وفي الغد «الثلاثاء» أسلم الروح، أو رقد الرقدة الأخيرة الهادئة فكانت تعلو محياه ابتسامة وادعة مشرقة.
وأعقبت هذه الوفاة وفاة أخرى هي بطبيعة الحال أقل شأنا من الأولى،
1
فقد مات المعتضد يوم السبت 28 فبراير سنة (1069) وكان قبل عامين من وفاته قد أدمج قرمونة في مملكته، واقترف جريمة قتل جديدة، إذ طعن بخنجر في يده رجلا من إشبيلية يدعى أبا حفص.
وما كان يدور بخلد المعتضد أن أيدي القشتاليين ستمتد يوما إلى ذلك التاج الذي وضعه على رأسه بقوة الحيلة والخيانة والغدر.
وفي آخر سني حياته امتلأت رأسه بالمخاوف، والأفكار السوداء، وقد تحققت نبوءة بعض الناظرين في ميلاده من المنجمين، كما أشرنا إلى ذلك آنفا، وهي النبوءة القائلة إن ناسا يولدون خارج البلاد يثلون عرش مملكته، وكانت فكرته متجهة دائما إلى أن أولئك الذين سيقضون عليها هم البرازلة من البربر المقيمين بجواره، وما زال بهم حتى أفناهم جميعا، وخيل إليه أنه قهر حكم الكواكب، وتغلب على مخاوف التنجيم، ولكنه بدأ يرى أنه كان مخدوعا في وهمه هذا، ففي العدوة المقابلة لبر الأندلس على المضيق نزحت طائفة من البربر من الصحراء، وزحفوا على إفريقية فاتحين في سرعة مدهشة، وفي شدة بأس تشبه ما كان عليه سلف الأمة في فتوحاتهم، هؤلاء هم البربر الذين أطلق عليهم اسم المرابطين، وهم الذين كان يتنبأ بظهورهم المعتضد ويتوقع أنهم الفاتحون لإسبانيا في المستقبل، وكانت تساوره المخاوف من جانب أولئك الأقوام، ولا يستطيع بحال من الأحوال أن يمحص الفكرة أو يبدد الأوهام التي كانت تنتابه من جهتهم.
وورد عليه ذات يوم كتاب من «سقوت» صاحب سبتة يقول له فيه: «إن طلائع المرابطين عسكرت في رحبة مراكش فاهتم لهذا النبأ حتى قال له أحد وزرائه: «كيف يزعجك يا مولاي هذا النبأ ويقلقك وبيننا وبينهم المهامه الغبر وأمواج البحر الخضر.»
فقال المعتضد بصوت مختنق حزين: «إني على يقين من أنهم سيصلون إلينا يوما ما، وربما تشهد بنفسك هول ذلك اليوم، فاكتب من فورك إلى حاكم الجزيرة، ومره أن يزيد في تحصين جبل طارق، وأن يكون شديد اليقظة، وعلى تمام الأهبة والاستعداد، وأن يراقب عن كثب كل حركة لأولئك المرابطين من وراء المجاز.»
ثم أخذ يصعد بنظره في بنيه ويصوب ويقول: «ليت شعري من منا ستحل به النكبة أنتم أم أنا؟» فقال ولده المعتمد: «لا بل أنا - جعلني الله فداك - الذي أحمل عنك كل كائنة مهما عظمت.»
وقبل موته بخمسة أيام ساءت حاله، وأخذ المرض يدب في جسمه، والضعف يتسرب إلى عقله، فاستدعى أحد مغنيه وكان من الصقلب، وأمره أن يغنيه بما شاء من الأبيات، وكان يرمي إلى التفاؤل بما يختاره المغني، ويتفق مع توقيع النغم، فأخذ هذا يوقع ألحانا تجمع إلى الطرب الحزن والألم في آن واحد، واللغة العربية من أغنى اللغات بهذا النوع.
অজানা পৃষ্ঠা