وفي أثناء اجتيازنا للشارع الوحيد في «سان خوسيه» هذه قابلنا رجل تفرس في وجوهنا. وكلمة من هنا وكلمة من هنا، حصل التعارف. إنه سوري يسكن في سان خوسيه، بشرة خير. قادنا إلى فندق البلدة، آل فندق آل، إنه بيت به حجرة أرضية هي اللوكاندة! وفي هذه اللوكاندة، أو الحجرة بمعنى أصح سرير واحد وكنبة! وبس والله العظيم، أما الأرضية فطبقات من التراب بعضها فوق بعض، وكذلك الحال في السرير حتى لقد ظننت أنهم في كل يوم «يتربونه» لا ينظفونه!
كنت أحمل في هذه الأثناء مبلغا يربو على الألف وخمسمائة جنيه! جلست فوق السرير المترب العالي والتفت خلفي فإذا نافذة خشبية يستطيع الواقف في الخارج أن يمد يده منها ويخطف الفلوس. وإذا ساقه الشر، فيمكن أن «يخطف» روحي كمان من غير إحم ولا دستور، إذ لا يكلفه الأمر سوى تناول زمارة رقبتي وضغطها بإحدى يديه. ويا لوكاندة ما دخلك شر!
لعب الفار في عبي، فجمعت مجلس شورى القوانين، المكون مني أنا رئيسا، ومن محمود التوني سكرتيرا وأمينا للصندوق وأعضاء كمان. وتباحثنا في الأمر واستقر رأينا على أن نقتسم النوم بيننا، فأنام ليلة يسهرها هو كنوبتجي يحمل النقود بين يديه بينما ينام هو في الليلة الثانية واحتل أنا مكانه ... وهكذا دواليك!
دواليك دي مش على مزاجي أبدا، لكن استحملها مني الله لا يسيئك! القصد أمضينا ليالي هذا الأسبوع الذي طال وكأنه عام، أمضيناه زي ما أمضيناه والسلام. وجاء القطار بعد ذلك يتمخطر، فركبنا إلى بونس أيرس حيث تنتظرنا بديعة مع بقية «الشلة».
إلى بونس أيرس
ويغادر هذا القطار محطة «سان خوسيه» في الساعة الثانية بعد الظهر ويصل إلى بونس أيرس في الثامنة من صباح اليوم التالي. جلسنا في أحد صالونات القطار. وحين أرخى الليل سدوله - شايف إزاي بنعرف نتفلسف ونقول سدوله - حين أرخى الليل سدوله جعلنا الصالون عربة نوم. لأن المقاعد تحول أسرة حسب النظام المتبع في هذه القطارات.
وأستطيع أن أقول إننا هنئنا حقا بالنوم في القطار، بعد أن استرحنا من نظام النوبتجية الذي لازمنا ست ليال سويا. إلا أن شيئا غريبا وغريبا جدا لاحظته!
حوالي الساعة الثالثة صباحا - في دغششة الفجر يعني - صحوت من النوم فلم أسمع صوت القاطرة. فظننت أن القطار وصل إلى إحدى المحطات، ونظرت من النافذة فإذا المياه تغمرنا من الناحيتين! ...
أيقظت التوني وسألته: «إحنا يا وله وقت ما نمنا كنا راكبين وابور بحر والا وابور بر؟» فدهش لهذا السؤال وأطل هو الآخر من النافذة قائلا: يا خبر أبيض نكونش غرقنا. والا متنا وجم الملايكة يحاسبونا؟! تملكتنا الحيرة حقا. ورحنا نسعى بالسؤال إلى أن عرفنا السبب فبطل العجب. هناك نهر كبير يجتازه القطار، لا بواسطة كبرى كما هو الحال عندنا وعند غيرنا من عباد الله في جميع بلاد الدنيا، بل بواسطة صنادل يضعون عربات القطار فوقها بالقطاعي، وتسير الصنادل فتنقل العربات من شاطئ إلى شاطئ، دون أن يشعر الركاب بهذه العملية على الإطلاق! والله عشنا وشفنا!
خلصنا على كده ونقلت شحنة القطار إلى البر الثاني، وواصل سيره إلى بونس أيرس. وقبل أن نصل إليها بساعتين أو يزيد خرج بسلامته سي محمود التوني يتمشى في ردهة القطار، ويتعاجب اسم الله بشبابه وسحنته الرمادي إياها. أنا عيني بترف يا أخواتي ... لازم الواد الملعون ده مش راجع إلا لما يجيب لي مصيبه وياه!
অজানা পৃষ্ঠা