وإزاء هذه الظروف، قرر الباشا أن نعود إلى مصر عن طريق إيطاليا، فتركنا زيورخ يوم الجمعة 7 أغسطس 1914؛ حيث وصلنا إلى ميلانو في الخامسة مساء، وفي الليل كان باعة الجرائد ينادون بأعلى أصواتهم «أخبار الحرب» بمثل ما ينعق البوم بصوته النحس على أسطح المنازل في الليلة الهادئة!
الفصل الثالث عشر
كانت أخبار الحرب تطاردني في كل مكان في أوروبا، وكانت نداءات باعة الجرائد لا تتوقف طوال الليل، ولذلك فإنني لم أستطع النوم حتى الصباح. وفضلا عن ذلك فقد كان قلبي يتمزق من أجل هؤلاء الذين يقدمون حياتهم سدى، ظنا منهم بأنهم يخدمون الوطنية وهم لا يدركون أنهم يحاربون الإنسانية ويقتلونها بأيديهم! ...
وكنا قد وصلنا ميلانو، وهي مدينة واسعة جميلة ذات متاحف وكنائس كبيرة، ولكننا لم نتمكن من زيارة هذه الأماكن لقلة النقود بين أيدينا، لدرجة أننا لم نعد نستخدم السيارات في تنقلاتنا، وإنما أصبحنا نركب الترام أو نسير على الأقدام.
وكانت إقامتنا في ميلانو قصيرة جدا، فقد تركناها إلى جنوة لنبحر إلى مصر؛ حيث كان الباشا قد التقى بأحد المصريين الذي تنازل لنا عن محلات على إحدى البواخر الإيطالية العتيقة؛ لأن البواخر كانت جميعها مزدحمة جدا وليس بها سرير واحد خال.
وهكذا بارحنا ميلانو يوم الثلاثاء 11 أغسطس 1914 بقطار الساعة التاسعة والربع؛ حيث وصلنا إلى جنوة في الساعة الثانية عشرة والثلث، وقد ركبنا الباخرة الإيطالية ليلة وصولنا إلى جنوة، وكنت أتوق إلى العودة بأسرع ما يمكن إلى وطني، خوفا من انزعاج والدتي - التي تركتها مريضة - إذا علمت بنشوب الحرب، وكنت أعلم أن كل صدمة نفسية عنيفة كانت تدنيها من القبر.
قامت بنا الباخرة بعد منتصف الليل بقليل، وعندما أردنا النزول إلى غرف النوم، لم يمكننا أن نبقي فيها أكثر من دقائق نظرا لقذارتها وشدة الحر فيها، فتوجه الباشا إلى القبطان يرجوه أن يستبدل لنا هذه الغرف بغيرها، ولكن لم يتيسر ذلك لعدم وجود غيرها. ولكن قوميسيري الباخرة عرضوا عليه تأجير غرفهم نظير مبلغ باهظ، فقبل من أجل راحتنا ودفع كل ما كان يمتلكه تقريبا، وصعدنا فرحين إلى تلك الغرف، وكانت ذات منافذ كثيرة يدخلها الهواء، ولكن ما أن وضعنا رءوسنا على الوسائد حتى تزاحمت علينا الصراصير من كل صوب وحدب ورفعنا المراتب لننظفها، فإذا بالغرفة مكتظة بهذه الحشرات، فغادرناها بأسرع ما يمكن، ثم صعدنا جميعا إلى ظهر الباخرة وأمضينا ليلتنا على المقاعد حتى الصباح ...
وفي الصباح، طلبنا من القبطان أن يضرب لنا خيمة بالقرب من الدفة لننام فيها، ونقلنا المراتب ووضعناها للأولاد على خشبة مرتفعة بالقرب من الدفة، وكنت أنا على مقعد بجوار فراش «محمد» وكنت أخشى إن أنا غفوت أن يقع أحد الأولاد على الأرض، فكان الخوف يمنعني من النوم.
وذات ليلة غفت عيناي رغما عني نظرا لشدة التعب، وقبل أن نستغرق في النوم، قمت مذعورة صارخة عندما سمعت صوت ارتطام جسم بالأرض وكانت «بثنة» هي التي تدحرجت فلما صرخت سمعتها تقول: لا تنزعجي يا أماه، لم يحدث لي شيء.
وقد أمضينا ثلاثة أيام على هذا الحال. وفي اليوم الرابع ونحن نقترب من نابولي امتلأ الجو بضباب كثيف، فهدأت الباخرة من سيرها وأخذت ترسل صفير الإنذار مستمرا، بشكل مزعج، وأثناء ذلك شعرنا بهزة عنيفة أعقبها صراخ من ركاب الدرجة الثالثة فهرولت نحو الحاجز لأبحث عن أولادي، ظنا مني أن المركب قد اصطدمت بغيرها، ورأيت شبح الموت أمامي عندما نظرت إلى البحر ووجدت قطعا من الخشب وعددا من القبعات طافية على وجه الماء، ولم أشك لحظة واحدة في أن الباخرة قد تحطم جزء منها إثر الصدمة وإنها على وشك أن تغرق، فجريت أبحث عن ولدي ليكونا بجانبي وقت الغرق. ولكن القبطان أسرع فطمأن الركاب بأن باخرتنا قد حطمت سفينة صيد. وأسرع البحارة بإنزال قوارب النجاة ليبحثوا عن الغرقى.
অজানা পৃষ্ঠা