كذلك فقد كنت أرى زوجي يمتعض أحيانا لانشغالي عنه بابنتي التي كنت مجنونة بها، وكان يخيل إلي أنها إذا ماتت فإنني لا بد أن أموت معها حزنا عليها، وتعلقت بي الطفلة وأحبتني لدرجة إنها كانت لا تحتمل البعد عني دقائق، حتى كان يضرب بحبنا المثل في البيت، ومن شدة حبها لي، لم تكن تخالف لي أمرا في شيء، وكثيرا ما كنت أقسو عليها في اتباع الحمية بسبب مرضها مدة أشهر، وكثيرا ما كنت أتناول طعامي وهي تنظر إلي دون أن تجرؤ على أن تطلب مني شيئا من الطعام؛ لأنها كانت تفهم أن ذلك في صالحها، وكانت إذا عرضت عليها إحدى المربيات شيئا مما تحب في غيابي، رفضته وفاء لوعدها لي. وإذا رأتني أعطي شقيقها قطعة من الحلوى، تبسمت وهي تنظر إلينا ثم تقول لي: «ماما ... أعطني أنا أيضا نصيبي من الحلوى»، ثم تمد إلي فمها وتقبلني . وكانت هذه القبلة عندها بمنزلة الحلوى.
وكان من في البيت يلومونني على عدم تجنب الأكل أمامها ويعتبرون ذلك قسوة مني، إلا إنني ما كنت أفعل ذلك إلا لأربي فيها قوة الإرادة والأمانة وكبح جماح النفس. وأظنني نجحت في ذلك كله، إلا في إرغامها على تعاطي الدواء؛ لأنها سئمت كثرة تعاطيه.
وأذكر أنني كنت أتوسل إليها يوما أن تتناول جرعة من زيت الخروع، وسرت وراءها من غرفة لأخرى والملعقة في يدي، وفي النهاية هربت مني إلى غرفة شقيقها، وتقدم هو لكي يساعدني في إقناعها بوجوب تناول الشربة، ولما لم يفلح هو أيضا، قال لها بلطف: «انظري يا أبلة بثنة كيف يمكنني أن أشرب الشربة دون امتعاض.» وظننته يمزح، فقربت الملعقة من فمه، وكم كانت دهشتي؛ إذ شربها دون تردد لتحذو أخته حذوه. فأكبرت فيه روح التضحية وهو أصغر منها سنا ... ومع ذلك فإنها لم تشرب الشربة!
ولقد ربيت ابنتي وابني عن طريق الإقناع، فلم أنهرهما أبدا وأستعمل الغلظة معهما حتى ولو وقع من أحدهما خطأ يستوجب ذلك؛ بل كنت أحاول إقناعه بخطئه في لطف حتى يقتنع ويشعر بشيء من الخجل فلا يأتيه ثانية من نفسه، وبذلك أمكنني أن أبث فيهما روح تقدير المسئولية وتحملها بأهداب الأمانة والصدق، وقد شبا على هذه الصفات وتطبعا بهذه الفضائل، وشجعني ذلك على المضي في هذه الطريقة التربوية الصحيحة التي لا تتطلب من الأم إلا قليلا من الصبر والتفرغ لأقدس الواجبات.
بعد أن تحسنت صحة ابنتي واطمأننت عليها وعلى أخيها. وبدآ حياتهما الدراسية، أخذت أعود إلى حياتي الأولى من مخالطة صديقاتي، وبخاصة بعد وفاة صديقتي مدام رشدي باشا التي كنت أعتمد عليها في كثير من أموري والتي كانت تملأ الفراغ الذي أحدثه ابتعادي عن الناس لانشغالي بابنتي، وقد اضطررت إزاء ذلك أن أعتمد على نفسي، وألا أنتظر من أحد أي معونة.
وفي هذه الأثناء، حضرت من أوروبا آنسة فاضلة تدعى «مدموازيل مارجريت كليمان» وقد مرت بمصر في طوافها حول العالم منتدبة من نادي السياحة لمؤسسة كازنيجي ، وقد أرسلها إلي صديقنا المرحوم علي بك بهجت؛ حيث أرادت أن تتعرف بسيدات مصريات، فقمت بواجبي نحوها ودعوتها ذات ليلة إلى الأوبرا الخديوية، وبينما كانت تحدثني عن جولاتها والخطب التي كانت تلقيها في مختلف البلاد، سألتني عما إذا كانت سيداتنا يتلقين محاضرات أو يحضرنها، فلم يمكنني إلا مصارحتها بالحقيقة وهي أن شيئا من ذلك لم يحدث بعد، وسألتها أن تلقي علينا محاضرة عن المرأة الشرقية والغربية في مسألة الحجاب، فقبلت على أن تكون المحاضرة تحت رئاسة إحدى السيدات الكبيرات سنا ومقاما؛ لأن سني إذ ذاك لم تكن تسمح بذلك.
فوعدتها بالبحث غير آملة في إقناع والدتنا بترؤس بهذه الحفلة، ولكن ساعدني الحظ في تلك الليلة نفسها، إذ قابلت وأنا خارجة من مقصورتي «الأميرة عين الحياة أحمد»، وكنت أحبها وتحبني، فتقدمت إليها وعرضت عليها المشروع ورجوتها أن تقبل رئاسة الاجتماع، فقبلت من غير تردد وأخذت على عاتقي إيجاد القاعة المناسبة وإعداد تذاكر الدعوة وتوزيعها بأسرع ما يمكن، وعندما عدت إلى المنزل عرضت الأمر على زوجي فاستصوب أن يكون الاجتماع في إدارة «الجريدة» أو بإحدى صالات الجامعة التي كانت في منزل خيري باشا «الجامعة الأمريكية الآن»، وقد فضلت الأخيرة وطلبناها من المرحوم علوي باشا وتحدد للاجتماع يوم الجمعة 15 يناير 1909 لتكون الجامعة خالية من المعلمين والطلبة، وكانت الجامعة إذ ذاك تحت رئاسة سمو الأمير أحمد فؤاد «الملك فؤاد فيما بعد»، وكانت هذه أول محاضرة ألقيت على جمع من السيدات في الجامعة المصرية، وقد لقيت نجاحا وتقديرا شجعاني على أن أطلب من «الآنسة كليمان» أن تعود إلينا بعد ذلك لتلقي سلسلة محاضرات مفيدة على سيداتنا، وبخاصة بعد أن رتب سمو الأمير محاضرات خاصة للسيدات في أيام الجمع.
وقد تكون هذه مناسبة طيبة للحديث عن إنشاء الجامعة الأهلية ... ففي سنة 1905 نشرت الصحف مقالات ومناظرات لكثير من المفكرين عن أيهما أنفع للقطر المصري في الحالة التي كان عليها ... الكتاتيب أم مدرسة كلية عالية ... وقد اشترك في هذه المناقشات كثيرون من أصحاب الفكر والأقلام. أما الخطوة الأولى الأساسية والعملية فقد بدأها مصطفى بك كامل الغمراوي الذي رأى حاجة البلاد إلى المحصول العلمي ووجوب توفيره في مصر توفيرا للجهود والإنفاق على طلاب العلم في أوروبا.
ففكر في إنشاء جامعة تضم كليات مختلفة مثل جامعات أوروبا، وفكر في الدعوة لمشروع الجامعة والتبرع لها؛ حيث نشر نداء في الصحف المحلية العربية والإفرنجية داعيا لهذه الفكرة في 30 سبتمبر 1906، وقد بادر المرحوم أحمد شفيق باشا فاكتتب بخمسمائة جنيه.
وكان الخديوي عباس راضيا عن هذا المشروع، ما شجع على عقد أول اجتماع لمناقشته في دار سعد زغلول باشا وكيلا، وقاسم بك أمين سكرتيرا، وحسن باشا سعيد أمينا للصندوق، وعضوية مصطفى بك كامل الغمراوي ومحمد بك عثمان أباظة ومحمد بك راسم وحسن بك جمجوم وحسن باشا السيوفي وغيرهم. وكان المعتمد البريطاني اللورد كرومر يحارب كل ما من شأنه تقدم البلاد، فنادى بأن تعميم التعليم الابتدائي أهم من ذلك، وأن الأمة أحوج إليه من التعليم الجامعي، بل إنه ذهب في محاربة المشروع إلى حد تعيين سعد زغلول باشا وزيرا للمعارف بقصد إبعاده عن الاشتغال بأمر الجامعة.
অজানা পৃষ্ঠা