ولكنه بالرغم من ذلك جميعه، ما فتئ ينظر الفراغ ملازما لخزائنه، فرأى أنه لا بد له من فرض ضريبة عامة جديدة، وتحاشيا لتنفير الناس منه جمع العلماء وكبار الوجهاء، وقال لهم: «إن العساكر باق لها ثلاثة آلاف كيس، ولا أعرف لتحصيلها طريقة، فانظروا رأيكم في ذلك، أما أنا فإني عازم - بعد دفع المتأخر - على تسريح هؤلاء العساكر وتسفيرهم إلى بلادهم؛ تخفيفا للأعباء العمومية، وأن لا أبقي منهم إلا من كان أمر الحكم في احتياج إليه وأرباب المناصب!»
فكثر التروي في الأمر، وتعددت الآراء، فاقترح محمد علي أن يصرح له بقبض ثلث إيراد الملاك والملتزمين، ولما كان القوم المجتمعون كلهم ملاكا أو ملتزمين ضجوا وقالوا: «قد يصير هذا عادة، وتضيق في وجوه الناس أبواب الارتزاق!»
فقال محمد علي: «نكتب فرمانا»، ونلتزم بعدم عود ذلك البتة، ونرقم فيه «لعن الله من يفعلها مرة أخرى!» فرضي الناس وانفرجت بذلك الأزمة المالية، نوعا ما.
ولكن بقرات الإنفاق العجاف ما فتئت تأكل بقرات الإيراد السمان، وتتابع ما ذكرنا من الحوادث ما فتئ يثبت قدمي محمد علي في المنصب الذي أقام على سدته، ويقلل إذا من احتياجه إلى الملاطفة والعرف.
فشرع - مع توالي الأيام - يزداد جسارة في طرق أبواب لجمع المال الذي يعوزه، لم يكن ليفتق إلى وجودها إلا ذهن كذهنه، فاحتكر أولا التبغ والتنباك، ثم أقدم على تنقيص كمية الذهب من العملة مع إبقائها على قيمتها في التداول بين الناس، ثم أرهق مرة أخرى عمال الحسبة إرهاقا جعل الكثيرين منهم يهجرون البلاد، ثم زاد الضرائب عامة بمقدار الثلث، ولما لم يكف هذا جميعه - لأن ضرورة التغلب على الصعاب الأربعة التي قلنا عنها كانت تستلزم إنفاق الأموال بكف سخية للغاية - تجاسر محمد علي واستولى - بتصريح من العلماء ورجال الإفتاء - على نصف إيرادات أوقاف الجوامع والمساجد، ثم ما لبث أن استولى عليها كلها.
ولم يقف عند هذا الحد، بل أمر بفحص جميع الرزق والأوقاف، وأنكر على معظمها الصحة، وأمر كشاف الأقاليم بالاستيلاء - باسم الحكومة - على الأطيان المذكورة في تلك الحجج، ولم يبق من الموقوف على أصله إلا ما كان عقارا مبنيا أو بستانا.
فاضطرب المستحقون، وازدحموا في الأزهر، وأقسم العلماء بزعامة السيد عمر مكرم بالموت في سبيل الدفاع عن حقوق الشعب وعن أملاكهم.
فلما نمى خبر اجتماعهم إلى محمد علي أرسل إليهم يستدعيهم للمداولة معه، فأبوا إلا إذا ألغى الضرائب التي أرهق بها العباد، فإن لم يفعل فإنهم يبطلون التدريس ويعطلون إقامة شعائر الدين ويكون هو المسئول.
فقال لهم المندوب: «اتقوا غضب الباشا، فإنه رجل شديد الانفعال، وتعالوا إليه للاتفاق.»
فأصروا على عنادهم، وسلموا إلى المندوب شكواهم مكتوبة.
অজানা পৃষ্ঠা