17 - وحدثني محمد بن يزيد -وكان حسن التقشف، سديد الرأي- قال:
أطلق جماعة من حبس أحمد بن طولون كانت قد وقعت بهم ظنة بالتلصص، وكانوا ينزلون كورة أهناس. فإني عند بعض أصحاب الأكسية حتى وافاه غلام أصفر، خبيث المنظر، متمكن من نفسه، من الخارجين من الحبس، فرحب به، وجلس عنده، وهنأه بسلامته. ثم سأل عن حاله، فقال: ((خرجت من الحبس كما تراني، وما معني نفقة تبلغني منزلي)).
فقلت له: ((ما اسمك؟))، فقال: ((مسافر))، فقلت له: ((يا فتى! قدم الله في أمورك ولا تعدل عنه، فإن الراحة في ظله))، فقال لي: ((يا سيدي! الحق فيما قلته، والنفس بالسوء، والتوفيق إلى الله دون خلقه))، فأعجبني جوابه، #32# وقلت له: ((كم يكفيك إلى منزلك؟)) فقال: ((دينار!))، فدفعته إليه وقلت له: ((إذا حدثتك نفسك بإخافة السبيل فابعث إلي حتى أمسك من رمقك، وأكف فاقتك)).
فما مضى شهر حتى اضطربت ناحية أهناس والبهنسا بتسلط رجل من اللصوص -في جمع كثير، على كثير من المواضع، وكبسهم الضياع. وكانت لي أسلاف بسمسطا ونواحيها، فخرجت لقبضها في رفقة من التجار، قد حملوا البز والطيب وما يحتاج إليه للأرياف. فإنا بنواحي المحرقة، حتى لقينا قطعة من اللصوص، فساقتنا بأسرنا إلى موضع منقطع عن المارة، وفيه شاب أصفر راكب فرس، ومعد مقدار خمسة فوارس، فعرضت الجماعة عليه إلى أن بلغني، فتأملته فوجدته ((مسافرا))، فأكب على رأسي وتحفى بي، ثم قال لأصحابه: ((أخطأ والله حزركم، هذه رفقة شيخي وسيدي، ووالله لا دخل إلي منها شيء)). وسار معنا حتى أخرجنا إلى الأمن، ثم قال لي: ((أنا أعلم أنك لا تأكل طعامي، ولا تقبل شيئا مني، وقد والله يا سيدي حببت إلي مجانبة ما أنا بسبيله، فنشدتك الله لما جعلتني طريقك في الرجعة!)). فتضمنت له ذلك.
ودخلنا مدينة أهناس، فشاع خبر ما أولاني في الناس. وكان المتقلد لها رجلا من أصحاب أحمد بن طولون -يعرف بفهم- متقدما عنده أثيرا لديه فبعث إلي، وعرف مذهبي، فقال: ((قد أحفيت المسألة عن هذا الغلام، فرأيته لا يرى القتل، ولا هتك الحريم، وإنما يتعلق بأطراف الأموال ولا يبلغ #33# الاجتياح. وأنا أسألك أن تسفر بيني وبينه، فإن أؤمنه وأكرمه وأقلده سيارة البلد)). فرجعت في حاجة فهم إليه، فألقيته والجماعة بين يديه، فأديت إليه رسالته، وأعلمته أن هذا الرجل صحيح الضمان، فقال: ((يا سيدي! ما بيني وبينه في الأعمال إلا أنس الناس به)). ثم قال لأصحابه: ((من يساعدني على الخروج إلى الله عز وجل؟))، فقالوا بأجمعهم: ((نحن!)). فسار معي حتى إذا قربنا من أهناس، وضع حبلا في عنقه وقال: ((ادخل بي في زي الأسرى وهذه الجماعة))، فدخلوا، والناس يبكون لما اتفق لهم من حسن الهداية، ورأى الناس عجبا من سوق شيخ مثلي ضعيف رجلا قد أعجز خيل السلطان. فطلب فهم أن يقبل له خلعة، فامتنع من ذلك، وأضاف أصحابه إلى فهم، وأقام إلى وقت الحج فخرج إلى مكة راجلا، ثم فقدته)).
পৃষ্ঠা ৩১