أما القاعدة الثانية للسياسة العربية: فباشوية مصر، ففي تلك الباشوية الأرزاق والخيرات التي رصدها السلاطين على الحرمين، ومن تلك الباشوية أيضا تجهيز التجريدات الكبيرة أو الصغيرة التي تضطر السلطنة من وقت لآخر لإرسالها للحجاز لضبط أحواله، وباشوية مصر أيضا كانت النافذة التي أطل منها الباب العالي على البحر الأحمر، وراقب منها حركات الأوروبيين أو ما هموا به من الحركات. والقاعدة الثالثة: باشوية دمشق، ومهمتها مهمة القاهرة، لحد ما؛ فهي أيضا مركز تجميع لأرزاق أهل الحرمين، وهي أيضا قاعدة تجريدات عثمانية لضبط الأمن، ولكنها ليست مركزا للعمل ذي الصبغة السياسية.
أما القاعدة الرابعة: فكانت باشوية بغداد، لا تقل شأنا عن القاهرة إن لم تفقها؛ ففي نطاقها الخليج الفارسي وطريق الفرات إلى حلب والبحر المتوسط، ومن مهماتها الأساسية مراقبة ما يجري في نجد (وما يخرج من نجد)، وفي أرضها مزارات الشيعة، وهي النافذة التي أطل منها الباب العالي على العالم الإيراني وما وراءه، وراقب منها حركات الإيرانيين والأوروبيين أو ما هموا به من الحركات.
من هذه القواعد الأربع عملت الحكومة العثمانية على ألا تكون تلك البحار العربية شريانا من شرايين الحركة التجارية، بل على أن تكون «بركا» آسنة، شأن حكومات الضعف تخشى أبدا سياسة الحركة، وكانت الدولة قد حصلت في القرن الثامن عشر على درجة من السكون أو الركود في تلك المناطق قرت بها عين السلطان، ولكن حدث ما عكر الصفو ونبه السلطان إلى تلك المناطق المتعبة، فها هم الأوروبيون قد تركت الدولة لهم تلك البحار يتاجرون فيها، وينشئون الوكالات على سواحلها ويحاربون أو يسالمون شيوخ العرب وأمراءهم، ورخصت لهم بنقل بريدهم وما خف من متاجرهم من البصرة إلى حلب والإسكندرية، ولم تطلب منهم إلا أن لا يتعدوا جدة شمالا، فهل قنعوا بذلك؟ لم يقنعوا بذلك؛ شأن الأوروبيين، لا يستريحون ولا يريحون، بل حدثت لهم محاولات ومساع لفتح طريق آخر للسويس ثم القاهرة ثم الإسكندرية، وهذا سيئ في حد ذاته، وأسوأ منه دخول هؤلاء الأوروبيين في مفاوضات ومساومات مع العصاة في القاهرة «الأمراء».
وليت المحاولات كانت من جانب دولة أوروبية واحدة أو حتى من جهة أوروبية متحدة؛ فيستطيع الباب العالي أن يعرف أين هو، ولكنه وجد منافسة أوروبية قوية حول استعمال الطريق بين الإنجليز والفرنسيين والهولنديين بل والنمسويين، كأن هؤلاء قد أدركوا - على آخر الزمان - أنهم ورثة جمهورية البندقية! وأشق من هذا أن الإنجليز أنفسهم أو الفرنسيين أنفسهم؛ انقسموا فيما بينهم واختلفت آراؤهم فيما يجب أن يكون الأمر عليه بحكم المصالح الخاصة لكل فريق، فمن الإنجليز من كره الفتح المطلق لطريق البحر الأحمر ومصر وآثروا عليه الطريق الطويل، طريق المحيط، هذا رأي «شركة الهند الشرقية» سلطانة الهند البريطانية، وصاحبة الاحتكار في التجارة الهندية، وكل ما ترجوه الشركة طريقا لبريدها وموظفيها أقصر وأسلم من طريق الخليج الفارسي والفرات وبخاصة بعد ازدياد الاضطراب في باشوية بغداد وفي بحارها، وعملت على فتح البحر الأحمر ومصر لذلك الغرض المحدود، ولم يرض هذا جماعة الناقمين على الاحتكارات الهندية من الإنجليز، فعملوا بالاتفاق مع الأمراء على فتح الطريق المصري كاملا لكل شيء.
وتود الحكومة البريطانية - فهي أيضا حكومة محافظة وسكون يسرها سكون السلطان - أن لو بقى كل شيء على حاله، ولكنها لا تستطيع أن تترك مشروعات رعاياها دون رعاية، إن فعلت ذلك تغلب عليهم منافسوهم من الفرنسيين، هذا والشركة نفسها يرضيها العمل على نيل الترخيص بنقل البريد في الأرض المصرية، فلم يسع الحكومة إلا التدخل رسميا؛ لتأييد ذلك على الأقل، ودارت الحوادث في الأعوام الأخيرة من القرن الثامن عشر على هذا النحو من الاضطراب والتصديع لرجال الدولة، تسوءهم تلك البوادر، وقد أثبتت التجربة أن لها دائما ما بعدها، وحرص السلطان على أن يحذر الشريف في مكة والأمراء في القاهرة من عواقب التورط مع الأوروبيين، وقال لهم بصريح العبارة: تذكروا الهند وما جرى فيها؛ نزلها الأوروبيون، تجارا ثم انقلبوا لها سادة، وأنذرهم بنتائج اقتراب غير المسلمين من ساحل الحجاز.
ثم نزل بونابرت في مصر واحتلها، وتحالفت الحكومة العثمانية مع الروسيا وإنجلترة لإجلاء بونابرت ورجاله عن مصر، وتقدمت السفن الحربية البريطانية نحو السويس، وقدم قسم من الجيش البريطاني الهندي للبحر الأحمر للاشتراك في الحرب ضد الفرنسيين في مصر، ونزلت حامية إنجليزية هندية في جزيرة بريم في مضيق باب المندب للسيطرة على مدخل البحر الأحمر، أدى هؤلاء الإنجليز والهنود جميعا واجبهم ورجعوا لقواعدهم، ولكن هل زالت بذلك ذكرى ما حدث؟ ذكرى ما يستطيع هذا الطريق أن يؤديه، ذكرى وجوب المراقبة والاستعداد.
وعلاج الباب العالي لذلك الاضطراب في البحار العربية الصبر والمطاولة وفرصة الانقسام فيما بين الأوروبيين، ولكن جد في البر اضطراب آخر من نوع آخر، تطلب أكثر من الصبر وطول البال، ذلكم كان الانفجار الوهابي؛ لم تستطع حكومة السلطنة أن تغمض عينها عن تلك الحركة وآثارها كما كانت تفعل بإزاء حركات القبائل وما جرى على نمطها، فالدعوة الوهابية والإغارات الوهابية في جميع الاتجاهات في البر وعلى البحر، والسيطرة الوهابية على الحرمين، كل هذا كان شيئا جديدا لا يمكن تركه يجري مجراه، ولا تستطيع الدولة بصفتها حكومة نظامية إلا أن تقمعه، فأصدرت أوامرها لأصحاب القواعد في دمشق وبغداد والقاهرة للقيام به، وتقاعس أو عجز صاحبا بغداد ودمشق، وتولاه صاحب القاهرة ابتداء من سنة 1811م.
لم يتقاعس صاحب القاهرة ولم يعجز؛ وقد انفتح أمامه ميدان فسيح الأرجاء خليق ببذل الهمة وبالنظرة النافذة وبالأمل الواسع، فالبحار العربية وسواحلها أجزاء أساسية من العالم العثماني، أهملها السلاطين إهمالا معيبا، وهي شرايين الحياة بين الشرق والغرب، تصلبت ولا بد من أن يجري فيها الدم من جديد، وخلف تلك السواحل في أفريقية أجزاء من دار الإسلام، مشتتة فاترة الحياة، لا بد من وصلها بعضها ببعض وبالعالم العثماني ومن جعل ذلك العالم وحدة حية، انفتحت أمام محمد علي هذه الآفاق منذ سنواته الأولى في مصر، شهد بعينيه في القاهرة الجنود الهنود القادمين عن طريق البحر الأحمر والقصير والسويس لطرد الفرنسيين من مصر، وتحدث إلى رجال أوروبيين وعرب حضروا عهد الأمراء واشتركوا في محاولات القرن الثامن عشر لإحياء الطريق المصري لأوروبا، ولهم بالتجارة الهندية والعربية صلات، وفي الواقع سعى محمد علي في تلك السنوات الأولى ليوجد صلات بينه وبين السلطات البريطانية في الهند.
ولكن الواجب الأول كان تأمين الحجاز ورد القوة الوهابية لموطنها الأصلي، وعهد لابنه طوسون قيادة تجريدة من الأخلاط الذين كانوا يكونون جيشه في ذلك العهد، وأبدى محمد علي من الهمة في الاستعداد والتموين وأدوات النقل وتنظيم «المخابرات» ما أدهش معاصريه، وحدث لطوسون ورجاله ما يمكننا أن نتوقعه لشاب لا يملك خبرة عسكرية ما على رأس شراذم الألبانيين والدلاة ومن على شاكلتهم، واضطر محمد علي للسفر لبلاد الحجاز بنفسه، وقد قضى فيها وقتا طويلا تم فيه استخلاص الحرمين، وهذه الأشهر التي قضاها في بلاد العرب أكسبته علما وثيقا بمختلف الشئون العربية في الحجاز وغير الحجاز: شئون الحكم، علاقات الإمارات والقبائل، مدن السواحل، مصالح الأوروبيين، ومكة المكرمة - نعم المركز للدراسة والاستطلاع.
وبعد عودته من الحجاز واستقرار الأحوال في القاهرة - بعد أن اضطربت بعض الشيء في أثناء غيابه - انتقل للمرحلة الثانية من خطته العربية، وكانت المهمة فيها إزالة السلطان السياسي والحربي للوهابية بالاستيلاء على نجد، وتولى هذه المهمة ابنه الأكبر إبراهيم؛ وقام بها قياما فيه كل الدلالة على ما سيقوم به في المستقبل، كتب القنصل الإنجليزي هنري صولت في رسالة من القاهرة في أوائل 1817: «لقد دلت معاملة إبراهيم للقبائل البدوية على امتلاكه ثلاث ميزات تبشر بالفوز في النهاية: حزم في معاملة أعدائه، سخاء في البذل، وفاء بالعهد»، وفاز إبراهيم - كما توقع له صولت - ودخل الدرعية قاعدة السلطان الوهابي.
অজানা পৃষ্ঠা