আধুনিক নাগরিক জীবনের জটিলতা
معضلات المدنية الحديثة
জনগুলি
ثم تجد من جهة أخرى أن الأشجار، على الضد من الأعشاب، كلما كانت أسحق في الارتفاع قل جمال أزهارها، وكلما كانت أقل ارتفاعا زاد جمال أزهارها، فما السبب في ذلك؟
السبب في ذلك يعرفه مذهب النشوء والارتقاء، ولا تعليل لهذه الظواهر بغيره. •••
كل ذوات الأزهار تخرج زهرا فيه عضوان: عضو تذكير وعضو تأنيث، فيخرج من عضو التذكير غبار أشبه بالهباء، ويدعى علميا ب «اللقح النباتي»، وفي عضو التأنيث بروز يقال له «الاستحمانة». فإذا نقل اللقح من عضو التذكير إلى الاستحمانة في عضو التأنيث، تم اللقاح وأخرجت الشجرة بزرا يحفظ نوعها ويكثر نسلها، أما إذا تعذر ذلك فإن النوع لا محالة ينقرض ويفنى. وقد تحمل الزهرة الواحدة عضوين، أحدهما للتذكير والآخر للتأنيث معا، بحيث يقارب أحدهما الآخر في الوضع. وقد تختص أزهار في بعض الأنواع بإنتاج أعضاء تذكير صرفة، وأزهار بإنتاج أعضاء تأنيث لا غير. وقد تختص أنواع بأشجار تنتج أزهارا فيها أعضاء تذكير، وأشجار غيرها تنتج أزهارا فيها أعضاء تأنيث فقط. وفي كل هذه الحالات تحتاج الأزهار إلى فعل مؤثر ذي قوة وبأس، يحمل اللقح من زهرة إلى أخرى أو من عضو إلى آخر أو لقح أزهار شجرة إلى أزهار أخرى، ليتم اللقاح ويحفظ النوع من الانقراض والفناء.
ومن أغرب ما في الطبيعة من حكمة تعلل لنا السبب في أن الأشجار الباسقة لا يكون في أزهارها جمال بقدر ما في أزهار الأشجار القصيرة السوق؛ أن الأولى في غير حاجة لتلقيح الحشرات إياها، فتكون أزهارها صغيرة الحجم وألوانها مقاربة إلى درجة ما للون أوراقها، بل إنها لا تكاد تتميز عن الأوراق إلا باعتناء تام، كشجر البلوط والكافور، ولذا كان هبوب الريح طريق تلقيحها الطبيعي، ناهيك بأن الرياح عامل طبيعي لا إرادة له ولا حس فيه بالجمال، ولا دافع له على الحصول على حاجيات للحياة يسوقه إلى ارتياد الأزهار مجذوبا إليها بحسن رونقها وزاهي ألوانها أو شهي عصارتها النباتية. ذلك على العكس من الأنواع القصيرة السوق، فإن حاجتها إلى الحشرات كبيرة، لذلك تكون أزهارها عظيمة الحجم، ذوات ألوان مختلفة متناسقة.
أما الأزهار التي تلقحها الحشرات، ففضلا عن احتياجها إلى بهاء اللون وكبر الحجم، لتظهر على أغصانها جلية لأعين الحشرات؛ فإنها تفرز عصارة شهية تقدم الحشرات على اجتنائها برغبة كبيرة. وهذه العصارة الرحيقية تفرزها غدد خاصة، فتجري من ثم في قنوات خصيصة بذلك أو تظهر مترشحة على ظاهر أعضاء الزهرة داخل التويج غالبا. ولهذه العصارة فائدتان: الأولى أنها تجذب الحشرات إلى الزهرة لتجني رحيقها الشهي، والثانية أن هذه العصارة لزجة كالغراء، فإذا لامست جسم الحشرات أو خراطيمها أو ملامسها أو أرجلها، ثم لامست الحشرات سداة عضو التذكير الذي ينتج اللقح؛ علق اللقح بسهولة بأعضاء الحشرات، فلا يذهب كله سدى، بل يكون نقله إلى الاستحمانة في عضو التأنيث محققا.
هنالك يقع التناحر على البقاء، وهنالك يفتح للطبيعة مجال الانتخاب الطبيعي، فإن الأنواع التي تكون أزهارها أبهى لونا أو أكبر حجما أو أكثر إنتاجا لتلك العصارة، تكون بحكم الضرورة أجذب للحشرات وأكثر لقحا وأكبر إنتاجا للبذر وأقل إسرافا من اللقح، فيكثر عدد أفرادها الناتجة، وبذلك تتغلب على غيرها من الأنواع التي تكون أزهارها أقل بهاء في اللون أو أصغر حجما أو أنضب في إنتاج العصارة النباتية معينا. هذا سر التناحر على البقاء، وهذا ما يؤدي إلى الانتخاب الطبيعي، ومن هنا يستحدث الجمال في طبائع العضويات بحكم الحاجة والضرورة والفائدة لتغاير الأنواع ونشوئها. •••
ارجع بعد ذلك إلى العالم الإنساني، وطبق هذه الظاهرة على الحياة اليومية، وتأمل قليلا في تلك الحالة النفسية التي تجتذب أنظار كثير من الرجال والسيدات إلى واجهات المخازن العمومية الكبرى؛ تجد أن الحالة في الطبيعة المطلقة هي بعينها الحالة في الطبيعة الاجتماعية، فالناس أمام الحوانيت الكبرى متهافتين على باهي ألوان الأقمشة وتناسق الصناعة، كالحشرات في تهافتها على الأزهار ذوات الألوان الجميلة التامة التناسق. وكما أن في الطبيعة تنحارا على الحياة بين الأنواع، فإن في الاجتماع تناحرا على الحياة بين المنتجين، فالمصنوعات كلما كانت أتم نسقا وأبهى لونا وأكثر تآلفا في أجزائها وأجذب لأنظار الناس، امتازت على غيرها بمهيآت البقاء.
لنا بعد ذلك أن نقول إن في الطبيعة قوة للخداع والمخادعة، تنصرف إلى جانب الخير لا إلى جانب الشر، إذ تعود بالنفع على الخادع والمخدوع!
ألا يحق لنا أن نقول بأن في الطبيعة حكمة ترجع إلى إرادة عاقلة تصدر عنها، مصروفة إلى الخير المحض لا إلى النفع الخاص؟ وألا يصح أن نقول بأن الإنسان لا يستطيع أن يخادع الطبيعة إلا ويكون مخدوعا من جانبها؟ ألا يخلق بنا أن نقضي بأن نسبة الفرق بين جمال الصناعة الإنسانية الخارجة من يد المدنية الحديثة وبين جمال الزهرة الطبيعية الوادعة؛ كنسبة الفرق بين بدائع القوة الخالقة العظيمة وبين الصناعات البشرية؟ •••
غير أننا نتساءل ما هو السبب في وجود تلك القوة الخفية التي تصرفها الطبيعة إلى مخادعة الأحياء؟ سببها أن الطبيعة موكلة بحفظ الحياة فوق هذا السيار، حتى من طريق الموت والفناء، فهي تفني صور الحياة وتذهب بأنواع ما إلى الانقراض، وتنثر لقح النبات سدى، لا لشيء سوى أن تحفظ حياة الأنواع متمشية بها في طريق الارتقاء منتحية كل سبيل متذرعة بكل وسيلة تسلم بها إلى تلك الغاية، فهي كما يقول «جوته» كبير مفكري القرن التاسع عشر: «إن الطبيعة إذ تفرط في الإسراف من جهة، تسرف في الاقتصاد من جهة أخرى»، لذلك نقول بأن قوة المخادعة التي تقع عليها في الطبيعة لا سبب لها إلا حاجات الأحياء ومنافعها.
অজানা পৃষ্ঠা