غير أن المماليك ما لبثوا أن رأوا محمد علي منهمكا كل الانهماك في إعداد مهمات حملته، برا وبحرا، لقتال الوهابيين، ورأوه ينفر منه قلوب الأهلين بالضرائب والمغارم التي ألزمته شئون تلك الحملة بفرضها عليهم، إلا وأخذ البعيدون منهم عن العاصمة يقتربون إليها، والموجودون فيها يخامرون في السر، وكان محمد علي يوما في السويس، يلاحظ بنفسه سير الأعمال هناك، فورد إليه نبأ يفيده بأن وراء الأكمة مؤامرة غرضها مهاجمته حين عودته إلى مصر، والاستيلاء على شخصه في الطريق، فقام من ساعته، وركب هجينا من أسرع الهجن، وقطع المسافة ما بين السويس ومصر في ثماني عشرة ساعة، بحيث لم يستطع أحد من رجال حرسه مواصلة السير معه، إلا سائس تعلق بلجام هجينه، وما فتئ يجري حتى دخل القاهرة، ووقع ميتا عند باب سراي مولاه.
فألقى ذلك الرجوع السريع الرعب في قلوب المتآمرين وثبط عزائمهم، على أن محمد علي لم يبد إشارة تدل على أنه مطلع على سر ما دبر له، وبقي وجهه باشا، وتصادف يوما أن عيارا ناريا وجه إليه وهو يجتاز أحد شوارع المدينة، فمرت الرصاصة بملابسه، وقتلت ضابطا بجانبه، فأوصى من معه بالسكوت وعدم إفشاء الحادثة، ولكنه أقبل يتخذ تدبيراته سرا، ويحشد جندا عظيما حول شبرا.
فلم يرض المماليك ذلك، وما كان من جاهين بك إلا أنه أتلف يوما جميع أثاث بيته الذي لم يمكنه نقله معه، ثم غادر مقره في الجيزة، وانضم إلى رفاقه القادمين من الصعيد، فلم يعد مفر من الحرب.
فدارت، وكانت سجالا، فإن المماليك هزموا الألبانيين والأتراك - أولا - في واقعتين، ولكن محمد علي سار إلى الأمراء بنفسه، وأوقع بهم عند جسر اللاهون، فضربهم ضربة أليمة، ظنها القاضية، وأرسل بها بلاغا إلى مصر كان الأول من نوعه، وتاريخه 14 أغسطس سنة 1810 الموافق 25 رجب سنة 1225، ثم عاد إلى مصر، ليتمم تجهيزات الحملة على الوهابيين، وإذا بباش أغاي السراي السلطانية قد حضر إليه بسيف وخنجر من الأستانة، وبرتبة الباشوية وطوخين إلى طوسن ابنه المعقود له لواء تلك الحملة، وبتعليمات بشأنها للباشا وولده، فقرئت المرسومات السلطانية علنا، وصدرت الأوامر بجمع كل المؤن اللازمة، وإرسالها إلى السويس، وأمرت العساكر المؤلفة منهم الحملة بالاحتشاد في قبة العزب.
غير أن محمد علي - بالرغم من أنه قال في بلاغه المرسل إلى القاهرة إن دولة المماليك قد زالت تماما - لم يكن مطمئنا البتة من جهتهم، لما كان في الماضي من عبر بليغة له، فهل يوجه الآن جميع قواه أو معظمها إلى قتال الوهابيين، ويبقي القطر بلا حماة، وسيف الأمراء مسلول فوق رأسه؟ إن هذا لم يكن ممكنا، فأمر - إذن - رؤساء جنده المتعقبين المماليك بعد هزيمتهم عند جسر اللاهون بمطاردة الفارين باستمرار حتى يجلوهم عن القطر المصري، فصدع قواده بأوامره، وما زالوا بمن لم يشأ المصالحة من الأمراء حتى أجبروهم على اجتياز الشلالات الأولى ودخول بلاد النوبة، وأما من شاء المصالحة منهم، فإن محمد علي فتح له ذراعيه، وأغدق عليه شتى النعم، فعاد الكثيرون من الأمراء إلى القاهرة جماعات جماعات، وعلى رأسهم جاهين بك عينه، وأقاموا في المنازل الفخمة التي خصصها محمد علي لهم، يلهون وينعمون، وأقبل الأمير يتمم ما نقص من لوازم حملته.
فلما كملت معداتها عين يوم الجمعة - أول مارس سنة 1811 - لسفرها ، وأعلن الباشا عزمه على إقامة مهرجان في القلعة للاحتفال بتوديعها، وإلباس ابنه طوسن باشا رسميا فروة الإمارة عليها، فلما كان مساء آخر يوم من شهر فبراير، بعث الباشا دعوة لحضور ذلك المهرجان إلى جميع أرباب الوظائف المدنية والعسكرية في مصر، وطلب إلى أمراء المماليك القدوم إليه بملابس التشريفة الكبرى.
فلما كان صباح يوم الجمعة المضروب موعدا، لم تكد الشمس تعلو الأفق، إلا واحتشدت الجماهير العديدة في الطريق المؤدي إلى القلعة، للتفرج على مواكب العسكر العثماني والألباني السائرة إلى ذلك الحصن المنيع براياتها وطبولها، وبالأخص على موكب الأمراء المماليك الفخم الذي لم يكن له مثيل في الوجود، في بهجة ملابسه، وجمال هندامه، وجلال خيوله، وسطوع أسلحته المفضضة والمذهبة، بل الفضية والذهبية، وكان عدد من لبى الدعوة من الأمراء أربعمائة وسبعين، فلما اجتاز آخر أمير منهم باب العزب - وهو باب القلعة من جهة الغرب، ويفتح الآن على ميدان صلاح الدين، الذي كان يقال له في ذلك العهد ميدان الرميلة - لما اجتاز آخر أمير منهم باب العزب انغلق مصراعاه وراءه، وأقامت أقوام المتفرجين تنظر فتحه لخروج الداخلين منه.
قصر العيني.
وكان الباشا قد قضى ليلته في سراي القلعة، وقام مبكرا كعادته، فاستقبل وفود القادمين بكل بشاشة وحفاوة، وبالغ على الأخص في إكرام الأمراء المماليك، فإنه قدم إليهم القهوة، وما فتئ يحادث أكابرهم، حتى أتاه من أخبره بأن المدعوين استقروا في أماكنهم وأن جميع فيالق العسكر اصطفت في مواضعها فنهض، وقام لنهوضه محادثوه، وامتطى أكابر المماليك جيادهم، ووقفوا بها على رأس فيلقهم الباسل.
فلما تمت الحفلة، وقلد الأمير طوسن اللواء أذن بالانصراف، فتقدم الانكشاريون المماليك مباشرة، وسار الألبانيون خلفهم، وتلا الألبانيون فيلق مشاة يقوده الكتخدا، ومشى الجميع نحو باب العزب.
অজানা পৃষ্ঠা