আধুনিক নাগরিক জীবনের জটিলতা
معضلات المدنية الحديثة
জনগুলি
هذه النظرية تخرجنا من حدود الجبر إلى حدود الإرادة الحرة في تصريف أمور الاجتماع، فإن هنالك فئة من المؤرخين يعتقدون أن كل ما يرويه التاريخ من حوادث، وأن كل ما خرج به الإنسان من نظامات ومعاهد وشرائع؛ ليست في الواقع إلا تنفيذا لإرادة سبقت فيها منذ الأزل، وحقت عليها كلمة الغيب أن تكون ما كانت، وأن تبقى كما هي كائنة، وأن تظل كما ستكون.
أما إذا مضينا على هذا الاعتقاد قانعين بأن التاريخ أزلي النشأة أبدي البقاء على حالة ما، وأنه خاضع لإرادة الغيب، مصرفة أموره وحوادثه على مقتضى نواميس الكون الطبيعية التي لا تتبدل مقدماتها ولا نتائجها؛ فإن من الظاهر الجلي أننا إذا تتبعنا آثار النظامات الاجتماعية منذ نشأتها حتى اليوم، ثم أخذنا نمد سلطانها وأثرها الذي نلحظه في الحاضر إلى لا نهاية، على فرض أنها أبدية البقاء ثابتة التأثير على حالة واحدة؛ كان في مستطاعنا أن نعرف مقدار ما سوف يكون أثرها ومنزلتها في المستقبل قياسا على أثرها ومنزلتها في الماضي، فنقضي على ما نراه آخذا في النماء بأنه باق إلى أجل ما، ونقضي على ما نلحظ أن دبيب الفساد قد أخذ يدب فيه بأنه زائل لا بقاء له؛ فنمحو من صفحة الوجود نظامات، ونقدر لأخرى البقاء إلى أبعد عصور المستقبل المجهول. كل هذا قضاء لفكرة ثابتة بأن العوامل المؤثرة في التاريخ كالعوامل المؤثرة في سطح الأرض؛ فنحكم بالاتساق في حالات الاجتماع حكم الجيولوجيين بالاتساق في المؤثرات التي تنتاب الأرض، على بعد ما بين الحالتين من الخلف والتباين، وكأن هؤلاء القوم قد عناهم الشاعر العربي بقوله:
يقفون والفلك المحرك دائر
ويقدرون فتضحك الأقدار
على هذه الفكرة مضت فئة من الباحثين مقتنعين بأن التاريخ كسجل للماضي يمكن أن يلقي بشيء من النور على خبايا الحاضر والمستقبل، على وجه التخصيص لا على وجه التعميم. ولكن قليلا من البحث والتأمل ليدل على أن التاريخ في حين أنه يزودنا بما نقف به على حقيقة المرتكز الذي يرتكز عليه «الحاضر»؛ فإنه لا يفسر لنا مغمضاته ولا يبين لنا عن حقيقة مشكلاته، وإنه إذ يساعدنا على الإلمام بشيء نتوقع به حدوث حالات ما في «المستقبل»، فإنه لن يزودنا بما نستطيع به أن نقبض على زمام حادثاته، أو أن نوجهها في المتجه الذي نريد لأنفسنا أو لغيرنا.
ولقد ثبت لدينا من قبل أن التاريخ يفصح لنا عن حقيقة النظامات القائمة من حولنا بأن يرجع إلى أصلها ومنشئها الذي نشأت منه، ويتقصى الأدوار التي مرت بها وأوجه التطور التي طرأت عليها، حتى يسلم بها إلى «الحاضر» كما نراها ونعهدها. بيد أن تلك النظامات إذ هي بذاتها معدومة الأثر الذاتي ؛ لأن نفعها أو ضررها مقيس دائما بنسبة ما تؤثر في رفاهية الإنسان، لذلك يتعذر علينا أن نوجه خطى النشوء التي تخطوها الجماعات في سبيل الخير والسلام، ما لم نعرف مقدار الأثر المباشر الذي يلحق المجتمع من قيام تلك النظامات، وما هي ماهيتها في التأثير في عقول الناس الخاضعين لها وسلطانها على أخلاقهم ومشاعرهم وتصوراتهم.
ولا ينكرن أحد أن لتلك النظامات أثرا ما، سواء أكان خيرا أم شرا، وأن لبعضها القدرة على تنوير الأذهان وتحريك الفكر نحو المعقولات، كما أن لبعضها الأثر الأول في خلق روح الجمود وقتل ملكة التفكير والحكم على الأشياء حكما مستقلا. وكذلك لا ينكر باحث أن الغرض الذي يرمي إليه السياسيون مقصور على العمل على إحياء بعض النظامات الاجتماعية والأخذ بيدها، والسعي في تهديم البعض الآخر والذهاب بآثاره. غير أن السياسي إن أراد أن يتبع في عمله طريق الحق والصواب، وجب عليه أن يعرف بداءة ذي بدء ما هي تلك الآثار التي تخلفها النظامات المختلفة في الجماعات كما يجب على الطبيب أن يعرف أثر ما يصف من دواء في بناء الأجسام من قبل أن ينصح للمريض به، فليس إذن ما نحتاج إليه هو معرفة الكيفية التي بلغت بها النظامات إلى الحالة التي نراها عليها، بل إن ما نحتاج إليه هو معرفة الآثار التى تنشأ عنها فى الحالات القائمة من حولنا، إنا لا نحتاج إلى التاريخ بمعناه المعروف، بل نحتاج إلى سبيل ينفذ به بصرنا إلى أعماق «الحاضر»؛ إذ أية فائدة نجنيها وأي نفع نرقبه من معرفتنا تاريخ الرق وكيف نشأ وانتشر وكيف ضعف وزال أثره في أية بقعة من بقاع الأرض وخلال أي زمن من أزمان التاريخ؟ في حين أن ما نريد أن نعرف ماهيته هي آثاره المباشرة الدائمة على طبيعة الإنسان الأدبية في مختلف الأمم وعلى تتالي الأجيال، أو ماذا يعود علينا من نفع إذا نحن عرفنا تاريخ ذيوع اليهودية أو المسيحية أو الإسلام، والأطوار التي مرت بها العقائد العظمى حتى ثبتت أصولها بين الأمم التي تدين بها. بيد أن وجه الفائدة الصحيحة محصورة في معرفة الآثار التي خلفتها تلك العقائد في الأمم التي دانت بها وخضعت لسلطانها، أية فائدة في أن نعرف تاريخ الجلاد بين الأرستقراطية والديمقراطية إذا جهلنا معه معرفة تاريخ حقيقة الأثر الذي يبعثه كل من النظامين في روح الجماعات ومقدار أثر كليهما في أخلاق الناس ومشاعرهم وحياتهم العامة؟ من هنا يتضح لنا أننا إذا تعذر علينا معرفة الآثار التي تتركها النظامات في حالات المجتمع، ماديا وعلميا وأدبيا وأخلاقيا، استعصى علينا أن نقود خطوات الجماعات في المستقبل في سبيل الأمن والسلام.
أما إذا أردنا أن نفقه حقيقة المؤثرات الطافية على وجه الحياة في زمان ما، انبغى لنا أن نتقصى الفكرات والعواطف والمعتقدات السارية في روع الناس في «الحاضر»، وما تلك الأشياء، أي الفكرات والعواطف والمعتقدات في حياة الجماهير، إلا النتاج المباشر لصور الدين والمذاهب والحكومات التي يعيشون خاضعين لسلطانها وسيطرتها، وإن شئت فقل لنظاماتهم العامة، ولا خفاء أن الصفات الأدبية والعقلية الخاصة بأمة من الأمم ليست في الواقع بشيء سوى مجموعة الآثار التي تخلقها النظامات المختلفة. ومع كل هذا، فإننا لا نستطيع أن نفقه الحالات القائمة في حياة جماعة من الجماعات أو أمة من الأمم، قبل أن نفرق بين الآثار المخلفة عن كل من النظامات القائمة فيها، والتي نعتقد بحق أنها قسم من طبيعتها الكامنة في تضاعيف فطرتها.
4
إن التاريخ كرواية للماضي لا يمكن أن يزودنا بما نفصح به عن مشكلات «الحاضر»، ولا يمكننا من اكتناه خفايا المستقبل، ذلك لأن الإفصاح عن «الحاضر» والتغلل في ثناياه والإرشاد عن المستقبل لا يتيسر إلا باستجماع ضروب من المعرفة النظامية اليقينية في تأثير النظامات العامة على الحياة الإنسانية.
অজানা পৃষ্ঠা