ولقد جاء صديقي ب. من مونبلييه إلى نيم لمقابلتي، وزرنا بعض هذه الأماكن معا، وآخر النهار سافرت إلى مونبلييه.
22 مارس
ليس لي أن أكتب شيئا عن مونبلييه، فإني وإن كنت قد بقيت فيها يومين وشهدت بعض الشيء من آثارها فلقد كنت مشغولا بصديقي ب. الذي أخذ كل وقتي ونفسي، ولم يسمح لي المقام معه أن أعرف عن بلده أكثر من أنه بلد ريفي ككل بلاد الريف التي رأيت: ككلرمنت ونيم أو أقل من هذه الأخيرة بعض الشيء.
أما اليوم بين جدران آرل فإني أحس بأقوى مما أحسست به في نيم، تصورت أمام عيني كل معاني القدم والفناء ظاهرة واضحة في هذه الآثار القديمة والأطلال الدراسة، وليست الأرينا وحدها التي هي أعرق في البناء بكثير من أرينا نيم هي التي تدفع لهذا الإحساس، بل إلى جانب الأرينا تقوم بقايا التياترو الروماني ولم يبق منها أحجار إلا منشورة، واثنين من العمد الكثيرة التي كانت ونقلت إلى الكنائس والهياكل، والمنظر كله يشعر بالقدم البعيد وتحس وأنت واقف في هذه الوحدة والصمت المطلق كأنما تناجيك من تحت الأحجار بصوت خافت تلك الأرواح البالية الفانية التي عمرت يوما ما هذه الأماكن.
أين ذهب هؤلاء الرومان الأقدمون؟ من يدري، ابتلعهم الفناء في جوفه الهائل ثم قذف بهم بعد ذلك أشجارا وحيوانات وجسوما انتقلت هي الأخرى مرات إلى الظلمة ثم ردت في أشكال مختلفة إلى نور الشمس الذي شهدها في غيرها من غير أن يحس لها من أجل ذلك بفرح أو ألم.
وهذا المرسح الدارس الصامت كان مكان الضحكات العالية والسرور الجم؟ وهذه العمد البالية كانت موضع الإعجاب بجمالها، وهذه الأحجار الضخمة موضع الهيبة وسط البناء، نعم كلها كانت كذلك، ثم ها هي اليوم ولا صوت لها ولا حياة فيها إلا حياة القدم المهيب.
والرومان الأقدمون كانوا سكان هذه الأماكن هؤلاء الناس الذين عمروا الأرض وانتشر عليها سلطانهم ولم يك لهم من منافس هم أشد صمتا من هذه الأحجار التي أرى.
وعلى مقربة من هذه الآثار ينصب نهر الرون قوي التيار، وقد شهد هو الآخر كل هذه التقلبات، وربما قذف مرات مع مياهه دماء وأشلاء وأشياء في الماضي، وهو مستعد لأن يقذف بالدماء والأشلاء في الحاضر والمستقبل إلى البحر، والماضي والحاضر والمستقبل كلها عنده سواء.
ترى في آرل متاحف تحوي الأشياء القديمة، وترى فيها سكانها المشهورين بجمالهم يروحون ويجيئون ويقضون حاجات الحياة من غير أن يفكروا في هذه الآثار المطروحة تحت أقدامهم، ولا في الجمال المتوجة به رؤوسهم.
أقمت في هذا البلد ليلة واحدة ونهارا، وكنت في كليهما ممتلئا سرورا وإعجابا ومهابة وأحلاما.
অজানা পৃষ্ঠা