ولعلك الآن مستشرف إلى مطالعة شعوري في هذه الساعة، وإني لمباديك به غير متزيد ولا غال: كنت أستمتع بمثل نعيم الجنة لم يلقني في طريقها موت، ولم يعنني في سبيلها حساب!
وإن شئت وصفا يتصل بأحاسيس هذه الدنيا، فليس عندي ما أجلو عليك من فنون التشبيه إلا أن أحيلك على الحلم اللذيذ في النوم المطمئن الهنيء، تتوافى لك فيه أسباب المنى وما في يديك منها كثير ولا قليل!
ثم دخلنا في الصحراء، وكلها شيء واحد لا يرجع إليك طول النظر فيه إلا بالضجر والملال، فجعلنا نتشاغل بالحديث وبالقراءة بعض الحين، وعاد حسني، وحسني دائما، فقال لي: أتحب أن أشير على السائق بأن يعمل «شوية شقلباظ!» فتتمتع بهذا اللون من الطيران قبل النزول؟ فشخصت إلى الأستاذ علوي، وفي عيني ما لا يخفى من سؤال وضراعة، فتجمع في كرسيه، وقال في جد لا أثر فيه للعبث: لكما يا صاحبي أن تمزحا ما طاب لكما المزاح، وإني لأدخل معكما في بعض هذا كيفما شئتما، ولكن لا سبيل إلى مزاح مع طيارة ولا مع طيار! فتحولت إلى الشقي، وقد قلمت أظافره، وقلت له في لهجة الظاهر
13
المنتصر: «طيب انبط بقه!»
وتراءت لنا من بعيد صفحة البحر، فتداخلني كثير من الهم معه يسير من الفزع، أما الهم فلأن هذه الرحلة البديعة قد آذنت بانتهاء، وأما الفزع فلما كنت أعلم من أن الطيارة تترجح في مهبطها حتى لتستوي في بعض الحين على جنبها، وعلى هذا تمكنت في مجلسي، وشددت بيدي على حافة كرسي حسني، ولبثت أنتظر، وأنشأت الطيارة تتدلى، ولولا أنني أرى عقرب المقياس يتدلى ما شعرت أن الطيارة تتهابط، ومال علي حسني وقال: لا يرعك أن الطيارة ستميل ميلا شديدا عند مهبطها ، وهذا ما لا بد منه لنزولها، فقلت: فلتمل كيف شاءت، فليس بيننا وبين الأرض إلا مائة متر أو دون، وحدثتك أنني كنت قد جمعت شملي للتحرف لهذا الميل؛ على أنه لم يرعني، وأنا في فترة هذا الانتظار، إلا أن يهتف بنا من الركب هاتف: أن تفضلوا! وأنظر فإذا نحن على الأرض، وإذا الباب يفتح، وإذا الركب يتدلى!
وتسألني في النهاية، كم مرة أطلقت نظرك إلى يد السائق! فأقسم لك أنني ما أرخيت إليه طرفي قط ولا مرة واحدة، ولماذا أفعل؟ والطريق معبدة، ليس على عذارها طوار، ولا عمد للترام، ولا «مزلقان» لسكة حديد، ولا نحن على سيف
14
نهر، ولا بمقترب من سيارة يقودها بعض «الوارثين»، وليس على سكتنا غلمان لا يحلو لهم الحجلان إلا في بهرة الطريق، ولا «دغف» لا تطيب له قراءة الجريدة إلا وهو ساع على قدميه في الساعة الخامسة من يوم الأحد في وسط ملتقى شارع فؤاد بشارع عماد الدين، ولا، ولا، من هذا البلاء الذي يأخذ جميع المذاهب على ركاب السيارات!
نعم، لقد رجفت بنا الطيارة في أثناء الطريق بضع رجفات لا تزيد في مدتها، ولا في خفقاتها على اختلاجة الجفن، بحيث لو كان المرء مشغولا بحديث أو قراءة، فإنه لا يشعر بها أو لا يكاد، وقيل لي: إن هذه إنما تجيء عند اختلاف المناطق، كالخروج من اليابس إلى الماء، أو الدخول من أحدهما إلى الصحراء، على أن الطيارة لو ارتفعت فوق ما ارتفعنا قليلا لما كانت هذه الخلجات لعلوها على تيارات الهواء. •••
অজানা পৃষ্ঠা