غير أن مصادرة خورشد نساء المماليك في القاهرة أغضبت الألفي وجعلته - بالرغم من أن خورشد قلده ولاية جرجا - يعلن عداءه للوالي وينضم في قتاله إلى باقي المماليك إخوانه، فأرسل إلى خورشد، في هذا المعنى، رسالة ضمنها من المطاعن المرة عليه ما أطار عقل الرجل غضبا، وحمله على الأمر بقطع رأس الرومي المسكين الذي حمل تلك الرسالة إليه.
وعلى ذلك زحف المماليك من كل جهة، إلى العاصمة، ولكن بدون تفاهم بينهم، فخرج محمد علي إلى مقابلتهم، وما فتئ يناوشهم مناوشات عنيفة يحاول بها إلقاء الاضطراب في صفوفهم، حتى وقع مع ثمانمائة من أتباعه في كمين في جهة البساتين، لم ينج منه إلا بأعجوبة. ولكنه ثأر لنفسه بعد قليل بأن أبلغ عثمان بك حسن والألفي أنه مل الحال، وأنه إذا أبى خورشد مصالحة المماليك، فإنه هو - محمد علي - سيتقرب منهم، فصدقاه وأغفلا الاحتراس، فسار محمد علي بألف رجل تحت جنح الدجى إلى طرة، وهاجم أعداءه وهم نائمون، وأثخن فيهم، ولولا أن الألبانيين خالفوا أوامره وأطلقوا الرصاص قبل إتمام الإحاطة بالقرية لما نجا أحد من المماليك المبيتين.
فحملت هذه الواقعة المماليك على الابتعاد عن القاهرة - كما قلنا - بعد أن بالغوا في تضييق الخناق عليها، وعاد الفلاحون إلى جلب الأقوات لها؛ فزالت شبه المجاعة التي كانت أصابتها، ونسب أهلها الفضل في ذلك إلى محمد علي بحق.
وكان قد ورد على خورشد باشا، قبل ذلك بيومين، أمر من الأستانة يقضي بإرسال خمسمائة رجل إلى ينبع لدفع الوهابيين عنها، وورد على زعماء الألبانيين فرمان استصدره خورشد الراغب في التخلص منهم، يأذن لهم بالعودة بجنودهم إلى بلادهم، فرضي بالأمر بعضهم وأزمعوا الرحيل، ولكن الجند منعهم إلا إذا دفعوا لهم متأخراتهم، فكادت تقع فتنة، لولا أن خورشد - ليتخلص من أولئك الزعماء وعسكرهم - دفع هو نفسه المتأخرات، على أن الزعماء عدلوا حينذاك عن الرحيل. ولم يجن خورشد من تسرعه سوى خسارة المال الذي دفعه.
ووقع بعد انسحاب المماليك حادث أظهر مقدار ما بلغ إليه نفوذ محمد علي في نفوس جنوده بعد انتصاراته المتتابعة على المماليك؛ ذلك أن جنديين من الأرناؤوط تشاجرا مع فرنساوي يقال له روجيه، كان رئيس الصيادلة في الحملة الفرنساوية، وتخلف عنها في مصر، وأرادا قتله، فعاجل الفرنساوي أحدهما بضربة أودت به، وأطلق خادم من خدمه الرصاص على الثاني فجرحه جرحا خطيرا، فاجتمع العساكر وأرادوا نهب الحارة، وكثر الهرج والمرج، ولكن الخبر بلغ إلى محمد علي، فحضر إلى محل الواقعة ماشيا على قدميه، وليس معه إلا نفر قليل، وأمر بفتح باب الحارة، لئلا يكسره الجند، فيحدث ذلك ما لا تحمد عقباه، ثم وضع خفراء عليه، ومنع العسكر الهائج من ارتكاب أية معصية كانت، وما زال بهم من جهة، وبالقنصل الفرنساوي من جهة أخرى؛ حتى حمل القنصل على دفع أربعة آلاف قرش لأخ المقتول، على سبيل الدية وحمل أخا المقتول على قبولها، والجند على الاكتفاء بها ثأرا.
ثم وقع في خلده أن يرى مقدار ما بلغت إليه منزلته عند الشعب، فاصطحب ذات صباح أحمد بك، الذي كان يقاسمه الإمرة على الأرناؤوط، وذهبا معا إلى الوالي، وأظهرا له الرغبة في الرجوع إلى بلادهما، فطار عقل خورشد فرحا واعتبر التخلص من محمد علي غنيمة كبرى. ولما كان قد عينه منذ بضعة أيام حاكما على جرجا أقاله من هذه الوظيفة، وعين سلحداره مكانه فيها. وذاع في الشعب الخبر، وتأكيدا لحقيقته، شرع محمد علي في بيع أملاكه ودوابه.
فاضطربت حينذاك المدينة عن بكرة أبيها، وأقفلت الأسواق والدكاكين، وازدحم الناس في الشوارع والدروب، وبدت على القوم أمارات الأسف الشديد على رحيل الرجل الذي كانوا يعدونه الحامي الوحيد لبيضة أمنهم من تعدي الأجناد عليها، وكاد يخامرهم يأس على أعمارهم، وكأني بالعسكر أرادوا أن يثبتوا لهم حقيقة تقديرهم، فما علموا أن محمد علي راحل إلا وانتشروا في الأحياء يفسدون ويخطفون، وكاد الدم يهدر.
ولكن محمد علي - وقد اكتفى بما رأى من منزلته في القلوب - نزل وطاف المدينة على قدميه، مهدئا المخاوف، زاجرا الجند، ومعاقبا بالقتل كل من تجاوز منهم حد المحتمل، وإرهابا للأشرار أمثال المعاقبين، أبقى الرؤوس المقطوعة عدة أيام معلقة على الأبواب. وانتهى الأمر بأن سافر مائتا ألباني ومعهم أحمد بك. وأما محمد علي فإنه أعلن بقاءه إرضاء للرأي العام، فجعل لنفسه بذلك منة في رقبة الشعب.
فلما تأكد خورشد من عدوله عن السفر، رأى أن يستخدم ميزاته العسكرية في الحملة التي صمم على تسييرها ضد المماليك فيبعده بألبانييه عن العاصمة، ويغتنمها فرصة للتخلص منهم بضربة تصيبهم على أيدي جنود غيرهم أرسل يستدعيهم من سوريا وغيرها.
فقلد محمد علي قيادة ثلاثة آلاف رجل بيم مشاة وفرسان وسيره إثر سلحداره الزاحف بمقدمة الجيش وقدرها أربعة آلاف جندي.
অজানা পৃষ্ঠা