المثل الأول: «سئل حسين أفندي : من أين كان إيراد الباشا وعوائده؟ فأجابه المذكور: إن حضرة السلطان سليم رتب للباشا إيرادا وعوائد معلومة على أصناف البهار في كل فرق بين أربعمائة فضة وعوائد على الأمراء والصناجق وقت تلبيسهم وعلى كشاف الولايات وقت توليتهم، وعلى الجمارك مثل ديوان إسكندرية ورشيد ودمياط وبولاق ومصر القديمة، وعوائد على أمين البحرين وأمين الخردة وعلى الضربخانة وعلى أرباب المناصب، وجعل له حلوان بلاد الأموات، وربط عليها أموالا أميرية في كل سنة تدفع إلى ديوان السلطان وقدرها خمسمائة وستة وخمسون كيسا مصريا. وأضاف إلى هذا أن الباشا يؤدي ميريا نظير عوائده في مال البهار في كل فرق بن أربعمائة فضة وفي نظير الحلوان ... إلخ.»
اخترنا هذا المثل؛ لأنه يمثل فكرة الحكومة ونظامها في أمر عادي مألوف لنا تماما، أمر مرتب الوظيفة، عندنا أمره بسيط للموظف مرتب محدد يتسلمه في مواعيد محددة وينتهي الأمر عند ذلك، أما عندهم فالأمر معقد كل التعقيد ... هاك - في مثلنا الحاضر - باشا مصر وكيل السلطان فيها وهو رأس الإدارة كلها، لمرتبه مصادر متعددة: عوائد على البن، وعوائد على الأمراء والصناجق وقت تلبيسهم كسوة مناصبهم، وكذلك على الكشاف عند تعيينهم في الأقاليم وكذلك على الجمارك وعلى بعض أصحاب المناصب وعلى دار الضرب وعندما يموت أحد الملتزمين فيصبح التزامه «بلد أموات» يتقاضى باشا مصر لنفسه رسما خاصا على نقل الالتزام لورثة المتوفى، وهذا هو الحلوان، ثم يأتي بعد ذلك الأمر الأغرب وهو أن الباشا لا يأخذ فحسب ... بل يؤدي من جانبه للخزانة «ميريا» أو - كما يسمونه كشوفية - يؤدي مالا نظير تمتعه بالعوائد السابقة الذكر.
معنى ذلك أن باشا مصر بدلا من أن ينصرف لإدارة شئون مصر يصرف وقته في التحصيل لنفسه والمساومة والمحاسبة والتخادع والتحايل والتناهب مع «المستحقين الآخرين» في البن والخردة والحلوانات وما إليها. ثم الباشا إيراده يزيد وينقص لظروف؛ منها ما هو فوق استطاعته ومنها ما يستطيع أن يوجده. خذ حلوان بلاد الأموات مثلا؛ قد يفشو وباء فيكثر الموت بين الملتزمين وتكثر بلاد الأموات ويكثر الحلوان، وقد لا يحدث شيء منه فتطول أعمارهم وينكمش دخل الباشا السيئ الحظ، وكذلك أمر العوائد على تعيين الكشاف ألا يستتبع هذا أن الباشا لا يكره - على الأقل - إخلاء وظائف الكشاف وملئها في فترات لا تطول كثيرا؟! وهكذا.
وسئل حسين أفندي عن القاضي وخدمته، فأجاب ببيان اختصاصه وأن تحت يده قضاة نوابا عنه، ولهم عوائد على الناس بحسب الوقائع والبيع والشراء وأن القاضي له عوائد على نوابه في كل شهر، وهكذا.
وقس على ذلك سائر الموظفين العموميين كبارا وصغارا.
المثل الثاني:
ونقصد به توضيح ناحية أخرى من التشتيت؛ نعرف أن القاعدة العمومية عندنا اليوم أن الحكومة لا تربط وجها معينا من المصروفات بوجه معين من الإيرادات، أما عندهم فالعكس هو السائد - كما ترى فيما يلي:
سئل حسين أفندي عن مال الكوركجي الذي هو مضاف بالمال ما معناه: «فأجابه: إن مال الكوركجي كان يقبض من البلاد خارجا عن الميري، ويصرف في أجرة المراكب وغيره ولنقل التراب من مصر ويرمى في البحر المالح، وكان قدر مبلغه في كل سنة نحوا من ثمانية وعشرين كيسا مصريا، واستمر ذلك الحال مدة سنين وهم ينقلون التراب من القاهرة وكانت نظيفة، ولم يكن فيها من الوخم شيء، ومن بعد ذلك حصل تراخ وكسل وعدم التفات من الحكام، فصاروا يأكلون ذلك القدر في كل سنة ولم يصرفوه، فبلغ ذلك إلى السلطان وحضر منه أمر إلى وكيله بإضافة ذلك المبلغ على خزينته التي بقيت له في ذلك الوقت من الميري بعد المصاريف التي رتبها.»
وشرح ذلك أن مال الكركشي (من كلمة كورك التركية، وهي آلة الجرف) ضريبة فرضت على الملتزمين وخصصت للإنفاق على إزالة الأتربة وما إليها من القاهرة، وعلى مرور الزمن بطل إنفاق هذا المال فيما خصص له وأضيف إلى خزينة السلطان (والخزينة أو الخزنة - في اصطلاحهم - هي مجموع المال الذي يبقى بعد أداء جميع المصروفات ويرسل للقسطنطينية)، وبقوا يجمعون مال الكركشي من الناس وإن كان قد بطل إنفاقه فيما فرض من أجله، وهذا هو السر في تراكم وتكون الكيمان التي كانت تحيط بالقاهرة واستمرت يؤذي غبارها وما ينبعث من رائحتها أهل المدينة إلى أن أزالتها حكومة محمد علي.
المثل الثالث:
অজানা পৃষ্ঠা