دخل ميشيل كنيسة المعمداني؛ كانت الجدران باردة، ضوء الشمعة خافت، كل الوجوه التي تركع الآن تحت صورة مريم تشبه لحد كبير وجه أبي. لا أحد يعترضني، وأنا أفتش بين الكراسي وخلف الستائر عن الصندوق.
كيف لي أن أصل له دون تعب؟ أخاف أن يبقى الصندوق بعيدا. بدأ حماسي بالانتقام يهدأ، وأتحول إلى رجل يجلس في البيت يربي أولاده، ويفتح المذياع ويراقب الأخبار، ويتسرق الأمل من التلفاز، وينتظر عودة جودو حامل روح الأحلام.
في لحظة كسرت خيال ميشيل حمامة رفرفت في فضاء الكنيسة. رفع رأسه، تذكر حين كان طفلا صعد إلى عش الحمام ووضع لها الورق والقمح. لم يتردد أن يصعد إلى العش؛ فوجد الصندوق كأنه يبتسم ويمد له ذارعيه. ابتسم وفتح الصندوق.
في هذه اللحظة كان يهمس في أذنه صوت: مر بك هاجس مكنك أن تجزم بابتسامة خفيفة أنه لم يخطر ببالك يوم يشبه هذا اليوم. كنت تحاول الهروب بجسدك، لكن الآن أنت مثبت في هذه الأرض بجسدك وبذاكرتك . بعد كل هذه السنوات، لو أنك استوقفت الملاك المصاحب لك للحظات قليلة لسألته عن رأيه فيك بكل وضوح.
ترى ماذا كان ليخبرك عن ذاتك؟ لمن كان يغني ذاك العصفور البريء صباحا في شوارع غزة؟ ومن كان سيصادق دوني؟ لو لم أجد في صوته المرهف وطنا يحملني كل صباح ويرشدني إلى ذاكرة الحب بداخلي، حتى لا يتيه أحدنا عن الآخر في ضباب الوحدة «إنه صوت أبي».
وكيف سيمر ذاك اليوم على ذاكرتي وأنا أسكنه ويسكنني؟ أبي الذي صنعني بصوته، وأنتمي إليه تمام الانتماء، واللحظة التي أغيب فيها تماما عن صخب كل من حولي. هو من علمني البداية، هو بداخلي وحيد، وحيد. «من بعدك يا أبي؟ أيها المبتسم لي في حفلات أعياد الميلاد حين تضع الطربوش الأحمر فوق رأسي، أيها الوفي لأمي بعد رحيلها، هرمت كثيرا من بعدك «يا ريت بتخلص وصيتك قلبي يرتاح».»
الصندوق بارد جدا، عليه آثار بصمات من غبار، كأن عائلتنا شاركت في صناعة ما بداخله. فيه وجدت؛ شهادة أول مسيحي في غزة، جرسا نحاسيا قديما، شمعة حمراء طويلة، عطر المرمر، كأسا زرقاء، ووصية أبيه. كان يقرأ بصوت عال: ما الذي تفعله في هذه اللحظة يا نضال؟ أي اللحظات تتذكر وأنا أطفئ شمعة عيد الميلاد وحدي وأعانقك، لأرى عينيك أمامي تماما من تلك الشرفة البعيدة تعانقني وتلوح بحب لكل سنواتي المقبلة معك، وأنا لا أعرف؟ كيف وضعت لك روحي فاحملها برفق؟ وقرر أن نعتبر الأعوام على غزة وأنت منقوش في ذاكرتها، وأن أهلها سيخصصون يوما من كل عام للاحتفال بك في أول يناير، وسترجع المسافات المسكوبة بيننا وبينهم. لن أكذب عليك، وأخبرك أنني لا أخشى شيئا عليك، وأن قلبي مشغول عليك لمعانقتك، وبسماع صوتك، وأن الحنين المتورط بصوتك الخافت ونبراته الدافئة يخبئ حكايات انتظارك.
يا أبي، يبقى العالم بدونك، ليبدو صغيرا. وأنا وحدي، ممتلئ بك. فهل أخشى من اشتياقي لك؟ فقط حين غادرتني ببطء، خشيت العالم مجددا، وتجددت فكرة الرحيل داخلي.
يا ترى ما شكل أيامي حين نركض أنا وأنت في السماء؟ وجهك وصوتك، وعناقك، وحديثك، كلها لي، كلها ملكي. ماذا لو كانت تلك البقعة التائهة الوحيدة التي تجمعني بك، أفضل من امتلاك الكون الشاسع دونك؟
نزل نضال وبيده الصندوق، وحين هبط على بلاط الكنيسة سمع تصفيق الحاضرين. الكل كان ينتظره؛ الرجال والسيدات والأطفال، جاءوا وربتوا على كتفه. شكرهم نضال للطفهم معه.
অজানা পৃষ্ঠা