فافتر ثغر باديس عن ابتسامة لطيفة عند سماعه لهذه الكلمات، وأمر بإطلاق سراحه. وكان ابن شبيب هذا هو الوحيد الذي نجا بحياته من أسرى الجيش، لأن عامة الأسرى الباقين تسلمهم الجلاد على التعاقب لضرب أعناقهم، كما أنه أطلق سراح الأسرى الملكيين من أرباب الوظائف، وأبقى ابن عباس وحده على تلك الحال من الأسر والاعتقال. •••
والآن عرف هذا الوزير المتكبر مبلغ ما حل به من الشقاء الذي تقحمه بإقدامه الجنوني، وتحققت نبوءة شاعر المرية، وأيقظ القدر الذي لا ينام راقد الشقاء. وأودع ابن عباس سجنه في قصر الحمراء، وكبل بسلاسل وأغلال لا يقل وزنها عن أربعين رطلا، وعرف أن باديس مغيظ محنق قد اشتد غضبه عليه، وأن إسماعيل لا يرضى بغير موته، ومع هذا، فقد كان بعض الأمل يجيش بصدره، إذ عرض على باديس إطلاق سراحه مقابل ثلاثين ألف دوكا، فأجاب بأنه سينظر في طلبه بعين الاعتبار. ومضى شهران دون أن يبت في أمره. وفي غضون هذه المدة وفد على قصر باديس كثيرون، مطالبهم متعارضة في شأن الأسرى. فرسول قرطبة كان يطلب إطلاق الأسرى، وبخاصة ابن عباس وتلاه رسول آخر هو الأحوص بن صمادح صهر عبد العزيز حاكم بلنسية ورسوله، وطلب بإلحاح قتل جميع الأسرى، وفي مقدمتهم ابن عباس.
ومنشأ ذلك أنه - على أثر وقوع هذه الحوادث - كان عبد العزيز قد بادر بالاستيلاء على المرية بدعوى أن من حقه أن تئول إليه، لأن زهيرا كان من الأمراء التابعين لأسرته، وهو يخشى أن يطلق سراح ابن عباس والذين معه فينازعوه في هذا الحق. ولم يدر باديس إلى أي الجانبين يميل، فإن الطمع في ثروة ابن عباس، وحب الانتقام منه، كانا يتنازعان فؤاده.
وفي مساء ذات ليلة، بينما باديس وأخوه يتنزهان على صهوتي جواديهما خارج المدينة، إذ طلب باديس من أخيه أن يصرح له برأيه فيما عرضه ابن عباس عليه من الفدية، فقال له: «إنك عندما تقبل دنانيره، وتفك أسره، يثير عليك حربا تكلفك ضعف ما تأخذه من الفداء، وعندي أنه يجب أن تودي بحياته وشيكا.»
ولما عاد من المتنزه بادر باديس إلى استدعاء أسيره وأخذ يعدد عليه أخطاءه، وما بدر منه من ألفاظ جافة مقذعة، وابن عباس مستسلم مصيخ بسمعه لما يوجهه إليه من جارح القول.
ولما فرغ الملك من كلامه، قال ابن عباس: «أتوسل إليك يا مولاي، بكل عزيز عليك أن ترحمني وتنقذني من آلامي.»
فقال له باديس: «سأريحك من آلامك اليوم.»
ولمح باديس على أسارير أسيره الحزين الممتقع اللون، بصيصا وشعاعا من الرجاء، فصمت لحظة يسيرة، ثم استأنف كلامه، وكشر عن أنيابه بابتسامة فيها كل معاني الانتقام والوحشية، وقال له: «إنك لا محالة ذاهب الآن إلى حيث تزيد آلامك.» •••
وتراطن مع أخيه بلغة البربر التي لا يفهمها ابن عباس. ومن كلام باديس الأخير وابتسامته الرهيبة، وشكله المروع الغاضب، لم يبق عند ابن عباس شك في أن ساعته الأخيرة قد دنت، فجثا على ركبتيه وقال: «أستحلفك بالله أن تبقي على حياتي وتشفق على زوجاتي، وترحم أولادي الصغار، ولك أن أقدم ثلاثين ألف دوكا بل ستين ألفا.»
وكان باديس مصغيا لكلامه، لا ينبس ببنت شفة، ثم عمد إلى رمح قصير وطعنه به في صدره، وحذا حذوه أخوه بلقين وتبعه علي بن القروي، وانهالوا عليه بالطعنات، ولم تنقطع استصراخاته وتوسلاته، إلا بعد أن برد في مصرعه عند الطعنة السابعة عشرة.
অজানা পৃষ্ঠা