وهذا مؤرخ النظم العثمانية في مصر - وهو حسين أفندي من رجال الروزنامة، وقد كتب في أثناء الاحتلال الفرنسي لمصر - يقول عندما سئل عن انتفاع السلطان بملك مصر: إن هذه المملكة جميعها ملكة وإنه لا ينظر إلى الانتفاع منها، بل رتب مصرفها على قدر جبايتها، وقرر أن ما فاض من الجباية يبقى لينفق منه في عمارتها وما ينعم به على الناس، إنما يرجع سوء الحال إلى الركود وانعدام الحوافز، وهما مما اقتضته طبيعة الحكم العثماني، هذا إلى ما جره تراخي قبضة الحكومة السلطانية من نمو العصبيات المختلفة في مصر، وقد عاثت هذه العصبيات في البلاد فسادا، وزادت في فقر الأهلين، ونزلت بالمستويات الثقافية والفنية والمعنوية إلى أضعف ما عرفت مصر في تاريخها الطويل.
ولم تكن تلك العصبيات مما قصد السلطان سليم إلى خلقه بعد أن فتح مصر، كما يتوهم البعض عندما يزعمون أن ذلك السلطان أنشأ هيئة تسمى هيئة المماليك توازن باشا مصر العثماني من جهة، والحامية العثمانية من جهة أخرى، ولعل من يزعم ذلك اختلط عليه أمر عفو السلطان وإبقائه على بقايا مماليك السلطنة المصرية، وظن أن السلطان سليم وضع بذلك أساس هيئة المماليك.
والواقع أن النظم العثمانية لا تعرف شيئا عن هذا، إنما تعرف أن اختلال أمر الجند العثماني أتاح لكل من يملك مالا أن يجمع حوله عصابة من رجال الحرب، ولم يكونوا دائما مماليك يشتريهم بماله، بل ربما كان أكثرهم من مرتزقة بربر المغرب أو بدو الصحراء أو السودان أو اليونان أو البشناق، وما إلى ذلك، كما أن «المملوكية» لم تكن خاصة بالأمراء وعصاباتهم فهي سارية أيضا على رجال المناصب الحربية والإدارية الذين احتفظت السلطنة بحق إرسالهم من القسطنطينية نفسها، ويماثل هذا النوع من العصبيات العصبيات العربية القبلية المنبعثة في الصعيد والدلتا.
وقد توهم الأستاذ الشيخ محمد عبده في مقالة ظالمة عن محمد علي نشرها الشيخ في مجلة المنار في سنة 1902، وهي مقالة سياسية صرفة، يود كل مقدر له أن لو لم يخطها؛ توهم الأستاذ أن العصبيات السائدة في مصر عند الاحتلال الفرنسي تقابل بالضبط أمراء الإقطاعات الأوربية، وأن الأمراء المصريين اضطروا إلى أن يتخذوا من الأهلين أنصارا، وأن ذلك «أحدث بطبعه في النفوس شمما وفي العزائم قوة، وأكسب القوى البدنية والمعنوية حياة حقيقية مهما احتقرت نوعها، فكانت العناصر جميعها في استعداد لأن يتكون منها جسم حي واحد يحفظ كونه، ويعرف العالم بمكانته لولا محمد علي!»
هذا كله لا أصل له، لا في أوربا ولا في مصر، وقد غفل الأستاذ عن حقيقة مهمة: أن فعال تلك العصبات وفسادها في الأرض وقلة حيلتها في الحرب الجدية هي التي أغرت الفرنسيين بغزو مصر في 1798، وأن الذي أخرج الفرنسيين من مصر لم تكن العصابات بل الأسطول الإنجليزي والجيش الإنجليزي، وأن الذي خلق من مصر الجسم الحي هو محمد علي، وأن مصر محمد علي - لا مصر أبي الذهب ومراد وإبراهيم والشيخ همام والشيخ سويلم بن حبيب - هي التي بطل التفكير الأوروبي في امتلاكها بل وفي استغلالها في ظلال السلم! •••
اصطدم أمراء مصر في صيف 1798 بغربيين غير الغربيين الذين عرفهم السلاطين أيام الحروب الصليبية؛ ففي القرون الخمسة التالية لتلك الحروب تحول فارس العصور الوسطى - كما عرفه سان لويس وبيبرس - إلى الرجل الغربي الذي عرفه مراد والألفي والبرديسي في 1798، خمسة قرون زال فيها النظام الإقطاعي وما ترتب عليه من طرق الحكم والحرب وعلاقات طبقات الأمة بعضها ببعض، خمسة قرون رأت انفصام وحدة الغرب الدينية والسياسية وظهور مناهج العلم الحديثة وطرق التنظيم السياسي والاقتصادي الجديدة، ولم يبلغ أهل مصر عن انقلابات الغرب إلا أضعف الأنباء، ولكن سرعان ما رأى الأمراء أن لا أساس لما زعموه: من أنه إذا جاءت جميع الإفرنج لا يقفون في مقابلتهم وأنهم يدوسونهم بخيولهم، وتمكن الفرنسيون من احتلال مصر.
وقد حكم الفرنسيون مصر مدة تزيد قليلا على ثلاثة أعوام، وقد تخللت هذه المدة محاولة من جانبهم لفتح الولايات السورية، وضيق عليهم أثناءها حصار بحري إنجليزي، وقام المصريون ضدهم كلما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، وأباد منهم الطاعون وغيره من الأمراض الوبائية عددا لا يستهان به، وظل مراد ومماليكه ومن انضم إليه من عرب مصر والجزيرة شهورا عديدة ينازعونهم ملك الصعيد شبرا شبرا، وأخدت تبطل التجارة البحرية ويقل ورود قوافل دارفور وسنار وفزان وبرقة وغيرهما من بلاد الغرب.
ولم تطب للفرنسيين الإقامة بمصر؛ فقد وجدوها دون ما توقعوا وشق عليهم البعد عن وطنهم وبخاصة بعدما بلغهم من تألب الدول الأوروبية - من جديد - ضد فرنسا وإرغامها على التخلي عن فتوحها في إيطاليا وغيرها، وحتى مصر نفسها عرفوا معرفة أكيدة أن السلطان قد اعتزم ألا يتخلى عنها، وأرسل نحوها من ناحيتي البحر والشام جموعا من جنده قد لا تكون قيمتها الحربية مما يأبه له الغربيون، ولكنها - ولا بد - لها مع الزمن أثر.
لا بد من تذكر هذه الظروف عند الحكم على الاحتلال الفرنسي، ولا بد إذن من الفصل بين أمرين مختلفين تماما: الحكم الفرنسي كما كان، والحكم الفرنسي كما يمكن أن يكون لو خلص مما انتابه من ظروف الحرب والفتن، واتسع له الزمن ليجري على أسس الاستعمار الحديث.
ولا يمكن الشك في أن الفرنسيين لو خلص لهم ملك مصر لحكموها كما ينتظر من حكومة جمهورية قائمة على قواعد الثورة الفرنسية، أتيح لها - في عصر بدأ فيه الانقلاب الاقتصادي الكبير - أن تحكم قطرا زراعيا خصبا ذا مركز جغرافي فذ، كوادي النيل، وأمة عربية إسلامية ذات تاريخ مفعم بعبر الدهر كالأمة المصرية، لو خلص لهم حكم مصر لبذلوا جهدا كبيرا في تنمية الموارد بتنظيم الرى وضبط النيل، وقد كتب بونابرت في مذكراته فصلا رائعا عن ضبط النيل بإنشاء قناطر على فرعيه عند رأس الدلتا، ولو دامت مدتهم لعملوا كل ما يستطيعون للاستفادة من مركز مصر الجغرافي، ولوصلوا بين البحرين الأحمر والمتوسط.
অজানা পৃষ্ঠা