واستمر الكتاب على اتصالهم القديم بالنماذج العربية الأصيلة، ولما ابتدءوا التطلع إلى غيرها من المناهل اتجه نظرهم إلى باريس لا إلى القسطنطينية، ولم يكن رجال الصفوة أيضا كلهم من المسلمين، فمنهم من كان قبطيا أو من نصارى السوريين والأرمن، إلا أنهم كانوا جميعا يتفقون في شيء واحد، في أن محمد علي بالنسبة لهم جميعا هو «ولي النعم»، تعهدهم بالتعليم وقلدهم مناصب الدولة وأنعم عليهم بالأرزاق السخية من مال وأرض وشرفهم ورفع قدرهم بين الناس، بل وكان يختار لهم من بنات القصر وجواريه زوجات نشأن في ظل الحشمة والكمال والعز، لا غرو إذن أنه وحده «ولي النعم».
استفسر يوما السياسي الفرنسي بوالكمت من بوغوص بك الأرمني المشهور عن صحته فأجابه: «إنني بخير لأن ولي النعم بخير»، إن صحته لا يمكن أن تكون إلا بخير ما دامت صحة سيده جيدة، ولكن محمد علي وضع علاقته بهم لا على أساس السيد والمسود بل على أساس آخر: علاقة الأب بأبنائه، وما أجمل تعبيره هو عن ذلك، جمع مرة مأموري الحكومة للمباحثة في شئون الدولة، وكان ذلك في سنة 1263، في السنوات الأخيرة من حكمه، ولما أتموا عملهم دعاهم للطعام، وجمعهم بعد ذلك بأيام وخطب فيهم خطبة يصح أن نعتبرها «عهده السياسي» - ولنا لها عودة - جاء فيها:
فلتعلموا أني قد ناهزت سن الثمانين ولست في تمني شيء لنفسي، بل كان تركي للنوم والراحة وبذلي لاجتهادي ليلا ونهارا إنما هو من أجل سعادتكم وإصلاح حالكم، وحيث إني قد ربيتكم جميعا من صغر سنكم وعلمتكم القراءة والكتابة في المكاتب وأوصلتكم إلى ما أنتم فيه من الدرجات وقبلتكم أولادا لي وصرت لكم أبا بحق؛ وجب أنكم لا تمتنعون من قبولي أبا لكم، بل تقبلونني.
يرجو لهم ومنهم كل ما يرجوه الأب لأبنائه ومن أبنائه، ويأخذهم باللين أحيانا وبالغلظة أحيانا كما يأخذ الأب أبناءه باللين وبالغلظة، وكان عندما يحسن أحد رجاله يبتهج لهذا الإحسان ابتهاج الأب لإحسان ابنه لا ابتهاج الرئيس لإحسان المرءوس فحسب، كما كان عندما يقصر أحدهم يقع هذا التقصير في نفسه وقع تألم الأب وأساه لقصور ابنه عن أمله، ولنسمع تعبيره عما ينتظره منهم: «إنه لترادف تقلبات الأحوال وتنوع تيار صعوباتها وشدائدها من زمن بعيد بعكس وجهة آمالي، وكلما أتأمل لها بإمعان النظر، ولما يحصل من وخامة عواقبها بالنسبة لجسامة تلك الخطوب كنت أتجلد بعزم ونيات خيرية لمقابلة شدائد تلك الصعوبات، ومضت علي الأوقات العديدة وأنا متحمل المشاق تاركا للراحة.
وبديهي أنه لا يتأتي لشخص بمفرده مصادمة تلك الخطوب وإذلالها، بل يحتاج لأعوان ومساعدين ذوي عزيمة حتى ينجح في نياته وأعماله، وإنه من الأمور المسلمة أن أصحاب الفتوحات وواضعي القوانين في الأعصر الماضية مع ما كان لديهم من الثروة كانت الشدائد تلجئهم إلى أعوان لبث قوانينهم وتوطيد دعائمهم حالة كونهم محفوفين بنفوذ الكلمة، ومما لا ارتياب فيه أنكم لو اتحدتم كشخص واحد وبذلتم الهمم بساعد الجد وتعودتم على ترك الراحة وأبرزتم الغيرة بالنشاط وتحمل المشاق بالتجلد لبث العدل وتشييد العمران للأعقاب والأخلاف ليكون سببا للفوز والنجاح ونيل السعادة.»
وماذا يحدث عند التقصير؟ قال: «ولتعلموا أنكم إذا لم تحولوا من خصالكم القديمة من الآن فصاعدا، ولم ترجعوا من طرق المداراة والمماشاة، ولم تقولوا الحق في كل شيء، ولم تجتهدوا في طريق الاستواء، ولم تسلكوا سبيل الصواب لصيانة ذات المصلحة؛ فلا بد لي من أن أغتاظ منكم جميعا. وإذا كنت موقنا بتقدم هذا الوطن العزيز على أي صورة كانت وملتزما فريضته علي صرت مجبورا على قهر كل من لم يسلك هذا الطريق المستقيم اضطرارا مع حرقه كبدي وسيل الدموع من عيني، فالذي أرجوه من الخالق - سبحانه وتعالى - أن يجعل نصيحتي هذه مؤثرة في قلوبكم؛ حتى أشاهد منكم حسن الحركة آنا فآنا، وأعاين ما تستحقونه من الخير، وتقر عيناي بامتياز كل منكم حسب أقصى أملي.»
فلم يكن محمد علي في علاقاته برجاله الحاكم المطلق، بل كان الأب الخير الحازم، يسعى لأن يجعل منهم رجالا يستطيعون فهم مقاصده ومعاونته على تحقيق آماله، وهذه أوامره الحكومية قل أن تجد لها شبيها في أوامر الحكومات، فكانت في جمعها للنصح والترغيب والترهيب وضرب الأمثال والإشارة إلى أن منفعة الرعية أو مجد الوطن متوقف على ما نيط بعمال الحكومة أداؤه؛ صورة صادقة لشخصية هذا العاهل الكريم. وهذه أيضا طريقته الإدارية، جعل لكل شأن من الشئون العامة ديوانا وكان لا يتخذ قرارا في مسألة ما إلا بعد أن يستمع لآراء المجلس المختص بها؛ ذلك لأنه لم يكن حاكما فحسب، بل كان طوال مدته مربيا ومكونا للرجال، وأن مجالس الإدارة لم تكن في نظره هيئات إدارية فحسب، بل كان لها غرض آخر هو تكوين الصفوة من الرجال، وتشجيعهم على التفكير المستقل.
وقد بدأ محمد علي بتأليف هذه الأرستقراطية طورا جديدا من أطوار تنظيم الحكومة الإسلامية، بدأت تلك الحكومة - كما نعرف - باستعانة ولي الأمر برفقائه من صحابة رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، ثم دخلت في طور إنشاء الدواوين وظهور طائفة الكتاب، يتلوه طور التوحيد بين الرياسات المختلفة وبين خدمة ولي الأمر الشخصية، وتأكدت هذه الصفة في الدول التركية بصفة خاصة.
ثم جاءت الدول العثمانية ونما فيها نظام دقيق مفصل لتكوين الأداة التي استخدمها السلطان لحكم رعاياه، أو بعبارة أصح: لقيادة الرعية. فكان رجال الحرب والحكم في تلك الدولة عبيد السلطان، اشتراهم بماله أو سباهم في حروبه وغزواته أو جمعهم قسرا من أبناء الذميين، وفرض عليهم جميعا أنواعا من التدريب والإعداد، كل منهم بحسب ما يؤهله له استعداده العقلي والبدني. وحاول أن يضع كلا منهم فيما يصلح له، كما حاول أن يحيط كلا منهم - طول حياته - بما اخترع من القيود؛ ليبقى كل منهم في نوع الحياة ونوع العمل الذي رسم السلطان.
অজানা পৃষ্ঠা