ولم يمض على دخول المأمون قرطبة ستة شهور حتى قتل مسموما أي بعد انقضاء شهر يونيو سنة (1075) وقد اتهم بقتله أحد المترددين على مجلسه، ولكن هل يمكن ألا تكون لابن عكاشة يد في هذه الجريمة؟ هذا ما لا يكاد يصدقه العقل.
ولنترك الآن حديث الاستيلاء على قرطبة وما أعقبه من الحوادث، وننتقل إلى قصر إشبيلية، ولنتصور مبلغ ما وصلت إليه حال المعتمد حين نمى إليه ذلك الخبر المشئوم المزدوج: سقوط قرطبة، وموت ابنه عباد المرزوق له من سريته الرومية الحسناء التي أولع بحبها ولعا شديدا، ومع أن نزعة الانتقام، والأخذ بثأر ابنه المقتول كانت تجيش بصدره، فقد كان إلى جانب هذا الشعور شعور آخر، وهو تقدير يحسه في أعماق نفسه لذلك الشيخ الفقيه الذي مر على عباد مقتولا فنزع بدافع العاطفة النبيلة رداءه، وألقاه على جثمانه العاري، وهو يأسف إذ لم تتح له فرصة مكافأة ذلك الشيخ النبيل على حسن صنيعه، وكثيرا ما كانت تتحرك في نفسه هذه الذكرى الأليمة فيقول:
ولم أدر من ألقى عليه رداءه
سوى أنه قد سل عن ماجد محض
ومضت ثلاث سنين ضاع فيها ذلك المجهود العظيم الذي بذله ليسترد قرطبة وليثأر لولده المقتول من ابن عكاشة إلى أن قيض الله له الاستيلاء عليها عنوة في يوم الثلاثاء 4 سبتمبر سنة (1078)، وفي الوقت الذي دخل فيه المعتمد من باب قرطبة كان ابن عكاشة قد بارحها من الباب الآخر، ولم يتركه المعتمد يفلت من يده بل بعث في الحال خيالة في أثره تمكنوا من اللحاق به، ولما أدركه الطلب، وأيقن أنه لا مطمع له في الصفح من ملك موتور بقتل ابنه، أراد على الأقل ألا يبيع حياته رخيصة، فكر على أعدائه وقاتلهم قتال المستميت، إلى أن ذهب ضحية وفرة العدد، وأمر المعتمد بجثته فصلبت على خشبة وإلى جانبها كلب.
وأعقب غزو وفتح قرطبة فتح كورة طليطلة وأراضيها الممتدة بين الوادي الكبير ووادي آنه، وهذا في الحقيقة يعد نجاحا كبيرا باهرا، ونحن لو حاولنا أن نقارن بين المعتمد وغيره لرأيناه أقوى ملوك الطوائف، وأكثرهم نفوذا وامتداد سلطان، ولكنه مع هذا لم يكن أكثر منهم استقلالا، إذ كان هو عليه أيضا أن يؤدي الإتاوة، فأما أولا فكان يدفعها «لغرسية» ثالث أولاد «فردينند»، وأما ثانيا فكان يدفعها لملك غالسيا، وأما ثالثا فكان يدفعها للأذفونش السادس، من حين أن استولى على مملكة الشقيقين «سانكو» و«غرسية» وكان الأذفونش ملكا مزعجا متعبا في طلب الإتاوة، إذ هو لا يقنع بما يتقاضاه من إتاوة سنوية فحسب، بل كان في الفينة بعد الفينة يفرض ضرائب على الممالك التي يدفع لها أبناء ملوك العرب جزية، فإن لم يؤدوها، وإلا هددهم بالاستيلاء على بلادهم.
وحدث مرة أنه جمع جيشا قويا، وتقدم به لغزو بلاد إشبيلية فاستولى على المسلمين الرعب، وشملهم حزن يفوق الوصف، وذلك لما كانوا عليه من الضعف البالغ الغاية، بحيث كانوا لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم، وكان كبير الوزراء ابن عمار هو رجل الدهاء الوحيد الذي لا يتسرب اليأس إلى قلبه، وكان يعلم أن جمع جيش إشبيلي لملاقاة الجيوش المسيحية، وردهم عن البلاد، وهم باطل، وحلم كاذب.
ولكنه رأى أن الأذفونش يعرفه لأنه كثيرا ما كان يتردد على خيمته، وأن من السهل عليه لما عرف عنه من الطمع والميول الخاصة أن يتغلب عليه بقوة الحيلة والدهاء، وعلى هذه الناحية عول ابن عمار ولم يشأ أن يضيع الوقت في التسلح، وأخذ الأهبة للحرب والقتال، وأخذ يتردد على معسكر العدو، ومعه رقعة شطرنج غاية في الإتقان والفخامة لا يوجد لها نظير عند الملوك، وكانت صورها من الآبنوس والعود والصندل، وأرضيتها غاية في الإبداع مموهة بالذهب، وذاع خبر الشطرنج حتى وصل إلى أسماع الأذفونش على لسان نبيل من المقربين إليه، فطلب الأذفونش ابن عمار وسأله: - هل تجيد لعب الشطرنج؟
فأجابه ابن عمار وكان طبقة فيه: - اشتهر عني بين أصدقائي أني أجيد لعبة الشطرنج. - قيل لي إن عندك شطرنجا بديعا معدوم النظير. - نعم هو ذاك. - هل يمكن أن أراه؟ - لا مانع من ذلك، ولكن على شريطة أن نلعب معا، فإذا غلبتني كان الشطرنج لك، وإذا غلبتك فلي حكمي، وبعد مراجعة وحوار بينه وبين خاصته قبل الشرط، وجيء بالشطرنج فكان موضع إعجاب الأذفونش ودهشته لجماله ودقة صنعه، وصاح من فرط دهشته وصلب إكبارا له واستحسانا لصنعه، وقال: «والله ما خطر ببالي قط أن في وسع إنسان أن يبدع في صنع شطرنج بمثل هذه الدقة الفنية العجيبة.»
وظل ينعم النظر، وقد اشتد إعجابه بالشطرنج ثم قال لابن عمار: «أعد علي ما قلت، واذكر ما اشترطته علي.» فأعاد ابن عمار عبارته الأولى فقال الأذفونش: «إني لا ألعب على شرط مجهول، إنك تستطيع أن تسألني أمرا ليس في استطاعتي أن أجيبك إليه.»
অজানা পৃষ্ঠা