسم كاف.
القسم السادس: توليد كلام من كلام لفظهما مفترق ومعناهما متفق، هذا من أدل الأقسام على فطنة الشاعر لأنّه جرّد لفظه من لفظ من أخذ منه وهو معناه متفق معه. من ذلك قول أبي تمام:
لأمْرٍ عَليهمْ أنْ تَتّمَّ صُدوره ... وليسَ عَليهمْ أنْ تَتِّمَّ عَواقِبُهْ
1 / 110
أخذه من قول بعض الحرب أنشد) نيه (أبي ﵀ قال: أنشدنا أبو بكر بن دريد عن عبد الرحمن بن أخي الأصمعي عن عمه:
غُلامُ وغى تَقَحَّمها فَأودى ... وقَدْ طحنته مراده طحُونُ
فإِن على الفتى الإِقدامُ فيها ... وَليسَ عليه ما جَنت المَنُونُ
المعنى متفق واللفظ مفترق وهذا المذهب دقة فطنة السارق ومثل قول أبي نواس في محبوب أعرض عنه ببعض وجهه:
يا قمر النصفِ مِنْ شَهرِنا ... أبدى ضياء لثمانٍ بقينْ
أخذه من قيس بن الخطيم في قوله:
تَصدّتْ لنا كالشمسِ تَحْتَ غَمامةٍ ... بدا حاجبٌ مِنْها وضنّتْ بِحاجبِ
1 / 111
القسم السابع: في توليد معان مستحسنات في ألفاظ مختلفات، هذا من أشد باب وأقله وجودًا وإنما قل وجوده لأنه من أحق ما أستعمل فيه الشاعر فطنته وكدّ فيه فكرته، فمنه قول أبي نواس:
واسْقينها من كُميتٍ ... تَدعُ اللْيلَ نَهارا
فاشتق من ذلك:
لا يَنزلُ الليلُ حَيثُ حَلّتْ ... فَليلُ شُرّابِها نَهارُ
وقال:
قال:) ابغني المصباحَ (قُلتُ لَهُ: ...) أتئدْ حَسْبي وحسبُك ضَوؤُها مِصْباحَا (
فسكْبتُ مِنْها في الزُّجاجة شُرْبةً ... كَانتْ لَهُ حَتَّى الصَّباحِ صَباحَا
وكل هذه متقاربات وألفاظ مناسبات بمولد بعضها من بعض ومثل ذلك لغيره:
كأنَّ كؤوسَ الشرب والليلُ مُظلمٌ ... وجوهُ عذارى في ملاحفٍ سود
أشتق منه ابن المعتز وقال:
وأرى الثرّيا في أسماء كأنَّها ... قَدمٌ تَبدّتْ مِنْ ثِيابِ حِدادِ
فهذا مثال في هذا القسم كاف.
1 / 112
القسم الثامن: مساواة الآخذ المأخوذ منه في الكلام حتى لا يزيد نظام على نظام وإن كان أحق به لأنه أبتدع والثاني أتبع. من ذلك قول العكوك في فرس:
مُطردُ يرتّجّ مِنْ أَقطارِهِ ... كالماء جالتْ فيهِ ريح فأضطرب
فذكر ارتجاجه ولم يذكر سكوته فأخذه ابن المعتز فقال:
فكأنّهُ مَوْجٌ يَذوبُ إذا ... أطْلقتهُ وإذا حَبستَ جَمَدْ
فجمع بين الصفتين، وقول ديك الجن:
مُشعْشعةٌ مِنْ كَفَّ ظبيٍ كأنَّما ... تناولها من خَدِّهِ فأدارها
1 / 113
أخذه ابن المعتز فقال:
كأنّ سُلافَ الخمر من ماء خَدّهِ ... وعُنقودَها من شعره الجَعْدِ يُقْطَفُ
فزاد في ذلك تشبيهًا آخر في الشعر وهو من تمام المعنى ومثله:
كأنَّ سقوطَ الدَّمع في وَجَناتِه ... سقيطُ الندى أوْفى على ورَق الورْدِ
أخذه ابن الرومي فقال:
كأنَّ تلكَ الدموع قطر نَدى ... يُقطرُ مِنْ نَرجسٍ على وَردِ
فجاء بتشبيهين حسنين وزاد في المعنى ما هو من تمامه، ومثله قول البحتري في بركة:
إذا عَلَتْها الصَّبَا أبْدَتْ لها حُبُكًا ... مِثْلَ الجَواشنِ مَصْقولًا حَواشِيها
1 / 114
أخذه بعض المحدثين فقال:
إذا ما الريح هَبّتْ قلتُ: دَرْعُ ... وإنْ سكَنتْ فمرآةٌ صَقِيلُ
فزاد عليه في إيراد المعنيين والجمع بين الصفتين.
القسم التاسع: مماثله السارق المسروق منه في كلامه بزيادة في المعنى ما هو من تمامه، فمن ذلك قول أبي حيّة النميري:
فَألقتْ قناعًا دُونَه الشمس واتّقتْ ... بأحسن موصولين: كَفّ ومعصمِ
أخذه من النابغة في قوله:
سَقَطَ النصيفُ ولمْ تُرِدْ إِسقاطهُ ... فتناوَلَتْهُ وأتقتنا باليَدِ
فلم يزد النابغة على إخبارنا بإِبقائها بيدها وزاد عليه أبو حية بقوله:) دونه الشمس (وخبر عن المتقى بأحسن خبر فأستحقه، وقال الخريمي:
همامٌ عطاياُ بِدورٌ طوالعُ ... على آمليهِ في سوادِ المطالبِ
1 / 115
أخذه أبو تمام فقال:
وأحسنُ مِنْ نَورٍ تُفتّحهُ الصَّبا ... بياض العَطايا في سوادِ المطالبِ
فملح وخفى وقال بشار:
وَلَقَدْ جَريتُ مَع الهوى طلقَ الهوى ... ثُمَّ انثنيتُ فلم أَجدْ لي مَركضا
أخذه أبو نواس فقال:
جَريتُ مع الصِّبا طَلْقَ الجُموحِ ... وهانَ عليّ مأَثور القبيح
فطلق الجموح أشعر من طلق الهوى ولم يخبر بأنه ارعوى ولم يجد مركضًا، وتمم بيته بخبر ثان يليق بالأول.
وهذا مثال كاف.
القسم العاشر: رجحان السارق على المسروق منه بزيادة لفظة على لفظ من أخذ عنه، من ذلك قول حسان بن ثابت:
إِنْ كُنت كاذبةَ الذي حَدّثتني ... فَنجوْتِ مَنْجى الحارث بن هشام
تَركَ الأحِبّةَ أنْ يُقاتِلَ دُونهمْ ... وَنجا برأسِ طِمّرة وَلِجام
1 / 116