الشاعر الإنجليزي في قصيدته المعنونة «مرثية في مقبرة»: «ألا كم من ميت مدفون في هذه الترب، كان يكون شاعرا مفلقا، أو خطيبا مصقعا، أو بطلا مروعا، أو فاتحا مدوخا، لو وجدت عبقريته الطبيعية من الفرص توفيقا!»
ذلك الظرف الأمثل الذي أوجدته الأقدار الرءوفة بمصر لعبقرية محمد علي؛ إنما كان إقدام الباب العالي على إخراج الحملة الفرنساوية من مصر، تلك الحملة التي أتى بها إلى هذه الديار الجنرال بوناپرت، فمكثت فيها ثلاث سنوات، كانت كأنها الضيب المستمر، لم ينقطع فيه وميض البروق وانقضاض الصواعق، وظنها من عاصرها من الشرقيين أكبر المصائب وأفدح الكوارث، ولكنها كانت في الحقيقة كالصيب الذي يثور في جو قاتم مدلهم، فيزيل ما به من انبعاثات فاسدة وينظفه، ويجعله صالحا لسطوع الشمس البهية فيه، كما أنه يجلي أو يقتل ما على سطح الأرض من ميكروبات، ويهيئها للزرع الجيد، فما وردت أوامر الأستانة إلى شوربجي قوله تلزمه بتجنيد ثلثمائة رجل من دائرة حكمه، إلا وبذل إسماعيل أغا جهده لامتثالها. وما لبث أن تمكن من نفاذها؛ لأن الدعوة إلى الحرب والجلاد ما فتئت على ممر القرون تعمل عمل السحر في نفس الأمة التركية، فجند الفرقة المطلوبة، ووضعها تحت قيادة ابنه، ثم استدعى (محمد علي) إليه، وكلفه الانضمام إلى ولده، والسير معه لإخراج «الكفار» من مصر.
فقارن محمد علي - في الحال - بين هناء المعيشة الذي يطلب إليه تركه، والمشقات والأخطار التي يضطره القبول أن يتعرض لها، فعز عليه هناؤه فرفض بتاتا، ولم يجد في تحويله عن عزمه صخبا ولا تهديدا، وخرج من حضرة ولي نعمته، وهو مصمم التصميم كله على نبذ الطاعة وعدم مفارقة وطنه!
هكذا أبى صلاح الدين يوسف بن أيوب الذهاب إلى مصر مع حملة عمه أسد الدين شيركوه الثالثة، ولم يرض بالذهاب في نهاية الأمر إلا مكرها، فأوصلته الطريق التي ولجها - رغم أنفه - إلى أعلى ذروات المعالي البشرية! فليتباه بعد هذا متباه بحسن رأيه وصدق إحساسه!
محمد علي بالعمامة.
وبينما محمد علي عائد إلى محل تجارته، قابل في طريقه الشيخ الوقور الذي كان قد فسر له منامه، فاقترب الشيخ منه، وأخذ من يده شبكه، ودخن به قليلا - ومحمد علي لا يرى في ذلك حرجا؛ لما بينهما من الألفة - ثم تفرس في وجهه وقال له: «ما بالك ؟ فكأني أراك مضطربا!»
أجاب محمد علي: «إنهم يريدون إرسالي إلى مصر لمقاتلة الكفار!» فقال الشيخ: «وبما أجبت؟» قال محمد: «بالرفض طبعا؛ فالوطن خير وأبقى، والمرء يجد فيه إخوانا ورفاقا يصافحهم ويصافحونه، والحياة تنقضي فيه هنيئة.»
فقال الشيخ، وقد زاد على وجهه الوقار، واكتست ملامحه كلها جدا: «أنت غلطان يا صديقي، أجل إن الطريق لطويلة، ولكنها توصل إلى العلا، فأنت غلطان، غلطان جدا!»
فرنت كلماته هذه في آذان محمد علي كأنها صوت المستقبل، وفتحت أمام عينيه آفاقا زاهرة، وقد قال هو نفسه فيما بعد: «إن كلام ذلك الشيخ الذي كنت أثق به وثوقا كبيرا أقنعني، فعدت إلى الشوربجي، ووضعت نفسي تحت تصرفه!» •••
وكأني بالحوادث - مذ خطا محمد علي خطواته الأولى في سبيله الجديد - أرادت أن تحقق شطرا من قول ذلك الشيخ، وتبرر نصيحته، فإن ابن الشوربجي - وكانت متاعب السفر البحري ومشاقه قد أنهكت قواه - ما وضع رجله على رمال الشواطئ المصرية إلا واقتنع بأن لا شيء في ميوله ومزاجه يتفق مع بقائه تحت السلاح، فتخلى عن فرقته لمحمد علي، وعاد إلى بلده.
অজানা পৃষ্ঠা