تأليف
محمد شفيق غربال
مقدمة
مما ذاع بيننا نقلا عن المصطلح الفرنجي تقييد استعمال الكلمة «إسلامي»، فكما أن العلماء الأوروبيين لا يستخدمون في دراساتهم التاريخية الوصف «نصراني»، إلا على الأزمنة السابقة للعصور الحديثة والمعاصرة، أو لا يطلقونه إلا على ما يتصل بالعقائد، فإنا أيضا أخذنا عنهم تحديد طور «إسلامي» داخل أطوار نمو الأمم الإسلامية، هذا الاستعمال الفرنجي له ما يبرره عندهم؛ هو نتيجة الفصل بين ما سموه السياسة وما سموه الدين، أما عندنا، فما وجه تبريره؟ وما مقياس «الإسلامية»؟ أهو وقوع الشيء في عصر سابق للقرن الثالث عشر أو الرابع عشر الهجري مثلا؟ أو أن المؤثر الفلاني في حياة المسلمين كان مصدره أوروبيا معاصرا؟
إنا نعلم جميعا أن الحضارة الإسلامية التاريخية كانت مزيجا من عناصر متباينة، شرقية وغربية، فليس من سبب معقول لاستبعاد الوصف «إسلامي» عن الحياة الفكرية للمسلمين في دور تأثرها بفلسفة ديكارت أو سبنسر، بينما لا نجردها من هذا الوصف في دور تأثرها بفلسفة أفلاطون أو أرسططاليس، مثل ذلك يقال عن الحكومة الإسلامية، لا يمنعنا تأثرها بنظم الساسانيين أو الروم من أن نحتفظ لها بإسلاميتها، بينما ننزع عنها ذلك عندما يكون التأثير - كما هو حالنا الآن - مصدره الثورة الفرنسية أو البرلمانية الإنجليزية.
والواقع أننا لا نستطيع بحال أن نعتبر الحضارة الإسلامية أمرا طواه الزمان كما طوى حضارة الفراعنة طيا تاما، أو أن التطور الإسلامي قد وقف عند حد معين، بل - على العكس - نعتبره مستمرا متصل الأدوار، ويحق لنا - على هذا الأساس - أن نحاول الترجمة لمحمد علي، على الرغم من أنه عاش في القرن الثالث عشر الهجري، وعلى الرغم من أنه ولى وجهه صوب الحضارة الأوروبية؛ علما من أعلام الإسلام.
وكانت دار الإسلام وقت مولد محمد علي؛ أي في القرن الثاني عشر الهجري (الثامن عشر الميلادي) قد اكتسبت مظاهرها الخارجية وحياة أهليها الداخلية حدودا ومعالم وصبغات يرجع أهمها لحوادث القرن العاشر الهجري (السادس عشر الميلادي)، ففي ذلك القرن الحافل في تاريخ دار الإسلام، وفي تاريخ أوروبا حدث في العالم الإيراني من دار الإسلام الانفجار الهائل الذي سببته ثورة الشاه إسماعيل الصفوي الدينية، وكان من جرائه تفكك أوصال ذلك العالم الإيراني، وانقطع عن أممه ودوله في الهند والأناضول والبلقان وفيما وراء النهر الدم الذي غذى ثقافة إيرانية إسلامية حية زاهرة.
وإيران نفسها اتخذت لحياتها منذ أيام إسماعيل أساسا مذهبيا ضيقا، وكان من جراء ذلك الانفجار أيضا طغيان الدولة العثمانية - وكانت حتى ذلك القرن جزءا هاما من العالم الإيراني - على العالم العربي وضمته لحكمها قسرا؛ ففسد أمر العثمانيين وفسد أمر العرب.
وفي القرن السادس عشر أيضا كان انفجار آخر أثر آثارا قوية في دار الإسلام، وكان من جراء حركة الكشف الجغرافي وانتشار النفوذ الأوربي، ولم يبسط الأوربيون حكمهم حتى نهاية القرن الثامن عشر إلا على مسلمي الهند وجزائر المحيط الهندي، ولم يمسوا بعد إلا الإمارات والشياخات والسلطنات الإسلامية القريبة من الطرق التجارية البحرية الكبرى، ولكن وضعت في خلال تلك القرون - من السادس عشر إلى الثامن عشر - أسس علاقات المستقبل بين دار الإسلام وأوروبا، وخرجت في أثناء تلك القرون دار الإسلام عن دور المساهمة والمشاركة في الحركات العالمية الثقافية والاقتصادية (دورها أيام عز الإسلام) إلى دور آخر: دور مناطق الاستغلال والاستعمار، دور الأمم التي تترقب من يوم لآخر نزول العدو.
ولم تستطع الدولة العثمانية ولا غيرها من دول دار الإسلام في خلال تلك القرون من السادس عشر للثامن عشر منع نزول تلك الكوارث، كما أنها لم تستطع إذ ذاك أن تحول من أنظمتها؛ بحيث تستطيع المساهمة في التطورات العالمية الجديدة، والواقع أن فتوح العثمانيين على عظمتها - وعلى الرغم من أنهم وضعوا أيديهم على مفاتيح الطرق الكبرى - حدثت متأخرة عن أوانها، ففاتتهم فرصة تعطيل الانقلاب التجاري الكبير؛ نزلوا بساحل الجزائر من أقطار المغرب الإسلامي فيما بين 1512-1519، ولو بكروا قليلا لاستطاعوا أن يمدوا أيديهم لشد أزر ما بقى للمسلمين في الأندلس، ولمنعوا بذلك انصراف فرديناند وإيزابلا إلى حركة الاستعمار الإسباني. وقصروا نفوذهم على الجزائر ولم يبسطوه على السواحل المراكشية، ولو فعلوا لاستطاعوا أن يعرقلوا تقدم البرتغاليين في اتجاه رأس الرجاء الصالح حول الساحل الإفريقي الغربي، كذلك كان فتحهم لمصر في 1517، وللعراق في 1534 متأخرا عن وقته، ولو بكروا فيه لسبقوا البرتغاليين إلى المحيط الهندي.
অজানা পৃষ্ঠা