يا غراب «فلان» الغراب، وهذا لقبه، وهو يتكسب من الترسل
12
في القهوة التي نجلس إليها، ولقد عقد الشؤم كله والنحس أجمعه بغرته «السوداء»، حتى لو قلت له: يا غراب علي بكوب ماء، لم يلبث أن يعود إليك بأن شركة المياه قد أفلست، فهدمت أبنيتها، وسدت أقنيتها، وباعت عددها وآلاتها «خردة» وتحملت عن هذه البلاد بسلام! ولقد تقول له: يا غراب! اطلب داري في «التليفون» واسأل: هل زارني أحد؟ فيعود إليك بأنه لم يزرك إلا محضران وثلاثة من الغرماء، وصاحب البيت في طلب الكراء! - فهل طلبني أحد في «التليفون» يا غراب؟ - لم يطلبك يا سيدي إلا النيابة، والقصر العيني، والإسعاف! - إذن فامض إلى جريدة الأهرام، وإليك «نمرة» جلوس ولدي، واسأل: هل نجح في امتحان الشهادة الابتدائية؟ - سقط يا سيدي، وأغلب الظن أن ليس له ملحق! - أرجو منك يا غراب أن تراجع لي هذه «النمرة» في كشف سباق الدربي. - يا خسارة يا سيدي! لقد كان بينها وبين «النمرة» التي ربحت الجائزة الكبرى رقم واحد!
وهكذا،
أينما يوجهه لا يأت بخير ، صدق الله العظيم.
وأنا رجل شديد التطير، يزعجني ما دون «نفحات» الغراب بنسبة
وأصحابي يعرفون شدة ذعري من هذا الغراب، ويتقصون حوادثي التي لا تنقضي معه.
على أن من أشد ما يدهشني حتى يكاد يذهب بلبي، ولع في هذا الغراب شديد بألا يأذن لوجهه الكريم بمفارقة طرفي لحظة واحدة، ولو جلست ثمة عشر ساعات متواليات، اللهم إلا أن تكون القوة القاهرة، فأنى جلست وقف بإزائي، وإني لأجول طرفي إلى الشرق فسرعان ما يشرق وجه الغراب، فأرده إلى الغرب فيغرب، وأتحول من ناحية إلى ناحية، فيتمثل لطرفي في أقل من الثانية، ولما حزبني هذا الأمر رحت أطلب الفداء، وألتمس البرء من هذا الداء، فدعوت به وقلت له: يا غراب! هل تقبلني «مشتركا» عندك؟ فقال: وكيف ذاك؟ قلت: بألا تريني وجهك في مقابل «اشتراك» شهري قدره كذا، وعلى هذا تم الاتفاق، وإن بلائي من «قومبانية» المياه وأختها «قومبانية» النور لأهون من ويلي من الغراب، فهاتان لقد ينبئاني إذا تأخرت عن الدفع اليومين أو الثلاثة، ثم يحبس الماء، أو يقطع تيار الكهرباء، أما «قومبانية» الغراب فالبدار بإرسال «الاشتراك» البدار، وإلا أطلقت عليك التيار، من غير سابقة تنبيه ولا إنذار! •••
وبعد إذ تشرفت بتقديم هذه الشخصية الفذة إلى حضرات القراء، لم يرعني وأنا في تلك الغفلة اللينة إلا أن يهتف حسني بأعلى صوته: يا غراب! وكان بيننا وبين الأرض ما ينيف على ستمائة متر فقط؛ فمقياس الطيارة أمامي، والتفت إلي وقال: ألا تعرف أنني جئت بالغراب ودسسته في مؤخر الطيارة، وسيثب إلينا الآن، وهذا الكرسي الخالي له؟ فقلت: أتجد يرحمك الله؟ قال: بل يرحمك أنت! وأطلقها الخبيث في تشف وشماتة، ونهض يجيء بالغراب، ووالذي نفسي بيده ما شككت قط في أنه قد فعل، فصاحبي حاذق مدبر فاجر! فجمعت شملي، وحددت شجاعتي، وقلت في أتم وداعة واطمئنان: اسمع يا هذا! إن كنت فعلت فقد والله أحسنت كل الإحسان، لأنني إن بلغت سالما فقد نجوت من الغراب والطيارة معا؛ ومن نجا من هذين فقد أمن أحداث الزمان في طول الزمان، وإن هلكت، وكل امرئ هالك، فقد أنقذت العالم من الغراب، فأنا إذن مخلص هذا الزمان، وهذا مقام تتقطع دونه علائق الآمال! فضحك حتى تبادر دمعه وعرفت أن حقده علي لم يبلغ هذا المدى، وإن كنت لا أخفي على القارئ أن مجرد ذكر الغراب، ونحن على هذه الحال، خطر لا يتهاون شأنه إلا المخاطرون!
بعد هذا تركني وكفاني عبثه، فرجعت إلى نفسي فإذا كلي حاضر: إدراك تام، وشعور واف، ونفس وادعة، وعصب مطمئن، وطرف أوجهه حيث أشاء، فيعود إلي بألوان الصور كاملة واضحة، وكأن الفزع من رؤية الغراب، ذهب بالفزع من ركوب الطيارة، وهكذا تداوينا من الفزع بالفزع، وصح فينا قول الأعشى:
অজানা পৃষ্ঠা