ولما لم يستطع تكذيب هذه الأحلام المتكررة أيقن أن هذا نذير سوء، وأنه وحي سماوي فوق الطبيعة، فنهض من مرقده برفق دون أن يحدث حركة، وذهب بعيدا، وأدرج نفسه في حصير، ونام في دهليز القصر عاقدا النية على اللياذ بالهرب حينما تفتح في الصباح أبواب القصر، واعتزم أن يركب من أول ثغر ليبحر منه إلى إفريقية.
واستيقظ المعتمد فلم يجد صاحبه إلى جانبه، فصاح بالخدم، فوافاه جميع خدم القصر، وأخذوا يبحثون عنه في كل جانب من جوانب القصر، والمعتمد يتقدمهم بين يديه مصباح، وجاز إلى باب القصر يريد أن يفتحه لينظر هل خرج منه أحد؟ وفي نفس تلك اللحظة التي كان يمر فيها تحرك ابن عمار حركة قسرية، فرأى المعتمد كأن شيئا يتحرك، فصاح: «ما هذا الذي يتحرك في داخل الحصير.»
فسارع الخدم إليه فأخرجوه من داخل الحصير وهو في حالة يرثى لها ليس عليه من ملابسه غير سروال، فوقف ترتجف أعضاؤه، وقد احمر وجهه خجلا، وأطرق برأسه إلى الأرض، فأجهش المعتمد بالبكاء، وقال: «ما الذي حملك أن تزعجنا هكذا يا أبا بكر؟!»
وأراد المعتمد أن يتبين من صديقه سر هذا المسلك الغريب، وأخذه برفق إلى مجلسه الخاص، وأعضاؤه ما زالت ترتجف، ولبث مدة طويلة يحاول كشف هذا السر فلم ينجح.
أما ابن عمار فقد اضطربت أعصابه اضطرابا شديدا، وخجل أشد الخجل لبلوغه إلى هذا الحد من الإسفاف والسخرية، وقد تملكه مع هذا الخوف، واستولى عليه الرعب، فكان مرة يضحك، وتارة يبكي.
ولما هدأت أعصابه، وسكن اضطرابه، أفضى إلى المعتمد بسر المسألة تفصيلا، فتبسم ضاحكا، وأمسك بيده وضغط عليها متحببا متوددا وقال: «إن ما حصل لك لم يك إلا بتأثير الخمر - أيها الصديق العزيز - ومن فعل أبخرة الخمر المتصاعدة إلى المخ فقد أسلمتك بتأثيرها إلى أن ترى ما سبب لك الانزعاج، وما هي في الحقيقة إلا أضغاث أحلام، وهذا كل ما في الأمر، وهل يدور في خلدك أن نفسي تحدثني بأن أقتلك يوما ما، إني - إن فعلت ذلك - فإنما أنتزع روحي، وأطفئ مصباح حياتي، ثق أني إن قتلتك فإنما أقتل نفسي، والآن يجب أن تزيل هذه الأفكار السوداء، وتمحو أثر هذه الوساوس السيئة، والأحلام الشيطانية من نفسك، فلا تعود تتحدث بها فيما بعد.»
وقد قال بعض مؤرخي العرب المسلمين: وعمل ابن عمار منذ ذلك الحين على أن يتناسى هذه الحادثة فنسيها، ومرت الأيام والليالي على ذلك إلى أن بدأت الرؤيا تتحقق، ووقع ما سنقصه عليك فيما يلي:
جرت عادة هذين الصديقين أنهما يجتمعان في «شلب» لا يفترقان منها إلا إذا غادراها إلى إشبيلية حيث يتوافر لهما في العاصمة الأنيقة الظريفة كل أنواع السرور والمرح واللهو، فإذا خرجا إليها خرجا في زي لا ينم عليهما، وكثيرا ما كانا يختلفان إلى «مرج القطة» على ضفاف الوادي الكبير للتنزه والتلهي برؤية الناس رجالا ونساء في ذلك المكان النزه الأفيح، وهنالك وقع المعتمد لأول وهلة في شرك تلك التي قدر أن تكون شريكته في الحياة، وذلك أنه بينما كان هو وصديقه يستريضان في «مرج القطة» - على عادتهما - إذ مر النسيم على متن الماء فتجعد واطرد فارتجل المعتمد هذين البيتين:
تجعد النهر بتر
قيص النسيم واطرد
অজানা পৃষ্ঠা