كان يجب أن أشغل نفسي بأي شيء يخفي ذاك التوتر الغريب الذي سببه لي صمتها، وكوني ممثلا فلم أجد غير التأمل في طبيعة شخصيتها، وحركاتها عساني أجد فيها ما هو مجد للنص، جذبتني العطسة مثلا، إنها تعطس دون أن تعتذر أو تضحك حتى، ولم تستخدم منديلا، هي تعطس وحسب، يحمر أنفها البارز الكبير، ثم تومض عيناها فتعطي ردة فعل لا إرادية بأن ترمش، ثم تغلق جفنيها وتشدها فتبدو أهدابها وكأنها تتكاتف بشكل عنيف. وببساطة تخرج من الجارور منديلا، إنها تمتلك منديلا إذن، وتمسح به سائلا خفيفا انساب من عينيها. لست أقول «دموع»، الأمر له علاقة بالعطسة وإغلاق العين، ولا شيء آخر .. بالطبع لا تبكي بل تبتسم، مجددا، عادت تبتسم.
ما هي إلا دقائق حتى قررت أن تحكي، بدا ذلك واضحا عندما عدلت من جلستها، مسكت قلما وراحت تطرق به ملفا ما على المكتب، ثم نظرت صوبي من أعلى عيوناتها وشقت شفتيها قليلا، هذه جميعها مؤشرات جيدة أنها ستحكي، لقد عرفت ذلك وما لم أعرفه أنها لن تنطق إلا بكلمة ونصف: «لا بأس».
فرددت بسرعة: «ما الذي يتوجب علي فهمه من هذه «اللابأس»؟»
ولم تجب بل ابتسمت، وخرجت من المكتب متجاهلة وجودي؛ ما جعلني أشعر بإهانة بالغة دفعتني للحاق بها كي أصرخ في وجهها وأجد لنفسي طرقا ما لإهانتها، وما إن خرجت حتى اصطدمت بالمشرفة على الحالات المرضية جميعها، ترتدي بطاقة مكتوبا عليها اسمها «عنايات». ومن المثير للغرابة والدهشة أن تعلقها على صدرها، أيعقل أن هذه المصحة تحاول الاقتصاد بالحديث لدرجة أنهم لا يريدونك أن تسألهم حتى عن اسمهم؟ وقبل أن أسألها عن أي شيء ابتسمت لي، وقد بادلتها البسمة ببلاهة، وقبل أن أشرح لها الأمر قاطعتني قائلة: «لا بأس». كدت أفقد صوابي، وأصرخ في وجهها، وأستخرج كل الكلمات العاهرة من معجمي اللغوي، إلا أنها ضحكت. «إنه تطور جيد، من البسمة إلى الضحك.» ثم أردفت: «تفضل معي». وهنا كان لا بد من أن أهدأ تماما.
ساقتني صوب غرفة لم تسجل عليها أية أرقام أو أسماء، سحبت المفتاح من حقيبتها وفتحت الباب، طلبت مني الدخول وغادرت تاركة الباب مفتوحا. وهناك التقيت بحلمي، وقد كان يندفع إلى الأمام آخذا وضعية الهجوم، وعندما شاهدني انسحب من وضعيته وجلس على الكرسي.
ربما تحصنت جيدا كي لا أجن، ولكني بالتأكيد لم أتهيأ جيدا للمقابلة؛ فها أنا ذا أجلس قبالة حلمي دون أن أجد أية عبارة أبدأ بها الحديث، ليس ثمة من عبارات عفوية عادية تدفعنا للثرثرة في أي شيء؛ فليس المهم ما يقوله حلمي، بل في كيف يقول، وماذا يفعل؟ أردت أن أرى كيف يتعامل مع جسده، كيف يعبر به عن حالته، ولكن عبثا، لم يفعل شيئا وقد بدا وجهه فارغا تماما من أية ملامح.
ما هي إلا دقائق حتى دخلت عنايات وبيدها كأسا ماء وحبة دواء. وما لبثت أن خطت خطوتها الأولى داخل الغرفة حتى اندفع بوضعية مهاجم تشبه تلك التي شاهدته فيها لحظة دخولي، جسده منحن إلى الأمام، فيما ينزل رأسه قليلا ويرفع بؤبؤ عينيه إلى الأعلى حيث ينصب نظره على وجهها تماما، وراح يزمجر: «أين رامز؟»
قدمت لي كأس الماء، وقدمت الآخر لحلمي مع حبة دواء. وهمت بالمغادرة دون أن تعير ما قاله حلمي أدنى اهتمام، فأسرع صوب الباب وكأس الماء في يده، التفتت إليه فيما راح يرفع الكأس عاليا، ويوشك أن يصفعه برأسها، أما عنايات فلم تحرك ساكنا، بل نظرت صوبي وقالت: «إنها إحدى أعراض التهيؤات التي حدثتك عنها.»
صرخ في وجهها حلمي: «قلت لك ألف مرة: إني لا أتهيأ، بل أحلم .. كيف اختفى رامز؟ اعترفي.»
ولم تنبس ببنت شفة، بل غادرته ببطء فيما تشنجت يداه حول كأس الماء لهنيهة قبل أن يرخي يده ويعود إلى الكرسي، ثم التفت إلي قائلا: «لم تعطك واحدة، أليس كذلك؟ حتى لو أعطتك فلا تشربها. يظنون أنني مجنون .. حماقة!»
অজানা পৃষ্ঠা