وكان الاتفاق قد تم قبل نقل السجين على أن يكتب إلى أمه بمجرد الإذن له في مراسلتها، وأن يرسل كتبه إليها بعنواني، وكان أبوه قد رفض بتاتا أن يرى ابنه، من اللحظة التي اعتقل فيها، وأصبح سواء لديه أبقي حيا أم ذهب في الهالكين.
وانصرمت عدة سنين، ولم يأتنا عنه نبأ، ولما انقضى أكثر من نصف المدة المحكوم بها عليه، ولم أتلق منه كتابا، استنتجت من انقطاع أخباره أنه قضى نحبه، بل لقد رجوت أن يكون الموت قد أدركه.
ولكن الواقع أن أدموندز كان قد أرسل إلى موضع قصي من الأرض، عند قدومه إلى مستعمرة السجناء، ولعل هذا هو السبب في أنني لم أتلق منه ولا كتابا واحدا، وإن كان قد بعث إلي بعدة خطابات، وقد لبث في ذلك الموضع عينه المدة المقررة كلها، وهي أربعة عشر عاما، ولما انقضت اتخذ طريقه إلى هذه البلاد وهو ذاكر عزمته القديمة، والميثاق الذي قطعه على نفسه لأمه، ولقي في سفره صعابا كثيرة وأهوالا عدة، حتى عاد ساعيا على قدميه إلى موطنه.
ففي أصيل يوم أحد جميل، في شهر أغسطس، قدم «جون أدموندز» إلى القرية التي غادرها مجللا بالعار والشنار قبل ذلك بسبعة عشر عاما، وكان أقرب طريق إليها يمر بالكنيسة، وما كاد الرجل يجتاز باب فنائها الخشبي حتى هاجت الذكرى في فؤاده، وراحت أشجار «الدردار» القديمة الفارعة، التي ألقت الشمس وهي في المغيب، من خلال أفنائها، ضياء سنيا على الدرب الظليل الممتد أمامها - توقظ في نفسه ذكريات أيام طفولته الخالية، فمضى يتمثل نفسه يوما وهو متشبث بيد أمه، منطلق في سكون معها إلى الكنيسة، وتذكر كيف كان من عادته أن يتطلع إلى وجهها الشاحب، وكيف كانت عيناها تغرورقان أحيانا بالعبرات، وهي تنظر إلى معالم وجهه، تلك العبرات السخينة التي كانت تساقط على جبينه، وهي تنحني عليه لتقبله، وتستثير دموعه هو كذلك وعبراته، وإن لم يكن يعرف يومئذ مبلغ المرارة التي كانت تختلط بدمعها ... وتذكر كذلك كم مضى يعدو فرحان جذلا في هذا الدرب مع بعض اللدات من الصبيان مثله، ملقيا بين لحظة وأخرى عينه إلى الخلف ليلمح بسمة أمه، أو يسمع صوتها الحنون، وسرعان ما أحس كأن ستارا قد رفع عن ذاكرته، فما لبث أن تزاحمت على خاطره مشاهد قسوته، حين كان يتلقي كلمات الرفق والحنان منها بجفوة، ونذرها بسخرية، ووعوده لها بخلف ونكث، حتى لقد أحس في قلبه رجفة بالغة، فلم يعد يستطيع احتمالا ولا تجلدا ...
ودخل الكنيسة، وكانت صلوات المساء قد انتهت، والمصلون قد انصرفوا، ولكن الأبواب لا تزال مفتحة، فكانت خطواته - وهو يمشي في جنباتها - تتردد أصداؤها جوفاء غريبة الوقع، حتى لقد أوجس خيفة أن رأى نفسه بمفرده، وأحس السكون البالغ من حوله ، فأدار في المكان عينه، فتبين له أنه لا يزال على قديم عهده، لم يعتره تحول ولا تبدل، وإن بدا أصغر مما كان يألفه، ولكن ها هي ذي التماثيل القديمة، التي طالما تطلع إليها بتلك الرهبة الصبيانية ألوف المرات، وها هو ذا المنبر الصغير، بوسادته الناحلة اللون، ومائدة العشاء الرباني التي طالما وقف أمامها ليردد «الوصايا» التي كان يجلها وهو صبي، وقد نسيها وهو رجل، ومضى يقترب من المقعد القديم، فبدا له باردا مهجورا، وكانت الوسادة قد أزيلت عنه، ولم يجد الكتاب المقدس في موضعه، فقال في نفسه لعل أمه اليوم تتخذ مقعدا أقل شأنا، أو نراها وقد وهن العظم منها، فلم تعد تقوى على المجيء إلى الكنيسة وحدها، ولم يجرؤ على التفكير فيما كان منه متوجسا، وسرت برودة في أنحاء نفسه، ورجفة شديدة في كيانه، فأشاح ببصره موليا، وكان شيخ كبير قد دخل السقيفة في اللحظة التي وصل فيها، فأجفل أدموندز متراجعا، فقد عرفه حق المعرفة، ولطالما شهده وهو يحفر القبور في مقبرة الكنيسة ... وتساءل خاطره: ماذا عسى أن يقوله هذا الرجل للسجين العائد؟
ورفع الشيخ عينيه ليتأمل وجه هذا الغريب، وحياه بقوله: «طاب مساؤك.» وانطلق بخطى وئيدة، وقد نسيه، ولم يعرف من هو.
ومضى يهبط التل، ويمشي في مناكب القرية، وكان الجو صائفا، والناس جلوسا على أبواب دورهم، أو متمشين في بساتينها الصغيرة، وهو يمر عليهم، وقد راقتهم هدأة الأصيل، والاستجمام من كفاح النهار وكده، وكم من نظرات اتجهت صوبه، وكم من لمحات متشككة مستريبة ألفاها على جانبي الطريق؛ ليرى هل أحد من الناس عرفه فتحاماه، فقد رأى وجوها غريبة عليه في كل بيت، وتبين في بعضها أشكالا تقرب من أشكال لدات له في المدرسة ورفاق ... رأى صبيا منذ آخر عهده به، قد أصبح رجلا يحيط به جمع من أولاد له، وهم في مرح وقصف، وشهد في بيوت أخرى شيخا واهنا محطوما، يجلس في مقعد رحيب بباب كوخ، تذكر أنه كان يومئذ عاملا ممزاحا طروبا، ولكن القوم جميعا قد نسوه، فمضى في طريقه مجهولا لا يعرفه أحد.
وكانت آخر خيوط الشمس في المغيب قد سقطت على الأرض، ملقية شفقا أحمر على سنابل القمح الصفر، ومطيلة خلال الأشجار في البساتين، حين وقف قبالة بيتهم القديم، مهد طفولته، ذلك البيت الذي طالما حن إليه فؤاده، وأحس له حبا بالغا لا يوصف، خلال أعوام سجنه الطوال، وفترة أحزانه المبرحة، وكان السور خفيضا، وإن تذكر الأيام التي كان يبدو فيها جدارا شاهقا في عينه، وأطل على البستان القديم، فوجد فيه من البذور والأزاهر أكثر مما كان من قبل يألفه، ورأى الأشجار القديمة كما هي، وشهد الشجرة ذاتها التي رقد تحتها ألف مرة، كلما شعر بتعب من اللعب والرتع في الشمس، والتي كان يحس تحت وارف ظلها دبيب النوم في طفولته السعيدة يدب رفيقا إلى معاقد أجفانه. وطرقت أذنيه أصوات منبعثة من عقر الدار، فأصغى إليها، ولكنها وقعت غريبة في مسمعه، ولم يعرفها، فقد كانت أصواتا مرحة، وكان يعلم حق العلم أن أمه العجوز المسكينة لا يمكن أن تكون مرحة، وهو عنها النائي المغترب.
وفتح الباب، فوثبت من خلاله مجموعة من الأطفال الصغار صارخين قافزين، وظهر الأب يحمل طفلا صغيرا بين ذراعيه، فأحاطوا جميعا به، مصفقين بأيديهم الدقيقة، مجتذبينه إليهم ليشاركهم في ألعابهم ومراتعهم، فما لبث السجين أن تذكر كيف كان ينزوي رعبا من مشهد أبيه في ذلك المكان بالذات، وكيف كان يدفن رأسه الراجف تحت اللحاف، وكم سمع الكلمة الخشنة منه، وذاق «العلقة الساخنة» من كفه، وولولة أمه الحدبة الرءوم عليه؛ فأجهش الرجل بالبكاء من شدة الألم الذي اعتلج في خاطره، وهو منصرف من الموضع، ولكنه مضى في طريقه جامعا قبضة يده، صارفا بأسنانه، تغمر صدره عاطفة موحشة قاتلة.
وكذلك كانت الرجعة التي تمثلها في عدة السنين الخاليات، والتي من أجلها قاسى الأهوال، وعانى أشد صنوف العذاب، لا وجه يرحب به، ولا نظرة صفح وغفران تطالعه، ولا بيت يتلقاه، ولا يد تتقدم إليه بعون ... وذلك كله في القرية القديمة التي نشأ فيها، والبلد الذي درج على أرضه صغيرا، إن عزلته في الغابات والآجام، حيث لا يرى إنسانا ولا يلم ببشر؛ لأهون والله من هذا وأخف وقعا ...
অজানা পৃষ্ঠা