إذن فليس بصحيح أن هذا القانون المرجو الذي يسمح للقاضي بالتداخل في أمر الطلاق يكون سببا في احترام رابطة الزواج ولا في حفظ كيان العائلة، ولا في شيء من هذا، بل إنه يكون اعتداء على حرية مقدسة هي حرية الإحساس ، ويضطر كثيرين وكثيرات لإذاعة أشياء لا يودون إطلاع أحد عليها من أسرار العائلة، وهل من العدل أو الذوق أو من المعقول أن يجعل الإنسان يسرد الحوادث الدخيلة التي تغير من أجلها شعوره ليحكم فيها محكمون.
إذا كان هذا الرأي لا يسير مع القانون ولا يتفق مع المصلحة ولا ينصح به العقل، فأي سبب دعا أصحابه للقول به ومنهم عقلاء مفكرون ليس من السهل الحكم بأنهم قالوه جزافا؟ السبب بين واضح: أنهم رأوا كثرة الطلاق عندنا إلى حد مريع وقفوا إزاءه مبهوتين، وأرادوا في الوقت عينه أن يجدوا ما يداووا به الحال، وأول ما يطرأ بالبال أن يضع الإنسان في الطريق مانعا يقف في وجه الشر الذي يرونه، وكأنما يغيب عنه أن وضع المانع يضيف إلى قوة هذا الشر المحجوز، فيدفع بناره كل ما أمامه، ويسير بقوة أكثر من ذي قبل، في حين إن استطاع أن يجد له منفذا ينصرف منه هدأ ذلك من حدته رويدا رويدا حتى يزول، كذلك لنقوم نحن في وجه الطلاق بحزم وحكمة يلزم أن نضع مانعا في الطريق مسألة الإرادة والنية وعلم بالزواج الثاني، ثم نفتح منفذا بإعطاء المرأة حق الطلاق ولو في المسائل القليلة التي ذكرنا.
وإنه ليخيل لي أن هؤلاء المفكرين لم يرد ببالهم هذا الحل، ولو أنه ورد لما استعاضوا عنه بديلا ولا عدلوا به آخر يقص أطراف حرية نملكها اليوم ويجعلنا بدل أن نتقدم مع الزمان إلى أوسع نطاق ممكن من الحرية نتقهقر يوما بعد يوم، كما أنه يظهر لي كذلك أن الحال في أوربا بلاد المدنية أثر عليهم فقالوا: وما لنا لا نكون مثلهم فنبلغ مبلغهم وترقى العائلة عندنا رقيها عندهم! ولكن العادات والأخلاق والآداب في الأمم لا تجيء مسألة نقل عن آخرين، ولكنها نتيجة عمل أزمان وأجيال تنقلت فيها الأمة من حال لحال، وتدرجت من يوم إلى ما بعده، وتنمو فيها عادة وتستيقظ أخرى، ويقوم قانون ويلغى آخر مع دورة الزمان؛ لذلك من الخطأ الواضح أن تريد أمة إقامة بنيانها بمجموع أخلاق غيرها وقوانينهم وآدابهم؛ فإنها إن عملت ذلك فقدت شخصيتها ونسي أبناؤها أنهم أبناؤها؛ إذ لا يجدون قلوبهم ملأى باحترام ماضي أمتهم الطويل، وإن وجهوا أنظارهم لشيء وجهوها لمن أخذوا عنهم، فتموت فيها صفات الأمة وتسقط عنهم كل معانيها.
حسبنا ما أخذنا في الماضي عن أوربا إرضاء لأطماع ملوكنا وحكامنا؛ فإنا لا نزال ننوء بأحماله إلى اليوم، ولنجعل مستقبلنا دائما نتيجة من نتائج الماضي تنقلها الأيام وتضيف لها قليلا قليلا من أجزاء الحرية التي نفقد، وإنا بعد ذلك على يقين من أن الغاية التي نصل لها تكون أرسخ قدما ألف مرة مما لو كنا لنستمر في التقليد البحت كما أنها تكون أقرب منالا.
7
من الأشياء التي تشغل فكر كل باحث في شأن العلائق بين الرجل والمرأة مسألة العائلة، فهي دائما الغاية التي ترمي بفكره وأكبر آماله أن يصل من بحثه إلى جعلها متماسكة وسعيدة؛ ذلك لأن العائلة هي الأمة المصغرة، فإذا ما سعدت هي وتماسكت كان ذلك سعد الأمة وتماسكها، هي كذلك موضع فزع أنصار الحاضر المتخوفين من كل تغيير المعتقدين أن كل خطوة إلى الأمام دخول إلى عالم الشرور، وهؤلاء يخيل لهم أن الموجود مهما كان به من فساد وعوج خير من غير الموجود ولو تحقق عنه النفع والخير.
لا حاجة لي أن أذكر هنا فساد هذا المبدأ، فلو تحقق يوما ما لكان الضربة القاضية على العالم، ولو عمل به جديا لكنا اليوم لا نزال في عهد آدم وحواء، هذا رغما عن أنه من المحال أن يعمل به إذ ما دام للناس في رؤوسهم عقول يفقهون بها وأعين يبصرون بها فهم دائما سائرون أرادوا ذلك السير أو أبوه.
مسألة العائلة مسألة كبيرة عويصة الحل، ومن أجل أن نصل إلى إسعادها يجب أن نضع أمامنا فروضا كثيرة لنرى أيها يصل بنا إلى ما نشاء، وكما هو الحال في كل أمور العالم يلزم أن نطلب دائما ما هو أحسن من الحاضر، ونوجه كل سعينا هذه الوجهة غير متخوفين ولا مزعزعي العقيدة في ما نعمل أو الثقة بأنفسنا، يجب أن نطلب ذلك مهما كان الحاضر حسنا؛ فإن الكمال لم تطأ قدمه أرضنا بعد، وكل عمل الإنسانية إنما هو السعي نحو الكمال.
فرضت أمامي أشكالا من العائلة متعددة فلم يكن ما عندنا اليوم بخيرها، كلا بل ولا هو بالحسن منها، وما بالك بعلاقة منغصة العرى ورابطة مفصومة، وأفراد كل يحس من ناحيته غير التي يحس منها صاحبه، ويفهم بشكل غير الذي يفهم به الآخر، ويعيش بعيدا عنه أغلب الأحيان، ويهتم بأمور لا تعني الثاني ولا يعلق عليها شيئا من الأهمية، فإذا ما جمعتهم الصدفة أو الحاجة رأيت مجموعا مفكك الأجزاء يحكم عليه أغلب الأحيان سكوت أخرس، وإذا ما تكلموا ظهر على كلامهم من أثر التكلف، وينادي كل منهم صاحبه إما بألقاب التفخيم والتبجيل والإجلال أو الإصغار والاستهانة، ما بالك بقوم ينحصر كل ما بينهم من الصلة في إنتاج الأبناء.
ولقد وجد من يهتمون بزيادة الأمة ضعفا عن ذلك المكان ما يبلغون به غرضهم، فزادوا الهوة بين المتفرقين سعة وخرجوا الابن على غير شكل آبائه، وأعطوه من التعليم ما لا يبقي له سبيلا لمشاركتهم في الإحساس، ولما كنا لا نهتم بشأن الرابطة بيننا وبين أبنائنا وأزواجنا بما نفثه هذا الشكل من الحياة في قلوبنا، لم نشعر بعملهم ورحنا نتخبط في البحث عن أذاهم وننسب لهم أشياء كثيرة صغيرة في حين نسينا هذا الداء الكبير.
অজানা পৃষ্ঠা