আধুনিক নাগরিক জীবনের জটিলতা
معضلات المدنية الحديثة
জনগুলি
أما وقد بلغ دكتور ليير من بحثه المستفيض هذا المبلغ، أما وإنه من أولئك النشوئيين المتفائلين؛ فإنه لم يجد من مندوحة عن معاودة الكلام فيما سماه ب «البليونكسيا» أي الجشع الاجتماعي، محاولا أن يثبت أن الإنسان سائر في طريق سوف يسلم به سريعا إلى التخلص من هذه الرذيلة، التي يعتبر أنها غرس الإنتاجية الحديثة. غير أنك إن تأملت من حالات الإنسان خلال كل أدوار تاريخه، لما أمكنك أن تحكم حكما صحيحا إذا ما أردت أن تنظر في الرجل الأوروبي الحاضر متسائلا هل هو حقيقة أشد طماعية وأذهب في الجشع من أسلافه السابقين، أو أن هذه الصفة أمكن في طبيعته مما هي في طبيعة الرجل الآسيوي أو الأفريقي؟ على أنك إذا أردت أن تبحث عن شخص فيه من استعداد الإجرام القائم على الجشع قدر لا يجعله يتلكأ في قتل أعز صديق له طمعا في بضعة دراهم معدودة؛ فإنك قد لا تعثر عليه في عواصم البلدان الصناعية، في حين أنه من السهل عليك أن تلتقي به عند منقطع السبل وفي الوديان المعشوشبة الخصيبة؛ ذلك لأننا لا نستطيع أن نحد من رغبة الإنسان في الكسب واستجماع الحطام بالتحكم في الظروف التي تزيد في الإنسان من تلك الرغبة، وها نحن أولاء نرى أن صغار ملاك الفلاحين، حتى في مصر أودع البلاد طبيعة وأصفاها سماء وأسلسلها للمنتجين قيادا وأرغدها عيشا وأسخاها أكفا، هم أجشع كل الناس وأشدهم طمعا وأحبهم للكسب وأزهدهم في الإنفاق وأمعنهم في حب الاستجماع!
إن القاعدة التي تقوم عليها فكرة النشوء التفاؤلية في رءوس المفكرين في معضلات الاجتماع، هي أن في الرذائل الاجتماعية ضعفا طبيعيا كامنا يسوق بها إلى حيث تفني إحداها الأخرى، كالنار تأكل بعضها إن لم تجد ما تأكله. ومما لا مشاحة فيه أن هذه الفكرة لا تستند على حقائق قيمة، وليس في التاريخ من شيء يجيز الاعتقاد بصحتها، فإن ازدياد أوجه التخالط والاشتباك في الأنظمة الاجتماعية لا يدل دائما على أن هناك ارتقاء، إذا كنا نعني بالارتقاء مجرد الانتقال من حالة تقل رغبة الإنسان فيها إلى حالة تزداد رغبته ميلا إليها، ولا يجب أن يعزب عن أفهامنا مطلقا أن تشابك حلقات الأنظمة الاجتماعية وازدياد تنافرها إن هي إلا حالة لن يبرر فرضها على جمعية ما إلا أنها ذات صفات تزيد من فرص البقاء للجماعات. وليس لدينا من مبرر يجعلنا نعتقد بأن ضروب الإصلاح الاجتماعي واقعا في جماعات بلغت من نظام الإنتاجية الصناعية أقصى مبلغ؛ قد يمكن أن تلائم مقتضيات الحياة من غير أن تضعف من تلك الكفايات العليا التي يرجع إلى قوتها بقاء الجماعة في ذاته. هذه المسألة في الواقع معضلة المعضلات الاجتماعية، هي معضلة يجب أن يصل المصلحون إلى حلها، على أن حلها لا يقتضي مطلقا أن نعتقد كما يعتقد دكتور ليير في أن هنالك قوة خفية قد فرضت وقدرت أن الإنسانية لا بد من أن تسير إلى حد الكمال في النظام الاجتماعي.
وكثيرا ما ينسى الاجتماعيون أن الحيوانات الاجتماعية التي بلغت من الرقي الاجتماعي مبلغا قصيا، كجماعات النحل والنمل، لا بد من أن تكون قد مرت بدور تتابعت عليها فيه صور النشوء والارتقاء دراكا وانتابتها سراعا، حيث تطورت حياتها الاجتماعية إلى ما نرى اليوم في نظامها من تشابك واختلاط، ثم مضت من بعد ذلك ثابتة غير متغايرة محتفظة بنسبة متوازنة من النظام تلوح كأنها خالدة لا تتغير. ومن الراجح أن يكون النوع الإنساني قد مرت عليه ألوف الألوف من الأعوام محتفظا بطابع ما من غير أن ينتابه أي تغاير، وأن روح التقدم المتوثبة التي كانت ثائرة مطاوعة لسنن النشوء والارتقاء في حالات عدم التكافؤ بين الأحياء وبيئاتها؛ قد هدأت ثورتها عندما بلغ الإنسان حدا من الرقي أصبح عنده أكثر ألفة مع ما يحيط به من ظروف البيئة. نقضي بهذا بعد أن وقفنا على كثير من صور الانحطاط والفساد الاجتماعي التي نمت عليها حالات الحرب العظمى، فأظهرت خفاياها وأبانت عن سوآتها في كثير من بقاع العالم المتمدين وغير المتمدين، وتلك حالات أضعفت من حسن ظننا في مستقبل النوع الإنساني بقدر ما أفسح كمونها وعدم وجود الظروف التي تظهرها المجال لأبناء الجيل السابق في التفاؤل وحسن الظن، فقد ثبت الآن أن ذلك الارتقاء الذي عاش أهل القرن التاسع عشر معللين أنفسهم بأن يبلغ أبناؤهم إلى قمته العليا في فاتحة القرن العشرين، وذلك الأمل الذي رقبه الذين ضمتهم من قبلنا عصور التراب في الماضي القريب؛ كان:
كأنه برق تألق بالحمى
ثم انطوى فكأنه لم يلمع
وما من شك يدور بخلدنا في أن الأستاذ ليير ينزع إلى الأفكار الاشتراكية المتطرفة في كثير من أبحاثه، فإن التفاؤل المطلق في مستقبل النوع الإنساني كان بلا أدنى ريب ميراثا تنقل من جيل إلى جيل حتى تركز في آخر حالاته على صورة تضخمت في رءوس الشيوعيين، وتراثا ورثه «كارل ماركس» - علم المدرسة الاشتراكية الحديثة ومؤسس دعائمها - عن معتقدات أهل القرون الوسطى، ولهذا ترى أن روح التعصب المذهبي فائضة من نواحي هذا المذهب، كما ترى أنه بعيد جهد البعد عن مطاوعات الشك واللاأدرية.
والحقيقة أن المفكر قبل سني الحرب العظمى كان يقف حائرا بين عاملين فكريين يتجاذبان عقله: عامل التفاؤل وعامل التشاؤم في مستقبل الجماعات الإنسانية، أما وقد نمت كوارث هذه الحرب عن الخلق المؤصل في تضاعيف الفطرة الإنسانية، وأبرزت الإنسان مجردا عن أثواب المدنية وعلى نفس الصورة التي تصورها لنا حالاته الفطرية الأولى، حيوانا جشعا مسفا خارجا من جوف الطبيعة ثائرا ضد كل ما فيها حتى نوعه الذي ينتمي إليه، حاملا فوق رأسه منجل الحصاد يحصد به الأنفس البشرية، وفي يده آلات الهدم والتخريب، نابذا كل تقاليد الشرائع الأدبية؛ فهنالك لم يبق من مجال يوسع لشعور التفاؤل أن يستقوي في الفكر على شعور التشاؤم في مستقبل الإنسان.
وما لنا ولهذا؟ فكر ساعة في أن تقل مواد الغذاء إلى حد الندرة وتخيل حال الإنسان واقعا تحت تأثير مجاعة تحدث فجأة، فماذا تتصور؟ تتصور أن الإنسانية التي يلوك أفرادها مبادئ الأديان بأفواههم، ويحركون شفاههم بكلمات الآداب والمثالية وما إليها، لا تمضي وادعة إلا بعد أن تمتلئ بطون أفرادها خبزا وإداما، وما بالتطبع يتغير وما بالطبع لا يتغير.
لقد قلت الثقة بفكرة التفاؤل في مستقبل النوع الإنساني، ولا يدلك على هذا مثل وقوفك على رأي الأستاذ «بيري» في كتابه «فكرة التقدم الإنساني: بحث في أصلها ونشوئها»، فإنه يقول في مقدمة كتابه هذا:
إن الأمل في بلوغ درجة من درجات السعادة فوق هذا السيار تنعم بها الأجيال المستقبلة أو حالة يمكن أن نعتقد نسبيا أنها سعيدة؛ قد حل محل الأمل في المتعة بنعيم الآخرة. على أننا رغم ما نجد من أن الاعتقاد في خلود الشخصية لا يزال معتقدا شائعا حتى اليوم، لا يسعنا إلا أن نقول بجانب هذا: إن ذلك المعتقد لم يصبح الفكرة الأساسية المسيطرة على الحياة العامة، ولم يعد بعد ذلك المقياس الذي تقاس به كل التقييمات الاجتماعية، فإن كثيرا من الناس ينكرون صحته وكثيرا غيرهم يعتقدون أنه من الشك بحيث لا يصح أن يكون المحور الذي تدور من حوله أفكارهم، وتتأثر به مشاعرهم ومقومات حياتهم. ولا مشاحة في أن الذين يؤمنون بصحة هذا المعتقد هم الأكثرية، غير أن درجات الاعتقاد تختلف ويصعب أن يعد مخطئا ذلك الذي يقول بأن هذا الاعتقاد لا يمضي مسيطرا مستبدا بأمره في تصورات الآخذين به، حتى إنك لتجد أن عواطفهم وانفعالاتهم لا تنعكس عليه إلا واهنة ضئيلة، وإنهم يشعرون بأنه أدنى إلى جانب النؤية والشك، كما تجد أنه قلما يكون تأثيره على السلوك أقصى مدى من تأثير تلك المناقشات العميقة التي تحشى بها كتب الأخلاق بما يتخللها من الأدلة والبراهين.
অজানা পৃষ্ঠা