ساكن الغرفة الخلفية بالطابق الثالث
مزحة الفيلسوف
روح نيكولاس سنايدرز أو بخيل زاندام
ساكن الغرفة الخلفية بالطابق الثالث
مزحة الفيلسوف
روح نيكولاس سنايدرز أو بخيل زاندام
مختارات من القصص القصيرة
مختارات من القصص القصيرة
تأليف
جيروم كيه جيروم
ترجمة
نيڤين حلمي عبد الرؤوف
مراجعة
مصطفى محمد فؤاد
ساكن الغرفة الخلفية بالطابق الثالث
لم يكن ميدان بلومزبيري سكوير، مع دقات الساعة الرابعة في عصر أحد أيام نوفمبر، مزدحما إلى حد يقي الغريب، ذا المظهر المختلف بنحو أو بآخر عن المعتاد، من الملاحظة. ففي أثناء مروره، توقف صبي متجر تيبس فجأة عن الصدح بالغناء، وتراجع خطوة للخلف حتى خطا على أصابع قدم شابة طلقة اللسان تدفع عربة أطفال، وبدا أن أذنيه قد صمتا عن سماع تعليقاتها الشخصية بعض الشيء عليه. ولم يستجمع شتات نفسه ويسترجع اهتمامه بشئونه إلا بعدما بلغ ناصية الشارع التالية، مستكملا أغنيته التي بدت الآن دمدمة خفيضة بلا معنى. أما السيدة الشابة نفسها، فقد نسيت ما لحق بها من أذى بينما كانت تتأمل ظهر الغريب الذي تخطاها ببضع ياردات. كان هناك شيء غريب في ظهره؛ إذ لم يكن مستقيما تماما؛ بل كان منحنيا انحناءة لا تخطئها العين. حدثت السيدة الثرثارة نفسها قائلة: «إنها ليست حدبة ولا تبدو لي تقوسا في العمود الفقري. يا للعجب، يبدو وكأنه يحمل كومة من الغسيل أعلى ظهره تحت معطفه.»
لمح الشرطي، في خضم محاولاته للتظاهر بالانشغال، الغريب بينما كان يقترب منه، فحول اهتمامه ناحيته. وقال في نفسه: «يا لمشيتك العجيبة، أيها الشاب! عليك الاحتراس كي لا تتعثر فتسقط منقلبا.»
ثم غمغم بعدما تجاوزه الغريب: «إنه شاب كما توقعت. وجهه وجه شاب دون شك.»
كان ضوء النهار آخذا في الخفوت. ولما عجز الغريب عن قراءة اسم الشارع الموجود فوق البيت الذي عند ناصية الشارع، استدار عائدا.
حدث الشرطي نفسه قائلا: «عجبا، إنه بالفعل شاب صغير؛ بل مجرد فتى.»
توجه إليه الغريب بالحديث قائلا: «عذرا، هلا ترشدني إلى ميدان بلومزبيري سكوير؟»
رد الشرطي موضحا: «هذا ميدان بلومزبيري سكوير، أو بدءا من الناصية القادمة على وجه الدقة. ما رقم البيت الذي تريده؟»
أخرج الغريب من أحد جيوب معطفه الطويل المغلق الأزرار قصاصة من الورق، ثم فتحها وقرأ: «نزل السيدة بنيتشيري. رقم 48.»
قال له الشرطي: «الناصية القادمة، جهة اليسار، المنزل الرابع. هل أوصى لك أحدهم بالإقامة هناك؟» «نعم ... صديق لي. أشكرك جزيل الشكر.»
غمغم الشرطي في سره: «هكذا إذن، أراهن أنك لن تظل تدعوه صديقي بعدما تقضي أسبوعا في هذا المكان، أيها الشاب ...»
ثم أضاف بينما كان يحدق في هيئة الغريب المبتعدة: «يا للعجب! لقد رأيت الكثير ممن يبدون أصغر سنا من ظهورهم وعندما تطلع على وجوههم تجدهم أكبر عمرا. لكن هذا الرجل على ما يبدو يحمل وجه شاب وظهر شيخ. أراهن أن جانبه الشاب سيشيخ بدوره إن أقام طويلا عند هذه المرأة التي تدعى بنيتشيري؛ تلك العجوز البخيلة.»
كان لدى رجال الشرطة، ممن تتضمن مناوباتهم ميدان بلومزبيري سكوير، أسباب تدفعهم لكراهية السيدة بنيتشيري. وحقا قد يكون من الصعب العثور على إنسان لديه ما يدفعه لحب هذه السيدة ذات الملامح الحادة. وربما كانت إدارة نزل من الدرجة الثانية في ميدان بلومزبيري سكوير نشاطا لا يؤدي بصاحبه إلى اكتساب فضيلتي الكرم واللطف.
في هذه الأثناء، كان الغريب قد بلغ وجهته، وقرع جرس البيت رقم 48. استرقت السيدة بنيتشيري النظر من أعلى السلالم المؤدية إلى المنزل لامحة رجلا ذا وجه وسيم وإن كان ذا طابع أنثوي بعض الشيء، فأسرعت بتعديل قبعة الأرملة التي ترتديها أمام المرآة، وأمرت الخادمة ماري جين باصطحاب الغريب إلى غرفة الطعام، تحسبا لأن يكون مستأجرا مثيرا للمتاعب، وإشعال مصابيح الغاز.
وكانت تعليماتها الأخرى كالتالي: «ولا تتوقفي عن الثرثرة معه، ولا تأخذي على عاتقك الإجابة عن أسئلته. قولي له إنني سأحضر في غضون دقيقة، وراعي ألا تظهري يديك قدر استطاعتك.» •••
سألت السيدة بنيتشيري ماري جين، الخادمة المتسخة الثياب، بعدما عادت عقب بضع دقائق: «علام تضحكين؟»
ردت ماري جين بنبرة خانعة: «لم أكن أضحك؛ كنت أبتسم لنفسي فقط.» «لماذا ؟»
قالت : «لا أعرف.» وواصلت الابتسام بالرغم من ذلك.
سألت السيدة بنيتشيري: «كيف يبدو إذن الرجل؟»
كان رأي ماري هو: «ليس من النوع المعتاد.»
فصاحت السيدة بنيتشيري في ورع: «حمدا لله على ذلك.» «يقول إن صديقا قد أوصى له بهذا النزل.» «من يكون هذا الصديق؟» «قال «صديقا» فحسب. ولم يذكر اسما.» صمتت السيدة بنيتشيري لحظة مفكرة. ثم سألتها: «لم تبد عليه أمارات السخرية، أليس كذلك؟»
قالت لها ماري جين إنه لم يبد عليه ذلك على الإطلاق. وقد كانت واثقة من ذلك.
صعدت السيدة بنيتشيري السلالم بينما لا تزال غارقة في أفكارها. وما إن دلفت إلى الغرفة حتى قام الغريب وانحنى لها. لقد كانت تلك الانحناءة في غاية البساطة، إلا أنها بعثت في قلبها دفقة من أحاسيس طواها النسيان منذ سنوات. وللحظة رأت نفسها سيدة لطيفة ذات أصل راق، أرملة محام، تستقبل ضيفا جاء لزيارتها. لكن هذا الخيال العابر تبخر بسرعة. ففي اللحظة التالية عاودها واقعها. إنها لا تزال نفسها، السيدة بنيتشيري، صاحبة النزل التي تقتات بين الحين والآخر على وجبات يومية من البخل الحقير، وهي الآن تستعد لخوض سجال مع ساكن جديد محتمل، يبدو، لحسن الحظ، شابا مهذبا بلا خبرة.
بدأت السيدة بنيتشيري حديثها قائلة: «تقول إن أحدهم قد رشح لك نزلي، هلا تذكر من هو؟»
لكن الغريب رفض الرد على السؤال معتبرا إياه غير مهم.
وقال مبتسما: «قد لا تتذكرينه. لقد رأى أن في وسعي قضاء الأشهر القليلة التي تبقت لي ... في لندن أعني، هنا في نزلك. فهل تقبلين استضافتي؟»
اعتقدت السيدة بنيتشيري أن في وسعها استضافته.
أضاف الغريب موضحا: «كل ما أحتاجه هو غرفة للنوم - أي غرفة ستفي بالغرض - وطعام وشراب يكفي لرجل واحد.»
استأنفت السيدة بنيتشيري حديثها قائلة: «دائما ما أقدم في وجبة الإفطار ...»
فقاطعها الغريب: «بالتأكيد، طعاما جيدا ومناسبا، أنا واثق من ذلك. أرجوك لا داعي لإرهاق نفسك بسرد التفاصيل يا سيدة بنيتشيري. سأرضى بأي مما ستقدمينه لي.»
ألقت السيدة بنيتشيري وهي متحيرة نظرة سريعة على الغريب ، لكن وجهه، على الرغم من ابتسام عينيه الطيبتين، كان صادقا وجادا.
قالت السيدة بنيتشيري مقترحة: «على أي حال، سترى الغرفة قبل أن نناقش الشروط.»
قال الغريب موافقا: «بالتأكيد. إنني متعب قليلا وسأكون ممتنا لو ارتحت هناك بعض الوقت.»
قادت السيدة بنيتشيري الغريب عبر السلالم حتى وصلا إلى بسطة الطابق الثالث، وحينها توقفت لحظة في تردد، ثم فتحت باب غرفة النوم الخلفية.
علق الغريب قائلا: «إنها مريحة جدا.»
اندفعت السيدة بنيتشيري قائلة: «إيجار هذه الغرفة، مع الإقامة الكاملة التي تشتمل على ...»
قاطعها الغريب مجددا بابتسامته الهادئة الجادة: «كل ما يحتاجه المرء. هذا أمر معروف.»
عاودت السيدة بنيتشيري الحديث قائلة: «عادة ما أتقاضى أربعة جنيهات أسبوعيا لقاء هذه الغرفة. أما بالنسبة إليك ...» ثم فجأة غشي صوتها دون دراية منها نبرة كرم بالغ وأضافت: «فلأن أحدا قد أوصى لك بهذا النزل، فلنقل إن إيجارها سيكون ثلاثة جنيهات وعشرة شلنات.»
رد الغريب: «سيدتي العزيزة، هذا كرم منك. كما خمنت، أنا لست رجلا ثريا. وإذا لم يعد ذلك إثقالا عليك، فإني أقبل هذا الإيجار المخفض بكل امتنان.»
مرة أخرى ألقت السيدة بنيتشيري، التي تألف جيدا الأسلوب الساخر، نظرة متشككة على الغريب، لكنها لم تجد في ذاك الوجه الصبوح الصافي أيا مما قد يعبر ولو للحظة عن سخرية. حقا كان وجهه بسيطا مثل طبعه. «الغاز، بالطبع، له حساب منفصل.»
وافقها الغريب قائلا: «بالطبع.» «أما الفحم ...»
للمرة الثالثة قاطعها الغريب قائلا: «لن نختلف. لقد كنت في غاية اللطف معي حتى الآن. وأشعر، يا سيدة بنيتشيري، أن في وسعي أن أعهد نفسي إلى رعايتك بكل اطمئنان.»
بدا الغريب يتوق إلى الانفراد بنفسه. فتوجهت السيدة بنيتشيري نحو الباب مغادرة بعدما أوقدت المدفأة. لكن تلك اللحظة شهدت تطورا غير متوقع، فقد بدر من السيدة بنيتشيري، المعروفة بسجل لا تشوبه شائبة من رجاحة العقل، سلوك كانت قبل خمس دقائق فحسب تظن هي نفسها استحالة صدوره عنها؛ سلوك لن يصدقه كائن حي عرفها من قبل، حتى وإن جثت على ركبتيها وأقسمت له على حدوثه.
إذ سألت الغريب ويدها على مقبض الباب: «لقد طلبت منك ثلاثة جنيهات وعشرة شلنات، أليس كذلك؟» كانت تتحدث بضيق. وكانت تشعر باستياء من الغريب ومن نفسها، وخاصة من نفسها.
رد الغريب: «لقد بلغت من الكرم حد تخفيضه إلى ذلك القدر، لكن إذا وجدت بعد تفكير أنك لن تقدري على ...»
قاطعته السيدة بنيتشيري بقولها: «لقد ارتكبت خطأ؛ كان علي أن أخبرك أن الإيجار جنيهان وعشرة شلنات.»
صاح الغريب: «لا أستطيع ... لن أقبل بتضحية كهذه، فبوسعي التكفل بثلاثة جنيهات وعشرة شلنات.»
قالت السيدة بنيتشيري بحدة: «جنيهان وعشرة شلنات، هذا شرطي. إذا كنت مصرا على دفع المزيد، فلتتوجه إلى نزل آخر. ستجد الكثير ممن يسعدهم تلبية رغبتك.»
لا بد أن احتدادها قد أثر على الغريب. فابتسم قائلا: «لن نتجادل أكثر من ذلك. لقد كنت أخشى فحسب أن تدفعك طيبة قلبك البالغة ...»
دمدمت السيدة بنيتشيري مقاطعة إياه: «أوه! لست بتلك الطيبة أبدا.»
رد الغريب: «لست واثقا من ذلك. إني أشك قليلا في كلامك هذا. لكن امرأة في مثل إصرارك، لا بد لها، كما أرى، من تحقيق إرادتها.»
مد الغريب يده ليصافحها، وبدا للسيدة بنيتشيري في هذه اللحظة أن التصرف الأمثل والأكثر طبيعية هو مصافحته مصافحة صديق قديم عزيز، وإنهاء المحادثة بضحكة تشع سرورا، بالرغم من أن الضحك نشاط لا تسمح السيدة بنيتشيري لنفسها بالانغماس فيه كثيرا.
كانت ماري جين تقف بجوار النافذة عاقدة يديها عندما عادت السيدة بنيتشيري إلى المطبخ. والواقف بجوار النافذة كان يلمح أشجار ميدان بلومزبيري سكوير، وعبر أغصانها العارية كان يرى السماء.
قالت السيدة بنيتشيري مقترحة: «لا يوجد أمامنا الكثير من العمل في نصف الساعة القادمة، إلى أن تأتي الطباخة. سأراقب الباب إذا رغبت في الخروج بعض الوقت.»
قبلت الفتاة العرض بمجرد أن استعادت قدرتها على الكلام: «سيكون ذلك رائعا؛ فذلك الوقت من اليوم هو المفضل لدي.»
أضافت السيدة بنيتشيري: «لا تتأخري عن نصف ساعة.»
اجتمع سكان النزل بعد العشاء في غرفة المعيشة وتناقشوا في أمر الغريب، بالتحرر والجرأة اللذين يتسم بهما هؤلاء السكان عند التحدث عن شخص غائب. «لا يبدو لي شابا ذكيا»، كان هذا رأي أوجستس لونجكورد، صاحب إحدى الشركات في الحي التجاري بلندن.
أما شريكه إزيدور فكان تعليقه: «بالحديث عن نفسي، لا أرى نفعا للشاب الذكي. إن العالم يعج بأمثاله.»
ضحك شريكه قائلا: «لا بد أنه ذكي جدا إذا كنت تراه من الأذكياء الكثر الذين تتحدث عنهم.»
إذا وجد وصف ينطبق على الدردشة المرحة الذكية لصحبة سكان هذا النزل، فهو كالتالي: كانت محادثتهم بسيطة في تركيبها، وسهلة في فهمها.
قالت الآنسة كايت ذات الشعر المصبوغ باللون الذهبي والوجه الذي تغطيه مساحيق التجميل: «أما أنا، فإن النظر إليه فحسب يولد لدي شعورا طيبا. ربما كانت ملابسه هي السبب؛ فقد ذكرتني بنوح وسفينته، وما إلى ذلك.»
ردت عليها الآنسة ديفاين، الفاترة الهمة، في تثاقل: «الملابس هي ما تجعلك تفكرين في أي شيء.» كانت الآنسة ديفاين فتاة طويلة حسنة المظهر، وكانت منشغلة في هذه اللحظة بمحاولات عقيمة للتمدد على أريكة من شعر الحصان، في وضع يوفر لها الراحة ويحافظ على مظهرها الأنيق على حد سواء. ولأن شعبية الآنسة كايت كانت قليلة في تلك الأمسية، إثر استيلائها على الكرسي الوحيد المريح في المكان، فإن تعليق الآنسة ديفاين على عباراتها لاقى من الحضور استحسانا يزيد على الأرجح عما يستحقه.
تساءلت الآنسة كايت في جدية: «ما قصدك بهذا الرد؛ الطرافة أم الوقاحة؟» «الاثنتان»، كان هذا زعم الآنسة ديفاين.
صاح والد الفتاة الطويلة، المعروف بالكولونيل، قائلا: «هلا أدلي بدلوي في الأمر؟ يجب أن أعترف بأنني أراه رجلا أحمق.»
همهمت زوجته، وهي سيدة قصيرة ممتلئة الجسم، مبتسمة: «لقد بدا لي أن هناك الكثير من الانسجام بينكما.»
رد زوجها بسرعة: «ربما كان الأمر كذلك بالفعل. لقد عودني القدر على مصاحبة الحمقى.»
صاحت ابنتهما البارة من فوق الأريكة: «من المحزن أن تبدآ في الشجار بعد العشاء مباشرة، فلن تجدا على هذا النحو ما يسليكما في باقي الأمسية.»
علقت السيدة التي كانت قريبة أحد البارونيتات: «لم يبد لي متحدثا لبقا، إلا أنه مرر طبق الخضراوات قبل أن يتناول نصيبه. تلك اللفتات تنم عن حسن التربية.»
رد عليها أوجستس الظريف ضاحكا: «أو ربما لم يكن يعرفك وظن أنك قد تتركين له نصف ملعقة من الخضراوات.»
صاح الكولونيل: «ما لا أستطيع فهمه بشأنه ...»
دخل الغريب الغرفة.
فانزوى الكولونيل في ركن حاملا صحيفة المساء. أما الآنسة كايت، فتناولت من فوق رف المدفأة مروحة ورقية ورفعتها أمام وجهها في خجل متصنع. بينما اعتدلت الآنسة ديفاين في جلستها على الأريكة المصنوعة من شعر الخيل وعدلت من تنورتها.
سأل أوجستس الغريب، كاسرا حاجز الصمت الذي بدأ يلاحظ: «ألديك أي أخبار؟»
بدا جليا أن الغريب لم يفهم سؤاله. وكان لازما على أوجستس، الظريف، مواصلة الحديث لتجاوز هذا الصمت الغريب. «من تعتقد سيفوز بسباق لينكولن لتحمل الخيل؟ قل لي اسم الحصان الفائز، وسوف أخرج من فوري وأراهن عليه بكل ما أملك.»
ابتسم الغريب قائلا: «سيكون ذلك تصرفا غير حكيم في رأيي. فليس لدي خبرة بهذا الموضوع.» «حقا؟! لم أخبروني إذن أنك كاتب عمود «أسرار السباق» في صحيفة «سبورتنج لايف»، لكنك متنكر؟»
سيكون من الصعب أن تكون هناك دعابة أسخف من تلك الدعابة. لم يضحك أحد بالطبع على دعابة السيد أوجستس لونجكورد، وعجز هو عن فهم سبب ذلك، وربما لم يكن لأي من الحاضرين أن يخبره به؛ لأن السيد لونجكورد في هذا النزل كان يعد صاحب حس دعابة. أما الغريب نفسه فبدا أنه لم يدرك كونه محل سخرية.
إذ رد مؤكدا: «معلوماتك خاطئة يا سيدي.»
قال السيد أوجستس لونجكورد: «معذرة إذن.»
رد الغريب بصوته العذب الخفيض: «لا داعي للاعتذار»، وتجاوز الأمر.
تحول السيد لونجكورد إلى صديقه وشريكه سائلا إياه: «حسنا، فيما يتعلق بالذهاب إلى المسرح، أترغب في الذهاب أم لا؟» كان السيد لونجكورد متوترا.
رد السيد إزيدور: «لدينا التذاكر، فلنذهب على أي حال.» «سمعت أنها مسرحية في غاية التفاهة.»
قال إزيدور: «معظم ما يعرض هذه الأيام تافه على نحو أو آخر.» وأضاف: «لكن من الخسارة أن نهدر التذاكر»، وخرج الاثنان معا.
رفعت الآنسة كايت عينيها المتمرستين نحو الغريب وسألته: «هل ستمكث طويلا في لندن؟»
أجابها الغريب: «لا، ليس لفترة طويلة. أنا لا أعرف تحديدا. الأمر يعتمد على الظروف.»
ساد في غرفة المعيشة هدوء استثنائي، وهي الغرفة التي عادة ما كانت تعج بأصوات شاغليها الصاخبة في هذا الوقت من اليوم. ظل الكولونيل مشغولا بجريدته. بينما جلست السيدة ديفاين عاقدة يديها البيضاوين الممتلئتين فوق حجرها، وكان مستحيلا معرفة أهي نائمة أم مستيقظة. أما السيدة قريبة البارونيت، فقد حركت كرسيها تحت الثريا المضاءة بالغاز، وأخذت تحيك قطعة الكروشيه التي لا تنتهي أبدا. وتوجهت الآنسة ديفاين الفاترة الهمة نحو البيانو، وجلست على مقعده وأخذت أصابعها تداعب برفق مفاتيحه التي بحاجة إلى ضبط، مولية ظهرها للغرفة الباردة القليلة الأثاث.
قالت الآنسة كايت للغريب بأسلوبها الوقح، مشيرة بمروحتها إلى الكرسي الشاغر بجوارها: «اجلس. وحدثني عن نفسك. إنك تثير اهتمامي.» كانت الآنسة كايت تتبنى سلوكا سلطويا إلى حد ما مع جميع أعضاء الجنس الآخر ممن تبدو عليهم أمارات الشباب. وكان ذلك منسجما مع بشرتها الخوخية اللون وشعرها الذهبي، ومناسبا لها عموما.
رد الغريب ساحبا الكرسي الذي أشارت إليه: «سعيد أني أثرت اهتمامك. كنت بالفعل أرغب في ذلك.»
ردت الآنسة كايت: «أنت فتى جريء للغاية.» ثم أخفضت مروحتها من أجل النظر بخبث من فوق حافتها، وعندئذ التقت عيناها لأول مرة بعيني الغريب اللتين كانتا تنظران إلى عينيها. وحينها اختبرت الآنسة كايت الشعور العجيب نفسه الذي بث الاضطراب في نفس السيدة بنيتشيري قبل ساعة أو أكثر، عندما أقدم الغريب لأول مرة على الانحناء لها. وبدا للآنسة كايت أنها لم تعد المرأة التي تثق أنها كانت ستراها إذا ما نهضت عن كرسيها وتحركت نحو المرآة المتسخة المعلقة فوق رف المدفأة الرخامي، بل امرأة أخرى، مبتهجة تشع عيناها حيوية ونشاطا وتدنو من منتصف العمر، لكن لا تزال حسنة المظهر على الرغم مما اعترى بشرتها من ذبول وخصلات شعرها البني من ضعف. وشعرت بموجة من الغيرة تجتاحها؛ فتلك المرأة المتوسطة العمر بدت لها إجمالا أكثر جاذبية. كانت تعكس قدرا من رجاحة العقل وحسن الأخلاق وسعة الأفق، يجعل المرء ينجذب إليها غريزيا. إنها امرأة لا تقيدها - مثل الآنسة كايت نفسها - الحاجة للظهور بمظهر فتاة يتراوح عمرها بين الثامنة عشرة والثانية والعشرين؛ كان المرء يشعر أن في وسع تلك النسخة الأخرى من الآنسة كايت التحدث بمنطق واضح، بل بذكاء متقد. إنها امرأة لطيفة بمعنى الكلمة، وتلك حقيقة لم يسع الآنسة كايت، وإن كانت تشعر بالغيرة، إنكارها. وقد تمنت الآنسة كايت من أعماق قلبها لو لم تر قط تلك النسخة الأخرى منها. فصورتها الخاطفة تركتها شاعرة بالاستياء من نفسها.
استأنف الغريب المحادثة قائلا: «أنا لست فتى، ولا أريد أن أكون من النوع الجريء.»
ردت الآنسة كايت: «أعرف ذلك. إنها مجرد ملاحظة سخيفة. لا أعرف لم قلتها. يبدو أنني أصبحت عجوزا حمقاء.»
ضحك الغريب. وقال: «قطعا أنت لست عجوزا.»
ردت الآنسة كايت بحدة: «عمري تسعة وثلاثون عاما. لا أظنك تراني في ريعان الشباب؟»
أصر الغريب على رأيه قائلا: «أرى أنك في مرحلة عمرية رائعة؛ فأنت لم تتقدمي في العمر إلى حد يفقدك بهجة الشباب، لكنك بلغت من كبر السن ما يكفي للتحلي بالتعاطف.»
ردت الآنسة كايت: «أوه، جميع الأعمار جميلة في نظرك على ما أعتقد. سأخلد إلى النوم.» ثم نهضت. وكانت مروحتها الورقية قد انحلت دون أن تدري كيف. فألقت أجزاءها في المدفأة.
قال الغريب متوسلا: «لا يزال الوقت مبكرا، كنت أتطلع للتحدث إليك.»
ردت الآنسة كايت: «حسنا فلتستمر في التطلع إذن. تصبح على خير.»
في الحقيقة كانت الآنسة كايت تتوق إلى مطالعة صورتها في المرآة في حرم غرفتها وخلف بابها المغلق. ونظرا لأن صورتها ذات الوجه الصافي الشاحب والشعر البني كانت حية بشدة في خيالها، فقد تساءلت هل حلت عليها نوبة من فقدان الذاكرة المؤقت بينما كانت ترتدي ملابسها لتناول العشاء هذا المساء جعلتها تنسى صورتها الأخرى.
أما الغريب، بعدما تركه الآخرون لشأنه، فقد سار نحو الطاولة المستديرة باحثا عن شيء يقرؤه .
فخاطبته السيدة قريبة البارونيت قائلة: «يبدو أنك أخفت الآنسة كايت.»
أومأ الغريب برأسه مقرا: «يبدو الأمر كذلك.»
قالت السيدة التي كانت تحيك قطعة الكروشيه: «إن ابن عمي، السير ويليام بوستر، متزوج من ابنة أخت اللورد إيجام العجوز؛ هل قابلت أحدا من آل إيجام من قبل؟»
رد الغريب: «حتى الآن، لم أحظ بهذا الشرف.» «إنها عائلة في غاية اللطف والاحترام. السير ويليام، ابن عمي، يعجز عن فهم ما يدفعني للبقاء هنا. في كل مرة يراني، لا يمل من قول: «عزيزتي إميلي، كيف تتحملين البقاء وسط نوعية الأشخاص الذين يصادفهم المرء في أي نزل؟» لكن الناس هنا يسلونني كثيرا.»
وافقها الغريب قائلا إن حس الفكاهة ميزة في جميع الأحوال.
واصلت السيدة قريبة السير ويليام حديثها بصوت رتيب هادئ: «إن عائلتنا من جهة أمي كانت تمت بصلة إلى آل تاتون-جونز، الذين كانوا في عهد الملك جورج الرابع ...» ثم قطعت حديثها للحظة كي تجلب كرة إضافية من خيوط الكروشيه، وعندئذ رفعت عينيها فالتقتا بعيني الغريب.
ثم أضافت السيدة قريبة السير ويليام بنبرة يشوبها التوتر: «لا أعرف بالتأكيد لم أخبرك بكل هذا! إنها أمور على الأرجح لن تثير اهتمامك.»
طمأنها الغريب بجدية قائلا: «كل ما يتعلق بك يثير اهتمامي.»
تنهدت السيدة قريبة السير ويليام ثم ردت دون اقتناع: «ذلك لطف شديد منك، وأخشى أنني أسبب أحيانا الملل لمن حولي.»
امتنع الغريب المهذب عن مناقضة كلامها.
فواصلت السيدة المسكينة حديثها: «أتدري، أنا أنتمي حقا إلى عائلة نبيلة.»
قال الغريب: «سيدتي العزيزة، يشهد وجهك النبيل وصوتك الرقيق وسلوكك الدمث جميعا لك بهذا.»
نظرت السيدة إلى عيني الغريب في ثبات، وشيئا فشيئا شاعت على وجهها ابتسامة طردت ما خيم على ملامحها من بلادة. «يا لحماقتي!» واصلت السيدة حديثها، وإن بدت الآن تحدث نفسها لا الغريب. «لا شك أن الناس - الذين يهمك ترك انطباع حسن لديهم - يحكمون عليك بما أنت عليه حقا، لا بما تدعيه لنفسك في كل مناسبة.»
ظل الغريب صامتا.
قالت: «إني أرملة طبيب كان يعمل في المقاطعات، ودخلي السنوي لا يزيد عن مائتين وثلاثين جنيها فحسب. لذا تقتضي الحكمة أن أحسن استغلال ذلك المبلغ المحدود، وألا أشغل بالي بأقاربي الأرستقراطيين وذوي النفوذ هؤلاء إلا بقدر ما يشغلون هم بالهم بي.»
بدا على الغريب أنه لا يستطيع أن يجد ما يستحق القول.
أردفت ابنة عم السير ويليام متذكرة: «لدي أقارب آخرون؛ أهل زوجي المسكين، الذين يمكن ألا أبدو في أعينهم «القريبة الفقيرة»، بل الراعية الكريمة. إنهم أهلي الحقيقيون؛ أو كانوا سيصبحون كذلك - مضيفة بمرارة - لو لم أكن امرأة متكبرة فظة.»
تورد خدها خجلا فور أن لفظت بتلك الكلمات، ثم نهضت من مكانها وبدأت تستعد في عجالة لمغادرة الغرفة.
تنهد الغريب قائلا: «يبدو أني أفسدت أمسيتك.»
ردت السيدة بشيء من الانفعال: «بعدما دعيت بالمتكبرة الفظة، أظن أن الوقت قد حان لرحيلي.»
قال الغريب مذكرا إياها: «لكن تلك كانت كلماتك.»
تمتمت السيدة المستاءة: «أيا كان دافعي لذلك، لا يصح أن تصف سيدة محترمة نفسها بتلك الألفاظ، خاصة في صحبة شخص غريب عنها تماما.» ثم صمتت السيدة المسكينة في حيرة. وأضافت موضحة: «هناك شيء غريب للغاية في هذه الأمسية لا أستطيع فهمه. يبدو أنني عاجزة عن تجنب الإساءة إلى نفسي.»
وهكذا، بينما لا تزال تحاوطها الحيرة، تمنت ليلة سعيدة للغريب، آملة أن تكون في حالة أفضل مع لقائهما التالي. فتح الغريب لها الباب، آملا في ذلك أيضا، وأغلقه ثانية وراءها.
ضحكت الآنسة ديفاين، التي تمكنت بفعل موهبتها من تطويع ذاك البيانو المتهالك ليصدر قدرا من التناغم، ثم سألت الغريب: «قل لي كيف تمكنت من فعل ذلك؟ أريد أن أعرف.»
تساءل الغريب: «فعل ماذا؟» «تدبر التخلص من هاتين العجوزين الشمطاوين بتلك السرعة.»
قال الغريب: «يا لبراعتك في العزف! لقد أدركت موهبتك الموسيقية الفذة ما إن وقعت عيناي عليك.» «كيف تمكنت من ذلك؟» «موهبتك تظهر جلية على وجهك.»
ضحكت الفتاة مسرورة. وقالت: «يبدو أنك أخضعت وجهي لدراسة متأنية.»
قال الغريب: «إنه وجه جميل وباعث على الاهتمام.»
أدارت الآنسة ديفاين مقعد البيانو بقوة، والتقت عيناها بعينيه. «أتستطيع قراءة الوجوه؟» «نعم.» «أخبرني إذن، ماذا قرأت أيضا في وجهي؟» «قرأت الصراحة والشجاعة ...» «آه، نعم، كل الفضائل. ربما. سنعتبر ذلك من المسلمات.» كان تحولها المفاجئ إلى الجدية غريبا. «حدثني عن الجانب الآخر مني.»
رد الغريب: «لا أرى جانبا آخر. لا أرى سوى فتاة جميلة تقف على أعتاب أنوثة نبيلة.» «فقط؟ ألم تر أثرا لطمع أو غرور أو خسة أو ...» ثم فلتت منها ضحكة غاضبة. واستطردت: «وتدعي أنك قارئ وجوه!»
قال الغريب: «ألا تصدقينني؟» ثم ابتسم. وأضاف: «هل تعرفين ما أراه مكتوبا على وجهك في هذه اللحظة؟ أرى حب الحقيقة في أشد صوره، أرى ازدراء للكذب والنفاق، أرى توقا إلى كل ما هو نقي، واحتقارا لكل ما يستحق الاحتقار، لا سيما ما يستحق الاحتقار في النساء. أخبريني، هل قراءتي صحيحة؟»
فكرت الفتاة متعجبة: ألهذا هرعت السيدتان الأخريان كلتاهما خارج الغرفة؟ هل يشعر الجميع بالخزي مما تنطوي عليه أنفسهم من خسة أمام عينيك الصافيتين اللتين تؤمنان بأفضل ما في البشر؟
خطر لها أن تسأله: «يبدو أن أبي كان لديه الكثير ليخبرك به في أثناء العشاء بينما تتحدثان معا. قل لي عم كنتما تتحدثان؟» «أتقصدين الرجل المهذب ذا المظهر العسكري الذي كان يجلس على يساري؟ لقد تحدثنا معظم الوقت عن أمك.»
ردت الفتاة شاعرة بالندم على طرح السؤال: «أنا آسفة. كنت آمل أن يكون قد اختار موضوعا آخر للحديث بينكما في أول مساء تقضيه معنا هنا!»
رد الغريب: «لقد حاول بالفعل فتح موضوع أو موضوعين آخرين، لكن معرفتي بشئون العالم محدودة للغاية؛ لذا سعدت عندما أخذ يتحدث عن نفسه. أشعر أننا سنصبح صديقين. ومن ناحية أخرى، لقد تحدث بمنتهى اللطف عن السيدة ديفاين.»
علقت الفتاة: «فعلا؟» «قال لي إنه طوال العشرين عاما التي قضاها متزوجا من أمك لم يندم على زواجه سوى مرة واحدة!»
حولت الفتاة عينيها السوداوين إليه فجأة، لكن نظرة الشك تبددت منهما ما إن التقت بعينيه. فأدارت وجهها كي تخفي ابتسامتها. «لقد ندم إذن على الزواج ... مرة واحدة.»
استطرد الغريب من فوره: «مرة واحدة فحسب، في نوبة ضيق عابرة. إن اعترافه يدل على ما يتسم به من صدق شديد. قال لي ... أعتقد أنه قد اطمأن إلي. في واقع الأمر، استشعرت ذلك من تصرفاته. قال إن فرصة الحديث إلى رجل مثلي لم تتح له كثيرا؛ قال إنه عندما يسافر مع أمك دائما ما يظنهما الناس زوجين في شهر العسل. وقد حكى لي بعض المواقف البالغة الظرف حقا.» ضحك الغريب عندما تذكرها ثم أضاف: «حتى هنا في هذا المكان، عادة ما يشار إليهما ب «الزوجين المحبين بعضهما لبعض إلى الأبد».»
قالت الفتاة: «نعم، هذا صحيح. إن السيد لونجكورد هو من أطلق عليهما هذا، في مساء اليوم الثاني لوصولنا. لقد اعتبر لقبا معبرا، لكنه مبتذل قليلا في رأيي.»
قال الغريب: «لا يوجد ما هو أجمل، فيما أرى، من الحب الذي صمد في مواجهة تقلبات الحياة ومحنها. إن برعم الحب النقي والرقيق الذي ينبت في قلوب الشباب، في قلب كقلبك، جميل أيضا. حب الشباب هو بداية الحياة. لكن حب الكبار هو بداية ... لمشاعر أبقى.»
قالت الفتاة في تذمر: «يبدو أنك ترى كل الأشياء جميلة.»
رد الغريب: «لكن أليست جميع الأشياء جميلة؟»
كان الكولونيل قد فرغ من جريدته بحلول ذلك الوقت. فقال ملاحظا وهو يقترب نحوهما: «يبدو أنكما منهمكان في محادثة مشوقة للغاية!»
قالت له ابنته موضحة: «كنا نتحدث عن «الأزواج المحبين بعضهم لبعض للأبد»، وعن جمال الحب الذي صمد في مواجهة تقلبات الحياة ومحنها!»
ابتسم الكولونيل معلقا: «هكذا إذن، ذلك ليس عدلا. يبدو أن صديقي كان يعيد على آذان الشباب الساخر اعترافات زوج عاشق بحبه لزوجته التي بلغت منتصف العمر و...» وهنا وضع الكولونيل، في مزاجه الهازل، يده على كتف الغريب؛ ما حتم عليه النظر مباشرة في عينيه. عندئذ اعتدل في وقفته متصلبا واحمر وجهه.
كان هناك شخص يدعو الكولونيل بالوغد. ولم يكتف بذلك، بل أخذ يشرح بوضوح بالغ الأسباب التي تجعل منه وغدا كي يتأكد من ذلك . «إن حياة القط والفأر التي تحياها مع زوجتك عار عليكما معا. على الأقل راع آداب اللياقة وحاول إخفاء الأمر عن الناس، بدلا من المزاح حول عارك مع كل عابر سبيل. أنت وغد، يا سيدي، وغد!»
من جرؤ على التلفظ بتلك العبارات؟ بالتأكيد ليس الغريب؛ إنه لم يتفوه بكلمة. هذا فضلا عن أن الصوت ليس صوته. بل هو في واقع الأمر أشبه كثيرا بصوت الكولونيل نفسه. حول الكولونيل نظره من ابنته إلى الغريب، ثم من الغريب إلى ابنته. من الواضح أنهما لم يسمعا الصوت؛ لقد كان الأمر مجرد هلوسة. لذا استرد الكولونيل أنفاسه أخيرا.
بالرغم من ذلك بقي أثر الصوت في نفسه عصيا على التبدد. لا شك أن مزاحه مع الغريب حول موضوع زوجته كان ينم عن انعدام الذوق. فذلك أمر لا يقدم عليه رجل مهذب أبدا.
لكن ما من رجل مهذب يسمح أبدا بوضع كالذي بين الكولونيل وزوجته. فالرجل المهذب ما كان ليقضي جل وقته في التشاحن مع زوجته، وقطعا ما كان ليفعل ذلك على مرأى من الناس. فمهما كانت زوجته مصدر إزعاج له، كان سيكون قادرا على التحكم في نفسه.
نهضت السيدة ديفاين من مكانها وتقدمت ببطء عبر الغرفة نحوهم. تملك الخوف من الكولونيل. قال في نفسه إنها سوف تتوجه إليه بملحوظة ما مستفزة؛ إذ قرأ ذلك في عينيها، والتي كانت ستثير سخطه إلى حد يدفعه إلى رد فظ قاس.
حتى هذا الغريب الأحمق كان سيفهم لم لقبهما ظريف النزل ب «الزوجين المحبين بعضهما لبعض إلى الأبد»، وسوف يستوعب أن الكولونيل الشهم كان يتسلى بالسخرية من زوجته في حديث مع غريب جلس بجواره على مائدة العشاء.
هرع الكولونيل كي يبدأ الحديث، فصاح مخاطبا زوجته: «عزيزتي، ألا تشعرين بالبرد في هذه الغرفة؟ هلا أحضرت لك شالا!»
شعر الكولونيل بعبثية محاولته. فطالما جرت العادة بينه وبين زوجته على إلباس أقسى ما يتبادلانه من إهانات قناع التهذيب. تقدمت الزوجة نحوه بينما تفكر في رد مناسب؛ مناسب حسب وجهة نظرها بالطبع. قال في نفسه : ستنكشف الحقيقة في أي لحظة الآن. عندئذ خطر بباله احتمالية جامحة رائعة: إذا كان للغريب هذا التأثير عليه، فلماذا لا يكون له نفس التأثير عليها؟
صاح الكولونيل بنبرة صوت فاجأت زوجته ودفعتها للصمت: «ليتيشا، فلتلقي نظرة متمعنة على وجه صديقنا هنا. ألا يذكرك بأي أحد؟»
ألقت السيدة ديفاين نظرة طويلة متمعنة على وجه الغريب كما حثها زوجها. ثم غمغمت وقد تحولت إلى زوجها: «نعم، إنه يذكرني بأحد، لكن من هو؟»
رد الكولونيل: «لا أستطيع التذكر تحديدا؛ ظننت أنك قد تتذكرين.»
أردفت السيدة ديفاين متأملة: «سأتذكر مع الوقت. إنه وجه شخص عرفته منذ سنوات بعيدة، في سنوات صباي بمقاطعة ديفونشاير. سأكون شاكرة إن أحضرت لي شالي يا هاري. لقد تركته في غرفة الطعام.»
كانت حماقة الغريب البالغة هي سبب كل المتاعب، هكذا شرح السيد أوجستس لونجكورد لشريكه إزيدور. وأضاف: «أنا على أتم استعداد لعرض براعتي في المعاملات التجارية على رجال لهم دراية بالأمور، أو يظنون أنهم كذلك. لكن هذا الطفل الذي لا حول له ولا قوة عندما يرفض حتى أن يطلع على تقاريري وحساباتي، زاعما أن كلمة شرف مني تكفيه، ثم يعطيني دفتر شيكاته كي أضع الرقم الذي يناسبني، حسنا، أؤكد لك أنه لا يحيك مكيدة ما، بل هو معتوه تماما.»
رد شريكه باقتضاب: «المعتوه هو أنت يا أوجستس.»
رد أوجستس مقترحا: «حسنا، فلتذهب إليه يا عزيزي وتتحدث إليه بنفسك.»
قال الشريك في إصرار: «ذلك تحديدا ما أنوي فعله.»
في المساء التالي لحديثهما، وقف السيد لونجكورد مستقبلا شريكه بينما يصعد السلالم بعد حديث طويل أجراه مع الغريب وحدهما في غرفة الطعام، وقال له: «كيف سار الأمر؟»
رد إزيدور محتدا: «أرجوك، لا تسألني، إنه رجل أحمق سخيف، ذلك كل ما في الأمر.» «ماذا قال لك؟» «لن تتصور ما قاله لي، لقد أخذ يتحدث عن اليهود، عن مدى طيبتهم، وعما يتعرضون له من سوء تقدير من الناس، إلى آخر هذا الهراء!
لقد أضاف أن بعضا من أكثر من قابلهم احتراما على مدى حياته كانوا يهودا. وقد كان يظنني واحدا منهم!» «حسنا، وهل توصلت إلى أي اتفاق معه؟» «اتفاق! بالطبع لا. لا يسعني تشويه صورة اليهود كلهم مقابل بضع مئات من الجنيهات. تبدو صفقة خاسرة.»
شيئا فشيئا توصل قاطنو النزل إلى أن هناك الكثير من الأفعال التي لا تستحق كل هذا العناء الذي يتكبدونه من أجلها؛ أفعال مثل التصارع على طبق المرق، والتسابق لحيازة طبق الخضراوات أولا، وغرف المرء أكثر من نصيبه المستحق، والتحايل بغرض الاستيلاء على الكرسي المريح، والجلوس على صحيفة المساء ثم التظاهر بعدم رؤيتها، إلى آخر تلك التصرفات الطفولية التافهة. إذ أدركوا أن ما يتحصلون عليه من مكاسب ضئيلة من تلك السخافات لا يوازي الجهد المبذول في سبيلها. وهكذا توقفوا أيضا عن الأفعال السوقية على غرار التذمر الدائم من الطعام، والشكوى المتواصلة من معظم الأشياء، وذم صاحبة النزل في غيابها أو ذم رفاق السكن على سبيل التغيير، والتشاحن فيما بينهم دون سبب وجيه، وتهكم بعضهم على بعض، وإذاعة الفضائح بعضهم عن بعض، وإطلاق الدعابات السخيفة بعضهم على بعض، والتباهي بإنجازات لا يصدقها أحد. تلك سفاهات ربما ينخرط فيها مستأجرو الأنزال الأخرى، لكن سكان هذا النزل كان لديهم من الشرف ما يحول بينهم وبين تلك الأفعال.
في الحقيقة أصبح سكان النزل يحسنون الظن بأنفسهم، وهم يدينون بذلك إلى الغريب وحده. فقد قدم الغريب إلى منزلهم ولديه تصور مسبق - الله وحده يعلم من أين جاء به - مفاده أن قاطنيه الذين بدوا أنهم من عموم الناس الخشني الطباع السيئي الخلق، هم في الواقع سادة وسيدات من أرقى الناس وأنبلهم، والظاهر أن الوقت الذي قضاه بينهم وملاحظته لهم لم يسهما إلا في تأكيد ذلك التصور اللامعقول. ومن ثم كانت النتيجة الطبيعية أنهم بدءوا في التحول بما يتوافق مع رأي الغريب فيهم.
كان الغريب يصر على أن السيدة بنيتشيري سيدة نبيلة بحكم الميلاد والنشأة أجبرتها ظروف خارجة عن إرادتها على الانضمام إلى صفوف الطبقة الوسطى في عمل كادح شريف؛ حيث تضطلع بدور الأم الرءوم التي لا تستحق من عائلتها الكبيرة سوى كل شكر وعرفان؛ وهو رأي تشبثت به السيدة بنيتشيري نفسها الآن عن اقتناع لا يتزحزح. بالطبع لا يخلو دورها الجديد من بعض المتاعب، لكنها بدت مستعدة لتحملها عن طيب خاطر. فسيدة نبيلة مثلها لا يليق بها أن تحصل من ضيوفها الكرام على ثمن فحم وشمع لم يستخدموه قط، والأم الرءوم لا يمكن أن تطعم أولادها لحما متوسط الجودة مدعية أنه من أفضل أنواع اللحوم. تلك حيل قد تلجأ إليها صاحبة نزل عادية كي تدس الأرباح في جيبها. لكن سيدة على خلق وتهذيب مثلها لا يمكن لها أبدا ارتكاب أفعال كهذه؛ أو بعبارة أخرى شعرت السيدة بنيتشيري أنها لم تعد قادرة على ارتكاب تلك الأمور.
أما الآنسة كايت ففي عين الغريب كانت محاورة ذكية ومثيرة للإعجاب وذات شخصية شديدة الجاذبية. بيد أنها كانت تعاني من عيب واحد؛ ألا وهو قلة الاعتداد بالذات. فهي لم تكن تعي طبيعة جمالها الرقيق النقي. ولو أتيحت لها - فحسب - فرصة رؤية نفسها بعين الغريب لتخلت فورا عن ذلك التواضع الذي يدفعها إلى التشكك في حسنها الطبيعي. بدا الغريب على يقين شديد من رأيه، حتى إن الآنسة كايت عقدت العزم يوما ما على وضع ذلك الرأي موضع التجربة. فقد دلفت في إحدى الأمسيات قبل العشاء بساعة إلى غرفة المعيشة، وكان الغريب جالسا هناك وحده ولم تكن مصابيح الغاز قد أضيئت بعد، وعندما رفع عينيه وجد أمامه سيدة لطيفة، حسنة المظهر، ذات بشرة شاحبة قليلا وشعر بني مصفف بعناية، تسأله إن كان يعرفها. كانت تسري في جسد الآنسة كايت رعشة وبدا صوتها مرتجفا يوشك في أي لحظة على التحول إلى نحيب. لكنه انقلب إلى ضحكة عندما نظر الغريب مباشرة إلى عينيها وأخبرها أنه لما يلاحظ من تشابه بينها وبين الآنسة كايت، فلا بد أنها أختها الأصغر منها سنا، والأجمل منها بكثير، وهكذا كانت تلك هي الأمسية التي اختفت فيها الآنسة كايت ذات الشعر الذهبي إلى الأبد، ولم يلمح وجهها المغطى بمساحيق التجميل مجددا قط في النزل، والأعجب ربما من هذا والذي كان سيدهش أيا من قاطني النزل فيما سبق، أنه لم يسأل أي منهم، ولو عرضا، عما حل بها.
وكان الغريب يرى أن السيدة ابنة عم السير ويليام تعد مكسبا لأي نزل. فهي سيدة تنحدر من إحدى عائلات الطبقة الراقية. بالطبع لم يبد عليها ظاهريا أي مما قد يوحي بانتمائها إلى عائلة أرستقراطية. وهي نفسها، بطبيعة الحال، لم تكن لتذكر الأمر، غير أن المرء يستشعر هذا الانتماء بطريقة ما. كانت، بلا وعي منها، تعكس هالة من الرقي، وتشيع جوا من دماثة الخلق. وبالرغم من أن الغريب لم يقل لها ذلك تحديدا، لكنها استشفت ذلك منه وشعرت بأنها تتفق معه.
وكان الغريب يكن للسيد لونجكورد وشريكه احتراما كبيرا بوصفهما نموذجين لرجال الأعمال كما ينبغي أن يكونوا. وقد كان لهذا الاحترام أثره السيئ عليهما. ومما يثير العجب أنهما بدوا راضيين عن الثمن الذي دفعته شركتهما لأجل أن تظل عند حسن ظن الغريب، بل يقال أيضا إنها أصبحت تستهدف في المقام الأول اكتساب احترام أصحاب الشرف والنزاهة، في خطوة يتوقع أن تكلفها ثمنا غاليا على المدى الطويل. لكن بالرغم من كل شيء لدينا جميعا مبادئ لا نمانع التضحية بالمال في سبيلها.
في البداية، عانى الكولونيل والسيدة ديفاين كثيرا؛ إذ لم يكن سهلا على من في سنهما تعلم طرق جديدة للحياة. وهكذا أخذ كل منهما يواسي الآخر خلف باب غرفتهما المغلقة.
صاح الكولونيل متذمرا: «هذا هراء وجنون، أيليق بنا في هذه السن أن نرجع إلى التغزل والتودد؟!»
ردت زوجته: «إن وجه اعتراضي هو الإحساس بأني مدفوعة إلى ذلك دفعا بعض الشيء.»
صاح الكولونيل مزمجرا: «أحرام على المرء وزوجته أن يسخرا قليلا أحدهما من الآخر، مخافة رأي ذاك المدعي الصفيق؛ تلك مهزلة لا تحتمل؟!»
ردت زوجته: «حتى في غيابه، يخيل إلي أني أراه ينظر إلي بتلك العينين المزعجتين. حقا لقد أضحى يطاردني في كل مكان.»
قال الكولونيل متأملا: «لقد قابلته في مكان ما، أقسم على ذلك. ليته يغادر ويريحنا.»
مئات التعليقات رغب الكولونيل في قولها للسيدة ديفاين على مدى اليوم، ومئات الملاحظات كانت سترغب السيدة ديفاين في توجيهها للكولونيل طوال اليوم. لكن بمجرد أن تتاح لهما فرصة الانفراد أحدهما بالآخر؛ حيث لا يستطيع أحد سماعهما، تكون تلك الرغبات قد تبددت تماما.
كان يواسي الكولونيل نفسه قائلا: «النساء هن النساء. لا بد للرجال من احتمالهن؛ فعلى الرجل ألا ينسى أبدا أنه سيد مهذب.»
أما السيدة ديفاين، فبعدما بلغت مرحلة من اليأس التي لا ملجأ منها سوى المزاح، فقد كانت تضحك في سرها قائلة: «أوه، حقا، الرجال جميعهم على الشاكلة نفسها. لا فائدة من محاولة توجيههم؛ ذلك جهد عبثي لا يجلب للمرء سوى الضيق والإزعاج.» يوجد نوع خاص من الرضا، ينبع من إحساس المرء أنه يتحمل بصبر بطولي حماقات الآخرين المستفزة. وقد تأتى أخيرا للكولونيل وزوجته التمتع بهذا الإحساس الرائع من الرضا عن الذات.
لكن من انزعج جديا من إيمان الغريب الذي لا يتزحزح بالخير المتأصل في طبيعة كل من كان يقابله كانت الآنسة ديفاين الجميلة الفاترة الهمة. كان الغريب مصمما على أنها شابة تحمل من المشاعر أنبلها، ومن الأخلاق أسماها، وأنها جديرة بمكانة بين جان دارك والبطلة الاسكتلندية فلورا ماكدونالد. إلا أن الآنسة ديفاين، على النقيض، كانت تعلم جيدا أنها مجرد فتاة لا تملك سوى جمالها، ولا تعشق سوى ترف العيش؛ فقد كانت على أتم استعداد لبيع نفسها لأول شار قادر على منحها أرقى الثياب، وإغراقها بأفخر الأطعمة، وإسكانها أفخم البيوت. وكان الشاري المتاح أمامها حاليا هو وكيل مراهنات متقاعد، كان رجلا عجوزا بغيضا بعض الشيء، لكنه فاحش الثراء ومغرم بها دون شك.
كانت الآنسة ديفاين، بعدما عقدت عزمها على قبول هذا الزواج، متلهفة على ضرورة إتمام الأمر سريعا. لذا كان رأي الغريب السخيف فيها لا يثير سخطها فحسب، بل يبث الاضطراب في نفسها. فمن الصعب على امرأة التصرف كما لو كانت أحط الغرائز هي دافعها الوحيد في الحياة، تحت مرأى ومسمع من الرجل الذي آمن بأنها التجسيد الحي لكل ما هو حسن في النساء، مهما كانت حماقته. مرات عديدة عزمت الآنسة ديفاين على وضع نهاية لتلك المسألة بالقبول الرسمي لليد الضخمة والمترهلة لعاشقها الكهل، ومرات عديدة تدخل طيف عيني الغريب المهيبتين الصادقتين ليمنعها من إعطاء جواب نهائي. لكن الغريب كان سيرحل يوما ما. في الواقع، هو نفسه قال لها ذلك، فما هو إلا عابر سبيل. ستصبح الأمور أسهل قطعا عند رحيله. هكذا فكرت.
وفي عصر أحد الأيام دلف الغريب إلى غرفة المعيشة بينما كانت الآنسة ديفاين تقف بجوار النافذة متطلعة إلى الأغصان العارية للأشجار بميدان بلومزبيري سكوير. وقد تذكرت فيما بعد أن عصر يوم ضبابي كهذا شهد مجيء الغريب منذ ثلاثة أشهر. كانا وحدهما في الغرفة. أغلق الغريب الباب وتقدم نحوها بخطواته الوثابة الغريبة. كان قد أحكم إغلاق أزرار معطفه الطويل، وحمل بين يديه قبعته القديمة المصنوعة من اللباد وعصاه الغليظة ذات المقبض الأشبه بعكاز.
قال الغريب موضحا: «لقد جئت لأودعك. إني راحل اليوم.»
سألته الفتاة: «ألن أراك مجددا إذن؟»
رد الغريب: «لا يمكنني القول. لكن أرجو ألا تنسيني.»
ردت الفتاة مبتسمة: «لن أنساك. أستطيع أن أعدك بذلك.»
وعدها الغريب بدوره: «وأنا لن أنساك أبدا، وأتمنى لك كل فرحة وبهجة؛ فرحة الحب، وبهجة الزواج السعيد.»
جفلت الفتاة. ثم قالت: «الحب والزواج قد لا يجتمعان معا في جميع الأحوال.»
وافقها الغريب قائلا: «نعم ليس في جميع الأحوال، لكن في حالتك أنت تحديدا سيجتمعان.»
نظرت إليه.
واستكمل الغريب حديثه مبتسما: «أتظنين أنني لم ألاحظ ذلك الشاب الوسيم المهذب والذكي؟ إنه يحبك وأنت تحبينه. لم أكن لأغادر دون الاطمئنان على مستقبلك.»
شردت عيناها نحو الضوء الخافت.
ثم ردت في نزق: «آه! نعم، أنا أحبه بالفعل. إن عينيك قادرتان على رؤية الحقيقة متى رغبتا في ذلك. لكن المرء لا يحيا على الحب في عالمنا هذا. سأخبرك عن الرجل الذي أنوي الزواج منه إذا كنت مهتما.» كانت عيناها تتحاشى عينيه. وظلت مثبتة على الأشجار الداكنة والضباب خلفها، بينما تدفقت العبارات من فمها سريعة جارفة: «سأتزوج رجلا قادرا على منحي كل ما أشتهيه؛ المال وكل ما يقدر المال على شرائه. أنت تظنني امرأة، لكنني لست سوى خنزيرة. إنه كائن مقزز ويتنفس مثل الخنازير البحرية؛ لا يعرف سوى المكر والخداع، ولا يعظم سوى شهواته. لكني لا أمانع كل هذا.»
كانت تأمل أن تصدم كلماتها الغريب دافعة إياه للمغادرة. وأثار سخطها أن سمعته يضحك ليس إلا.
قال: «لا، لن تتزوجيه.»
صاحت في غضب: «من سيمنعني؟» «روحك النبيلة.»
كان لصوته رنين آمر عجيب أجبرها على الالتفات والنظر إلى وجهه. عندئذ أدركت أن الصورة التي كانت تحملها له في مخيلتها منذ أن وقعت عيناها عليه للمرة الأولى كانت صحيحة. كانت قد التقته وتحدثت إليه؛ في الطرقات الريفية الساكنة وشوارع المدن المزدحمة؛ لا تدري أين على وجه التحديد. وكلما كانت تحادثه كان يسمو بروحها: لقد كانت مثلما كان دوما يراها.
أكمل الغريب حديثه (وللمرة الأولى لاحظت الآنسة ديفاين حضوره المهيب، وأدركت أن عينيه الوديعتين الطفوليتين يمكن أن تكونا آمرتين كذلك): «هناك أناس يقدمون على ذبح روحهم النبيلة بأيديهم والتخلص للأبد مما تجلبه من متاعب. لكنك يا صغيرتي تركت روحك تبلغ من القوة ما يعجزك عن كبتها؛ لذا ستظل لها اليد العليا دوما عليك. يجب أن تطيعيها. وإذا حاولت الفرار منها فستتبعك، حتى تدركي أنه لا مهرب منها. أما إهانتك لها، فلن تجلب لك سوى شعور محتدم بالعار وتقريع مؤلم لا ينتهي للنفس.» ثم تلاشت الصرامة من وجه الغريب الجميل وعاودته رقته مجددا. ووضع يده على كتف الفتاة الشابة. ثم قال: «سوف تتزوجين حبيبك. ومعه ستقطعين دروب الحياة، سهلها ووعرها.»
تطلعت الفتاة إلى وجهه القوي الهادئ، وأدركت يقنيا أن ما تلفظ به واقع لا محالة، وأن مقاومتها لروحها النبيلة قد تلاشت من داخلها إلى الأبد.
استطرد الغريب: «والآن، فلتصحبيني إلى الباب. إن لحظات الوداع ليست سوى أحزان لا داعي لها. دعيني أغادر في هدوء. وأغلقي الباب برفق من خلفي.»
ظنت أنه قد يدير وجهه مجددا ناظرا إليها، لكنها لم تلمح منه سوى الجزء المستدير العجيب من ظهره البارز من تحت معطفه المغلق بإحكام قبل أن يتلاشى طيفه مع تكاثف الضباب.
فأغلقت الباب برفق.
مزحة الفيلسوف
عن نفسي أنا لا أصدق هذه القصة. لدى ستة أشخاص قناعة بصحتها، ولديهم كذلك أمل بإقناع أنفسهم بأنها كانت مجرد هلوسة. لكن ثمة مشكلة واحدة تعترض سبيلهم، وهي أنهم ستة أشخاص. وكل فرد منهم يدرك بوضوح استحالة أن يكون ما حدث هلوسة. ولسوء الحظ، هم أصدقاء مقربون، ولا يمكن لبعضهم تجنب البعض؛ وعندما يلتقون وينظر كل منهم في أعين الآخرين تتجسد تلك الواقعة مجددا في أذهانهم.
كان من حكى لي القصة، ثم تمنى فور انتهائه من سردها لو لم يكن قد أفصح عنها، هو آرمتيدج. ففي إحدى الليالي، عندما كنت أنا وهو الجالسين الوحيدين في غرفة التدخين بالنادي، أخبرني بما حدث. وقد كان سرده لي عفو الخاطر، حسبما أوضح لي لاحقا. كان الموقف يلح على ذهنه طوال ذلك اليوم بإصرار غريب؛ وبينما كنت أدخل الغرفة خطر له أن عقلا بليدا مثل عقلي - دون أن يقصد إهانتي بتلك الكلمات طبعا - من المؤكد أن ينظر إلى تلك المسألة بتشكك هزلي، ما قد يساعد على توجيه انتباهه نحو الجانب غير المعقول منها. وأظن أنني فعلت ما أراده. إذ شكرني عندما رفضت تصديق القصة برمتها واعتبرتها وهما وليد عقل مشوش، ورجاني ألا أجيء على ذكر تلك المسألة لأي كائن كان. وعدته بذلك؛ وربما يجدر بي هنا التنبيه على أنني لا أعتبر القصة التي سأشرع في سردها الآن ذكرا لتلك المسألة. فاسم الرجل الحقيقي ليس آرمتيدج، بل إن اسمه الحقيقي لا يبدأ حتى بحرف الألف. وقد تقرأ هذه القصة ثم تتناول العشاء بجوار ذلك الرجل في الأمسية نفسها، ولن تعرف مطلقا أنه هو من ورد ذكره بالقصة.
وبالتأكيد لم أظن أن وعدي له يمنعني من التحدث عن المسألة، بحذر شديد، مع السيدة آرمتيدج، وهي امرأة في غاية اللطف. وقد انفجرت في البكاء ما إن تلفظت بأولى كلماتي حول الموضوع . ولم تهدأ إلا بعد جهد جهيد مني. ثم قالت إنها يمكن أن تشعر بالراحة عندما تعزف عن التفكير في هذا الأمر. وأضافت أنها هي وآرمتيدج لا يتحدثان عنه قط فيما بينهما؛ وكانت ترى أنهما لو تركا لحالهما، فربما تمكنا أخيرا من تجاوز هذه الذكرى برمتها. تمنت أيضا لو لم يكونا مقربين إلى هذه الدرجة من السيد إيفريت وزوجته. كان قد راود هذين الزوجين الحلم نفسه الذي حلمت به هي وزوجها؛ على افتراض أن ما حدث كان حلما. فالسيد إيفريت ليس من نوعية الرجال الذين ربما يجدر برجل دين، مثل السيد آرمتيدج، مصادقتهم؛ لكن آرمتيدج لا ينفك يحاجج بأنه من غير المنطقي أن يكون معلما للقيم المسيحية ثم ينهي صداقته مع رجل لا لسبب سوى أنه آثم نوعا ما. بل كان يفضل أن يحافظ على صداقته ويسعى لفرض تأثيره الحسن عليه. كانا يتناولان العشاء مع آل إيفريت بانتظام في أيام الثلاثاء، وبينما كانا يجلسان قبالتهما بدا من المستحيل قبول حقيقة أنهم الأربعة قد وقعوا جميعا، في الوقت نفسه وبالطريقة نفسها، فريسة لنفس الوهم. أظن أنني نجحت في بث قدر من الأمل في نفسها قبل أن أغادر. فقد أقرت بأن القصة تبدو بالفعل سخيفة من منظور المنطق السليم، وهددتني بأن لسانها لن يخاطب لساني مجددا إذا نبست ببنت شفة عن تلك المسألة أمام أي شخص. إنها امرأة لطيفة حقا، كما ذكرت قبلا.
وتشاء الصدفة العجيبة أن أكون في هذا الوقت أحد المديرين في شركة يملكها إيفريت، والتي كان قد رشحها لتوه للاستحواذ على تجارة ساحل البحر الأحمر وتطويرها. لذا تناولت معه هو وزوجته طعام الغداء يوم الأحد التالي للقائي بالسيدة آرمتيدج. إن حديثه ممتع، وانتابني فضول لمعرفة كيف سيبرر رجل حصيف للغاية مثله صلته بهذا الوهم المجنون، البالغ الاستحالة الذي حكي لي، ما دفعني إلى التلميح بمعرفتي بالقصة. وفجأة تغير سلوكه هو وزوجته. وأرادا معرفة من أخبرني بالأمر. لكني رفضت الإفصاح عن تلك المعلومة؛ لأنه بدا من الجلي أنهما كانا سيغضبان من ذاك الشخص. كان لدى إيفريت نظرية مفادها أن ما حدث كان حلما راود واحدا منهم، كاملفورد على الأرجح، وقد أوحى إلى بقيتهم أنهم رأوا الحلم نفسه عبر الإيحاء التنويمي. وأضاف أنه كان ليهزأ منذ البداية من الرأي القائل بأن ما حدث لم يكن حلما لولا حدث واحد تافه. لكنه رفض أن يخبرني ما هو. إذ إن هدفه، حسبما أوضح لي، هو محاولة نسيان الأمر، لا الاستغراق في التفكير فيه. ثم نصحني، بصفته صديقا لي، ألا أثرثر كثيرا حول هذه المسألة؛ لكيلا أواجه أي مشكلات فيما يتعلق بما أتلقاه من أتعاب نظير عملي في شركته. كان إيفريت يستخدم أحيانا أسلوبا فظا في توضيح الأمور.
وفي منزل آل إيفريت قابلت، فيما بعد، السيدة كاملفورد، وهي واحدة من أجمل من رأيت في حياتي من النساء. غير أنني ارتكبت يومها حماقة نابعة من ضعف ذاكراتي فيما يتعلق بالأسماء. فقد نسيت أن السيد كاملفورد وزوجته كانا الطرف الثالث فيما وقع من أحداث، وذكرت القصة زاعما أنها حكاية غريبة قرأتها منذ سنوات بعيدة في مجموعة قصصية قديمة. كنت آمل أن تكون فاتحة نقاش بيننا عن الصداقة البريئة. لكن السيدة كاملفورد هبت واقفة ونظرت لي في غضب. عندئذ تذكرت، وتمنيت لو أنني لم أقل شيئا مما قلته. أخذت وقتا طويلا كي أصالحها، وسامحتني أخيرا بعدما قبلت اعتبار ما قلته غلطة نابعة من غبائي ليس إلا. كانت هي مقتنعة تماما، كما قالت لي، بأن الأمر كله محض خيال. ولم يكن يساورها أي شك في ذلك إلا عندما تكون في صحبة باقي الأطراف. كانت ترى أنه إذا اتفق الجميع على تجنب ذكر هذا الأمر مجددا، فسوف يتبدد كليا بنسيانهم له. افترضت السيدة كاملفورد أن زوجها هو من أخبرني بالأمر؛ فطالما كان يرتكب مثل هذه الحماقات. لكن قولها ذلك لم يكن نابعا من قسوة. إذ قالت إنه في بداية زواجهما، قبل عشر سنوات، لم يكن يضايقها أحد مثله؛ لكنها صادفت العديد من الرجال الآخرين منذ ذلك الحين، وقد جعلها ذلك تعيد النظر إليه بعين الاحترام. وأنا أحب أن أسمع امرأة تثني على زوجها. وأرى أنه أمر غير معتاد ينبغي، في رأيي، التشجيع عليه أكثر. أكدت لها أن كاملفورد ليس المذنب هنا؛ وبعدما وعدتني بأن تسمح لي بزيارتها، لكن ليس كثيرا، في أيام الخميس، وافقتها على أن التصرف الأمثل هو صرف المسألة برمتها من ذهني والانشغال بدلا من ذلك بالأمور التي تخصني.
لم أكن قد تحدثت كثيرا مع كاملفورد من قبل، رغم أني أراه في النادي عادة. هو رجل غريب، يشاع عنه الكثير من الحكايات. فهو يكسب زرقه من الكتابة في الصحف، ثم ينفقه في نشر الشعر الذي يكتبه، فيما يبدو، للترويح عن النفس. خطر لي أن النظرية التي كونها عن الحدث ستكون بلا شك مشوقة حقا؛ بيد أنه رفض التحدث عن الأمر بتاتا في البداية، وتظاهر أنه قد صرف النظر عن المسألة كلها بوصفها ترهات فارغة. كدت أن أيأس من دفعه إلى الكلام حتى سألني في إحدى الأمسيات، من تلقاء نفسه، عما إذا كنت أظن أن السيدة آرمتيدج، التي كان يعلم أن علاقة صداقة تجمعني بها، لا تزال تعطي أهمية لتلك المسألة. وعندما عبرت عن رأيي بخصوص هذه المسألة، الذي كان مفاده أن السيدة آرمتيدج هي أكثرهم انزعاجا مما حدث، بدا متضايقا؛ وحثني على ترك بقيتهم لحالهم، وأن أكرس كل جهدي لمحاولة إقناعها هي بالذات أن المسألة برمتها كانت محض وهم، ولا يمكن أن تكون سوى ذلك. ثم أقر صراحة أن الأمر لا يزال لغزا بالنسبة إليه. وكان من السهل عليه اعتباره وهما، لولا حدث واحد تافه. وظل لفترة طويلة عازفا عن إخباري عما كان، لكن لهذا النوع من المواقف خلقت المثابرة، وفي النهاية تمكنت من استخلاص الأمر منه. وإليكم ما حكاه لي. «شاءت الصدفة أن نجد أنفسنا، نحن الستة، بمفردنا في حديقة النباتات الداخلية، في ليلة الحفل الراقص. كان أغلب الحضور قد غادروا بالفعل. وبينما كانت تعزف الفرقة آخر مقطوعة، كان صوت الموسيقى يتناهى إلى أسماعنا خافتا. انحنيت كي ألتقط مروحة جيسيكا التي كانت قد أسقطتها أرضا عندما لفت نظري فجأة شيء ما يلمع فوق عتبة من الفسيفساء أسفل مجموعة من النخل. لم يكن أي منا قد تحدث من قبل مع الآخرين؛ بل كان ذلك المساء أول مرة نتقابل فيها؛ إن كان ما حدث مجرد حلم. التقطت ذلك الشيء. وتجمع الآخرون حولي، وعندما نظر كل منا في عين الآخر أدركنا ماهيته؛ كان كأس نبيذ مكسورة، قدحا غريب الشكل مصنوع من الزجاج البافاري. لقد كان القدح الذي حلمنا جميعا أننا شربنا منه.»
لقد جمعت أجزاء القصة كما تراءى لي أنها قد حدثت. وعلى أي حال، الأحداث التي سأرويها كلها حقائق. وقد تبدلت أحوال أبطال تلك الحكاية منذ ذلك الحين، ما يجعلني آمل أنهم لن يقرءوها أبدا. وما كنت لأتكبد عناء سردها من الأساس، لولا أنها تحوي عبرة.
جلس ستة أشخاص حول الطاولة الكبيرة المصنوعة من خشب البلوط، في قاعة الطعام المكسوة جدرانها بألواح خشبية بذلك النزل المريح الذي يدعى «كنيبر هوف» في مدينة كونيجسبيرج الألمانية. كان الوقت قد تأخر ليلا. في الظروف العادية، ما كانوا ليظلوا مستيقظين حتى هذه الساعة، لكن بما أنهم وصلوا في القطار الأخير القادم من دانتسك، وتناولوا عشاء من أصناف الطعام الألماني؛ فقد بدا من الأفضل البقاء قليلا وتبادل الحديث. كان الصمت يعم المنزل على نحو غريب. كان قد ترك صاحب المنزل السمين الشموع المخصصة للضيوف على البوفيه، وتمنى لهم «ليلة سعيدة» منذ ساعة. وهكذا حوتهم روح المنزل القديم بين جنباتها.
إذا صدقت الأقاويل، فإن هنا، في هذه الغرفة تحديدا، طالما جلس الفيلسوف إيمانويل كانط وتحاور بنفسه مع آخرين. وعلى الجانب الآخر من الممر الضيق، كسا ضوء القمر الفضي الجدران التي أوت الرجل الضئيل الجسد ذا الوجه الشاحب بينما كان يعمل ويفكر طوال أربعين عاما؛ في حين أطلت النوافذ الثلاث العالية في قاعة الطعام على برج الكاتدرائية القديمة الذي يرقد جثمانه أسفله. كانت الفلسفة - التي تهتم بالظواهر البشرية، وتتوق للتجربة، ولا تخضع للقيود التي يفرضها العرف على كافة أشكال التفكير - تحوم في هواء الغرفة المشبع بالدخان.
كان القس ناثانيال آرمتيدج يتحدث قائلا: «لا ليس الأحداث المستقبلية، فمن الأفضل أن تظل خافية عنا. لكن أرى أنه ينبغي أن يسمح لنا بالاطلاع على مستقبل ذواتنا، أي طبعنا وشخصيتنا. ففي سن العشرين يكون المرء على شاكلة ما؛ وفي الأربعين، يصبح على شاكلة أخرى كلية، فتصير لديه آراء مختلفة، واهتمامات مغايرة، ونظرة أخرى للحياة؛ تجذبه سمات مختلفة تماما عما اعتاد، وينفر من الصفات نفسها التي رآها يوما ما جذابة. إنه أمر مربك حقا، لجميع البشر.»
ردت السيدة إيفريت، بصوتها الحاني المتفهم: «يسعدني سماع شخص آخر يتحدث عن هذا الأمر. لطالما فكرت فيه كثيرا. في بعض الأحيان كنت ألوم نفسي، لكن كيف يسع المرء تجنب ذاك المصير؛ الأشياء التي بدت لنا مهمة، أضحت بلا أهمية؛ واهتمامات جديدة استحوذت على عقولنا؛ والأبطال الذين نظرنا إليهم بعين التقديس نراهم اليوم وقد هووا من فوق عروشهم.»
ضحك السيد إيفريت المرح قائلا: «إذا كنت تعتبرينني واحدا من هؤلاء الأبطال الهاوين، فلا تترددي في قول هذا.» كان رجلا ضخما أحمر الوجه، ذا عينين صغيرتين لامعتين، وفم قوي وجذاب. ثم تابع: «فأنا لم أخلق إنسانا عاديا بإرادتي. ولم أطلب من أحد قط اعتباري قديسا من المرسومين على زجاج النوافذ الملون. لست أنا من تغير.»
ردت زوجته النحيلة بابتسامة خانعة: «أعلم يا عزيزي، أنا من تغيرت. كنت جميلة بلا شك عندما تزوجتني.»
وافقها زوجها قائلا: «كنت جميلة بالفعل يا عزيزتي. قليل من كان يضاهيك جمالا في شبابك.»
تابعت زوجته: «كانت تلك هي الصفة الوحيدة التي أعجبتك في، جمالي، ولقد تبددت سريعا. أشعر أحيانا وكأنني خدعتك.»
علق القس ناثانيال آرمتيدج: «لكن هناك أيضا جمال العقل، جمال الروح، الذي يعتبره بعض الرجال أكثر جاذبية من الجمال الجسدي.»
تألقت العينان الحانيتان للسيدة، التي ذوي جمالها، بوميض لحظي من السرور. ثم تنهدت قائلة: «أخشى أن ديك ليس من هذه النوعية من الرجال.»
رد الزوج بنبرة ودودة: «حسنا، كما قلت لتوي، أنا لم أخلق نفسي. لطالما كنت عبدا للجمال وسأظل كذلك على الدوام. لا أرى معنى في التظاهر أمام الأصدقاء بأنك لم تفقدي جمالك، أيتها الفتاة العجوز.» ثم وضع يده القوية على كتفها الهزيل في تعاطف. وأضاف: «لكن لا داعي لأن تزعجي نفسك بهذا الأمر كما لو كنت ارتكبت تلك الفعلة عن عمد. لا أحد يعتقد أن المرأة تزداد جمالا عندما تتقدم في العمر سوى عاشق.»
قالت زوجته: «لكن بعض النساء يزددن جمالا مع السن، على ما يبدو.»
وتحولت عيناها لا إراديا إلى حيث تجلس السيدة كاملفورد التي أراحت مرفقيها على الطاولة؛ وتبعتها عينا زوجها الصغيرتان اللامعتان إلى الاتجاه نفسه، لا إراديا أيضا. ثمة نوع من النساء يبلغ ذروة جماله في منتصف العمر. في سن العشرين، كانت السيدة كاملفورد، أو جيسيكا ديروود كما كانت تدعى قبل زواجها، فتاة غريبة الشكل، تخلو من أي ملمح جذاب حسب الذوق الذكوري العام سوى عينيها الكبيرتين، وحتى عيناها كانتا مخيفتين أكثر من كونهما ساحرتين. أما في سن الأربعين، فهي ربما تصلح نموذجا لتمثال بالحجم الحقيقي للإلهة جونو.
غمغم السيد إيفريت، بصوت لا يسمع تقريبا: «أجل، الزمن، إنه ذلك المهرج القديم الماكر.»
كانت السيدة آرمتيدج تلف لنفسها سيجارة بأصابعها الرشيقة عندما علقت بقولها: «ما كان يجب أن يحدث هو أن يتزوج ناثانيال من نيلي.»
تحول وجه السيدة إيفريت الشاحب إلى اللون القرمزي.
في حين صاح ناثانيال آرمتيدج مصدوما وقد احمر وجهه كذلك: «ماذا تقولين يا عزيزتي؟!»
ردت زوجته بغضب طفولي: «أوه، ألا يمكن أن ينطق المرء بالحق بين حين وآخر؟ أنا وأنت لا يصلح أحدنا للآخر بتاتا؛ الجميع يرى ذلك. عندما كنت في التاسعة عشرة من عمري، ظننت أن الزواج من قس أمر رائع ومقدس، وتخيلت نفسي أحارب الشر بجانبه. هذا فضلا عن أنك قد تغيرت منذ ذلك الحين. في تلك الأيام، كنت بشرا يا عزيزي ناث، وكنت أفضل من عرفتهم في الرقص. لو كنت أعرف نفسي حينها، لكنت أدركت أن مهارتك في الرقص هي على الأرجح السبب الرئيسي وراء انجذابي إليك. لكن كيف يتأتى للمرء معرفة ذاته في سن التاسعة عشرة؟»
علق القس آرمتيدج مذكرا إياها: «كنا نحب بعضنا.»
ردت السيدة آرمتيدج: «أعرف أننا كنا نحب بعضنا، بشدة حينها، لكننا لم نعد كذلك الآن.» ثم ضحكت ضحكة قصيرة يشوبها قدر من المرارة. وأضافت: «مسكين ناث! أنا لست سوى ابتلاء آخر يضاف إلى فيض ما تعرضت له من ابتلاءات. فالمعتقدات التي تؤمن بها والمثل العليا التي تجلها تبدو لي بلا معنى؛ مجرد عقائد جامدة ضيقة الأفق، فكر خانق. نيلي كانت هي الزوجة التي ارتضتها لك الطبيعة حالما تبدد جمالها وتبددت معه جميع أفكارها الدنيوية. كان القدر يهيئها لك، ليتنا عرفنا. أما أنا، فكان سيناسبني أن أكون زوجة فنان، أو شاعر.» ودون وعي منها، ألقت عيناها القلقتان دوما نظرة خاطفة على حيث جلس هوراشيو كاملفورد، الذي كان ينفث في هواء الغرفة سحابات من الدخان، منبعثة من غليون مرشومي أسود ضخم. ثم استطردت: «أنا أنتمي إلى العالم البوهيمي. وما كنت لألقاه هناك من فقر ومعاناة كانا ليصيرا مصدر سعادتي. وتنفس الهواء المنعش في ذلك العالم، كان ليجعل الحياة تستحق أن تعاش.»
أرجع هوراشيو كاملفورد ظهره إلى الوراء بينما تركزت عيناه على سقف الغرفة المصنوع من خشب البلوط. ثم قال: «يخطئ الفنان عندما يتزوج.»
ضحكت السيدة كاملفورد الجميلة بروح مرحة. وعلقت: «الفنان، حسبما رأيته منه، ما كان ليعرف الطريقة الصحيحة لارتداء قميصه لو لم تكن زوجته موجودة لتخرج القميص من الدرج وتساعده في ارتدائه.»
رد زوجها: «إن ارتداء الفنان لقميصه بالمقلوب لم يكن ليحدث فارقا كبيرا في العالم. لكن العالم سيتأثر إذا ضحى بفنه في سبيل إعالة زوجته وأسرته.»
قال ديك إيفريت بصوته المبتهج: «حسنا، على أي حال، لا يبدو أنك ضحيت بالكثير يا صديقي.» ثم أضاف: «فالعالم كله يردد اسمك.»
رد الشاعر قائلا: «أبلغ من العمر واحدا وأربعين عاما، وقد انقضت أفضل سنوات عمري.» ثم أردف: «كرجل، أنا لست نادما على شيء في حياتي. لقد حظيت بزوجة من أفضل ما يكون ، ولدي أطفال رائعون. وقد عشت الحياة الهادئة للمواطن الناجح. لكن لو كنت قد استمعت إلى ما تمليه عليه ذاتي الحقيقية، لكان ينبغي علي الارتحال إلى البرية؛ فهي الوطن الوحيد للمعلم، أو النبي. جدير بالفنان أن يتزوج فنه. أما الزواج من امرأة فهو فعل لا أخلاقي بالنسبة إليه. إذا عاد بي الزمن، كنت سأظل عزبا.»
ضحكت السيدة كاملفورد قائلة: «إنه انتقام الزمن، كما ترى.» ثم أردفت: «عندما كان ذاك الرجل شابا في العشرين من عمره هدد بأنه سينتحر إذا لم أوافق على الزواج منه، وقد وافقت حينها رغم أنه لم يكن يعجبني بتاتا. والآن بعد انقضاء عشرين عاما، وما إن بدأت في الاعتياد عليه، يغير كلامه في هدوء ويقول إن حاله كانت ستصبح أفضل بدوني.»
تدخلت السيدة آرمتيدج معلقة: «لقد سمعت بعض أجزاء من تلك الحكاية وقتها.» ثم تابعت موجهة حديثها إلى السيدة كاملفورد: «كنت واقعة في غرام شخص آخر حينها، أليس كذلك؟»
ضحكت السيدة كاملفورد قائلة: «ألا تعتقدون أن هذه المحادثة تنساق نحو مسار خطر بعض الشيء؟»
وافقتها السيدة إيفريت معلقة: «ذلك نفسه ما كنت أفكر فيه. أتصور أن قوى غريبة قد استحوذت علينا، ودفعتنا إلى التصريح بأفكارنا بصوت عال.»
قال القس ناثانيال مقرا: «أخشى أن الذنب في ذلك يقع علي.» ثم تابع قائلا: «لقد أضحى جو هذه الغرفة خانقا. ألا يستحسن أن نأوي إلى أسرتنا؟»
أصدر المصباح العتيق المتدلي من عارضة تلطخها آثار الدخان صوت قرقرة خافتة أشبه بنشيج، ثم انطفأ. وزحف ظل برج الكاتدرائية القديمة ممتدا عبر الغرفة التي لم يعد يضيئها سوى ضوء القمر المنسل بين الحين والآخر من وراء السحب. وعند الطرف الآخر من الطاولة كان يجلس رجل ضئيل الجسم، ذو وجه شاحب، وذقن حليق، مرتديا شعرا مستعارا ينسدل حتى كتفيه.
قال الرجل الضئيل: «عذرا.» كان يتحدث إنجليزية تشوبها لكنة ثقيلة. ثم أضاف: «يبدو لي أننا في موقف يشتمل على طرفين في وسع كل منهما تقديم العون للآخر.»
تبادل الأصدقاء الستة، المجتمعون حول الطاولة، النظرات ، لكن لم ينطق أحدهم بكلمة. كانت الفكرة التي خطرت ببال كل منهم، كما أوضح بعضهم لبعض لاحقا، أنهم قد حملوا الشموع التي تركها لهم صاحب النزل وصعدوا إلى غرفهم حيث خلدوا إلى النوم، دون أن يتذكروا قيامهم بذلك. وكان ما يرونه الآن هو حلم بكل تأكيد.
واصل الرجل الضئيل الشاحب الوجه حديثه قائلا: «إذا سمحتم لي بإعادتكم عشرين سنة إلى الوراء، فسوف يساعدني ذلك كثيرا في التجارب التي أجريها حول الظواهر المرتبطة بالميول البشرية.»
لم يرد أي منهم. وبدا لهم أن هذا السيد العجوز الضئيل الجسد لا بد أنه كان جالسا بينهم طيلة الوقت، دون أن يلاحظوا وجوده.
تابع الرجل الضئيل ذو الوجه الشاحب: «حسب حديثكم هذه الليلة، يفترض أن ترحبوا بعرضي. جميعكم تبدون لي في غاية الذكاء. وتدركون ما ارتكبتموه من أخطاء؛ وتتفهمون الأسباب التي دفعتكم إلى ارتكابها. لم يكن في وسعكم تجنبها؛ لأنكم لم يكن بوسعكم الاطلاع على المستقبل. ما أقترحه عليكم هو إعادتكم عشرين سنة إلى الوراء. سترجعون فتيانا وفتيات من جديد، ولن يختلف شيء سوى أمر واحد فقط: سوف تحتفظون بما عرفتموه عن المستقبل، عما حدث لكم تحديدا.»
ثم أردف مشجعا: «هيا، لا تترددوا، إنه أمر بسيط حقا. فمثلما أثبت ... أقصد مثلما أثبت أحد الفلاسفة بوضوح، العالم ليس سوى نتاج تصوراتنا. وعبر وسيلة قد تبدو لكم سحرا - رغم أنها مجرد عملية كيميائية - سوف أمحو من أذهانكم أحداث العشرين عاما الماضية كلها، باستثناء الأحداث التي تمس شخصياتكم فحسب. سوف تحتفظون بالمعرفة التي تخص التغيرات الجسمانية والعقلية التي يخبئها لكم المستقبل، ما عدا ذلك سوف ينمحي من أذهانكم.»
أخرج الرجل العجوز الضئيل قارورة صغيرة من جيب صدريته، ثم ملأ كأس نبيذ كبيرة من دورق النبيذ، وأضاف إليه نحو ست قطرات من القارورة. ووضع الكأس بعد ذلك في منتصف الطاولة.
وتابع الرجل الضئيل الشاحب الوجه حديثه مبتسما: «الشباب مرحلة تحلو العودة إليها. قبل عشرين عاما من الآن، كانت ليلة الحفل الراقص؛ احتفالا بموسم الصيد. أتتذكرونها؟»
كان إيفريت أول من شرب من الكأس. وقد شرب منه وعيناه الصغيرتان المتألقتان شاخصتان في توق نحو وجه السيدة كاملفورد الجميل والنبيل؛ ثم ناول الكأس إلى زوجته. وكانت هي على الأرجح من شرب بأكبر قدر من اللهفة. فحياتها مع إيفريت - منذ لحظة أن قامت من سرير المرض، بعدما سلبها الداء جمالها كله - كانت مريرة. شربت ويحدوها أمل مجنون ألا يكون ما يحدث حلما؛ وبابتهاج نابع من لمسة يد الرجل الذي أحبته ناولت الكأس إلى آرمتيدج الذي مد يده عبر الطاولة ليأخذها من يدها. كانت السيدة آرمتيدج هي رابع الشاربين. فبعدما تناولت الكأس من زوجها، شربت بابتسامة هادئة، ثم ناولتها إلى كاملفورد. وشرب كاملفورد دون أن ينظر إلى أحد، ثم وضع الكأس على الطاولة.
قال الرجل العجوز الضئيل مخاطبا السيدة كاملفورد: «هيا، لم يتبق سواك. لن تكتمل التجربة دون مشاركتك.»
ردت السيدة كاملفورد، وعيناها تنشدان عيني زوجها، الذي عزف عن النظر إليها: «ليست لدي رغبة في الشرب.»
ألح الرجل الضئيل مجددا: «هيا.» وحينئذ نظر لها كاملفورد، وضحك ضحكة خاوية.
ثم قال: «يستحسن أن تشربي.» وأضاف: «فهذا كله مجرد حلم.»
أجابته قائلة: «كما تريد.» وتناولت الكأس من يديه.
ما سأحكيه لكم الآن استقيت معظمه مما حكاه لي آرمتيدج تلك الليلة في غرفة التدخين بالنادي. لقد بدا له أن جميع الأشياء في غرفة الطعام بالنزل بدأت ترتفع ببطء، في حين ظل هو ثابتا، بيد أنه كان يعاني من ألم شديد كما لو أن أحشاءه تتمزق؛ وقد شبه ذلك الإحساس بما يشعر به المرء أثناء الهبوط في المصعد لكن أشد ألف مرة. وطوال الوقت كان الصمت والظلام يحاوطانه. وبعد فترة من الزمن، ربما كانت دقائق، وربما كانت سنوات، دنا منه ضوء خافت. ثم اشتد الضوء، وعبر نسمات الهواء التي هبت على وجهه تناهى إلى مسامعه صوت موسيقى آت من بعيد. علا الضوء والموسيقى معا، وشيئا فشيئا، استعاد وعيه. كان جالسا على مقعد مبطن منخفض تحت مجموعة من النخل. وبجواره كانت تجلس فتاة شابة، لكن وجهها كان محولا عنه .
وسمع نفسه يقول: «لم أنتبه إلى اسمك.» ثم أضاف: «هل تمانعين في إخباري به؟»
أدارت الفتاة وجهها نحوه. كان وجها ذا جمال روحاني لم ير مثيله أبدا. وضحكت قائلة: «يبدو أني واقعة في ورطة مماثلة.» ثم أضافت: «يستحسن أن تكتب اسمك على النسخة الخاصة بي من برنامج الحفل، وسوف أكتب اسمي على نسختك.»
وهكذا كتب كل منهما اسمه على نسخة البرنامج التي تخص الآخر، ثم استعاد كل منهما نسخته. كان الاسم الذي كتبته هو أليس بلاتشلي.
لم يكن قد رآها قبلا قط؛ كان بإمكانه أن يتذكر هذا. رغم ذلك، كان ثمة جزء قصي من عقله كان مصرا أنه يعرفها. لقد التقيا في مكان ما منذ زمن بعيد، وتحدثا معا. وشيئا فشيئا، مثلما يتذكر المرء حلما، عادت إليه ذكرى ما حدث. في حياة أخرى، تبدو له الآن ضبابية ومبهمة، كان قد تزوج هذه المرأة. وفي السنوات القليلة الأولى من زواجها، كان كل منهما يحب الآخر؛ ثم تباعدا وازدادت الفجوة بينهما اتساعا. كانت أصوات قوية صارمة قد دعته لأن يهجر أحلامه الأنانية، وطموحاته الصبيانية، وأن يحمل على عاتقه مسئولية واجب عظيم. كان يحتاج وقتها، أكثر من أي وقت مضى، إلى من يقدم له يد العون وينظر إليه بعين العطف، لكن زوجته تخلت عنه. فمثله العليا لم تسبب لها سوى الضيق. وقد تمكن من مقاومة محاولاتها لإبعاده عن مساره، لكن ثمن ذلك كان تراكم مشاعر الغضب والاستياء بينهما يوما بعد يوم. ثم تجلى عبر حلمه الضبابي وجه آخر، وجه يكسوه تعبير من التفهم لامرأة ذات عينين حانيتين؛ وجه المرأة التي كانت ستجيء له يوما في المستقبل بيدين ممددتين سوف يتوق إلى احتوائهما بين يديه.
سمع صوت الفتاة التي بجواره يقول: «هلا رقصنا؟» ثم أضاف: «لا أرغب في أن تفوتني رقصة الفالس.»
سارعا إلى قاعة الرقص. والتف ذراعه حول خصرها، وبينما كانت عيناها الرائعتان الخجلتان تسعيان، في لحظات نادرة، إلى ملاقاة عينيه، ثم تتوارى مجددا خلف رموشها المرسلة، شعر آرمتيدج الشاب بعقله يغيب وبروحه نفسها تنفلت من عقالها. أثنت الفتاة على رقصه بأسلوبها الساحر، الذي يجمع بين الحياء والاستعلاء في مزيج محبب.
فقالت له: «أنت بارع بشدة في الرقص.» ثم تابعت: «يمكنك أن تطلب مني الرقص مجددا، في وقت لاحق.»
دوت في عقله كلمات سمعها في ذلك المستقبل الضبابي الذي يطارد مخيلته. «لو كنت أعرف نفسي حينها، لكنت أدركت أن مهارتك في الرقص هي على الأرجح السبب الرئيسي وراء انجذابي إليك.»
طوال تلك الأمسية، وطوال الأشهر العديدة التي تلتها كان الحاضر والمستقبل يتصارعان بداخله. ومثلما عانى ناثانيال آرمتيدج، طالب اللاهوت، عانت أليس بلاتشلي، التي وقعت في حبه من أول نظرة، بعدما أدركت أنه أروع راقص جالت معه قاعة الرقص على أنغام موسيقى الفالس المثيرة للحواس؛ وعانى هوراشيو كاملفورد، الصحفي والشاعر المغمور، الذي كان عمله بالصحافة يكسبه دخلا يكفيه بالكاد، لكن شعره كان محط إعجاب النقاد؛ وكذلك عانت جيسيكا ديروود، ذات العينين الباهرتين، والبشرة الباهتة، التي كانت غارقة حتى أذنيها وبلا أمل في غرام ديك إيفريت الوسيم، ذي الجسد المفتول واللحية الحمراء، والذي كان رد فعله الوحيد عندما عرف بحبها أن ضحك منها، بطريقته الودودة والمتعالية في آن واحد، وأخبرها بصراحة قاسية أن امرأة بلا جمال لا دور لها في الحياة؛ ونال ديك إيفريت أيضا نصيبه من المعاناة، ذلك الشاب الداهية، الذي لم يذق طعم الهزيمة قط، والذي نجح في ترك بصمته في الحي التجاري بلندن وهو لم يتجاوز الخامسة والعشرين من عمره، ذلك الشاب الذكي، البارد الأعصاب كالثعالب، باستثناء عندما يلمح وجه امرأة مليحة، أو يدا أو كاحلا حسن الشكل؛ وعانت نيلي فانشو، التي كانت وقتها في أوج جمالها الفتان، وموضع حسد النساء الأخريات وتودد جميع الرجال، والتي لم تحب أحدا سوى نفسها، ولم تقدس شيئا في حياتها سوى المجوهرات والفساتين الفاخرة والموائد العامرة.
في تلك الأمسية، أمسية الحفل الراقص، تشبث كل منهم بأمل أن تكون تلك الذكرى المستقبلية ليست سوى حلم. كانوا قد تعرف بعضهم على بعض، وسمع كل منهم أسماء الآخرين لأول مرة بجفلة نابعة من المعرفة، وتجنبوا النظر في أعين بعضهم، وسارعوا بالانخراط في حديث بلا معنى، حتى اللحظة التي انحنى فيها كاملفورد الشاب كي يلتقط مروحة جيسيكا، ووجد بقايا تلك الكأس المكسورة المصنوعة من الزجاج البافاري. وعندئذ تحولت تلك الذكرى إلى قناعة لا يمكن التخلص منها، وأصبحت تلك المعرفة التي اكتسبوها عن المستقبل حقيقة لا بد من تقبلها، مع الأسف.
الأمر الذي لم يتوقعوه كان أن معرفة المستقبل لم تؤثر إطلاقا على مشاعرهم في الحاضر. فيوما بعد يوم، كان ناثانيال آرمتيدج يزداد عشقا لأليس بلاتشلي الساحرة. وكانت فكرة زواجها من غيره، لا سيما كاملفورد، ذلك المتعجرف، ذو الشعر الطويل، تجعل الدم يغلي في عروقه؛ هذا فضلا عن أن أليس الرقيقة قد اعترفت له، وذراعاها تحيطان بعنقه، أن حياتها بدونه ستكون شقاء يتعذر احتماله، وأن فكرة زواجه من امرأة أخرى، نيلي فانشو تحديدا، تبدو لها ضربا من الجنون. ربما كان التصرف السليم، بعدما عرفا ما ينتظرهما، أن يودع كل منهما الآخر. فهي كانت ستجلب التعاسة إلى حياته. ربما كان من الأفضل أن يبعدها عنه، وأن يتركها تموت مفطورة الفؤاد، فذلك مصيرها المحتوم. لكن كيف يستطيع هو، العاشق المتيم، أن يجعلها تعاني هكذا؟ كان ينبغي عليه الزواج من نيلي فانشو بطبيعة الحال، لكنه كان لا يطيق تلك الفتاة. ألا يعد الزواج من فتاة يكرهها بشدة لأنها قد تصبح بعد عشرين عاما أكثر ملاءمة له بدلا من الزواج من المرأة التي يحبها وتحبه الآن أمرا في قمة العبث؟
أما نيلي فانشو، فلم تستطع مناقشة اقتراح الزواج من قس تكرهه فعليا، ولا يتجاوز دخله مائة وخمسين جنيها سنويا، دون أن تضحك. كان سيأتي زمن لا تعبأ فيه بالثروة، ولن تكترث روحها السامية حينها إلا بالرضا النابع من التضحية بالذات. لكن ذاك الزمن لم يكن قد حل بعد. والمشاعر التي كان سوف يجلبها معه لم يمكنها حتى تخيلها، في وضعها الحالي. إن كيانها كله كان يشتهي كنوز الحياة الدنيا، وتلك الكنوز كانت في متناول يديها . أيعقل أن يطلب منها التخلي عن ذلك كله لأنها لن تكترث به لاحقا؛ الأمر أشبه بأن تنصح تلميذا بالمدرسة ألا يذهب إلى متجر الحلوى؛ لأنه عندما يكبر ويصير رجلا سوف يتقزز من فكرة الحلوى التي تلتصق بالأسنان؟! إذا قدر لقدرتها على الاستمتاع أن تكون قصيرة الأجل، فذلك سبب أدعى كي تسارع باقتناص مسرات الحياة.
وكانت أليس بلاتشلي، عندما لم يكن حبيبها بجانبها، لا تنفك ترهق ذهنها ممعنة التفكير في المسألة منطقيا. ألم يكن من الحماقة أن تتسرع بالزواج من ناث العزيز؟ في سن الأربعين كانت سوف تتمنى لو كانت قد تزوجت شخصا آخر. لكن معظم النساء في سن الأربعين يتمنين لو كن قد تزوجن من شخص آخر، وقد توصلت إلى هذا الاستنتاج من المحادثات التي كانت تسمعها فيما حولها. إذا أنصتت كل فتاة في العشرين من عمرها إلى ما سوف تقوله عندما تبلغ الأربعين، فلن تتزوج أي فتاة. ففي سن الأربعين، ستكون امرأة مختلفة كليا. وتلك المرأة الأخرى الكبيرة في السن لم تثر اهتمامها. ولم يبد لها من الصواب أن يطلب من فتاة شابة أن تفسد حياتها لا لسبب إلا لإرضاء نفسها عندما تكون في منتصف العمر. وعلاوة على ذلك، من كانت ستتزوج غيره؟ كاملفورد ما كان ليقبل بها أبدا؛ فهو لم يرغب فيها حينها؛ وما كان ليرغب فيها في سن الأربعين. لأسباب عملية، كان كاملفورد خيارا مستحيلا. قد تتزوج شخصا آخر كليا، وتعاني من مصير أسوأ. وقد تصير عانسا؛ كانت تكره الكلمة نفسها. إن حالفها الحظ، قد تصبح صحفية ذات أصابع ملطخة بالحبر؛ وهي لم يكن يعجبها ذاك المصير. أيكون زواجها من ناث العزيز فعلا أنانيا؟ أينبغي أن ترفض الزواج منه حفاظا على مصلحته؟ إن نيلي، تلك القطة الصغيرة، التي سوف تناسبه في سن الأربعين، ما كانت لترضى به الآن. وإذا كان سيتزوج امرأة أخرى غير نيلي، فليتزوجها هي إذن. لا يمكن أن يصبح قسا عزبا؛ فكلمة عزب نفسها تكاد تبدو وصفا غير ملائم لقس. هذا فضلا عن أن ناث الحبيب ليس من النوع الذي يظل عزبا. إذا أبعدته عنها لكانت ستدفع به إلى أحضان فتاة لعوب ماكرة. ماذا بوسعها أن تفعل؟
في سن الأربعين، وتحت تأثير ثناء النقاد على شعره، كان سيقنع كاملفورد نفسه بأنه نبي مرسل، وأن حياته كلها ينبغي أن تكرس لإنقاذ البشرية. بيد أنه، في سن العشرين، كان يشعر بالرغبة في عيش حياته. وكانت جيسيكا، تلك الفتاة غريبة المظهر ذات العينين الخلابتين بما تخفيانه من أسرار، تهمه أكثر من باقي أفراد الجنس البشري مجتمعين. إن معرفة المستقبل، في حالته، لم تفض إلى شيء سوى تأجيج شهوته. فالبشرة الباهتة سوف يكسوها اللونان الأبيض والوردي، والذراعان والساقان النحيفتان سوف تضحيان ممتلئتين ومتناسقتين، والعينان اللتان يلمح فيهما الآن نظرة ازدراء سوف تشعان يوما ما ببريق الحب عند رؤيته. لقد كان يأمل في حدوث ذاك التحول؛ والآن أضحى متيقنا من حدوثه. في سن الأربعين، يكون الفنان أقوى من الإنسان؛ لكن في سن العشرين يكون الإنسان أقوى من الفنان. «فتاة غريبة المظهر»، هكذا كان أغلب الناس سيصفون جيسيكا ديروود. وقليلون من كانوا سيتخيلون أنها ستصير السيدة كاملفورد اللطيفة الهادئة البال عند بلوغها منتصف العمر. فشهواتها الجسدية التي تأججت في سن العشرين استنفدت طاقاتها في سن الثلاثين. في سن الثامنة عشرة، كانت جيسيكا غارقة بجنون في حب ديك إيفريت ذي اللحية الحمراء والصوت العميق، حتى إنها كانت لتلقي بنفسها مسرورة تحت قدميه إذا أشار إليها بطرف إصبعه، وذلك كله على الرغم من المعرفة التي تحذرها مسبقا من الحياة البائسة التي كانت تنتظرها حتما معه، على الأقل حتى ينضج جمالها على المهل بما يجعله رهن إشارتها؛ وحينئذ ستكون قد أضحت تزدريه. لكن نفسها حدثتها بأن الحظ الحسن حليفها؛ إذ لا داعي لأن تخشى تغيرا في موقف ديك، على الرغم من معرفة كل منهما بالمستقبل. فجمال نيلي فانشو كأنما قد أسره بسلاسل من حديد، ونيلي ما كانت لتدع هذ الصيد الثمين يفلت من يديها. وصحيح أن الرجل الذي يهواها يثير ضيقها أكثر من أي رجل آخر، لكنه على الأقل سيؤمن لها ملاذا يقيها العوز. إذ كانت جيسيكا فتاة يتيمة، رباها قريب بعيد لها. ولم تكن من الأطفال الذين يجتذبون محبة الآخرين. بل كانت ذات طابع صامت جدي، ترى كل فعل فظ طائش إهانة لها أو خطيئة في حقها. وبدا لها أن قبول كاملفورد الشاب هو المهرب الوحيد من حياة أصبحت تراها ابتلاء. وفي سن الواحدة والأربعين كان سيتمنى كاملفورد لو ظل عزبا؛ لكنها كانت ستكون وقتها في الثامنة والثلاثين ولن يضايقها ذلك. بل ستكون هي نفسها على يقين أن وضعه الآن أفضل كثيرا. ففي غضون تلك السنوات، كان سيكون قد تولد بداخلها إعجاب ناحيته واحترام له. سيكون مشهورا، وسوف تفتخر به. كانت دموعها تنهمر رغما عنها فوق وسادتها شوقا لديك الوسيم، لكن خفف من حزنها فكرة أن نيلي فانشو كانت، بطريقة ما، تحرسها، وتحميها من رغباتها.
أما ديك فكان يحدث نفسه عشر مرات يوميا بأنه كان ينبغي عليه الزواج من جيسيكا. ففي سن الثامنة والثلاثين، كان سيراها نموذجا للكمال. بيد أنه كان يقشعر عند النظر إليها الآن وهي في الثامنة عشرة. في سن الثلاثين، كانت ستفقد نيلي جمالها وسيفقد هو اهتمامه بها. لكن متى نجح التفكير في المستقبل في كبح جماح الهوى؛ هل توقف عاشق أبدا لحظة ليفكر فيما يحمله الغد؟ إذا كان جمال نيلي سريع الزوال، ألا يعد ذلك سببا أدعى لاقتناصه بينما لا يزال متوهجا؟
في سن الأربعين، كانت ستصبح نيلي فانشو قديسة. غير أن هذا المستقبل المحتمل لم يسعدها؛ فهي تكره القديسين والقديسات. وكانت ستحب حينئذ ناثانيال، الرصين الممل؛ ما جدوى تلك المعرفة لها الآن؟ إن ناثانيال لم يكن يرغب فيها؛ فقد كان يحب أليس وكانت هي تبادله الحب. بأي منطق يجلب الثلاثة التعاسة لأنفسهم في شبابهم لربما يشعرون بالرضا في كهولتهم؟ فليعتن الكهول بأنفسهم وليدعوا الشباب لفطرتهم. فليعان القديسون الكهول، فالمعاناة هي اختصاصهم على أي حال، وليتركوا الشباب يشربوا من كأس الحياة. من المؤسف أن ديك كان «الصيد» الوحيد المتاح ، لكنه كان شابا ووسيما. الفتيات الأخريات كن لا يجدن بدا من تحمل رجال عجائز في الستين من العمر، ومصابين بالنقرس.
وفوق ذلك، ثمة نقطة في غاية الخطورة جرى إغفالها. كل الأحداث التي بلغتهم من ذلك المستقبل الضبابي الذي يتذكرونه قد حدثت لهم لأنهم عقدوا الزيجات التي قد عقدوها بالفعل. لكن تلك المعرفة المستقبلية لم تخبرهم بالمصير الذي كانوا سيلقونه إن اختلفت اختياراتهم. في سن الأربعين أصبحت نيلي فانشو شخصية لطيفة وودودة. ألا يحتمل أن الحياة الشاقة التي خاضتها مع زوجها - بما تطلبته من تضحيات مستمرة ورباطة جأش يومية - قد ساعدت على هذا التحول؟ أكان من الممكن أن تتحقق النتيجة نفسها إن كانت، عوضا عن ذلك، زوجة قس فقير يضع القيم الأخلاقية السامية صوب عينيه؟ إن الحمى التي كانت قد سلبتها جمالها وحولت مسار أفكارها نحو العقل والروح أصيبت بها لأنها جلست بصحبة كونت إيطالي في شرفة دار الأوبرا بباريس؛ حيث أقيم حفل راقص بملابس تنكرية. لو كانت زوجة قس تعيش في حي إيست إند بلندن، فمن المرجح أنها كانت ستفلت من الإصابة بتلك الحمى ولن تتعرض لتأثيرها المطهر للروح. وأليس من الخطر ترك امرأة فاتنة الجمال مثلها، تفكيرها منصب على الحياة الدنيا، وتتوق لتذوق ملذاتها، كي تحيا في فقر مع رجل لا تحبه؟ إن تأثير أليس على ناثانيال آرمتيدج، أثناء السنوات الأولى التي شهدت تكون شخصيته، كان تأثيرا حسنا. أكان هو واثقا من أن زواجه من نيلي لن يؤدي إلى تردي حاله؟
إذا تزوجت أليس بلاتشلي من فنان، فكيف كان سيسعها التأكد من أنها في سن الأربعين ستظل متعاطفة مع المثل العليا الفنية؟ فحتى عندما كانت طفلة، ألم تكن رغباتها دائما تسير في الاتجاه المعاكس لرغبات مربيتها؟ ألم تؤد قراءة الصحف المحافظة إلى دفعها بخطى ثابتة نحو الراديكالية، وألن يؤدي الفيض المتواصل من الأحاديث الراديكالية حول طاولة زوجها، الفنان، إلى دفعها دفعا للبحث عن حجج تدعم النظام الإقطاعي؟ ألا يمكن أن يكون تنامي النزعات البيورتانية لدى ناثانيال هي التي دفعتها إلى اشتهاء البوهيمية؟ وبفرض أنها تزوجت فنانا جامحا، ثم ما إن قاربت منتصف العمر حتى قررت فجأة أن «تتدين»، حسب التعبير الشائع، كيف كان سيكون حالها حينئذ؟ كان سيصير وضعها أسوأ من وضعها الأصلي.
كاملفورد رجل ضعيف البنية. وإذا ظل عزبا شارد الذهن، لا يجد من يهتم بتنظيم وجباته والتأكد من تعرض ملابسه وأغراضه لتهوية جيدة، فهل كان سيعيش ليبلغ الأربعين؟ كيف كان سيسعه التأكد من أن الحياة الأسرية لن تضيف إلى فنه أكثر مما أخذت منه؟
أما جيسيكا ديروود، ذات الطابع العاطفي والانفعالي، فإذا ارتبطت بزوج سيئ، فربما كانت ستصلح في سن الأربعين نموذجا لتمثال يجسد إيرينيس، إحدى إلهات الانتقام. فجمالها لم يكن ليتبدى لو لم تكن حياتها هادئة ومريحة. إن جمالها من النوع الذي يتطلب سكونا وطمأنينة كي ينضج على مهل.
كان ديك إيفريت رجلا يعرف نفسه جيدا. ومن ثم كان يعرف أنه إذا تزوج جيسيكا، فمن المستحيل أن يظل طوال عشر سنوات زوجا مخلصا لزوجة بلا جمال. هذا فضلا عن أن جيسيكا لم تكن من النساء التي يمكنها الصبر كثيرا على زوجها. فإذا تزوجها في سن العشرين من أجل جمالها عندما تبلغ الثلاثين، فمن المرجح أن تطلب منه الطلاق مع بلوغها سن التاسعة والعشرين.
كان إيفريت رجلا عملي التفكير. لذا أخذ على عاتقه مهمة حسم هذه المسألة. وهكذا اعترف المسئول عن توزيع المشروبات في الحفل الراقص أن مخزون الكئوس لديه قد يتسرب إليه أحيانا كأس أو اثنتان مصنوعتان من الزجاج الألماني. وقد اعترف أحد الندل بالحفل أنه كسر أكثر من كأس نبيذ في تلك الأمسية بعينها؛ وذلك بعدما تلقى وعدا بأن أحدا لن يطالبه بدفع ثمنها؛ وأضاف كذلك أنه من غير المستبعد أن يكون قد حاول إخفاء بقايا تلك الكئوس أسفل نخلة قريبة منه. من الواضح إذن أن المسألة برمتها كانت حلما. كان ذلك هو القرار الذي خلصت إليه المجموعة الشابة وقتها، وبناء عليه عقدت ثلاث زيجات في غضون تسعة أشهر.
بعد ذلك بنحو عشر سنوات حكى لي آرمتيدج القصة في تلك الأمسية في غرفة التدخين في النادي. كانت السيدة إيفريت قد تعافت لتوها من حمى روماتيزمية حادة، أصيبت بها في الربيع السابق في باريس. أما السيدة كاملفورد، التي لم ألتقها قبل زواجها، فقد بدت لي بالتأكيد واحدة من أجمل من رأيت في حياتي من النساء. وأرى أن السيدة آرمتيدج، التي كنت أعرفها قبل زواجها، قد أضحت تتمتع بجاذبية تفوق ما كان لديها في شبابها. لم أستطع أبدا أن أفهم ما الذي جذبها إلى آرمتيدج. بعد نحو عشر سنوات من تلك الأمسية في النادي، سطع نجم كاملفورد في عالم الشعر، لكن المسكين لم يعش طويلا ليتمتع بشهرته. أما ديك إيفريت فلا يزال أمامه ست سنوات أخرى من العمل كي يسدد ديونه، بيد أنه حسن السلوك، ويقال إن التماسا سوف يقدم للعفو عنه.
أعرف أنها قصة عجيبة من أولها إلى آخرها. وكما قلت في البداية، أنا نفسي لا أصدقها.
روح نيكولاس سنايدرز أو بخيل زاندام
في سالف الأيام، عاش في مدينة زاندام، التي تقع بالقرب من خليج زويدر زي، رجل شرير يدعى نيكولاس سنايدرز. كان رجلا بخيلا وقاسيا، وغليظ الطبع، ولم يهو في هذا العالم سوى شيء واحد؛ ألا وهو الذهب. وحتى الذهب لم يكن يحبه لذاته. بل أحب السلطة التي كان الذهب يمنحها له؛ سلطة ممارسة الظلم والقهر، سلطة التسبب في معاناة الخلق متى شاء. قال الناس إنه بلا روح، لكنهم أخطئوا في ذلك. فجميع الرجال يملكون روحا، أو بالأصح تمتلكهم أرواحهم؛ وروح نيكولاس سنايدرز كانت روحا شريرة. كان يعيش في طاحونة هوائية قديمة لا تزال قائمة على المرسى، حيث تخدمه فقط الفتاة كريستينا وتتولى جميع المهام المنزلية. كانت كريستينا فتاة يتيمة، مات والداها وهما مدينان. كان نيكولاس قد برأ ذمتهما، ولم يكلفه ذلك سوى بضع مئات من الفلورين، في مقابل أن تعمل كريستينا لديه دون أجر، وكان ذلك جميلا لم تنسه كريستينا أبدا. كانت كريستينا هي جل أهل بيته، ولم يكن يزوره أحد، طوعا، سوى الأرملة تولاست. كانت السيدة تولاست غنية، وكادت أن تضاهي نيكولاس في البخل. وذات مرة سألها بصوته الأجش: «لم لا نتزوج أنا وأنت؟» ثم أضاف: «إذا وحدنا قوانا فسوف نصير سادة زاندام كلها.» أجابته السيدة تولاست بضحكة مجلجلة، لكن نيكولاس لم يكن متعجلا أبدا.
وفي عصر أحد الأيام، كان نيكولاس سنايدرز جالسا وحده إلى مكتبه، في مركز الغرفة الكبرى الشبه الدائرية التي شغلت نصف الطابق الأرضي من الطاحونة الهوائية، والتي كانت بمنزلة مقر عمله، عندما سمع طرقات على الباب الخارجي.
صاح نيكولاس سنايدرز قائلا: «ادخل.» بيد أن نبرة صوته كانت ألطف كثيرا من نبرته المعتادة. إذ كان متيقنا بشدة من أن الطارق هو يان، يان فان دير فورت، البحار الشاب، الذي امتلك سفينة لتوه، والذي جاء طالبا يد كريستينا. وبينما جلس نيكولاس يترقب هذا اللقاء، كان يتلذذ بتخيل البهجة التي سيشعر بها عند تحطيم آمال يان، عند سماع توسلاته ثم هذيانه الغاضب، عند مشاهدة الشحوب وهو يغزو وجهه الوسيم تدريجيا بينما يوضح له نيكولاس، تفصيلا، عواقب تحدي إرادته؛ فأولا سوف يطرد أم يان العجوز من منزلها، وسيودع أباه العجوز في السجن لما عليه من ديون؛ وثانيا، سينزل انتقامه بيان نفسه دون ذرة ندم، فسيبتاع السفينة التي ينوي شراءها قبل أن يتم صفقته. كان اللقاء المرتقب مع يان تسلية تلائم روح نيكولاس الدنيئة. ومنذ أن عاد يان أمس، كان نيكولاس يتطلع إلى هذا اللقاء. لذا، تخللت البهجة صوته عندما صاح: «ادخل»؛ إذ كان متأكدا أن القادم هو يان.
لكن القادم لم يكن يان. كان شخصا لم يره نيكولاس سنايدرز قبلا. ولم يكن ليراه مجددا بعد هذه الزيارة الوحيدة. كان ضوء النهار آخذا في التلاشي، لكن نيكولاس سنايدرز لم يكن ليضيء الشموع قبل حلول الظلام التام، لذا لم يستطع قط وصف مظهر الغريب بأي وجه من الدقة. بدا له رجلا عجوزا، لكن جميع حركاته كانت توحي بالتيقظ والانتباه؛ أما عيناه، وهما الشيء الوحيد الذي رآه نيكولاس بقدر من الوضوح، فكانتا ثاقبتين ومتقدتين ببريق غريب .
سأله نيكولاس سنايدرز، دون أن يبذل جهدا لإخفاء إحباطه: «من أنت؟»
أجابه الغريب: «أنا بائع متجول.» كان صوته واضحا، لا يخلو من رخامة، ومن مسحة ضئيلة من الخبث.
رد نيكولاس سنايدرز بجفاء: «لا أريد شيئا.» ثم أضاف: «اخرج وأغلق الباب خلفك، وانتبه لعتبة الباب في طريقك.»
لكن الغريب لم يغادر، بل حمل كرسيا وجلس على مقربة من نيكولاس، متواريا في الظل، ثم نظر مباشرة إلى وجهه وضحك.
ثم قال: «أأنت متأكد من ذلك، يا نيكولاس سنايدرز؟ أأنت متأكد من أنك لا ترغب في شيء؟»
دمدم نيكولاس قائلا: «لا أرغب في شيء سوى أن أرى ظهرك وأنت تغادر.» انحنى الغريب إلى الأمام ولمس بيده الطويلة النحيلة ركبة نيكولاس سنايدرز مازحا. ثم سأله: «ألا ترغب في روح، يا نيكولاس سنايدرز؟»
وقبل أن يستعيد نيكولاس قدرته على الكلام، أردف البائع المتجول الغريب: «فكر في الأمر.» ثم تابع: «لقد تلذذت بمذاق القسوة والدناءة طوال أربعين عاما. ألم تسأم من ذاك المذاق يا نيكولاس سنايدرز؟ ألا تحبذ تغييرا؟ فكر في الأمر يا نيكولاس سنايدرز؛ فكر في متعة أن يحبك الناس، في أن تسمعهم يثنون عليك بدلا من أن يلعنوك! ألن يكون ذلك أمرا مسليا، يا نيكولاس سنايدرز، على سبيل التغيير ليس إلا؟ وإذا لم يعجبك الوضع، فبإمكانك العودة عن قرارك والرجوع إلى طبيعتك مجددا.»
لم يستطع نيكولاس سنايدرز، بينما كان يستعيد ما حدث لاحقا، أن يدرك أبدا لم ظل جالسا في مكانه، يستمع في صبر لحديث هذا الغريب؛ إذ بدا له الأمر، وقت حدوثه، مجرد دعابة صادرة من عابر سبيل أحمق. لكن شيئا ما في ذلك الغريب كان قد أثر في نفسه.
تابع البائع الغريب الأطوار: «معي الوسيلة التي ستمكنك من ذلك؛ أما فيما يخص المقابل ...» قام الغريب بحركة تشير إلى أن هذه التفاصيل المملة لا تهمه. ثم أضاف: «إن مشاهدة نتيجة التجربة هي المقابل الذي أريده. اعتبرني فيلسوفا. فلدي اهتمام بتلك المسائل. انظر.» ثم انحنى وأخرج من حقيبته الموضوعة بين ساقيه قنينة فضية متقنة الصنع ووضعها على الطاولة.
وواصل حديثه شارحا: «إن طعم المادة التي بها ليس كريها.» ثم أضاف: «إنه مر بعض الشيء، لكن لا تحتس كوبا كاملا منها، بل ملء كأس نبيذ فحسب، مثلما تحتسي نبيذ توكاي العتيق، وينبغي أن يركز ذهن الطرفين الشاربين على فكرة واحدة: «فلتحل روحي فيه، ولتحل روحه في!» إنها عملية بسيطة حقا، والسر يكمن في هذه المادة.» ثم ربت على القنينة الغريبة كما لو كانت كلبا صغيرا. «ستقول: «ومن ذا الذي سيبادل روحه بروح نيكولاس سنايدرز؟»» هكذا أضاف الغريب الذي بدا أنه جاء وهو جاهز بإجابات على جميع الأسئلة. ثم استطرد قائلا: «يا صديقي أنت رجل ثري، فلا داعي لأن تخشى شيئا. فالروح هي الأقل قيمة بين جميع ما يملكه الرجال. اختر الروح التي ترغب بها واعقد الصفقة بشروطك. سأدع ذلك الأمر لك لكني سأخبرك بنصيحة واحدة فقط: ستجد الشباب أكثر ترحيبا بعقد تلك الصفقة من العجائز؛ الشباب الذين يعدهم العالم بكل شيء شرط أن يدفعوا مقابله ذهبا. اختر روحا شابة ونضرة ورقيقة وجميلة يا نيكولاس سنايدرز، واخترها سريعا. فقد بدأ الشيب يغزو شعرك يا صديقي. فلتسرع كي تتذوق لذة العيش قبل أن يدركك الفناء.»
ضحك البائع الغريب وبينما كان ينهض أغلق حقيبته. وظل نيكولاس سنايدرز جالسا دون أن يتحرك أو ينطق، حتى انتبه مع صليل الباب الضخم إذ ينغلق. فانتزع القنينة التي تركها الغريب، وانتفض واقفا، عازما على إلقائها خلفه في الشارع. لكن انعكاس ضوء النيران على سطح القنينة المصقول أوقف يده.
ثم ضحك ضحكة خافتة أتبعها بقوله: «على أي حال، تبدو قنينة قيمة»، ووضعها جانبا، وأضاء الشمعتين الطويلتين، وجلس دافنا وجهه مجددا في سجل الحسابات ذي الغلاف الأخضر. ورغم ذلك كانت عيناه تشردان، بين الحين والآخر، ناحية القنينة الفضية التي ظلت في مكانها تكاد الأوراق المتربة تخفيها. ولاحقا سمع ثانية طرقا على الباب، وهذه المرة دخل يان الشاب.
مد يان يده الفتية عبر المكتب الذي تعمه الفوضى.
وقال: «لقد افترقنا غاضبين في لقائنا السابق يا نيكولاس سنايدرز. وقد كان الخطأ خطئي. أرجو أن تسامحني. كنت فقيرا وقتها. وكان فعلا أنانيا مني أن أطلب يد الفتاة الصغيرة كي تشاركني الفقر. لكني لم أعد فقيرا الآن.»
رد نيكولاس سنايدرز بنبرة لطيفة قائلا: «اجلس.» ثم أضاف: «لقد سمعت بما آل إليه أمرك. لقد أصبحت الآن قائد سفينة ومالكها، سفينتك الخاصة.»
ضحك يان معلقا: «ستصبح سفينتي الخاصة بعد رحلة واحدة أخرى.» ثم أضاف: «لقد وعدني ألارت، عمدة المدينة، بذلك.»
قال نيكولاس: «الوعد شيء، والوفاء به شيء آخر.» ثم أردف: «العمدة ألارت ليس رجلا ثريا، وقد يغريه عرض آخر أعلى سعرا. وقد يسبقك أحدهم ويستحوذ على ملكية السفينة.»
ضحك يان. ثم قال: «لن يقدم على ذلك سوى عدو لي، لكني، والحمد لله، ليس لي أعداء.»
علق نيكولاس: «يا لحسن حظك؛ قليل منا من ليس لهم أعداء. ماذا عن والديك، يا يان؛ هل سيعيشان معكما؟»
أجابه يان: «كنا نتمنى ذلك، أنا وكريستينا. لكن أمي أضحت ضعيفة. وقد اعتادت على الحياة في الطاحونة القديمة.»
وافقه نيكولاس قائلا: «يمكنني تفهم ذلك. إذا اقتلعت نباتا معترشا قديما بعيدا عن الحائط الذي ينمو عليه، فسوف يذبل ويموت. وماذا عن أبيك يا يان؛ إذ سوف يثرثر الناس بشأنه؟ هل الطاحونة تدر دخلا؟»
هز يان رأسه نافيا. ورد بقوله: «لن تدر دخلا مجددا أبدا، والديون تحاصره. لكني أخبرته أن تلك أمور مضت وانتهت. فقد وافق الدائنون على التوجه إلي بمطالبهم والانتظار حتى أسددها.»
تساءل نيكولاس: «جميع الدائنين؟»
ضحك يان معلقا: «كل من عرفت بوجودهم.»
دفع نيكولاس سنايدرز كرسيه إلى الوراء، ونظر إلى يان بينما ترتسم ابتسامة على وجهه المجعد. ثم أردف: «إذن، رتبت أنت وكريستينا كل شيء؟»
رد يان: «شريطة أن نحوز موافقتك يا سيدي.»
سأله نيكولاس: «هل ستنتظران حتى تحصلا على موافقتي؟» «نود أن نحصل عليها يا سيدي.» هكذا قال يان مبتسما، بيد أن نبرة صوته كان لها وقع حسن في أذن نيكولاس سنايدرز. فلطالما فضل ضرب الكلاب التي تزمجر وتكشف عن أنيابها.
قال نيكولاس سنايدرز : «حري بكما ألا تنتظراها.» ثم أضاف: «فقد يطول انتظاركما.»
نهض يان وقد احمر وجهه غضبا. ورد قائلا: «إذن لن يغير شيء من رأيك يا نيكولاس سنايدرز. حسنا افعل ما في وسعك.»
رد نيكولاس: «هل ستتزوجها رغما عن إرادتي؟»
صاح يان ثائرا: «رغما عنك، وعن أصدقائك الشياطين، وعن سيدك إبليس نفسه!» فقد كانت روح يان روحا كريمة وشجاعة وحساسة، لكنها سريعة الغضب إلى حد بعيد. فحتى أفضل الأرواح لها عيوبها.
قال نيكولاس العجوز: «أنا آسف.»
رد يان: «يسرني سماع ذلك.»
لكن نيكولاس استطرد قائلا: «أنا آسف على أمك.» ثم تابع حديثه: «أخشى أن السيدة المسكينة ستصبح مشردة في شيخوختها. فسوف تباع الطاحونة القديمة المرهونة في يوم عرسك يا يان. وأنا آسف على والدك يا يان. فقد أغفلت واحدا من دائنيه يا يان. يؤسفني ما سيلقاه من مصير يا يان. فلطالما خشي السجن. وآسف حتى عليك أنت أيضا، يا صديقي الشاب. سوف تضطر إلى بدء حياتك من الصفر مجددا. فالعمدة ألارت رهن إشارتي. وكل ما علي فعله هو التصريح برغبتي في شراء السفينة وسوف تصبح لي. أتمنى لك السعادة مع عروسك، يا صديقي الشاب. لا بد أنك تحبها حبا جما؛ فسوف تدفع ثمنا غاليا مقابل الزواج منها.»
كانت الابتسامة العريضة التي علت وجه نيكولاس سنايدرز هي ما أثارت جنون يان. فأخذ يبحث عن شيء يلقيه مباشرة تجاه ذلك الفم الكريه ليخرسه، وبالصدفة وقعت يده على قنينة البائع الفضية. في اللحظة نفسها كانت يد نيكولاس سنايدرز تقبض عليها أيضا. وتبددت البسمة العريضة من فوق وجهه.
صاح نيكولاس سنايدرز آمرا: «اجلس.» ثم تابع قائلا: «دعنا نواصل حديثنا.» وكان ثمة شيء في نبرة صوته حملت يان الشاب على إطاعته. «ربما تتساءل، يا يان، لم أنشد الغضب والكراهية دوما. أحيانا ما أسأل نفسي السؤال نفسه. لم لا ترد بذهني أفكار حسنة أبدا، مثلما ترد إلى غيري من الرجال؟! اسمع، يا يان، أشعر أنني في مزاج طائش. ما سأقوله مستحيل الحدوث، وإذا ظننته ممكنا فذلك مجرد نزوة من نزواتي. بع لي روحك يا يان، بع لي روحك، كي أتمكن بدوري من تذوق الحب والسعادة اللذين أسمع عنهما. بعها لي لبعض الوقت يا يان، لبعض الوقت ليس إلا، وسوف أمنحك كل ما تشتهيه في المقابل.»
وعلى الفور أمسك الرجل العجوز بقلمه وشرع يكتب. «انظر يا يان، ها هي السفينة قد صارت ملكك، بدون مشاكل؛ والطاحونة صارت خالصة من الديون، ويستطيع أبوك أن يرفع رأسه عاليا من جديد. كل ما أطلبه، يا يان، هو أن تحتسي كأسا معي راغبا في أن تنتقل روحك من جسدك كي تصبح روح نيكولاس سنايدرز العجوز؛ لبعض الوقت، يا يان، لبعض الوقت ليس إلا.»
وبيدين محمومتين نزع الرجل سدادة القنينة التي أعطاها له البائع المتجول، وصب القليل من محتواها في كأسين متماثلتين. رغب يان في الضحك، لكن تلهف الرجل كاد يبلغ حالة من الهياج. لا شك أنه كان مجنونا، لكن ذلك لا يجعل الورقة التي وقعها غير ملزمة. الرجل الحق لا يمزح عندما يتعلق الأمر بروحه، لكن وجه كريستينا كان يتراءى ليان مضيئا وسط العتمة.
همس نيكولاس سنايدرز: «ستعني ما ستقول، أليس كذلك؟»
أجاب يان، بينما يعيد كأسه فارغة إلى الطاولة: «فلتنتقل روحي من جسدي ولتحل بجسد نيكولاس سنايدرز!» وللحظة من الزمن وقف الرجلان ينظر كل منهما في عيني الآخر.
عندئذ ارتجف ضوء الشمعتين الطويلتين على المكتب المكتظ، ثم انطفأتا، وكأن أحدا قد أطفأهما، الواحدة تلو الأخرى، بنفحة هواء من فمه.
تردد صوت يان في الظلام قائلا: «علي أن أعود إلى منزلي.» ثم استطرد قائلا: «لم أطفأت الشمعتين؟»
أجابه نيكولاس: «يمكننا إشعالهما مجددا من نيران المدفأة.» ولم يضف أنه كان ينوي طرح السؤال نفسه على يان. دفع نيكولاس الشمعتين، الواحدة تلو الأخرى، نحو الحطب المستعر في المدفأة، وسرعان ما زحفت الظلال عائدة إلى أركان الغرفة.
سأل نيكولاس: «ألن تمر على كريستينا قبل ذهابك؟»
أجابه يان: «لا، ليس هذه الليلة.»
قال نيكولاس مذكرا إياه: «الورقة التي وقعتها، هل أخذتها؟»
رد يان: «لقد نسيتها.»
تناول الرجل العجوز الورقة من فوق المكتب وناولها له. فدفعها يان في جيبه ومضى خارجا. أوصد نيكولاس الباب خلفه وعاد إلى مكتبه؛ وجلس طويلا إليه ساندا مرفقيه على سجل الحسابات المفتوح.
ثم دفع السجل بعيدا وضحك. وحدث نفسه قائلا: «يا لها من حماقة! تلك أمور مستحيلة! لا بد أن ذلك الرجل الغريب قد سحرني.»
عبر نيكولاس الغرفة متجها نحو المدفأة، وشرع في تدفئة يديه أمام النيران المتوهجة. وقال في نفسه: «رغم كل شيء، يسعدني أنه سيتزوج الفتاة الشابة. إنه فتى صالح، فتى صالح.»
لا بد أن النعاس قد غلب نيكولاس أمام المدفأة. فعندما فتح عينيه، استقبلهما ضوء الفجر الرمادي. كان جسده متيبسا وكان يشعر بالبرد والجوع، وبغضب أكيد. لم لم توقظه كريستينا وتجلب له عشاءه؟ أظنت أنه ينوي قضاء ليلته جالسا على الكرسي الخشبي؟ إنها فتاة حمقاء. كان سيصعد السلالم ويخبرها عبر الباب برأيه فيها.
كان الطريق إلى الدور العلوي يمر بالمطبخ. وهناك اندهش لمرأى كريستينا جالسة على مقعد، غافية أمام الموقد المنطفئ.
تمتم نيكولاس محدثا نفسه: «عجبا، يبدو أن أهل هذا البيت لا يعرفون فائدة الأسرة!»
لكن تلك الفتاة النائمة لم تكن كريستينا، هكذا حدث نيكولاس نفسه. إذ إن وجه كريستينا كان يكسوه تعبير يذكر المرء بأرنب مذعور؛ لطالما أثار ذاك التعبير ضيقه. بيد أن تلك الفتاة، حتى في نومها، كان يعلو وجهها تعبير وقح؛ تعبير وقح بيد أنه محبب إلى النفس. وعلاوة على ذلك، تلك الفتاة كانت جميلة؛ رائعة الجمال. وقطعا لم ير نيكولاس فتاة جميلة هكذا طيلة حياته. عجبا، كانت الفتيات مختلفات تماما عندما كان نيكولاس شابا! وفجأة استحوذ على نيكولاس شعور شديد بالمرارة؛ كأنما أدرك لتوه أنه سلب شيئا منذ زمن بعيد دون أن يعي ذلك حينها.
تلك الطفلة لا بد أنها كانت تشعر بالبرد. جلب نيكولاس عباءته المبطنة بالفراء ولفها حولها.
ثمة شيء آخر كان عليه فعله. خطرت له تلك الفكرة بينما يبسط عباءته حول كتفيها، برفق شديد كي لا يقلق منامها؛ ثمة شيء رغب في فعله ، ليته يتذكر ما هو. كانت شفتا الفتاة منفرجتين. وبدت كأنما تحدثه، تطلب منه فعل ذاك الشيء؛ أو تخبره بألا يفعله. لم يكن نيكولاس متأكدا أي الأمرين صحيح. مرة تلو الأخرى، كان يغادر المطبخ، ثم يتسلل عائدا إلى حيثما جلست غافية بينما يعلو وجهها ذاك التعبير الوقح المحبب إلى النفس، وشفتاها منفرجتان. لكن نيكولاس ظل لا يعرف ماذا تريد، أو ماذا يريد هو.
ربما كانت كريستينا تعلم. ربما كانت كريستينا تعلم من هذه الفتاة وكيف جاءت إلى هناك. صعد نيكولاس السلالم، لاعنا إياها لما تصدره من صرير.
كان باب غرفة كريستينا مفتوحا. لكن الغرفة كانت خالية، وكان السرير مرتبا لأن أحدا لم ينم عليه. هبط نيكولاس السلالم التي تحدث صريرا.
كانت الفتاة لا تزال نائمة. أتكون هي كريستينا؟ تفحص نيكولاس ملامحها الفاتنة، ملمحا تلو الآخر. لم يسبق له قط، قدر ما تسعفه ذاكرته، أن رأى تلك الفتاة؛ رغم ذلك كانت قلادة كريستينا، التي لم يلحظها نيكولاس قبلا، تطوق عنقها، وتعلو وتهبط مع حركة أنفاسها. كان نيكولاس يعرفها جيدا؛ فقد كانت هي الشيء الوحيد الذي أصرت كريستينا على الاحتفاظ به من مقتنيات أمها. لقد كانت الشيء الوحيد الذي تحدت إرادته كي تحتفظ به. إن كريستينا لم تكن لتدع تلك القلادة تفارقها قط. لا بد أن هذه الفتاة هي كريستينا نفسها. لكن ماذا حدث لها؟ أو ماذا حدث له؟ فجأة تداعت عليه الذكريات. البائع الغريب! ولقاؤه مع يان! لكن كل ذلك كان حلما قطعا، أليس كذلك؟ بيد أن القنينة الفضية الخاصة بالبائع كانت لا تزال هناك على سطح المكتب الفوضوي، وبجانبها كأسا النبيذ المتماثلتان المتسختان.
حاول نيكولاس أن يفكر، لكن عقله كان يلف ويدور. مر شعاع من ضوء الشمس عبر النافذة وسقط على أرضية الغرفة المتربة. لم يكن قد رأى نيكولاس الشمس قط قبلا؛ تلك حقيقة كان بإمكانه أن يتذكرها جيدا. مد يديه لا إراديا ناحية الضوء، وشعر بحزن مفاجئ عندما تلاشى، مخلفا وراءه الضوء الرمادي فحسب. حل نيكولاس مزاليج الباب الكبير الصدئة ثم فتحه على مصراعيه. أمام ناظريه تبدى عالم غريب، عالم جديد مليء بأضواء وظلال، تغازله بجمالها؛ عالم مليء بأصوات خفيضة ناعمة تناديه. ومجددا راوده ذاك الإحساس المرير بأن شيئا قد سلب منه.
غمغم نيكولاس العجوز إلى نفسه: «كانت السعادة في متناول يدي طوال تلك السنوات.» ثم أضاف: «هذه المدينة الصغيرة كان بوسعي أن أحبها، تلك المدينة القديمة الهادئة، ذات الطابع المحبب إلى النفس، طابع الوطن. كان من الممكن أن أحظى بأصدقاء، برفاق حميمين قدامى، بل أن أنجب أبناء من صلبي ...»
ثم تراءت لعينيه صورة كريستينا الغافية. كانت قد قدمت إلى بيته وهي لا تزال طفلة، لا تحمل له سوى مشاعر الشكر والعرفان. لو كانت لديه عينان تستطيعان رؤيتها، لربما تغير كل شيء.
هل فات الأوان؟ إنه ليس عجوزا جدا؛ لا يعتبر رجلا هرما بأي حال. بل إن دماء جديدة تسري في شرايينه. هي لا تزال تحب يان، لكنها تحب يان الذي كان بالأمس. في المستقبل، ستتحكم الروح الشريرة، التي كانت يوما ما روح نيكولاس سنايدرز، في كل كلمة سينطقها يان، وكل فعل ستقترفه يداه؛ يتذكر نيكولاس هذا جيدا. أيمكن أن تحب امرأة روحا كتلك، حتى وإن كانت تسكن جسدا ذا وسامة لا تضاهى؟
أيجب عليه، بوصفه رجلا أمينا، الاحتفاظ بالروح التي كان قد حازها من يان بوسيلة قد يشوبها بعض الخداع؟ أجل، يستطيع الاحتفاظ بها؛ إذ كانت الصفقة عادلة، وقد تلقى يان الثمن. علاوة على ذلك، يان لم يشكل روحه بنفسه؛ بل تشكيل الأرواح يحكمه قانون الصدفة. لم ينبغي أن يمنح رجل ما ذهبا ويمنح آخر حصى؟ إن حقه في روح يان لا يقل عن حق الأخير فيها. إنه أكثر حكمة منه، وفي وسعه فعل خير أكبر بتلك الروح. إن روح يان هي التي أحبت كريستينا؛ فلندع روح يان تفز بها إن استطاعت. استمعت روح يان إلى تلك الحجج، ولم تستطع إيجاد ما تعترض به عليها.
كانت كريستينا لا تزال غافية عندما دخل نيكولاس المطبخ مجددا. أشعل النار، وأعد طعام الإفطار، ثم أيقظها برفق. وحينئذ لم يعد يساوره شك في أنها كريستينا. ففي اللحظة التي وقعت عيناها على وجهه العجوز، عادت إليها نظرة الأرنب المذعور التي لطالما ضايقته في الماضي. وقد ضايقته الآن، لكن الضيق كان موجها نحو نفسه.
استهلت كريستينا الحديث قائلة: «كنت مستغرقا في نوم عميق عندما دلفت إلى الغرفة ليلة أمس ...»
قاطعها نيكولاس قائلا: «وخفت أن توقظيني.» ثم أضاف: «ظننت أن العجوز الفظ سوف يغضب. اسمعي يا كريستينا. لقد دفعت أمس آخر دين من ديون أبيك. كان يدين به لبحار عجوز؛ لم أستطع العثور عليه قبلا. لقد قضيت دينك لي، بل يتبقى لك قدر من المال، جزء من أجرك مقابل العمل لدي، مقداره مائة فلورين. ذلك مالك الخاص يمكنك أن تطلبيه مني وقتما تشائين.»
لم تستطع كريستينا فهم ما جرى، لا وقتها ولا في الأيام التالية؛ ولم يعطها نيكولاس تفسيرا. إذ إن روح يان كانت قد انتقلت إلى رجل عجوز بالغ الحكمة، أدرك أن الطريقة المثلى لتناسي الماضي هو عيش الحاضر بجرأة وشجاعة. كانت متأكدة وحسب من أن نيكولاس سنايدرز القديم قد اختفى في ظروف غامضة، وحل محله نيكولاس جديد، كان يتطلع إليها بعينين حانيتين؛ عينين صريحتين وصادقتين، تجبران المرء على الوثوق بهما. وعلى الرغم من أن نيكولاس لم يقل ذلك قط، خطر لكريستينا أنها هي نفسها من أحدثت ذلك التغيير العجيب، عبر أثرها الطيب وطبعها الدمث. ولم يبد هذا التفسير مستحيلا لكريستينا؛ بل بدا مرضيا.
أضحى منظر المكتب المكدس بالأوراق كريها في عين نيكولاس. لذا كان يخرج في الصباح الباكر، ويقضي اليوم كله بالخارج، ثم يعود في المساء متعبا لكن مبتهجا، جالبا معه زهورا، كانت كريستينا تخبره، وهي تضحك، أنها مجرد حشائش. لكن ماذا تهم المسميات؟ كان نيكولاس يراها زهورا جميلة. في مدينة زاندام، كان الأطفال يهربون منه، والكلاب تنبح خلفه. لذا كان يفر عبر الطرق الجانبية، متوغلا في الريف المحيط بالمدينة. وهناك في القرى المتناثرة، اعتاد الأطفال على رؤية ذلك الرجل العجوز طيب القلب ، الذي يسير متمهلا متكئا على عصاه، ويشاهدهم بينما يلعبون مستمعا إلى ضحكاتهم؛ ذاك الرجل الذي كانت جيوبه الرحبة تذخر بالحلوى اللذيذة. وكان أهل القرى المارون به يتهامسون فيما بينهم ملاحظين التشابه بين ملامحه وملامح نيك العجوز اللئيم، بخيل زاندام، ويتساءلون ترى من أين أتى؟ ولم تكن وجوه الأطفال وحدها هي ما علمت شفتي نيكولاس الابتسام. في بداية تحوله، كان منزعجا من حقيقة أن العالم يعج بفتيات ذوات جمال فتان، بل بنساء جميلات كذلك، جميعهن جديرات بالإعجاب. أربكه ذلك. لكنه وجد أن كريستينا ظلت دوما في خاطره الأجمل بين جميع من رأى من نساء، وأكثرهن إثارة للإعجاب. ومنذ ذاك الحين صار كل وجه جميل يبهجه؛ إذ كان يذكره بوجه كريستينا.
عند عودته من تجواله في اليوم الثاني، قابلته كريستينا والحزن في عينيها. كان قد جاء المزارع بيرستراتر، وهو صديق قديم لوالدها، لزيارة نيكولاس؛ وعندما لم يجده، تحدث قليلا مع كريستينا. حكى لها أن دائنا قاسي القلب كان يسعى لطرده من مزرعته. تظاهرت كريستينا أنها لا تعلم أن ذلك الدائن كان نيكولاس نفسه، وأبدت تعجبها من تصرفات أولئك الرجال ذوي الطابع اللئيم. لم يرد نيكولاس بشيء، لكن في اليوم التالي قدم المزارع بيرستراتر مجددا بوجه فرح مستبشر، وشرع يردد عبارات الشكر ويعبر عن عظيم دهشته.
أخذ يتساءل المزارع بيرستراتر مرة تلو الأخرى: «لكن ما الذي يمكن أن يكون قد حل به يا ترى؟»
ابتسمت كريستينا مجيبة أن الرب الرحيم قد زرع في قلبه الرحمة على الأرجح؛ لكنها فكرت في نفسها أنه ربما كان تحوله بفعل تأثير طيب من مصدر آخر. ذاعت القصة في المدينة. وأحاط الناس بكريستينا من كل صوب، طالبين شفاعتها لدى نيكولاس، ولما كان لتدخلاتها من أثر ناجع، زاد رضا الفتاة عن نفسها يوما بعد يوم، وزاد رضاها عن نيكولاس بالتبعية. إذ كان نيكولاس عجوزا ماكرا. وقد استمتعت روح يان التي بداخله بمحو ما ارتكبته روح نيكولاس من شرور. لكن عقل نيكولاس سنايدرز الذي لم يغادره قط كان يهمس له : «فلتدع الصبية الشابة تظن أنها هي من تسببت في ذلك كله.»
بلغت الأخبار مسامع السيدة تولاست. وفي الليلة نفسها كانت جالسة على المقعد المجاور للمدفأة في مقابل نيكولاس سنايدرز، الذي كان يدخن وبدا عليه الملل.
خاطبته السيدة تولاست قائلة: «إن أفعالك تجعلك تبدو كالأحمق يا نيكولاس سنايدرز.» ثم أضافت: «الجميع يسخرون منك.»
رد نيكولاس ممتعضا: «أفضل أن يسخروا مني على أن يلعنوني.»
سألته السيدة تولاست: «هل نسيت كل ما دار بيننا؟»
تنهد نيكولاس ثم أردف: «ليتني أستطيع ذلك.»
تابعت السيدة تولاست حديثها قائلة: «في سنك هذا ...»
قاطعها نيكولاس: «أشعر أنني أكثر شبابا مما شعرت طيلة حياتي.»
علقت السيدة تولاست قائلة: «لا يبدو عليك ذلك الشباب.»
رد نيكولاس بحدة: «ماذا تهم المظاهر؟» ثم أردف قائلا: «إن روح الإنسان هي الأهم.»
ردت السيدة تولاست موضحة: «بل لها أهمية، على أرض الواقع.» ثم استطردت قائلة: «عجبا، إن وددت السير على خطاك وجعل نفسي أضحوكة، فسأجد الكثير من الرجال الأكثر شبابا وفتوة ووسامة ...»
قاطعها نيكولاس بسرعة قائلا: «لا تدعيني أقف في طريقك إذن.» ثم استطرد قائلا: «أنا عجوز سيئ الطباع مثلما تقولين. لا بد أن هناك رجالا كثرا أفضل مني، رجالا أجدر بك مني.»
ردت السيدة تولاست: «أعرف ذلك، لكن لا أحد يناسبني أكثر منك. الفتيات يناسبهن الصبيان، أما النساء الكبريات سنا فيناسبهن رجال من سنهن. لو كنت قد فقدت عقلك، يا نيكولاس سنايدرز، فأنا لم أجن بعد. عندما ترجع إلى طبيعتك مرة أخرى ...»
انتفض نيكولاس وافقا. وصاح مقاطعا: «أنا على طبيعتي، وأنوي أن أظل على طبيعتي! من يجرؤ على زعم أني لست على طبيعتي؟»
ردت السيدة تولاست ببرود يثير الغيظ: «أنا أزعم ذلك.» وتابعت قائلة: «نيكولاس سنايدرز لا يكون على طبيعته عندما يلقي بأمواله من النافذة بكلتا يديه بأمر من دمية حسنة الوجه. بل هو رجل مسحور، وأنا أرثي لحاله. سوف تخدعك لمصلحة أصدقائها حتى تبدد آخر سنت لديك، وعندئذ سوف تسخر منك. عندما تعود لطبيعتك يا نيكولاس سنايدرز، سوف تشعر بغضب عارم من نفسك؛ تذكر كلماتي.» ثم غادرت السيدة تولاست وصفقت الباب خلفها. «الفتيات يناسبهن الصبيان، أما النساء الكبريات سنا فيناسبهن رجال من سنهن.» ظلت تلك العبارة تتردد في أذني نيكولاس. قبل الآن كانت السعادة التي وجدها مؤخرا تملأ عليه حياته، دون أن تترك مجالا للفكر. لكن كلمات السيدة تولاست العجوز زرعت في نفسه بذور التأمل.
هل كريستينا كانت تخدعه؟ الفكرة نفسها مستحيلة. فهي لم تطلب لنفسها شيئا قط، ولم تشفع ليان مطلقا. تلك الفكرة الشريرة وليدة عقل السيدة تولاست الخبيث. إن كريستينا كانت تحبه. فوجهها يضيء عندما تراه. وقد تبدد خوفها منه؛ وحل محله نوع لطيف من التحكم. لكن هل كان الحب مبتغاه؟ إن روح يان التي حلت بجسد نيك العجوز روح شابة متقدة العاطفة. تلك الروح لم تنظر إلى كريستينا بوصفها ابنة، بل رغبت فيها كزوجة. أمن الممكن أن تفوز تلك الروح بحبها رغما عن جسد نيك العجوز؟ لم يكن الصبر من خصال روح يان. فمن الأفضل للمرء أن يعرف يقينا بدلا من أن يترك لشكوكه.
قال نيكولاس لكريستينا: «لا تضيئي الشموع، دعينا نتحدث قليلا على ضوء المدفأة فقط.» سحبت كريستينا مبتسمة كرسيها مقتربة من اللهب المتوهج. لكن نيكولاس ظل جالسا في الظل.
قال نيكولاس: «أنت تزدادين جمالا يوما بعد يوم يا كريستينا، وتزدادين عذوبة وأنوثة كذلك. يا لسعد من سيحظى بك زوجة له.»
تبددت الابتسامة من وجه كريستينا. وردت قائلة: «لن أتزوج أبدا.» علق نيكولاس: «أبدا كلمة كبيرة يا صغيرتي.»
ردت كريستينا: «المرأة الشريفة لا تتزوج رجلا لا تحبه.»
ابتسم نيكولاس قائلا: «لكن ألا تستطيع الزواج من الرجل الذي تحبه؟»
أجابته كريستينا: «في بعض الأحيان لا تستطيع.» «ومتى يحدث ذلك؟»
أشاحت كريستينا بوجهها. وأجابت: «عندما يتوقف عن حبها.»
غمرت البهجة الروح في جسد نيك العجوز. فقال: «إنه لا يستحقك يا كريستينا. لقد غيرته الثروة الجديدة التي جمعها. أليس هذا ما حدث؟ إنه لا يفكر إلا في المال. يبدو وكأن روح رجل بخيل قد حلت بجسده. لن يتورع عن الزواج حتى من السيدة تولاست نفسها، لما تملك من طواحين، وزكائب مليئة بالذهب، وأراض شاسعة، فقط إذا قبلت به. ألا تستطيعين نسيانه؟»
ردت كريستينا: «لن أنساه أبدا. ولن أحب رجلا آخر أبدا. أحاول إخفاء مشاعري؛ وفي أغلب الأحيان أشعر بالرضا لأن بوسعي تقديم الكثير إلى هذا العالم. لكن قلبي ينفطر.» ثم نهضت وركعت بجواره، وأحاطته بذراعيها. وقالت: «أنا ممتنة لأنك تركتني أحكي لك.» ثم أضافت: «لولا وجودك لم أكن لأتحمل تلك المحنة. أنت تعاملني برفق وطيبة لا تضاهى.»
رد نيكولاس بمداعبة شعرها الذهبي الذي تبعثر فوق ركبتيه الضعيفتين بيده العجوز. فتطلعت إليه بعينين ملؤهما الدمع، لكنهما كانتا تبتسمان.
أردفت كريستينا: «لا أستطيع فهم ماذا حدث.» وأضافت: «أشك أحيانا في أنكما قد تبادلتما روحيكما. فهو أصبح قاسيا وبخيلا وغليظ القلب، مثلما كنت أنت سابقا.» ثم ضحكت وشعر نيكولاس بذراعيها تتمسكان به أكثر للحظة. واستطردت: «والآن أصبحت أنت طيب القلب وحنونا ورائعا، مثلما كان هو قبلا. يبدو الأمر كما لو أن الرب الرحيم قد حرمني من حبيبي كي يمنحني أبا.»
قال نيكولاس: «اسمعي يا كريستينا.» ثم أضاف: «إن روح الرجل هي التي تهم، لا جسده. ألا يمكنك أن تحبيني لأجل روحي الجديدة؟»
أجابته كريستينا، مبتسمة من بين دموعها: «لكني أحبك بالفعل.»
فسألها: «ألا يمكنك أن تحبيني بصفتي زوجا؟» عندئذ سقط ضوء المدفأة على وجه كريستينا. وكانت يدا نيكولاس العجوزتان تحيطان بوجهها، فتطلعت عيناه إليه طويلا وبتمعن؛ ولما قرأ ما على صفحته، ضمه إليه وشرع يربت على شعر كريستينا مهدئا بيده العجوز.
قال نيكولاس: «لقد كنت أداعبك ليس إلا يا صغيرتي.» ثم أضاف: «الفتيات يناسبهن الصبيان، أما النساء الكبريات سنا فيناسبهن رجال من سنهن. حسنا، ألا زلت تحبين يان، رغم كل شيء؟»
أجابته كريستينا: «أحبه. ولا أستطيع التوقف عن حبه.»
قال نيكولاس: «وإذا رغب في الزواج منك، فهل ستتزوجينه، أيا كانت الروح القابعة داخل جسده؟»
كررت كريستينا مجيبة: «أحبه. لا أستطيع التوقف عن حبه.»
جلس نيكولاس العجوز وحده بجوار النيران التي أوشكت أن تخمد . وتساءل في نفسه: أيهما يمثل جوهر الرجل، روحه أم جسده؟ ولم تكن الإجابة بالبساطة التي اعتقدها.
تمتم نيكولاس محدثا النيران المحتضرة: «كريستينا أحبت يان، عندما كانت روحه في جسده. وهي لا تزال تحبه على الرغم من أن روح نيكولاس سنايدرز قد انتقلت إليه. عندما سألتها هل بوسعها أن تحبني، قرأت الذعر في عينيها، على الرغم من أن روح يان تسكن الآن بداخلي؛ وقد استشعرت كريستينا وجودها. لا بد إذن أن جسد يان هو جوهر يان الحقيقي، وجسد نيكولاس هو جوهر نيكولاس الحقيقي. إذا انتقلت روح كريستينا إلى جسد السيدة تولاست، فهل ينبغي علي حينئذ الابتعاد عن كريستينا، عن شعرها الذهبي، وعينيها العميقتين، وشفتيها الجذابتين، كي أشتهي جسد السيدة تولاست الضامر المتغضن؟ لا، سيظل النفور ينتابني عند التفكير بها. رغم أنني لم أكن أمقتها عندما كانت روح نيكولاس سنايدرز بداخلي، وطوال ذلك الوقت لم تهمني كريستينا البتة. لا بد أننا نحب بأرواحنا إذن، لولا ذلك لظل يان يحب كريستينا ولظللت أنا نيك البخيل. لكن ها أنا ذا أحب كريستينا وأستغل عقل نيكولاس سنايدرز وذهبه لإحباط جميع مخططاته، وأمارس جميع الأفعال التي أعرف أنها ستثير غضبه عندما يعود إلى جسده؛ وعلى النقيض من ذلك، لم يعد يان يعبأ بكريستينا، وسوف يتزوج السيدة تولاست لما تملك من أراض شاسعة وطواحين عديدة. لا شك أن الروح هي الجوهر الحقيقي للإنسان. إذن، أمن المفترض أن تسعدني فكرة الرجوع إلى جسدي، عالما أنني سأستطيع حينها الزواج من كريستينا؟ لكني لست سعيدا؛ بل أشعر بتعاسة لا حد لها. فأنا، نيكولاس، لن أنتقل مع روح يان، أشعر بذلك؛ بل إن روحي، روح نيكولاس، سوف تعود إلي. وسأصبح مجددا ذلك العجوز البخيل القاسي الغليظ القلب الذي كنته قبلا، باستثناء أني سأكون فقيرا ولا حول لي ولا قوة. سوف يسخر الناس مني، وسوف ألعنهم، لكني سأعجز عن إيذائهم. وحتى السيدة تولاست لن ترغب في عندما تعرف كل شيء. ومع ذلك، لا بد أن أنفذ تلك الخطة. طالما أن روح يان تسكن جسدي، فسأظل أحب كريستينا أكثر مما أحب نفسي. لا بد أن أفعل ذلك لأجل خاطرها. أنا أحبها، ولا أستطيع التوقف عن حبها.»
نهض نيكولاس العجوز، وأخرج القنينة الفضية المتقنة الصنع، من حيث خبأها قبل شهر.
ثم قال متأملا، بينما يرج برفق القنينة بجوار أذنه: «لم يتبق بها سوى ملء كأسين.» ووضعها على المكتب أمامه، ثم فتح سجل الحسابات الأخضر القديم من جديد، فكان لا يزال أمامه عمل لا بد من إنجازه.
أيقظ كريستينا مبكرا. وقال لها آمرا: «خذي تلك الخطابات، يا كريستينا.» ثم أضاف: «عندما تسلمينها كلها، وليس قبل ذلك، اذهبي إلى يان، وأخبريه أنني أرغب في مقابلته هنا لمناقشة أمر عاجل يتعلق بالعمل.» ثم قبلها وبدا أنه كاره لرؤيتها وهي ترحل.
ابتسمت كريستينا قائلة: «سأغيب لبعض الوقت فحسب.»
رد عليها: «وما الفراق سوى غياب لبعض الوقت فحسب.»
كان نيكولاس العجوز قد توقع المتاعب التي كان سيلقاها بعد ذلك. فيان كان سعيدا بحاله، ولم يرغب مطلقا في أن يعود شابا عاطفيا أحمق، يتوق إلى تكبيل نفسه بالزواج من فتاة لا تملك سنتا. بل كان لدى يان أحلام أخرى.
بيد أن نيكولاس صاح به في نفاد صبر: «اشرب، يا رجل، اشرب، قبل أن أغير رأيي. سوف تصبح كريستينا أغنى عروس في زاندام إذا تعهدت بالزواج منها. إليك عقد البيع هذا؛ اقرأه، اقرأه بسرعة.»
عندئذ قبل يان، وشرب الرجلان. ومرة أخرى شعرا بنفحة من الهواء تمر بينهما، فغطى يان بيديه عينيه للحظة.
كان ذلك من سوء حظ يان على الأرجح؛ لأن نيكولاس انتزع في اللحظة نفسها عقد البيع الموضوع بجوار يان على المكتب. وفي اللحظة التالية كان يحترق بلهيب نيران المدفأة.
وتعالى صوت نيكولاس الخشن مرددا: «أنا لست فقيرا مثلما ظننت! أنا لست فقيرا مثلما ظننت! أستطيع البدء من جديد، أستطيع البدء من جديد!» وشرع ذلك المخلوق يتراقص بينما تتردد ضحكاته الشنيعة، فاردا ذراعيه العجوزين أمام النيران المشتعلة، تحسبا لأن يحاول يان إنقاذ مهر كريستينا المحترق قبل أن يصير هباء.
لم يخبر يان كريستينا بما حدث. فمهما قال لها، كانت سوف تعود إلى بيت نيكولاس. وعندما رجعت طردها نيكولاس قبل أن تدلف من الباب مصحوبة باللعنات. لم تستطع فهم ما جرى. كل ما أدركته بوضوح هو أن يان كان قد عاد إليها.
فسر يان موقفه قائلا: «نوبة عجيبة من الجنون تملكتني.» ثم أضاف: «سوف يساعدنا نسيم البحر العليل على استعادة صحتنا.»
وهكذا وقف يان وكريستينا على سطح سفينة يان، وراقبا مدينة زاندام القديمة وهي تبتعد رويدا رويدا إلى أن اختفت عن ناظريهما.
بكت كريستينا قليلا عندما فكرت أنها لن ترى المدينة مجددا أبدا؛ لكن يان واساها، وفيما بعد حلت وجوه جديدة محل الوجوه القديمة.
أما نيكولاس العجوز فتزوج من السيدة تولاست، ولحسن الحظ لم يعش ليمارس شره إلا لبضع سنوات إضافية.
وبعد زمن طويل، حكى يان لكريستينا القصة كاملة، لكنها بدت لها بعيدة الاحتمال جدا، ولم تصدقها - رغم أنها لم تقل ذلك ليان طبعا - بل اعتقدت أن يان كان يحاول تفسير الشهر الغريب الذي كان قد قضاه في التودد للسيدة تولاست. رغم ذلك، كان من العجيب حقا أن نيكولاس تبدل كليا في ذلك الشهر القصير نفسه.
فكرت كريستينا: «ربما لو لم أخبر نيكولاس أني أحب يان، لما عاد إلى سيرته الأولى. يا للرجل العجوز المسكين! لا شك أنه رجع كما كان بدافع اليأس.»
অজানা পৃষ্ঠা