وبعد السلام، أم المسجد الحرام، فنزل وطاف ثم سعى ثم أم دار الإمارة وجلس مجلسا عاما قبل أن يضع إحرامه، فسلم عليه الخاصة والعامة حتى انتهوا بعد صلاة الظهر. أما أنا فقد انهزمت إلى الجناح الذي خصص لي، فحللت الإحرام ودخلت الحمام، ثم اضطجعت وقد غلبني النوم بالرغم من حر مكة شرفها الله، ولم يوقظني أحد، حتى الغداء تركته يومئذ؛ وكنت بجوار العم المرحوم الشريف ناصر، وكان يهديني إلى ما أجهله ويعلمني كل ما يجب أعرف. ولقد كانت تلك الليلة - أي أول ليلة أمضيناها بمكة بعد الغيبة الطويلة - أسعد وأشرف ليالي على الإطلاق، حيث العودة إلى الوطن برضا الباري وبالعز وبالرفعة، شاهدت فيها الأهل والأحبة. ولقد تحسست بأحاسيس غريبة، وخصوصا لما تشرفت بتقبيل أنامل الشريفة فاطمة الكبرى بنت محمد بن عون وعمة والدي، وهما آخر ذرية محمد بن عون لصلبه، حيث قبلتني في جبيني وقربتني وأدنتني، وكانت سيدة طويلة بيضاء سبطة اليدين طويلة الأنف عريضة الجبين مهابة. ثم تشرفت بالعمة الكريمة زين الشرف بنت علي بن محمد.
وتتالت الأيام، وكل يوم يفد فيه من شتى البلاد رجالات لهم مكانتهم في محالهم وعشائرهم. هذا ولا ينبغي أن أغفل ذكر وفد حزب الاتحاد والترقي التركي، عندما سلم على الأمير بجدة، متقدما باسم الاتحاد والترقي، يرأسه عبد الله قاسم، وقال:
جئنا نرحب بالأمير الدستوري الذي يؤمل من سيادته أن يضرب صفحا عن الأصول الإدارية القديمة وعن الظلم الذي كان يرتكبه الشريف عون الرفيق والشريف علي، تبعا للإدارة المستبدة السابقة وإرضاء للسلطان، وإن البلاد إذ تحيي سيادة الأمير فإنها تحيي فيه الأمير الذي عرف روح العصر والتجدد المطلوب للعمل، تحت الدستور الذي هو نبراس السلامة.
فأجابهم بقوله:
لقد حظيت بمقام أسلافي وآبائي على الشريطة التي بايع بها الشريف أبو نمي السلطان سليم الأول، وإن هذه بلاد الله لا تقوم فيها غير شريعة الله المشتملة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ وهي حريصة على الاحتفاظ بحقها، فليذهب كل منكم ليشتغل بما يخصه: المأمور في وظيفته، والتاجر في تجارته، والصانع في حرفته؛ وإياكم من قال وقيل وما يقولون، فهذه بلاد الله ليست بملك لأحد. وإن السلطان الآمر بالدستور الذي تذكره والذي أمر بأن يعمل في بلاده، يفتخر هو وأسلافه بأنهم خدام الحرمين الشريفين وليس الخادم بالملك. دستور بلاد الله وشريعة الله وسنة نبيه.
فخرجوا يتعثرون، وكتبوا إلى الأستانة وإلى مراكزهم يقولون: بعث عبد الحميد برجل جلس على مقام أسلافه لا يعبأ بأحد ولا يقر بدستور ولا بتجدد. وقد ابتدأت الحرب بينه وبين الاتحاد والترقي من تلك اللحظة.
وفي مكة، وبعد إقامة ثلاثة أيام فيها، أمرت بالسفر إلى الطائف، لاستصحاب الأمير السابق الشريف علي بن عبد الله بن محمد بن عون، وهو خالي شقيق والدتي وابن عم والدلي، والقدوم به إلى مكة المكرمة. فتوجهت من مكة أول ذي الحجة عن طريق عقبة كرى، ومعي الشريف جميل بن ناصر ابن عمي، وابنا خالي الأصغر محسن بن محمد وعبد الله بن محمد، فمررنا في طريقنا على منى ثم عرفات ثم وادي المحرم فالحراجل فالكر وقضينا الليل به. والكر هذا موقف بأسفل عقبة كرى، وكرى جبل من السراة ارتفاعه عن سطح البحر ألف وسبعمائة متر. ولما أصبحنا استأنفنا الطريق صعدا، على البغال، وكان الطريق يتلوى يمينا ويسارا بانحرافات ضيقة وببعض محلاته درج وعتب، وهي مخيفة لعلو جبلها ووعورته وميله الشديد، يمتد ثلاث ساعات ونصفا وينتهي إلى المعسل - والمعسل ماء ينبع من الجبل خفيف عذب شديد البرودة - ثم يصل الراكب إلى الهدى، والهدى قرارة في رأس الجبل، بها أنواع الأشجار المثمرة والمياه العذبة والقرى الجميلة، يكون به أحسن العسل، وهو لقريش والنمور - وقريش هؤلاء بقية من قريش الظواهر - وإذا قام الرجل برأس العقبة بعد الظهر يرى جدة والبحر.
فقابلنا هناك أهل الهدى أحسن استقبال، ونزلنا في دار شيخ القرية، وبعد أن سلم علينا أهلها قدموا إلينا (اللطف) وهو على لغتهم فكوك الريق، ولطفهم خبز سميك يرفع بالكلاليب في طست عظيم يوضع في وسط السماط وعلى يمينه ويسار مثله، يأتي أحدهم يطعنه بجنبيته أو رمحه فترى البخار يخرج من خلاله، ويأتي آخر وبيده عكة من سمن الشفا المخدوم فيريقه عليه، والآخر وبيده عكة من العسل المصفى فيتبع السمن العسل، ثم يؤتى بالجبن الأبيض في أوان متوسطة ولحم سليق مبرد وشيء من الملح الصخري والفاكهة الموجودة، إما العنب أو ما يكون من فاكهة الموسم، وإن كان الوقت شتاء جاءوا بالزبيب الرازقي الذي لا بذور له. هذا هو اللطف الذى قدم لنا. وبعد أن انتهينا من فطورنا جاءوا بالقهوة الخفيفة، ثم دعينا إلى الصعود على رأس الحبلة - والحبلة جبل أسود فوق الهدى - فلما صعدناه رأينا في ناحية الغرب البحر تتلألأ فيه الشمس، ورأينا من ناحية الشرق (حضن) جبل البقوم الذي جاء الحديث عنه، وهو قوله
صلى الله عليه وسلم : «من رأى حضنا فقد أنجد».
ثم عدنا ومررنا في طريقنا على الشريف الحسين بن زيد بن فواز، وكان في مرض موته، ولقد أحزنني منظره. وقال: خرجت من الطائف للقاء سيدنا بجدة، ولكن أعجزني السفر وقعد بي المرض، وقد كافأني الله بأن رأيتك. وكانت وفاته بعد ذلك بيوم، ومرضه السل. فعدنا إلى دارنا التي نزلنا بها، وجاءوا بالغداء، وإذا هو مركب من ست ذبائح: ثلاث ندى، وهو يصنع بطريقة خاصة في حفرة جمرية يختم عليه حتى ينضج، فإذا أخرج بعد نضوجه توضع حوله أقراص من الفطير وأوان بها العسل وأوان بها الطحينة، وثلاث ذبائح سليق تحتها الأرز المطبوخ بالمرق وكانت الفاكهة العنب. فتغدينا ثم استأنفنا الطريق بين البساتين النضرة المثمرة تحف بها عرش الأعناب. وبالجبل هذا أشجار السرو والعرعر والعتم والبشام والقيقب. ثم انحدرت بنا الطريق من النقب الأحمر، ومرت بنا على الدار البيضاء، قرية لقريش بها العنب واللوز والخوخ وسائر أشجار الحجاز المثمرة ، كالعناب والكمثرى والبخارة، فاجتزناه ومررنا بقرى أخرى بواد المحرم الشرقي، ثم ارتفعت بنا الطريق تاركة جبل الغمير إلى اليمين، وانتهت بنا الجبال وإذا بالطائف المأنوس في قرارته الفسيحة وواديه الخصب، وهو وج، وهضابه الحمر ومساكنه البيضاء الضاحكة وقراه: كالمثناة والسلامة وقرواء والعكرمية وشهار وحواية ثم شبرا وبها القصر الملكي، وقابلنا هناك الشريف جعفر بن ناصر موفدا من الشريف علي بن عبد الله.
অজানা পৃষ্ঠা