كان هناك نفر يقرضون الشعر، ويزخرفون المرسل من القول، وقد يقع الجيد في بعض ما ينظمون وفي بعض ما ينثرون، ولكنه لا يصدر عن طبع، وإنما تجيء به المصادفة، أو تأتي به مشاكلة المحفوظ عن متقدمي البلغاء!
وكيفما كان الأمر، فإن هؤلاء الأشتات من «الأدباء» كان أدبهم وما تسلك أقلامهم من فصح العربية في شبه منقطع عن سائر الناس، عالمهم وجاهلهم في هذا بمنزلة سواء، وعلى الجملة لم يكن ذلك «الأدب» ولا ما يجري فيه من صحاح العربية بمترجم، ولو بطريق التكلف والاستعارة، إلا عن أولئك النفر الأقلين، أما الجمهرة فليست من ذاك وليس ذاك منها في كثير ولا قليل، فإذا زعمنا أن لغة المصريين في ذلك الزمان كانت العربية، فإننا نمضي هذا على ترخص بعيد!
ويستقر الأمر لمحمد علي، وتستمكن من ناصية الحكم يده، ويتجه إلى تجييش جيش وافي العدة مدرب على النظام الحديث، فللرجل في السلطان مرام بعيد، والجيش يحتاج إلى الأطباء، إذ ليس في البلد كله طب ولا طبيب، فيقيم مدرسة للطب ويسوق إليها فيمن يسوق بعض المتقدمين من مجاوري الأزهر، لا يعرفون كلمة إفرنجية واحدة، ويرميهم بمعلمين من حذاق الأطباء في الغرب لا يعرفون كلمة عربية واحدة، فيقوم المترجمون بين الأساتيذ وتلاميذهم ليؤدوا ما يلقي أولئك إلى هؤلاء.
بعث أولئك المترجمون العربية في عنف وغلطة، وما كان لهم من هذا محيص، فهبت هبوب النائم المستغرق في حلمه وقد أزعجه عنه من الطوارق ما يستطير اللب، فركب رأسه وجرى لا يلوي على شيء، ما يبالي أعثرت رجله أم اصطدم بالجدار جبينه، وإن الذعر لأعصى من أن يدع لمثل هذا فضلا من الفكر فيما يأخذ من عدة القتال وما يدع!
ولقد بان لك أن العربية لم تمت، ولو قد ماتت ما قدر لها بعث أبدا، ولكنها إنما تقبضت وتقلصت وجثمت في أفحوصها دهرا طويلا، لا تطالعها شمس، ولا يقرب إليها غذاء، ومع هذا لقد ظلت مطوية على حيويتها، وهي لحسن الحظ حيوية قوية متينة، فإنها لم تكد تحس حرارة الشمس وتصيب المتنفس في الجو العريض، حتى انتعشت وراحت تطلب من وسائل الحياة ما يطلب سائر الأحياء!
فهذا رفاعة الأزهري يعود من فرنسا بعد المقام فيها مع إحدى البعثات بضع سنين، وإنه ليقوم في جماعة من لداته وتلاميذه على «قلم الترجمة» وقد راحوا يصبون ألوان الصيغ والمصطلحات في شتى العلوم والفنون، يتوسلون إلى هذا بالبحث فيما أثر عن الأقدمين تارة بالاشتقاق، وأخرى بالتعريب، وأحيانا بغير أولئك من وسائل الدلالات، واللغة تتئد في مماشاتهم مرة، وتخف في التسيار مرة، على أنها في الحالين واتت - بقدر ما - مطالب العلم الحديث، فحقق جهدهم فيها وجهدها معهم ما كاد يصله الظن بجملة المستحيل!
ولقد جعلت اللغة أبلغ همها إلى العلم؛ لأن النهضة إنما كانت تعتمد في جلى وسائلها على العلم، أما الأدب فقد فرضت له حظا ضئيلا من يوم تقدم محمد علي بإخراج «الوقائع المصرية» وعهد بتحريرها إلى العالم الشاعر الأديب الشيخ حسن العطار، رحمة الله عليه.
العربية تنقبض عن العلم وتتحرر للأدب
أمعنت العربية في ألوان العلوم والفنون، وخرجت فيها الكتب المؤلفة والمترجمة في الطب والهندسة والرياضة والزراعة والمعادن وطبقات الأرض والفنون العسكرية وغير ذلك مما جادت به القرائح في العالم الجديد إلى تلك الأيام.
ثم خبت هذه الجذوة، وسكنت بانتهاء ولاية محمد علي تلك الفورة، حتى قام حكم إسماعيل، فانبعثت في عهده اللغة ثانيا، ولكنها لم تكسر أجل همها هذه المرة على العلوم، بل لقد فرضت من جهدها صدرا عظيما للآداب، فخرجت الصحف الدورية تتبارى على متونها سوابق الأقلام.
অজানা পৃষ্ঠা