وكيفما كان الأمر، فإنني إنما أردت أن أبين خطر النقد على كل حال. •••
والنقد، ولا شك، قديم يقوم بقيام الفنون في كل زمان وفي كل مكان، فإن المفتن مهما يبلغ من صغوه لفنه، وصدق هواه إليه، ومهما يجد في ذلك من اللذة والاستمتاع، فإن لذته واستمتاعه إنما يكونان أتم وأوفى إذا ظفر من الناس، وخاصة من أصحاب البصائر، بحسن الرأي وجلالة التقدير، وأحسب أن المفتن الذي لا يدخل في حسابه هذا وما زال معه عقله لم يخلق بعد في الزمان، وما دام الحديث في النقد الأدبي فلنقصر الكلام على أهل الأدب، وإن كان المفتنون جميعا في ذلك أشباها.
وإذا قلت لك إن النقد قديم، فاعلم أن احتفال الشعراء والكتاب للنقد، وجهدهم في استخراج رضا النقدة، واستدراج ألسنتهم بالثناء عليهم والهتاف بآثارهم كذلك قديم، وإن من يتصفح تاريخ الشعر والشعراء من مطلع الدولة الأموية، وتاريخ النثر والنثار من يوم احتفل أهل البيان للنثر الفني في عصر الدولة العباسية، لا يتداخله أي ريب في هذا الكلام.
نعم لقد كان الأدباء، والشعراء منهم خاصة، يصانعون النقاد، ويعملون جاهدين على الزلفى إليهم ابتغاء المنزلة عندهم، وإيثارهم بألوان التبجيل والتكريم، وكثير منهم من كان يعرض شعره عليهم لامتحانه واختباره قبل طرحه على سائر الناس، إن لم يكن لحسن الظن بإدراك ملكاتهم، وحدة إحساسهم ورهافة أذواقهم، فلإطلاق ألسنتهم فيهم بحسن المقال، وإلا فكيف للمفتن بانطلاق الذكر وذهاب الصيت عند الجمهور، وليس له - في العادة - وسيلة إلى هذا إلا تقدير هؤلاء؟
وإني لأذهب في تقدير النقد، والإبانة عن خطر النقدة إلى ما هو أبعد من هذا من جليل الآثار، فإن أثر هذا إذا اتصل بشهرة الشاعر أو الكاتب والذهاب بصيته، فإن هذا الذي أرمي إليه هو جدوى النقد على الفن، وإن شئت تعبيرا أدق وأدل على بعد الأثر، قلت في بناء الفن نفسه وتأصيل أصوله، وتقعيد قواعده، وتفصيل فصوله، وحسبك في هذا الباب أن تعرف أن علوم البلاغة ما كانت لتكون لولا نقدة الكلام، إذ الواقع أن قواعد هذه العلوم، في الجملة، وأعني علوم البلاغة، إنما انعقدت بتقصي ما أثر عن نقدة الكلام في الأجيال المتعاقبة من الكشف عما يضمر هذا البيت أو هذه الجملة من معنى كريم، والدلالة على ما جلي فيه من نسج متلاحم ومن لفظ نير شريف، ومن التفطين كذلك إلى ما يقع من فسولة معنى، واستكراه لفظ، وتزايل تركيب، ونحو ذلك، فعلى هذا التقصي قامت علوم البلاغة على الجملة، بل لا حرج علينا إذا زعمنا أنها مدينة في قيامها لنقد الناقدين، ولعل بلوغنا هذا المعنى الذي استدرج إليه تداعي الكلام من غير سابق نية من أسعد الفرص التي تهيئ لنا أن نصارح بأن هذه، علوم البلاغة، على شأنها الذي انعقدت عليه منذ الأجيال الطوال، لم يصبح لها من الأثر، سواء في تحري ألوان البلاغات أو في إجراء مقاييس النقد، كثير من الغناء، فالبلاغة لم تكن قط في إصابة معنى مأثور، ولا في نظام لفظ موروث، ولا في استنان أسلوب معين من أساليب البيان، وإنها لم تكن كذلك في يوم من الأيام، وإنها لن تكون كذلك في يوم من الأيام، على أن هذا شيء قد وقع على سبيل الاستطراد، فلندعه إلى حديث خاص، فإنه قد يحتاج إلى كلام طويل. •••
وبعد، فهذا موضع النقد من الأدب، وهذا أثره فيه من قديم الزمان، ولا يذهب عنك أن هذا النقد، إذا استثنيت ما يتصل منه باللغة أو بقوانين النحو والصرف، إنما مرجعه في الكثير الغالب إلى سعة الخبرة بالأمور على وجه عام، وإلى شدة الفطنة، وصفاء الذهن، ورهافة الحس، وكمال الذوق، بحيث يتهيأ للناقد من النفوذ في باطن الكلام، والتفطن إلى دقائقه واستظهار ما فيه من حسن أو من مكنون عيب، ما يعيا عنه أكثر الناس، ذلك كان متكأ النقد ومصدر وحيه، لا ضابط له وراء ذلك من قانون، ولا من نظام مسنون.
بل إنه لكثيرا ما كان النقد يجري مجرى النكتة ويأخذ مأخذها في الكلام، أعني أنه قد يكون أثرا للمحة الخاطفة من الذهن، ما تعتمد على أصل ثابت من التعليل والتوجيه، وكثيرا ما كان يتعسف في هذه النكتة أيضا رغبة في التشهير واحتيالا على إسقاط الكلام، وإن من يتتبع كتب الأدب العربي ليقع له من هذا الشيء الكثير.
ولعل مما بعث على هذا وحمل النقدة عليه أن النقد إنما كان يوجه على كل بيت في القصيدة استقلالا، قل أن يسلك في عبارة نقدية بيتان أو أبيات، وذلك راجع إلى طبيعة الشعر العربي من عدم اعتبار القصيدة - في الغالب - وحدة ماثلة الشخص، واضحة الصورة، مستوية الخلق، ينزل البيت فيها منزلة الجزء من الكل، والعضو من الكائن الحي، لا يتشخص إلا بمجموعة الأعضاء.
بعد هذا الاستطراد اليسير نرجع إلى الحديث في أثر النقد في توجيه الآداب: وإذا كان للنقد مع هذا، ومع هذا كله، هذا الأثر البعيد في حياة الأدب العربي، فكيف كان يكون شأنه اليوم في ذلك، وقد أصبح للنقد مناهج واضحة، وطرق معبدة، وحدود مرسومة، وأصبح يتكافأ كثير من وسائله على قضايا العلم، وإن لم يزل للذوق فيه أثره البعيد؟ وعلى الجملة لقد أصبح النقد الأدبي فنا من أرفع الفنون في هذا العصر الحديث.
أقول كيف يكون شأن الأدب العربي اليوم لو جرت الطرق على أزلالها، وأخذ جمهرة نقادنا أنفسهم جاهدين بمذاهب النقد الحديث، على أن يكونوا في نقدهم نزهاء مخلصين، وعلى ألا يجروا أساليب النقد الغربية كما هي على كل ما يخرج لهم من آثار أدبنا العربي، فذلك إلى ما فيه من عسف وعنت، فيه أذى للأدب كبير، فإن مما لا شك فيه أننا نفارق القوم في كثير: نفارقهم في العقليات، وفي الأخلاق والعادات، وفي التاريخ والبيئة، وفي النظام الأدبي، كما نفارقهم في الأذواق، ولا يذهب عنا أن الأذواق هي مستمد الفنون على وجه عام.
অজানা পৃষ্ঠা