المُفْهِم لما أَشْكَلَ من تلخيص كتاب مسلم
تأليف
الإمام الحافظ أبي العبَّاس أحمد بن عمر بن إبراهيم القرطبي
(٥٧٨ - ٦٥٦ هجرية)
الجزء الأول
حققة وعلق عليه وقدم له:
محيي الدين ديب مستو - يوسف علي بديوي
أحمد محمّد السيّد - محمود إبراهيم بزّال
دار ابن كثير
دمشق - بيروت
دار الكلمة الطيب
دمشق - بيروت
1 / 1
الفهرس الألفبائي للكتب الواردة في تلخيص مسلم والمفهم
اسم الكتاب ورقمه ... الجزء والصفحة
آداب الأطعمة (٢٧) ... ٥/ ٢٩٣
الاستسقاء (٦) ... ٢/ ٣٥٨
الاعتكاف وليلة القدر (١١) ... ٣/ ٢٤٠
الأدب (٣٠) ... ٥/ ٤٥٣
الأذكار والدعوات (٣٧) ... ٧/ ٥
الأشربة (٢٦) ... ٥/ ٢٤٦
الأضاحي (٢٨) ... ٥/ ٣٤٧
الأقضية (٢٤) ... ٥/ ١٤٧
الإمارة والبيعة (١٤) ... ٤/ ٥
الإيمان (١) ... ١/ ١٣١
البر والصلة (٣٤) ... ٦/ ٥٠٨
البيوع (١٨) ... ٤/ ٣٦٠
التفسير (٤٢) ... ٧/ ٣١٤
الجمعة (٤) ... ٢/ ٤٧٨
الجنائز (٨) ... ٢/ ٥٦٩
الجهاد والسير (١٣) ... ٣/ ٥١١
الحج (١٢) ... ٣/ ٢٥٥
الحدود (٢٣) ... ٥/ ٧٠
ذكر الموت وما بعده (٤٠) ٧/ ١٤٢
الرقاق (٣٨) ... ٧/ ٦٩
الرقى والطب (٣١) ... ٥/ ٥٦٣
الرؤيا (٣٢) ... ٦/ ٥
الزكاة (٩) ... ٣/ ٥
الزهد (٣٩) ... ٧/ ١٠٧
الصدقة والهبة والحبس (٢٠) ... ٤/ ٥٧٨
الصلاة (٣) ... ٢/ ٥
صلاة العيدين (٥) ... ٢/ ٥٢٣
الصوم (١٠) ... ٣/ ١٣٥
الصيد والذبائح (٢٥) ... ٥/ ٢٠٤
الطلاق (١٦) ... ٤/ ٢٢٤
الطهارة (٢) ... ١/ ٤٧٣
العتق (١٧) ... ٤/ ٣٠٩
العلم (٣٦) ... ٦/ ٦٨٤
الفتن وأشراط الساعة (٤١) ... ٧/ ٢٠٦
القدر (٣٥) ... ٦/ ٦٤٩
القسامة والقصاص والديات (٢٢) ... ٥/ ٥
كسوف الشمس والقمر (٧) ... ٢/ ٥٤٩
اللباس (٢٩) ... ٥/ ٣٨٥
النبوات (٣٣) ... ٦/ ٤٦
النذور والأيمان (٢١) ... ٤/ ٦٠٤
النكاح (١٥) ... ٤/ ٨٠
الوصايا والفرائض (١٩) ٤/ ٥٣٩
1 / 2
المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم
1 / 3
بسم الله الرحمن الرحيم
حقوق الطبع والتصوير محفوظة للناشرين
الطبعة الأولى
١٤١٧ هـ - ١٩٩٦ م
دار ابن كثير للطباعة والنشر والتوزيع
دمشق - حلبوني - جادة ابن سينا - بناء الجابي
ص. ب: ٣١١ - تلفون: ٢٢٢٥٨٧٧ - ٢٢٤٣٥٠٢
بيروت - برج أبي حيْدر - خلف دبوس الأصلي
ص. ب: ٦٣١٨/ ١١٣ تلفون: ٨١٧٨٥٧ - ٢٠٤٤٥٩ - ٠٣
دار الكلم الطيب للطباعة والنشر والتوزيع
دمشق - حلبوني - شارع مسلّم البارودي
هاتف: ٢١٢٩٨٨٦ ص. ب ٣٠٥٥٢ - بيروت ص. ب: ٦٣١٨/ ١١٣
1 / 4
كلمة الناشر
الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وأفضلُ الصَّلاةِ وأَتَمُّ التسليم على سيدنا محمد وعلى آلهِ وأصحابِه، ومَنِ اهتدى بهديه وعملَ بسنته إلى يوم الدِّين.
وبعد:
فإن كتابَ "الجامع الصحيح" للإمام مسلم بن الحجَّاج القُشَيْرِيَ النيسابوري المتوفى سنة (٢٦١ هـ) رحمه الله تعالى، هو الثاني من الكتب الستة، التي تُعَدُّ من أهمِّ دواوين السُّنَّة المطهَّرة، وأحدُ الصحيحين اللَّذين هما أصحُّ الكتب بعد القرآن الكريم، والجمهور على تقديم صحيح البخاريِّ في الفضل والصِّحة، وبعضُ العلماء المغاربة فضَّلُوا صحيحَ مسلم، وموقفُهم محمولٌ على ما يرجعُ إليه كتابُ مسلم من حُسن السِّياق، وجودة الوضع والترتيب.
ولقد لقيَ هذان السِّفران العظيمان، اهتمامَ كبار العلماء، وعناية جَهابذة الحفَّاظ، فأقبلوا عليهما روايةً، وحفظًا في الصدور، ونسخًا في السُّطور، واستدراكًا عليهما، وشروحًا واختصارًا لهما، وتعريفًا برجال ورُواة كلٍّ منهما. ويهمُّنا هنا أن نتعرَّف إلى أشهر الكتب المؤلَّفة في شرح صحيح مسلم، وهي ستة:
١ - المُعْلم في شرح صحيح مسلم، للمازري المتوفى سنة (٥٣٦ هـ)، وقد طُبع حديثًا في دار الغرب الإسلامي - في بيروت.
٢ - إكمال المُعْلم في شرح صحيح مسلم، للقاضي عياض المتوفى سنة (٥٤٤ هـ)، ولم يصلنا بعد.
٣ - المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم؛ للإمام أبي العباس القرطبي المتوفى سنة (٦٥٦ هـ). وهو كتابنا هذا.
1 / 5
٤ - "المنهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج"، للنووي المتوفى سنة (٦٧٦ هـ)، وهو مطبوع.
٥ - إكمال إكمال المعلم في شرح صحيح مسلم، للأُبِّيِّ المتوفى سنة (٨٢٧ هـ)، وهو مطبوع في دار السعادة بمصر.
٦ - مكمّل إكمال الإكمال؛ للسنوسي المتوفى سنة (٨٩٥ هـ) وهو مطبوع بهامش إكمال إكمال المعلم، للأُبِّيّ، ومطبوع في دار السعادة بمصر.
ويسرُّ دار ابن كثير ودار الكلم الطيب أن تُقدِّما هذا الكتاب "المفهم" للقراء الكرام في العالمين: العربي والإسلامي، بعد أن حَشَدتا لهذا العمل الحديثيِّ العظيم صورًا لمخطوطاتٍ عديدة؛ مَشرقيةٍ ومَغربيةٍ، وأسندتا تحقيقَه والتعليق عليه إلى نُخبةٍ من الأساتذة الثقات؛ المتخصصينَ في علوم الشريعة واللغة العربية، وسيراه القارئ - إن شاء الله تعالى - في أبهى مَظْهرٍ، وأصدقِ مَخْبر، مع الفهارس العلمية الوافية.
والله الموفّق، وهو من وراء القصد، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.
الناشر
دار ابن كثير ودار الكلم الطيب
دمشق - بيروت
1 / 6
(١) مقدمة التحقيق
الحمدُ لله الذي بَعَثَ في الأميِّين رسولًا منهم يتلو عليهم آياته، ويُزكيهم، ويُعلِّمهم الكتابَ والحكمة، وإن كانوا من قبلُ لفي ضلالٍ مبين.
والصَّلاةُ والسَّلام الأتمَّان الأكملان على سيدنا محمد؛ الذي بَعَثَه اللَّهُ تعالى خاتَمًا للنبيِّين، وعلى آله وصحبه والتابعين والعلماء العاملين؛ الذين رفعوا منارة الهدى والدِّين، وحملوا راية السُّنة النبوية بصدقٍ ويقين، ونفوا عنها تحريفَ الغالين، وتأويل الجاهلين.
أمَّا بعد:
فإن اللَّهَ تعالى أرسل رُسُلَه الكرام ليدعوا الناسَ إلى عبادته سُبحانه، وألَّا يُشركوا به شيئًا، فكانوا دُعاةً إلى الحق، آمرين بالأخلاق الصالحة، ناهينَ عن الفساد والمنكر، داعين إلى إصلاح المعاملات بين البشر.
وكان النبي محمد ﷺ اللبنةَ الأخيرة في بناء صَرْح النبوات، فقام بالدَّعوة إلى الله، مؤكدًا أن صحَّةَ العقيدة، والتجمُّل بالأخلاق، وسلامة المنهج في التعامل، هي الأسسُ القويمةُ في بناء الفرد الصَّالح والمجتمع السَّليم.
وكانت السُّنَّة النبوية رافدًا رئيسًا في الدعوة الإسلامية، ومرآةً صادقةً تعكسُ الواقع العملي لنداء القرآن، ومنهج السماء.
* * *
1 / 7
والحديثُ النبويُّ هو الأصلُ الثَّاني للشريعة الإسلامية بعد القرآن الكريم، فكثير من الآيات الكريمة جاءتْ مجملةً أو عامة، فأتى الحديثُ الشريفُ مُبَيِّنًا أو مُخَصِّصًا لها. وقد تَعْرِضُ حوادثُ وأمورٌ في حياة الرسول ﷺ، فإذا لم ينزل القرآنُ، يأتي الحديثُ له القولُ الفَصْل في هذه القضية وتلك الحادثة.
ثم إنَّ الحديثَ النبويَّ يعكسُ بكلِّ واقعيَّة وصدق سيرة النبي ﷺ، فهو يُوضِّح مجريات السيرة، ويرسمُ أبعادَها، ويُجلِّي مكارمَ خُلُق النبي الكريم ﷺ ونُصْحَه، وإرشادَه؛ وصولًا إلى مجتمع يقومُ على أصول الحقِّ والخير.
لهذا وغيره عُني المسلمون بحديث رسول الله - صلي الله عليه وسلم -، وولعوا بذلك، واعتقدوا أن الاشتغال بعلم الحديث مِن أجلِّ الخدمات التي يُقدِّمونها، وأعظمِ القُرَب التي يفعلونها، حتى قال قائلهم:
لم أسمُ في طَلَبِ الحديثِ لسمعةٍ ... أو لاجتماعِ قديمِه وحديثِه
لكنْ إذا فاتَ المحبَّ لقاءُ مَن ... يَهوى تعلَّل باستماع حديثِه
وجاء العلماءُ العاملون يرعون السُّنَّة حق رعايتها، فحفظوها في الصدور، ودوَّنوها في ثنايا السطور، ورحلوا في طلب الأحاديث، وكانت لهم أيادٍ بيضاءُ في خدمة السُّنَّة، ومعرفة الرجال، والبحث عن العلل.
وقد تحمَّل العلماءُ الصِّعابَ، وتجشَموا عناءَ طلب العلم، فكانوا يرحلون المسافات الطويلة، ويقطعون المفاوزَ الشاسعة، كي يُحصِّلوا حديثًا من هنا، ويسمعوا حديثًا من هناك، وهم مغتبطون في قرارة أنفسهم، ولسانُ حالِ أحدهم يقول:
يلومُ عليَّ أنْ رُحْتُ للعلم طالبًا ... أجمعُ مِن عند الرُّواةِ فُنُونَه
فيا لائمي دَعْنِي أُغالي بقيمتِي ... فقيمةُ كلِّ النَّاسِ ما يُحْسِنُونَه
وكان من نتيجة تلك الرحلات المتلاحقة، والدَّأب المتواصل، أن حفظ التاريخُ لنا آثارًا جليلةً في علم الحديث النبوي، وصارت المصنَّفاتُ الحديثية دُرَّةً
1 / 8
متألِّقةً في جبين الزمن، حتى إنَّ هذه الكتبَ التي دُوّنت في الحديث لتعدُّ من أكبر مفاخر هذه الأمّة على الإطلاق.
* * *
وإذا يمَّمنا وجوهَنا شطرَ القرن الثاني من الهجرة، يُطالعنا اسمُ الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز؛ إذ عرضتْ له فكرةُ تدوين الحديث النبويِّ، فأوعز إلى ابن شهاب الزهري يأمرُه بتدوين حديث رسول الله ﷺ، وجَمْعه. كما كتب إلى قاضي المدينة أبي بكر بن حزم الأنصاري قائلًا: "انظرْ ما كانَ من حديث رسول الله - صلي الله عليه وسلم - فاكْتُبْهُ".
* * *
ويُعَدُّ موطَأُ الإمام مالك ﵀ من أهمِّ كتب الحديث المدوَّنة، ومن أقدمها في القرن الهجري الثاني.
وقد نَضِجَ عِلمُ الحديثِ في القرن الهجري الثالث؛ إذ يُعتبر العصرَ الذَّهبي لتدوين الحديث، وجَمْعه. وقام بذلك علماءُ جهابذةٌ، مما جعل أسسَ الحديث تترسَّخُ، إذ تمَّ تشييدُ صَرْحه على المسانيد أو الأبواب.
وظهرت الكتب الستة، وتلقَّت الأمةُ بالقبول والصحة كلًّا من صحيحي البخاري ومسلم، وقد خُدِما كثيرًا: شرحًا، وتهذيبًا، واختصارًا، واستخراجًا عليهما؛ مما يُنبئ بالمكانة العليا التي انتهيا إليها في مختلف مراكز الإشعاع العلمي في الدولة الإسلامية.
* * *
وظهر الإمام مسلم في العصر الذهبي للفكر الإسلامي، حيث ازدهرت الثقافةُ العربية الإسلامية، وترعرعت العلوم، وتوهَّجت المعرفة، ولمعت شخصياتُ كبارِ
1 / 9
جهابذة العلم في مختلف الأصقاع العربية والإسلامية. إنه عصرُ أئمةِ الحديث النبوي، والأدب العربي، والتاريخ المجيد.
* * *
وحاز "صحيح مسلم" المكانةَ اللائقةَ به بين مُصنَّفات الحديث، وتربَّع سُدَّةً عاليةً من التقدير والعناية، فكثرت حوله الشروح حتى بلغت أكثر من خمسين شرحًا، واختلفت طولًا وقصرًا. ومن تلك الشروح المشرقية:
١ - المفصح المفهم والموضح الملهم لمعاني صحيح مسلم: لمحمد بن يحيى الأنصاري (٦٤٦ هـ).
٢ - إكمال الإكمال: لعيسى بن مسعود الزواوي (٧٤٤ هـ).
٣ - فضل المنعم في شرح صحيح مسلم: لشمس الدين بن عبد الله بن عطاء الله الرازي (٨٢٩ هـ).
٤ - غُنية المحتاج في ختم صحيح مسلم بن الحجاج: لمحمد بن عبد الرحمن السخاوي (٩٠٢ هـ).
٥ - الديباج على صحيح مسلم بن الحجاج: للسيوطي (٩١١ هـ).
٦ - شرح صحيح مسلم: لعبد الرؤوف المناوي (١٠٣١ هـ).
٧ - عناية المنعم لشرح صحيح مسلم: لعبد الله بن محمد يوسف أفندي زاده حلمي (١١٦٧ هـ).
٨ - وشي الديباج على صحيح مسلم بن الحجاج: لعلي بن سليمان البَجَمْعَوي (كان حيًّا سنة ١٢٩٩ هـ).
هذه بعضُ شروح كتاب الإمام مسلم، وهي مع غيرها من شروح علماء أهل المغرب، تدلُّ على عظيم المكانة التي نالها هذا الكتاب، وتؤكِّد أهميته عند العلماء، وذلك لما يتمتع به من خصائص حسنة ومزايا متفرِّدة.
ونظرًا لأهمية صحيح مسلم، وما يتَّصف به من سهولة تناول الأحاديث،
1 / 10
والتحرز في الألفاظ، والتحري في السياق، وحُسْنِ الوَضْع، وجودة الترتيب .. ونحو ذلك، فإن بعضَ العلماء يُفَضِّلونه على صحيح البخاري من هذه الناحية، وهذه الوجهةُ من النظر هي التي سادت لدى علماء المغرب العربيّ.
* * *
وقد اختصر صحيحَ مسلم طائفةٌ من العلماء، ونذكر من هذه المختصرات:
١ - مختصر أبي عبد الله محمد بن عبد الله بن تومرت (٥٢٤ هـ).
٢ - الجامع المُعْلِم بمقاصد جامع مسلم: لعبد العظيم بن عبد القوي المنذري (٦٥٦ هـ). وهو مطبوع. وقد شرحه محمد صديق حسن خان بـ (السراج الوهاج في كشف مطالب مختصر صحيح مسلم بن الحجاج" وهو مطبوع في الهند قديمًا.
٣ - تلخيص صحيح مسلم: لأحمد بن عمر القرطبي (٦٥٦ هـ).
وغير ذلك كثير.
* * *
هذا، وقد أضاف الإمامُ القرطبيُّ - رحمه الله تعالى - إلى تلخيص صحيح مسلم عملًا علميًّا، إذ وَضَع عليه شرحًا لما أشكل في تلك الأحاديث من معنى غامض، أو لفظة غريبة، ونبَّه على نكَتٍ من إعرابه، وعلى وجوه الاستدلال بحديثه. ويكفيه أهميةً ومكانةً أن اعتمده الإمامان: النووي والحافظ ابن حجر كمصدر مهمٍّ في شرحيهما على الصَّحيحين.
ولا شكَّ إن العلماءَ اهتموا فيما بعد بكتاب "المفهم" اهتمامًا واضحًا، فها نحن نجدُ بصماته عميقة فيما أُلِّفَ بعده، عند:
- الزواوي في كتابه"إكمال الإكمال" الذي جمع فيه بين المُعْلِم والإكمال والمفهم والمنهاج.
1 / 11
- الأُبِّي في كتابه: "إكمال إكمال المعلم" الذي ذكر فيه أنه ضمَّنه كتب شُرَّاحه الأربعة: المازري وعياض والقرطبي والنووي.
ثم يطالعنا التاريخُ بكتاب "مكمِّل إكمال الإكمال" للسنوسي، وغير ذلك من المصنَّفات التي اعتمدت كتاب "المفهم" واستفادت منه في حلِّ المشكلات وفي الشرح.
* * *
وكتابُنا الذي نصدره اليوم - بعون الله تعالى - يجمعُ بين تلخيص كتاب مسلم، وبين شرح ما أشكل منه، في كتابٍ واحدٍ، رغبةً في تقريب الزاد العلمي للإمام القرطبي لطلاب العلم، والمتخصِّصين، والمثقفين على تنوُّع مشاربهم، وتعدُّد ألوان معارفهم، ففي هذا الكتاب صنوف مختلفة من أنواع العلوم، يجمع بينها الاندغام والتآلف في الفكرة والهدف.
ولا غَرْوَ أن نجدَ الانسجام بين التلخيص والمفهم في الأبواب والأحاديث، فالمؤلِّف واحد، فلا خلافَ في العنوانات، وإن طالت أحيانًا وقصرت أحيانًا أخرى، كما نجد شخصية الإمام القرطبي واضحةً بين السطور، كيف لا؟ ! وهو العالمُ الثبت، والثقة العدل في روايته ودرايته.
* * *
1 / 12
(٢) توثيق التلخيص والمفهم ومنهج المؤلف فيهما
أولًا - التوثيق:
تبدأ عناية أبي العباس القرطبي ﵀ بصحيح مسلم من قرطبة، فيرويه قراءةً وسماعًا وإجازةً، عن شيخين كبيرين من شيوخ قرطبة في مجالسَ آخرُها سنة ٦٠٧ هـ. ثم رواه في مصر عن الشيخ المأموني راوي صحيح مسلم في مصر، وكأن الشيخ القرطبي كان يحرصُ منذ شبابه أن يرتبطَ اسمُه بهذا الكتاب العظيم من كتب السُّنَّة المشرَّفة، فصنعَ له تلخيصًا متميزًا، وضبطَ ألفاظه بالرواية السماعية، ثم شرحَ مشكلاته بما رواه عن مشايخه، وبما فتحَ الله عليه من الفهم والإدراك الذاتيِّ. وشخصيته - رحمه الله تعالى - ظاهرة في مقدمة التلخيص والمفهم، وفي المنهج والأسلوب في كلا الكتابين، بالإضافة إلى صور النسخ المخطوطة الموثقة بالكتابة والسَّماعات، والتي اعتمدناها في تحقيق التلخيص والمفهم. كل ذلك يجعلنا واثقين كل الثقة بحول الله وقوته - ونحن ننفضُ غبارَ السِّنين عن كتاب المفهم ونربطه بالتلخيص مباشرةً في أحدث طباعة وأكمل إخراج - من ظهور طَيْف المؤلف القرطبِّي - رحمه الله تعالى - اسمًا وفكرًا ومنهجًا في كل صفحة وفي كل فقرة، حتى آخر كلمة من الكتاب.
ثانيًا - المنهج والأسلوب:
أ - في تلخيص صحيح مسلم: وضع القرطبي لنفسه منهجًا، نوضحه من خلال مقدمته على التلخيص بالفقرات التالية:
1 / 13
١ - اختصارُ الأسانيد من جميع الأحاديث والروايات والاكتفاء بذكر الصحابي، وأحيانًا التابعي الذي روى عنه.
٢ - حذفُ المكرر من الأحاديث، وذكرها في موضع واحد حسب موضوعها.
٣ - ترجمة الأبواب بعناوين وافية ودقيقة.
وكان قصدُه ﵀ تقريبَ "صحيح مسلم" لمن أراد حفظَه، وتيسيرَه لمن أراد التفقُّه فيه، مع ملاحظة تقاصُر الهمم في زمانه. ومن الإنصاف أن نذكرَ ميزتين لهذا التلخيص تجعله وافيًا ومحيطًا بما حواه الأصل من معارف، ومحقِّقًا لغرض مؤلفه، وهما:
الأولى: اختياره للحديث وفق أتم الروايات وأكملها، ثم إيراد بعض الروايات إن كان فيها زيادة في المعنى.
الثانية: اتباعه لترتيب كتاب مسلم، ولم يُخالف إلا في نقل بعض الأحاديث من أماكنها، وإيرادها في المكان الأكثر ملاءمة مع موضوعها، ونقل كتاب الجهاد من مكانه في الصحيح، ووضعه بعد الحج، إظهارًا لأهميته، واقتناعًا بما يعتبره بعض العلماء من أن الجهاد في سبيل الله هو الركن السادس من أركان الإسلام بعد الشهادتين والعبادات الأربع.
ب - وفي "المفهم" رأى المؤلف ﵀ أن يكمل إفادة الطالبين للتلخيص، بشرح غريبه، والتنبيه على نكت من إعرابه، وعلى وجوه الاستدلال بأحاديثه، وايضاح مشكلاته.
وقد وفَّى - رحمه الله تعالى - بهذا كله وزاد عليه، ونستطيع من خلال "المفهم" أن نسجل حول منهجه وأسلوبه الملاحظات التالية:
١ - بالنسبة للألفاظ الغريبة، يبدأ المؤلف ﵀ بضبطها، ثم يستعرض أقوال علماء اللغة في شرحها، ويشير إلى الأرجح منها، ولكنه يُوردُ بعضَ الألفاظ من صحيح مسلم، ويقول: جاء في "الأم". وفي بعض الأحيان تدخلُ عليه بعض
1 / 14
الألفاظ من صحيح البخاري أو من غيره من الكتب دون أن يشير إلى ذلك، ولعل سبب ذلك الاستقصاء أو توارد حفظه أثناء التأليف.
٢ - الأحكام الفقهية، المستنبطة من الأحاديث ظاهرة في الشرح، وطرائق الفقهاء في الاستدلال والاستنباط واضحة، مع البدء والتركيز على مذهب مالك ﵀ أولًا.
٣ - تأويل المختلف، وحل المشكل، في بعض الأحاديث، يُظهر قدرة المؤلف ﵀ على عرض الاحتمالات والافتراضات، ويساعده على ذلك اشتغاله في أول حياته بالمعقول، وفي الغالب تكون توجيهاته لإزالة التناقض أو التصادم بين الأدلة مفيدة.
٤ - يختم كثيرًا من الأحاديث، وأحيانًا فقرات الحديث الواحد، باستنباط توجيهات وإرشادات مفيدة جدًّا، نتمنى أن لو زاد منها وأكثر.
٥ - تَرِدُ أبوابٌ في "التلخيص" لم يتعرّض المؤلفُ ﵀ إلى شرحِ شيء منها في "المفهم" لأنه لم يَجدْ فيها إشكالًا يحتاج إلى الشرح.
٦ - يمتاز أسلوب القرطبي - رحمه الله تعالى - بالرشاقة وحسن السَّبْك، مع البعد عن التقعر أو التكلف، وترد الجمل المتقابلة أو المسجوعة في كلامه، ولكن من غير تكلُّف ظاهر، وبالجمدة فإن عنايته باللغة والبلاغة من مطلع حياته، جعلت أسلوبه رائقًا وسلسًا، ومقدمتاه للتلخيص والمفهم والنهايات التي كان يختم بها شروح الأحاديث تؤكد ما ذهبنا إليه.
* * *
1 / 15
(٣) فوائد إخراج كتاب "المفهم"
ثمة فوائد كثيرة لهذا الكتاب، نُجمل فيما يأتي أهمَّها:
• مكانته في شرح صحيح مسلم:
يُعَدُّ كتابُ المفهم" - تجوّزًا - شرحًا واضحًا، ذا أهمية بالغة لصحيح الإمام مسلم، فهو حلقةُ وصل لا بُدَّ منها بين المازري والقاضي عياض من جهة، وبين مَن جاء بعد أبي العباس القرطبي كالأبي والسنوسي.
ذلك أن المازري ﵀ شَرَح صحيح مسلم بكتابه "المعلم" شرحًا مختصرًا، أكمله القاضي عياض بأوسع منه، لكنه لم يصلنا. ووَصَفَهُ العلماء بأنه عمدةٌ في بابه، ويحتوي على عبارات غامضة مستغلقة في المعنى كما أشار إلى ذلك الأُبِّي نقلًا عن شيخه ابن عرفة (١). وجاء الإمام القرطبي، واستفاد من سابقَيْه، وأدلى بالجديد بعبارةٍ مفهومة سلسلة من باب ما يُوصف بالسهل الممتنع.
ثم جاء الأُبيُّ والسنوسيُّ بعد القرطبي، واستفادا من الشروح التي سبقتهم، وأضافا إضافاتٍ مفيدة، تُغني شرحَ مسلم، وتُوضح المستغلق منه.
وبذا يُعتبر القرطبي حلقةَ وَصْل متألّقة في رحاب شروح صحيح مسلم.
• أهميته في شرح غريب الأحاديث:
يعتني القرطبي ﵀ عنايةً فائقةً بشرح الكلمات اللغوية، وإيراد تفاصيل حول الكلمة الواردة، من خلال عَرْضه لروايات الحديث المتعدِّدة في كتاب مسلم وغيره من كتب السُّنة، مستدلًا عليها بالآيات القرآنية، ومستشهدًا لها
_________
(١) إكمال إكمال المعلم (١/ ٤٧).
1 / 17
بالشعر العربي، والأمثال، والحِكَم، ومن خلال ذِكْره لأسماءِ كتبِ لم تصلنا، فيُعَدُّ كتابُ "المفهم" حافظًا لما عَدَا عليه الزَّمن، وأتلفه الأعداء من تراثنا العربيِّ والإسلامي.
• تفرّده في تدوين فوائد الأحاديث:
" المفهم" مرجعٌ غنيٌّ ومهمٌّ في التقاط ما يُستفاد من الأحاديث الواردة في صحيح مسلم، حيث أدلى القرطبي دلوه في هذا المجال، بعبارةٍ رصينةٍ موجزةٍ، تُعطي المدلولَ، وتؤدّي المعنى؛ ممَّا يدلُّ على فَهْم واضحٍ وعميقٍ لروح الشريعة الإسلامية، ومقاصد الشارع الحكيم.
• أسبقيته في حل الأحاديث المشكلة:
يُعتبر كتابُ "المفهم" خيرَ كتابٍ، في حل الأحاديث المشكِلة في صحيح مسلم، وإزالة ما بينها من تعارضٍ في الظاهر، أو تناقضٍ في الحُكْم يبدو لأول وهلة.
• إنصافه في عَرْض الآراء المذهبية:
يعرضُ القرطبي الخلافات المذهبية، والآراء الاجتهادية، في فروع الشريعة، ويبرز مذهبَ الإمام مالك، ويُفصِّل فيه، وقد يكونُ له رأي مُتفرِّد.
وقد اتَّسم القرطبي برحابة الصَّدْر، وسعة الأفق الفكري، فلم يتعصَّبْ لمذهبه المالكي، لكنه عارَضَ بشدَّة أهلَ البِدَع والأباطيل، وبيَّن بُعْدَهم عن الشريعة، وغلوَّهم فيما يذهبون إليه.
• لماذا هذه الطبعة؟ وما فائدتها؟:
أصبح نَشْرُ "التلخيص" و"المفهم" واجبًا لا بُدَّ منه، بعد أن تمَّ اكتشافُ مخطوطاتهما المتناثرة في أنحاء العالم، والتي يكمِّل بعضُها بعضًا، وكان تحقيقُ هذا الأمر حُلُمًا في الماضي، وسيصبحُ - بإذن الله تعالى - في طبعتنا هذه حقيقةً واقعةً، ينالُها كل طالب علم، ومحقق وباحث في عالم المعرفة والتراث.
1 / 18
(٤) وصف النسخ الخطية المعتمدة وخطة التحقيق
أولًا - نسخ التلخيص:
اعتمدنا - بحول الله تعالى وقوته - على نسختين خطيتين لتلخيص صحيح الإمام مسلم.
الأولى: نسخة شستربتي (ش):
تتألف من (٢٦١) ورقة. قياس (٢٣× ١٤) سم. في الصفحة (٢٢) سطرًا. في السطر (١١ - ١٥) كلمة.
الخطّ نسخ واضح، والكلمات مضبوطة بالشكل. والنسخة كاملة، مُقابَلة، مُصحَّحة؛ لذا اعتمدناها النسخة الأم.
وفي آخرها: تمَّ هذا الكتاب الشريف، وهو تلخيص كتاب مسلم، وهو آخر الكتاب. والحمد لله حق حمده، وصلواته على سيدنا محمد وآله وأصحابه وسلامه. وكان الفراغ منه في الثامن من شهر شعبان المكرم سنة سبع وثلاثين وستمئة.
أي: إن هذه النسخة كُتبت في عصر المؤلف، وقبل وفاته بنحو ثلاثين عامًا.
الثانية: نسخة دار الكتب المصرية (ك):
نسخة مُصوَّرة من دار الكتب المصرية برقم (٧٣١٥). عدد أوراقها (١٦٣). قياس (٢١ × ١٤) سم. في الصفحة (٢٣) سطرًا. في السطر (١٧) كلمة.
1 / 19
الخط واضح. وعلى الغلاف عدَّة تملُّكات.
وهذه النسخة مُقابلة مُصحَّحة، وهي الجزء الثاني من التلخيص. وفيها من الأبواب من كتاب: النكاح إلى كتاب التفسير.
وفي نهاية النسخة: هذا آخر الملخص من صحيح مسلم ... كتبه العبد الفقير إلى رحمة ربِّه وعفوه ومغفرته: علي بن أبي بكر زعاد الخصوصي الأنصاري. وافق الفراغ من كتابته: الرابع من شهر صفر من سنة ثمان وثلاثين وسبعمئة.
* * *
ثانيًا - نُسَخ المفهم:
بعون الله تعالى وحُسن توفيقه حَشَدنا أكبر عددٍ مُمكن من النُّسخ المصورة لكتاب "المفهم في شرح ما أشكل من صحيح مسلم"، وكان ذلك عَوْنًا لنا في إيجاد طبعةٍ مُوثقةٍ مضبوطة، أقرب ما تكون إلى ما صَنَعَهُ الإمامُ القرطبي ﵀.
ويُمكن أن نعتبر النسخةَ العثمانية نسخةً متكاملة بأجزائها الأربعة، فاعتمدناها كأصلٍ، نَسَخْنا عنه كتابَ "المفهم". ثم قابَلْنا ذلك ببقيَّة النسخ المتوفرة، فخرج الكتابُ - بفضل الله - كأحسن ما يكون، وعلى أتمِّ مرادٍ مأمول.
وقد اعتمدنا في التحقيق والتوثيق على النسخ التالية:
١ - النسخة العثمانية (ع):
هي النسخة الأم المعتمدة، مصوَّرة من مكتبة الأسد العامرة بدمشق، رقمها (١٢٣٠) خاص. وتقع في أربعة أجزاء، قياس (١٩× ١٣) سم، في الصفحة (٢٢ - ٢٤) سطرًا، في السطر (١٣ - ١٦) كلمة. كُتبت بخط نسخ مقروء، وفي بعض الصفحات كلمات غير واضحة بسبب الرطوبة.
1 / 20
وتُمثل هذه النسخة نصًّا كاملًا لكتاب "المفهم" على الرغم من النقص الموجود في ثنايا أجزائها، والذي استدركناه من بقية النسخ.
وعلى الغلاف ثلاثة أبيات شعرية للإمام الحافظ السِّلَفي:
ليس حُسنُ الحديثِ قُرْبَ رجالٍ ... عند أربابِ عِلْمِه النُّقَّادِ
بل عُلُوُّ الحديثِ عند أولي الإتـ ... ـقانِ والضَّبط صحَّة الإسنادِ
فإذا ما تجمَّعا في حديثٍ ... فاغْتَنِمْهُ فَذَاكَ أقْصَى المرادِ
وعلى الغلاف أيضًا ترجمةٌ موجزةٌ للإمام القرطبي، وهي بتمامها:
وُلِد المؤلفُ سنة (٥٩٨) أو (٥٧٨) في الأندلس، وتوفي في الإسكندرية سنة (٦٥٦) كما في ترجمته في "الديباج المذهب" لابن فرحون المالكي ص (٦٩). وذكر فيه أن مِن تلاميذه أبا عبد الله القرطبي المفسِّر، صاحب التفسير المشهور. كتبه عبد الفتاح بن محمد أبو غدة الحلبي - عفا الله عنهما -. ٢٧/ ١٢/ ١٣٦٦.
وهذه النسخة تتوزع على أربعة أجزاء:
الجزء الأول: من أول الكتاب إلى نهاية باب: مَن أحبَّ لقاء الله أحبَّ اللهُ لقاءه. ويتألف هذا الجزء من (٢٥١) ورقة. وفيه نقص عدَّة ورقات من كتاب الإيمان.
الجزء الثاني: من أول كتاب الزكاة إلى آخر باب: تحريم بيع الخمر. ويتألف من (٢٥٤) ورقة. وعليه تملُّك باسم: أحمد الشراباتي، وتملك ومطالعة باسم: إبراهيم بن أحمد بن الملا محمد. وفرغ ناسخه من كتابته يوم الأربعاء السادس عشر من جمادى الآخرة سنة (٧١٨ هـ).
الجزء الثالث: من أول باب: الصرف والربا إلى نهاية باب: قول النبي ﷺ: "لا تخيِّروا بين الأنبياء". ويتألف هذا الجزء من (٢٧٥) ورقة. وعليه تملُّك ومطالعة باسم: إبراهيم بن أحمد بن الملا محمد سنة (١٠٠٤). وفي هذا الجزء خمسة كتب ناقصة هي: الحدود، الأقضية، الصيد والذبائح، الأشربة، الأطعمة.
1 / 21