ولما وصلنا إليه ألفيناه مغلقا، مع أن موعد الاجتماع قد مر عليه نحو العشرة دقائق. وبعد أن قرعت الباب قرعا عنيفا بدون جدوى، رجعنا وفي أنفسنا حسرة وأسى على المشاريع التونسية المسكينة التي لا تجد من أبناء تونس من يخلص لها حتى النهاية.
فقد حاولنا في العام المنصرم أن ننظم سيره ببرنامج معين عيناه رغم المعارضة الكبيرة من أنصار الأساليب القديمة، فأنتج نتاجا حسنا كان فوق ما يؤمل منه. ثم قامت ضجة «الأب سلام» إثر مسامرة امرئ القيس التي أنكر فيها الأخ المهيدي وجود امرئ القيس، «ومسامرة الخيال الشعري عند العرب» التي جاهرت فيها بآراء لم تسغها أفكار بعض أدعياء الأدب، وعدوها ثورة على الآداب العربية وجحودا لمزايا العرب. وتطورت هاته الفكرة في نفس الناس، والتفت حولها الأراجيف والإشاعات الكاذبة، حتى عدها بعض الجهلة زندقة وكفرا!
قامت تلك الضجة حول المسامرات الثلاثة وحول مسامرة «سلام» بالأخص، فاهتبلها بعض المغرضين فرصة لتشويه سمعة النادي ورميه بالزيغ والإلحاد ... إلى آخر تلك السهام التي تعلم المفسدون تسديدها إلى كل عمل راموا إحباطه في البلاد الإسلامية. فكانت تلك الحملات الكبيرة المنظمة قاضية على حركات النادي قضاء ما كنت أتصوره. فقد فتت تلك الحملات في أعضاد الأكثرية من أعضائه، ورمت في قلوبهم الرعب والهلع والجبن، فانقطعوا عن المجيء إليه إلا واحدا أو اثنين كانت لهما عزيمة صادقة، وشجاعة أدبية تحتقر صيحات الحروب وتهزأ بسهام المغرضين، ولكنهما أعرضا عن الذهاب إليه. وما الفائدة منهما وكل أعضائه غائبون؟!
وهكذا كانت خاتمة العام الماضي محزنة كابية. ثم جاءت السنة الحالية فاقترح الأخ عثمان الكعاك أن تكون طريقة النادي إنما هي إثارة المواضيع لدراستها، ومن كانت له دراسة عرضها على النادي لتلقى مسامرة عامة أيام الجمع. وقررت الأغلبية هذا ولكن يمضي على الاتفاق شهر ونصف قام خلالها كل مني والأخ عثمان الكعاك بمحاضرة: واحدة منهما تعرضت لنقد كتاب «الأدب العربي في المغرب الأقصى»، والأخرى تعرضت لطريقة البحث في الثقافة الشرقية عند المشرقيين وعند المسلمين في الوقت الحاضر. وقد أغضبت كل منهما طائفة من الناس.
أقول لم يمض على فتح النادي شهر ونصف حتى أخذت علائم الهرم تدب فيه. وبدأ الانحلال يأخذ منه. وتلك هي مصيبة المشاريع التونسية، يندفع القائمون بها في العمل اندفاعا كله شغف وشوق وإخلاص ، ولكنه لا يدوم. فإنه لا يلبث إلا قليلا حتى يخبو أواره، وتركد ريحه، وينصدع شمل الجميع. تلك هي مصيبة المشاريع التونسية.
الثلاثاء 21 جانفي 1930
ألقى إلي البريد البارحة تنبيها باستلام رسالة. وفي الساعة العاشرة من صباح هذا اليوم ذهبت واستلمتها بعد أن دفعت عليها معلوما خاصا؛ لأنها كانت أثقل مما ينبغي أن تكون. تناولت الرسالة من آنسة البريد، فإذا هي مكتوبة بخط صديقي الأديب النابغ الأستاذ محمد الحليوي. فسارعت بحلها لعلمي أنها لا بد أن تحتوي على شيء بهيج؛ لأنني أعجب بكتابة هذا الصديق الأديب التي لا تخلو من فكرة ناضجة وأسلوب حي وإن كنت لا أعجب بشعره.
وتلوتها فإذا هي رسالة منه كلها لطف ومودة ودماثة أخلاق، ربما بلغت غايتها القصوى. وقد أرفقها بمقال كتبه في انتقاد بعض الآراء التي وردت في كتابي «الخيال الشعري عند العرب». ولكن لطفه ومودته أبيا عليه إلا أن يوجه بانتقاده إلي، وأن يفوض إلي النظر في نشره أو إهماله. كل ذلك حرصا على مودة يشفق أن تذروها عواطف النقد. كأنه يحسب - سامحه الله - أن انتقاده علي ربما يثير حفيظتي، ويحرك في نفسي عوامل الغضب. مع أنني لست من هاته الطائفة التي لا تفهم من النقد إلا عداء وسبابا، ولا ترفع قلمها إلا لغاية سافلة وغرض دنيء. لست - والحمد لله - من هاته الطائفة، ولكنني ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وممن يسرون بكل انتقاد لا تكون غايته غير الحقيقة، ولا مصدره غير الإخلاص، كانتقاد صديقي الأعز، يقول في رسالته التي صاحبها برسالة النقد على كتابي بعد التحية: ... وعلى كل فها أنا فوضت أمرها إليك. فما شئت فعلت بها.
لو تدري يا أخي كم تنازعت مع نفسي في شأن هذا الانتقاد لعذرتني عن التأخير والتواني في إتمامه حتى اليوم. فقد كنت حريصا جد الحرص على صداقتك، ضنينا بها ضن البخيل بالدينار. وكنت أخاف أن تبدو مني كلمة أو رأي يكون سببا في سوء التفاهم بيننا. ذلك لأن «شيطان النقد» لا وظيفة له في الدنيا إلا زرع بذور الشقاق بين الأحباء. وأنا من الذين يحرمون هذا النوع من النقد بين الأصدقاء المتحابين.
فبربك دعني «أيها الأخ» أتمتع بصداقتك وأتبادل ودك، ودعني أعجب بأدبك عن بعد، دون أن ندخل جمهور القراء فيما بيننا. واقنع مني بأني شريكك في جل آرائك، ولا تلمني إذا رأيتني أعدل في آخر وقت عن الكلمة الثانية التي وعدت بها في آخر المقال ...
অজানা পৃষ্ঠা