ولقد رجوت إذ ذاك زميلي إبراهيم عبد الهادي باشا أن ينوب عني في إطلاع أعضاء هيئة المفاوضة المصرية، على ما وصلنا إليه من نتائج، فتفضل وقام بهذه المهمة، ولما عاد إلي وأنا على فراش المرض لحظت في عباراته ما يدل على شيء من خيبة الأمل!
ولما سمح لي الطبيب بأن أتصل بالهيئة دون أن أبرح منزلي، تبين لي من أول اجتماع أن الزملاء في غالبيتهم كانوا حريصين لا على استظهار مزايا المعاهدة الجديدة، ولكن على التنقيب وراء كل ما يمكن أن يكون محلا للنقد ... وهكذا كانت مناقشات هيئة المفاوضة مظهرا من المظاهر المخيبة لآمال جميع التواقين إلى تصفية ما بين مصر وإنجلترا، من مشكلات طال أمد حلها ... فلما وصلنا إلى هذا الحل وحققنا الأمنيتين الغاليتين العزيزتين - الجلاء ووحدة الوادي - اصطدمنا بالعراقيل وبالاعتراضات، وكلها غير ذات وزن يذكر أمام جدية النتائج، التي وصلنا إليها وقوتها مما سنقيم عليه الدليل، وقد أصبحنا في حالة من أغرب ما يمكن أن يصادف بلدا يسعى إلى تحقيق أهدافه ... حالة تقوم على مرأى من الخصوم، ومن الأصدقاء على السواء، والكل في حيرة من أمرنا: يفيق المستعمرون من الإنجليز، فيتبينون أن مصر أفادت فوق ما كان ينتظر أن تفيد من سخاء ساستهم، بينما يعمل البعض منا على تصوير مكاسبنا البارزة الواضحة في الصورة، التي تثير الريب وتبلبل أفكار المواطنين، فينتهي الحال بأن يكون الفائز، لا نحن - وقد كلل سعينا بالنجاح - ولكن المستعمر الذي كانت قد أفزعته مساعينا الناجحة، وما كان ليقدر أن يأتيه الفرج والخلاص من ناحيتنا نحن لا من ناحيته.
ردي على المعارضين
تحدثنا في الفصل السابق عن معارضة غالبية هيئة المفاوضة لمشروع المعاهدة المبرمة في لندن، وقلنا: إن هذه المعارضة لم تكن مبنية على أسباب لها وزن يذكر، ووعدنا بإقامة الدليل على سلامة موقفنا، وعلى ما قلناه من أن ما عدنا به من لندن يعتبر تحسينا ذا شأن حتى على مشروع الهيئة، الذي اعتبر بالإجماع المشروع الذي لا يمكن قبول ما هو أدنى منه ... ويقتضينا الإنصاف - وقد نشرنا فيما مضى المشروع الذي أقررناه أنا ومستر بيفن في 25 أكتوبر سنة 1946 - أن نورد هنا نص البيان، الذي نشرته غالبية هيئة المفاوضة المصرية، في 26 نوفمبر سنة 1946، وقد تضمن الأسباب التي دعت هذه الغالبية إلى عدم الموافقة على المشروع الجديد: (1)
بتاريخ 17 سبتمبر سنة 1946 تقدم الجانب البريطاني بمشروع اتفاق نص في الفقرة الثانية من المادة الثانية منه على أنه «في حالة تهديد سلامة أية دولة من الدول المجاورة لمصر، اتفق الطرفان الساميان على أن يتشاورا معا؛ لأجل القيام بالعمل الذي تتبين ضرورته، وذلك إلى أن يتخذ مجلس الأمن التدابير اللازمة لإعادة السلم إلى نصابه.»
ولكن الهيئة رفضته في مذكرتها الإجماعية، التي أقرتها بجلسة 23 سبتمبر سنة 1946 لما تبين لها من أن الارتباط به قد يؤدي إلى اتخاذ مصر قاعدة لأعمال حربية، وما يستتبع ذلك من احتمال عودة القوات البريطانية إلى احتلال أراضيها، فضلا عن أن عبارة «تهديد السلامة» عبارة مطاطة تحتمل تأويلات متباينة.
وبمراجعة مشروع «بيفن - صدقي» يتبين أن هذا النص، وإن كان قد حذف من المادة الثانية إلا أنه أضيف بما يحقق كل معناه، ويكاد يتفق مع حرفه، إلى المادة الثالثة.
ولم يكن من المستطاع أن نقبل ما سبق أن تقرر رفضه بالإجماع، ولا أن نجيز نصا يجر البلاد إلى الاشتراك في اتخاذ تدابير غير محددة، قد يكون منها تعكير صفو العلاقات الودية بين مصر ودولة أخرى، أو تسليم مرافقنا أو بعضها إلى السلطات العسكرية البريطانية، مما يؤدي - كما سبق القول - إلى اتخاذ مصر قاعدة لأعمال حربية .
أما إبدال كلمة «عمل» بكلمة «تدابير»، فإنه لا يغير من الموقف شيئا؛ لأن من التدابير ما قد ينتهي إلى أعمال عدائية أو ذات نتائج خطيرة. (2)
أما عن مطلبي الأمة الأساسيين: الجلاء ووحدة وادي النيل، فقد وقع إجماع الهيئة - فيما يختص بالجلاء - على أن تقدير ثلاث سنوات أجلا لإتمامه تقدير مبالغ فيه، وأن الجلاء مستطاع في أقل من هذا الأجل بكثير من الناحية المادية، وخاصة إذا لوحظ أن العمليات الحربية توقفت توقفا تاما منذ أكثر من سنة، وكان من المفروض أن تبدأ القوات البريطانية، التي جلبت بسبب الحرب في الجلاء عن المدن والأراضي المصرية، عقب توقف العمليات الحربية مباشرة، لا سيما وأن معاهدة سنة 1936 نفسها لم تجز لهم إلا البقاء في منطقة محدودة، وبقوات محدودة العدد لا تزيد على عشرة آلاف جندي وأربعمائة طائرة.
অজানা পৃষ্ঠা