حقيقة بطل في عهد محمد علي ربط أرزاق الأجناد بها، ولكن لا تزال هناك من الأسباب القوية ما يحمل على الاحتفاظ بالسيطرة التامة عليها؛ فهي لا تزال - كما كانت قديما - مصدر القوت اللازم للحياة، وهي - كما كانت قديما - مصدر أهم موارده من حيث الضرائب، وزاد على هذا في أيامه أنها أصبحت أهم مصدر لتغذية التجارة الخارجية، وزاد على هذا أيضا اعتقاده بأن الاستمرار في سياسة التحسين والإصلاح يقتضي بقاء الهيمنة في يده ولو إلى حين، وهذا يقتضي بقاء قيود الفلاحة على أهلها.
وقد قام محمد علي في - سبيل تنمية الثروة الزراعية - بصيانة منشآت الري والصرف وتجديدها، ولم يكتف بهذا بل أحدث الانقلاب الكبير المعروف في نظام الري المصري، ومجمل تاريخ هذا الانقلاب ينحصر في تدبير حل لمسألتين: الأولى؛ زيادة الإنتاج الزراعي، الثانية: ضرورة تدبير ماء لري القطن - على الأخص - في غير زمن الفيضان، ولمنع الماء من أن يفيض على حقول القطن في زمن الفيضان. فالمسألة إذن هي ضبط النيل - كما نقول الآن - على وجه جديد، وكان حله الأول حفر الترع الطويلة العريضة العميقة؛ يجري فيها الماء معظم أيام السنة، وترتب على ذلك الحاجة الشديدة إلى تطهير مستمر شاق.
وقد وصف لنا المهندس لينان دي بلفون في تاريخه للأعمال العامة في عهد محمد علي ما استلزمه هذا التطهير من جهد وما قاساه الفلاحون من الشدة في أدائه، واتجه التفكير إلى تخفيف هذا العناء ببناء قناطر الدلتا، ولم يتم بناؤها في عهد محمد علي، وحتى عندما تم بناؤها لم تكن في حالة تسمح لها بأداء عملها على الوجه المقدر لها، ولجأ الخديو إسماعيل لاستخدام الآلات الرافعة، وعلى كل حال فقد بدأ محمد علي سياسة الري الدائم التي سارت عليها مصر منذ تلك الأيام.
وأمر الاحتكارات الصناعية يشبه أمر السياسة الزراعية؛ في كونها ابتدأت من أجل زيادة موارد الخزانة، ثم تحولت إلى خطة عمرانية جريئة لإدخال الصناعة الكبرى بمصر، وهاك مثالا من الاحتكار الصناعي في أول مراحله - كما جاء في الجبرتي، قال: «وفي أواخر سنة 1232 حجر وضبط جميع أنواع الحياكة، وكل ما يصنع بالمكوك، وما ينسخ على نول أو نحوه من جميع الأصناف، من إبريسم وحرير أو كتان، إلى الخيش والحصير في سائر الإقليم المصري.
وانتظمت لهذا الباب دواوين ورتبوا لذلك كتابا ومباشرين بالنواحي والبلدان فيحصون ما يكون موجودا على الأنوال بالناحية من القماش والأكسية الصوفية المعروفة بالزعابيط والدفافي ويكتبون عدده على ذمة الصانع، حتى إذا تم نسجه دفعوا لصاحبه ثمنه بالفرض الذي يفرضونه وإن أرادها صاحبها أخذها من الموكلين بالثمن الذي يقدرونه بعد الختم عليها من طرفيها بعلامة الميري، فإن ظهر عند شخص شيء من غير علامة الميري أخذ منه وعوقب وغرم، ويطوف الموكلون بمباشرة الأنوال على النساء اللاتي يغزلن الكتان فيشترون ذلك بالثمن المفروض ويسلمونه للنساجين ثم تجمع أصناف الأقمشة في أماكن للبيع بالثمن الزائد ...» إلى آخره.
ثم حدث بعد هذا العدول عن هذا وأشباهه والشروع في تشييد المنشآت الصناعية الكبرى المجهزة بالآلات الجديدة، والتي بفضلها تمكن محمد علي من كسوة جيشه وتسليحه وبناء أسطول ضخم في الإسكندرية، فعل هذا في وقت قيام أصحاب مذهب «مانشستر» البريطانيين الداعين إلى ضرورة تخصص كل إقليم بما يصلح له بحكم الطبيعة، فلا ينبغي للإقليم الزراعي بطبيعته أن يحاول أن يكون صناعيا وهلم جرا، وكانوا قوما يكرهون تولي الدولة القيام بأي مشروع صناعي، كما تحمسوا أشد التحمس للتبادل التجاري الطليق، فلا عجب أن كره من زار منهم مصر (مثل: كوبدن المشهور أو الدكتور بورنج) سياسة محمد علي الصناعية، بل وبينوا له أن الأولى به أن يصرف جهده في تنمية ما تصلح له مصر (كزراعة القطن مثلا)، كما أن شراء المصنوعات المتقنة من أوروبا يكلفه أقل من صنع مثيلاتها في بلاده، وأظهروا نواحي الضعف في إدارة المصانع وانتقدوا توجيه الأيدي العاملة من الحقول للمدن.
والواقع أن كل هذا واضح لمحمد علي وضوحه لزواره الأجانب، والرد عليه ليس عسيرا؛ فإن هناك اعتبارات تتعلق بسلامة الوطن يهون بجانبها حساب الربح والخسارة، وهناك مصلحة قومية في تنويع الإنتاج وفي تكوين الصناع الماهرين، تقتضي تنمية الصناعة مهما كلف ذلك، هذا من حيث الاعتبارات القومية العامة، أما من حيث هذه المنشآت الصناعية بالذات فقد ثبت أنها لم تصرف الأيدي العاملة عن الحقول، حقيقة كانت أزمة الأيدي اللازمة في الريف مستمرة طول عهده، ولكن ذلك لا يرجع للصناعة الجديدة وإنما يرجع للتجنيد، أما تولي الدولة المشروعات الصناعية فتفسيره أنه - في ظروف مصر إذ ذاك - إن لم تقم بها الدولة فلا يقوم بها أحد.
والصناعة الكبرى لم تخفق في مصر - كما يتوهم الكثيرون - إن الذي حدث كان عدول محمد علي عن الاستمرار في منشآته الصناعية بعد إنقاص جيشه ومحو أسطوله.
ولكن الصناعة الكبرى الحرة ظلت على شيء من الحياة، والجذوة التي أشعلها لم تخمد، بل ظلت في انتظار من يشعلها من جديد.
وكان في تدبير محمد علي أن يضيف الإنتاج الصناعي إلى الإنتاج الزراعي؛ لتنمية مادة التجارة المصرية الخارجية، وقد أدرك إدراكا عجيبا أن موقع بلاده فريد في نوعه، ووجوب استغلال ذلك الموقع كل الاستغلال، ولنسمع تعبيره عن هذه الحقيقة في وثيقة من وثائق حكمه: «إنه بالنسبة لموقعها الجغرافي إقليم ومرسى لأهالي بلاد المسكونة البالغ نفوسها 600 مليون تقريبا.»
অজানা পৃষ্ঠা