وتثوب السكينة إلى محبوبة قليلا قليلا، وقد أقامها النساء فأجلسنها وقدمن إليها شيئا من ماء لتسترد صوابها كاملا وقوتها موفورة.
وتنقضي الليلة كما تنقضي ليالي الأعراس، ويقبل النهار من غد، ولكن خديجة لا تبدو للزائرات إلا مكرهة على ذلك إكراها، تسمع منهن كل شيء ولا تقول لهن شيئا، تحاول أن تمسك دموعها فلا تجد إلى إمساك الدموع سبيلا.
وهن يسألنها، ويتساءلن فيما بينهن: ما خطبها؟ وما مصدر هذه الكآبة التي تغمر نفسها، وهذه الدموع التي تغمر وجهها؟ ومتى رأى الناس فتاة يملأ قلبها الحزن في مثل هذا اليوم الذي تفيض فيه القلوب فرحا وبشرا؟! هن يسألنها فلا يجدن عندها جوابا؛ لأنها لا تجد عند نفسها جوابا، أو قل إن الجواب مستقر في نفسها، ولكنها لا تستطيع أن تبديه لأنها لا تستطيع أن تصل إليه ولا تظهر عليه، وهن يتساءلن فيما بينهن فلا يجدن جوابا لما يدور على ألسنتهن من سؤال. ولو جرت أنفسهن على سجيتها لاخترعن الجواب عن تساؤلهن اختراعا. وأي شيء أيسر عليهن من الريبة تثار بالحق وبالباطل! لقد رأين الفتاة أمس تزف إلى زوجها شاحبة الوجه ممتقعة اللون زائغة البصر لا تمسك نفسها إلا في جهد، كأنما كانت تساق إلى الموت وهي تنظر إليه، ولقد كانت أمها ملقاة على الأرض تضطرب اضطراب من مسها الصرع وركبها الشيطان، أليس في كل هذا وفي بعض هذا ما يريب؟ ولكنهن رأين الراية القانية ترتفع في ظلمة الليل وبين خفقان المصابيح.
والضحى يرتفع، والنهار يوشك أن ينتصف، وهذه سيدة خديجة قد أقبلت زائرة لها، تحمل إليها التحية وتحمل إليها الهدية أيضا، فترى وتسمع ويروعها ما ترى وما تسمع.
ثم تخلو إلى الفتاة خلوة تطول شيئا، وتخرج من عندها متضاحكة تقول لمن حولها: عبث أطفال، وحياء فتاة غافلة لن تلبث الأيام أن تذهب به كما تذهب بكثير من الأشياء.
ولكن الأيام تمضي ولا تذهب بشيء، أو يخيل إلى من حول خديجة أن الأيام تمضي كما تعودت أن تمضي في أعقاب الأعراس، فالفتاة هادئة مطمئنة وإن كان وجهها الصبوح قد فقد غير قليل من جماله وبهجته، وغشيته سحابة مقيمة من حزن رقيق يزيدها إلى النفوس حبا، ويزيد موقعها في القلوب حسنا، وإن كان صوتها الرخص العذب الصافي الممتلئ، قد جرت فيه نغمة حزينة متكسرة، تجعله ألذ موقعا في السمع، وأسرع نفوذا إلى القلب.
وزوج الفتاة سعيد مغتبط كأحسن ما يسعد الأزواج ويغتبطون.
وينطلق الفجر ذات يوم جريئا يريد أن يمحو آية لليل، وتغمر الأرض هذه الساعة الحلوة التي تكون بين انطلاق الفجر وإشراق الشمس، والتي كان صوت خديجة يحضرها في النفوس بما يملؤها من ترقرق النسيم، وحفيف الأوراق، وهفيف الغصون، وسقوط الندى، وغناء الطيور، واستيقاظ الطبيعة، وفي هذه الساعة الهادئة الحلوة يخرج النساء والعذارى من أهل القرية ساعيات إلى النهر، متغنيات جمال الحياة، كأنه حلم يلم بنفوسهن في آخر عهدها بالليل، وأول عهدها بالنهار. ثم يعدن إلى القرية صامتات، قد أخذ الابتسام يغادر ثغورهن قليلا قليلا، وأخذت الكآبة تغشى وجوههن شيئا فشيئا، وأخذ الهم يستيقظ في قلوبهن فنونا وألوانا، وأخذن يتهيأن لاحتمال أثقال الحياة وآلامها ما غمرت الشمس قريتهن بنورها الملح الثقيل.
ذهبن إلى النهر فرحات مرحات، وعدن إلى القرية كاسفات البال بائسات النفوس. وافتقدت خديجة حين تقدم النهار قليلا فلم توجد، وإنما وجدت على شاطئ النهر، وفي مكان بعيد من حيث تعود النساء أن يملأن جرارهن؛ جرة مملوءة وإلى جانبها بعض الحلى، والتمست خديجة في النهر فلم يظفر بها الباحثون.
قالت سيدتها وهي تكفكف دموعها تريد أن تنسجم، وتثبت صوتا يريد أن ينفطر: لقد أكرهت خديجة إكراها على الزواج، ومس حياءها النقي ونفسها الطاهرة منه دنس، لم يستطع الحب أن يغسله فغسله الموت.
অজানা পৃষ্ঠা