دفنت أمي فقتلت قاتلها ثم هربت وعبرت البحر مع المهاجرين فارا من موت محتمل، ثم نجوت من موت آخر عبر رحلتي صوب النجاة، ثم همت في البحر ووصلت إلى هذه الجزيرة، ولم أفهم بعد كيف يمكن لإنسان ما أن يكون ثم يفنى ويزول، وكيف يمكن لإنسان ما أن ينهي حياة أحدهم؟ قد يكون الأمر غريبا بعض الشيء ولكن لا بأس، فالمهم أن أعيش، وليس مهما أن أجد لنفسي تفسيرا ما لأي شيء في حياتي.
قبل الآن عشت وحدي مع أمي؛ فقد مات أبي مذ كنت صغيرا، أما زوجتي فقد هاجرت إلى اليونان وتركتني وحدي مع شقاء أمي، ولكن بعد أن ماتت أو فلأقل: قتلت، وبعد أن قتلت من قتلها، حينها لم أجد أمامي ولو خيطا وحيدا يربطني بالبقاء، وقد كنت طموحا بما فيه الكفاية؛ إذ قررت الرحيل إلى اليونان لألتقي بزوجتي مصادفة وأكون معها، وحينها لا يكفي أن أكون موجودا وحسب، بل علي أن أتناسل في وجودي، وأكبر، وستكون لي عائلة كبيرة ممتدة. «أجل، كنت بهذا القدر من السذاجة».
لم أكن أعرف أنني سأجد نفسي على هذه الجزيرة المجهولة.
إذن فقد نجوت مجددا من الموت، أعرف أني الآن وحيد، وأعرف أن هذا ما لم أرده يوما، ولكن في لحظة الخطر يبقى الهدف الوحيد المنشود في الحياة هو أن أبقى على قيد الحياة، وبالفعل تبدو هذه الجزيرة كافية لأعيش؛ فكل سبل الحياة تتوفر هنا؛ ثمة جذوع مقطوعة من الشجر، وبجانبها سبيكة معدنية حادة قادرة على قطع أي من الجذوع، جذوع مستعدة في أية لحظة لتكون مركبي في أي رحيل قادم .. اقتربت من الجذوع وإذ بي أرى عدة حبات من الفواكه الاستوائية تبشرني بأنني لن أموت جوعا، فثمة الكثير منها. بل أكثر من ذلك، إنها تعترف صراحة أن ثمة بشرا يعيشون هنا يقطعون الجذوع ويقطفون الفواكه.
بعد لحظات من وصولي سمعت صوت عزف يشبه صوت الناي، يدندن على لحن أغنية «أعطني الناي وغن.» وهنا قطع الشك باليقين، لقد سبقني بشر إلى هنا بالفعل .. ابتهجت وأخذت أنادي مغنيا: «فالغنا سر الوجود.» توقف العزف، وناديت بصوت أعلى: «الوجود .. الوجود.»
مرت دقيقة من صمت متوجس، قبل أن تطل علي امرأة ثلاثينية جميلة جدا لولا أن شعرها مقطوع بصورة مريبة، كأنها قطعته بنفس السبيكة التي قطعت بها الجذوع، ترتدي فستانا مزركشا، ولا ترتدي حذاء. تحمل بيدها قطعة من قصب السكر، نحتتها وصنعت منها نايا، أو ما يشبه الناي.
يا إلهي كم تبدو الحياة سهلة! أيعقل أن تكون النجاة بهذه السهولة؟ بالفعل كانت ستكون بهذه السهولة لولا أنها صاحت في وجهي: «ارحل عن جزيرتي.»
2
أيعود ناج من البحر مصادفة إلى البحر الذي شرع بقتله؟ ولست أتساءل عن أي ناج، أتحدث عني أنا الذي أريد النجاة بكل السبل! أيعقل هذا؟ ببساطة لا، لم أعد إلى البحر ولم أعرض نفسي لأية مخاطرة، ولكني وفي الوقت نفسه قد لبيت رغبتها فابتعدت ولم أرحل. شعرت أنني بهذا إنما أنقذ نفسي منها، هي التي قالت إن تلك جزيرتها ولا تريد لأحد أن يشاركها فيها. ولكن أيعقل لامرأة مجنونة حافية ذات شعر مقطوع تعيش وحدها في جزيرة رحبة أن تقتل؟ لا يهمني أن أعرف فلست أريد أن أعرف شيئا.
إني، والحق أقول، أرفض أن أنزلق إلى أية فكرة أو أسئلة قد تقودني يوما ما إلى البحث في معنى الحياة، فمن معرفتي بنفسي قد بدا واضحا أنني أريد أن أحيا وحسب .. علي إذن أن أواصل السير، كما أفعل الآن، على غير هدى.
অজানা পৃষ্ঠা