163

قبل أن أتحدث عن هذا الرجل الذي يجب أن يتحدث عنه مدونو تاريخ الأدب العربي في العصر الحديث، قبل هذا أحب أن أقول في هذا الباب شيئا عاما، ذلك بأننا اعتدنا أن نغفل الكلام في سيرة من عاصرناهم، ورأيناهم ولابسناهم، إلا أن يكون القول من جنس هذه المراثي التي تضفى فيها حلل الثناء، ويكال فيها المديح في العادة بغير حساب، ولقد يكون هذا الثناء حقا أو قريبا من الحق، بحيث لا يؤذي التاريخ في كثير ولا قليل، ولكنه لا يمكن أن يجلو على الأجيال المستقبلة شيئا من حقيقة الرجل، لأن الكاتبين في هذه الحالة لا يعنون ببسط حياة الرجل، وظواهر خلاله، والعوامل البارزة في تكوينه، ومطبوع عاداته، ولو ما يتصل منها بالأسباب العامة، وذلك من أيسر الأمور، لأنهم عرفوه بالمشاهدة، واستيقنوه بالملابسة وطول الاختبار، وهذا ولا شك مما يهيئ للقادمين دراسته وتحليله دراسة إن لم تنته إلى أصدق النتائج، فهي أدنى إلى الصدق من غيرها على كل حال.

وليس يذهب عن القارئ أن إهمال المعاصرين على هذا النحو لا بد مفض إلى إحدى حالين: إما إلى إدراج كثيرين من رجال الآداب والفنون في مطاوي النسيان، أو التحيف من أقدارهم بقدر كثير أو قليل؛ وإما إلى تجليتهم إذا تراخى الزمان في غير صورهم، ونحلهم صفات وخلالا لم تكن لهم، بحكم العنعنة في رواية الأخبار، والاتكاء في تحليل نفس الرجل على ما صدر عنه من الآثار، وكثيرا ما يضل الباحث المستنتج في هذا أبعد الضلال، هذا إلى ما في معاناة مثل تلك البحوث من إضاعة للوقت، ونفقة من الجهد، وتجشم للعناء.

وأغلب الظن في هذا الإغفال من المعاصرين لمن عاصروهم من رجال الفنون والآداب، أنه يرجع إلى أن الرجل العظيم قل أن يراه معاصروه بالعين التي يراه بها الخالفون، فهو في الغالب إذا استحق منهم ترديد ذكره، والهتاف باسمه، وتدوين سيرته، فقل أن يعنى أحد بتقصي عاداته، والتسلل إلى مداخله، وعرض ما يلابس الأسباب العامة من سائر أموره، أو لأنهم لا يعنون بهذا لأنه حاضر لمعاصريه قريب منهم، فهو في حكم المبذول الذي ينال منه من شاء أن ينال، ولا شك أن في هذا ضربا من الغفلة عن أن الحاضر سيغيب على الزمن، وأن المبذول سينقبض، وأن ما في متناول اليد اليوم ستتقطع من دونه غدا علائق الآمال!

ولقد يسكت النقدة عن تقصي ذلك عمدا، والتلبث بتحليل الرجل ورد العوامل في تكوينه إلى مناجمها، حتى ينطوي الزمن عليه وعلى أهله، وعلى أشياعه وخصومه من معاصريه، فيتهيأ الجو للبحث والتحقيق، لا رغبة ولا رهبة فيه، فيكون البحث أنور وأصفى، وتخرج النتائج أدق وأوفى.

وهذا مذهب في الرأي له أثره وله خطره، بالرغم من أنه يفوت على المؤرخ المدقق من عناصر الحكم ما قد يسيء في بعض الأحيان إلى حكمه، فإذا هو طلبها تصحيحا لبحثه، فلن ينالها إذا نالها صادقة إلا بعد أن يتجشم في سبيلها عرق القربة كما يقولون.

على أنني في هذا لا أذهب إلى القول بنشر المعايب، واستظهار المكاره، حتى لا يثير المدون ثائرة الأهل والصحاب والأنصار، إنما أريد أن يجلو المعاصر، من غير ذلك، كل ما له خطر في تكوين الرجل، فإذا كانت هناك مغامز لا ينبغي إغفالها في تجليته وتحليله، فليسجلها على أن يكتمها حتى يجليها لوقتها، أو يجليها من بعده من الأعقاب.

وعلى أي حال فإن إغفال هذه الأمور التي نحسبها في غالب الأحيان من التوافه، كثيرا ما يخل بحق التاريخ، ويفضي إلى الجهل بالجم من حقائق الأشياء، ولست أجد في الباب مثلا أيسر ولا أدنى إلى الحس من أننا ، لولا مهبط البعثة العلمية التي صحبت الحملة الفرنسية في سنة 1798، ما اهتدينا بسهولة أو ما اهتدينا أبدا إلى أزياء جدودنا وسمتهم من قرن وثلث قرن من الزمان، فكيف بمن هم أعلى من هذا وأبعد في مذهب التاريخ؟

ولو قد عني أهل كل عصر بأن يحفظوا لخلفهم نماذج من ثيابهم، وآلاتهم في سائر حوائجهم، وفعل هؤلاء مثل فعلهم، لظلت سلسلة الأزياء واضحة على وجه الزمان.

ولعل من الخير أن أنبه في هذا المقام إلى أن محاولة كشف الرجل من آثاره المحفوظة لا تجدي كثيرا في الإبانة عن خلاله ومداخل عيشه حتى مظاهرها، بل إنها لكثيرا ما تكون من وسائل الضلة في إثبات التاريخ، ولست أسوق لهذا أكثر من مثلين اثنين: ذلك بأنك لو اتكأت في طلب خلال الجاحظ على مجرد آثاره، لخرج لك منها أنه كان أزهد الناس في المال، وأنه لو سقط ليده لكان أجود به من الريح المرسلة، فإن أحدا لم ينع الشح ولم يذم الأشحاء كما نعى الجاحظ وكما ذم، وإن أحدا لم يؤلف كتابا في «البخلاء» أبلغ فيهم إيجاعا، وأشد لهذه الخلة وأصحابها إقذاعا، كما صنع الجاحظ، ومع هذا لقد كان هو نفسه من أشد المبخلين الذين أوفوا على الغاية من الجشع والحمل على المروءة أحيانا في طلب المال، وإنك لو التمست مثل هذا في أبي الفرج

2

অজানা পৃষ্ঠা