المكافأة على القبح
33 - حدثني أحمد بن يوسف بن جعفر بن سليمان بن علي بن عبد الله بن العباس، عن أبيه، عن جده مولى عبد الله بن المقفع -أن عبد الله حدثه، قال:
((كان فيما ترجمته من سير الفرس: أن فيروزا لما تقلد مملكة فارس حدثته نفسه باجتياز بلد الهياطلة. وكان به للهياطلة ملك صحيح الرأي حسن الجوار، فجمع ذوي الرأي في بلده وسألهم عما يرون، فعرضوا عليه أموالهم والخروج معه، فجزاهم خيرا وانصرفوا. وخلا به وزيره -وكان عالي السن- فقال له: ((أيها الملك إن يسير الحيلة ربما بلغ أوفى منازل المكافحة والذي عندي من الرأي أن تظهر السخط علي فتقطع يدي ورجلي، وتنفيني إلى أقاصي عملك، وتكتب إلى عاملك هناك في حبسي، وتظهر أنك تبينت مني ميلا إلى فيروز))، فقال له: ((إن حسن الحيلة إنما يقع بغير إضرار يلحق صاحبها، وإذا بلغنا بك هذا، فقد جاوزنا بك ما تخافه من فيروز لو حصلت في يده)).
فقال: ((أنا مذ تكامل تمييزي أحسب مالي وعلي، فإذا وهبت لي نعمة علمت أن علي فيها محنة، وأن الرغائب بالنوائب. وقد عشت في سلطانك -أيها الملك- في هذه السن العالية، عزيز الجانب، خصيب الأفنية، وشملي في نهاية من رفاغة العيش. وليس من الجميل أن أمسك عن قضاء حق النعمة علي لسلطاني وشملي وأهلي وولدي وصيانتهم مما عراهم بنفسي. وأعلم #57# أني لم خدمت السلامة لنفسي، لمات ذكري بموتي، ولم أبق شرفا لأهلي! ولعل أجلي قريب، فأفوز بحسن الذكر فيما أتيته وقضيت به حق سوالف الإنعام علي، والإحسان إلي. وإنما اعتمدت هذا الأمر الفظيع لأعدل بفكر فيروز عن الحيلة، وأضطره إلى السكون إلي)).
((فلما رأى أنه لا يرجع عما أشار به عليه، دعا به وقطع يديه ورجليه، ونفاه إلى آخر مسالحه، فكان محبوسا هناك.
((وجد فيروز في سفره، فوافى الموضع الذي فيه الوزير، فوجده خاليا ممن كان فيه، ولم ير به غير رجل مقطوع اليدين والرجلين، فسأله عن حاله فقال: ((كنت وزيرا لهذا الخائن فاستشارني، فأشرت عليه أن لا يناهضك، وأن يسألك إقراره في البلد، وحمل خراجه إليك. فاستشاط، وسولت له نفسه مناوأتك، وقد جمع جيشا له كثير العدد قوي النكاية، وقدر أن يلقاك في هذه الطريق. وعندي حيلة أجازيه بها على سوء صنيعه)).
واستجلى فيروز الوزير فقال له: ((إن عدلت عن هذه الطريق وتجشمت قطع برية يقيم السائر فيها يومين، تحتاج إلى حمل الماء إلى مسيرة يوم منها ، ثم تفضي إلى مياه متدفقة. فإذا قطعتها وصلت إلى بلد الهياطلة، وهو وجمعه في الطريق الذي آثرت سلوكها، فتدخل البلد بغير حرب)).
((فحملته الاستنامة إليه -لما رآه به- على تصديقه ولحج في البرية بجميع جيشه، -وقد كان واطأ [الوزير] الملك على تكمين جمع له آخر في البرية-، فسار يومه وبعض غده في قفر لا يوجد به ماء ولا نبت، #58# فتساقطت الدواب من العطش، وافترق الجيش لطلب الخلاص، وخرج عليه منسر من جيش الهياطلة فأمروا عليهم، وأخذوا فيروزا أسيرا. فمن عليه ملك الهياطلة بالإمساك عن قتله، وجمع وجوه بلده وأضاف إليهم وجوها من عسكر فيروز، واستحلف فيروزا بحضرتهم أنه لا يجاوز حجرا جعله فصلا مشتركا بينه وبينه. وأثبت المفارقة في صحيفة بخط فيروز، وأشهد عليه الجماعة، وأطلقه على غاية من التبجيل والإكرام.
((فدخلت فيروزا خجلة من رجوعه إلى مملكته بعد أسر ملك الهياطلة له وتعفيره به، وحدثته نفسه بمعاودة قتاله، فخرج إليه. وسولت له نفسه أنه إن حمل الحجر حتى يدخل به بلد الهياطلة لم يحنث في يمينه، فحمله بين يديه وسار بجمع كثير. وخرج إليه ملك الهياطلة، فالتقيا في منتصف طريقيهما.
((فلما ترآى الجمعان، انفرد ملك الهياطلة عن جمعه، وسأل فيروزا موازاته ليسمع منه شيئا. فبرز فيروز. فقال له: ((أنا وإياك في قبضة من حنثت في اليمين به، وهو عز وجل يشكر للمحسن إحسانه، ويعاقب المسيء بإساءته. وقد أنعمت عليك، وأحسنت إليك، وأنا أخوفك الله وأحذرك سطواته، فإني أعلم أن حياءك مما جرى عليك هو الذي ردك، فينبغي أن يكون استحياؤك من الله عز وجل أشد من استحيائك من خلقه. وليس يخرجك من يمينك حمل هذا الحجر بين يديك، لأن اليمين إنما تكون على نية المستحلف لا على نية المستحلف. فتدبر قولي، واعلم أن من سمعك من أصحابي على غاية من الثقة بالله في نصره، #59# ومن سمعك من أصحابك على ذعر من أن تهلك بحوبك)). فقال له: ((لست أرجع عن قتالك)).
((فأمر أن تركب الصحيفة على أطول رمح في العسكر وحمل عليه، فهزم جيش فيروز، وقتل فيروز في المعركة)).
পৃষ্ঠা ৫৬