(١)
بسم الله الرحمن الرحيم وبه أستعين وعليه أتوكل
الحمد لله خالق الأرضين والسموات الذي <إليه تنتهي التأثيرات والمؤثرات> وعلى وجوده يقف تصحيح الشروط واقتضاء المقتضيات، وصلواته على نبيه المخصوص بالكرامات المؤيد بالمعجزات والآيات محمد الذي ختم بنبوته سائر النبوات ونسخ بشريعته جملة الشرعيات، وعلى آله الطيبين المفضلين بعده على كافة البريات، <وسلامه> عليهم أجمعين.
سألت، وفقنا الله وإياك <للنظر> فيما بعد الممات وجعلنا وإياك ممن ادخر الباقيات الصالحات، أن أوضح لك <جملة> القول في المؤثرات وما يجري مجراها من الشروط والمقتضيات. فأجبتك إلى ما سألته من ذلك رغبة فيما يحصل لك به من المنفعة ورجاء لما يكتب لي عليه من المثوبة. ومن الله سبحانه أستمد التوفيق والتسديد وإياه أسأل العصمة والتأييد بمنه ورحمته.
(٢) الكلام في المؤثرات وما يجري مجراها وتمييز بعضها من بعض وما يختص به كل واحد منها من التأثير
وقبل الشروع في ذلك نذكر حقيقة المؤثر، وحقيقته هو كل ما يظهر به حكم أو صفة. واعلم أن المؤثرات ثلاثة، أولها الفاعل وحقيقته الذي وجد <من جهته> بعض ما كان قادرا عليه، وثانيها العلة وحدها كل ذات توجب لغيرها صفة ، وثالثها السبب وهو كل ذات توجب ذاتا أخرى، فهذه هي المؤثرات.
وأما ما يجري مجرى المؤثر فثلاثة أيضا، أحدها المقتضي وحقيقته هي كل صفة اختصت بها ذات وجب لأجلها لتلك الذات صفة أخرى ، وثانيها الشرط وهو ما وقف عليه حصول غيره أو ما يجري مجرى الغير كالصفات. وإن شئت قلت: هو ما يصحح حصول المشروط ولم يكن مؤثرا في وجوبه أو ما وقف عليه صحة غيره أو ما يجري مجرى الغير كالصفات ولم يكن مؤثرا في وجوبه. وهذان الحدان أولى من الأول لأنه ينتقض بالعلة فإنه يقف عليها حصول الصفة التي هي معلولها وليست بشرط، وكذلك السبب يقف عليه حصول مسببه وليس بشرط. وثالثها الداعي وهو على ضربين، داعي الحكمة وداعي الحاجة. فداعي الحكمة هو علم العالم أو ظنه أو اعتقاده بحسن الفعل أو أن لغيره فيه نفعا أو دفع ضرر، وداعي الحاجة هو علم العالم أو ظنه أو اعتقاده أن له في الفعل نفعا أو دفع ضرر.
فالفاعل هو البارئ تعالى ومن كان قادرا من خلقه، والعلة كالأكوان مما توجب الصفة للمحل وكالإرادات والكراهات والظنون والأفكار والاعتقادات مما توجب للجملة دون المحل، والسبب هو الاعتماد والنظر والكون لأن الاعتماد يوجب اعتمادا مثله ويوجب الكون والصوت بشرط الصكة، والنظر على الوجه الصحيح يوجب العلم، والكون يولد الألم والتأليف فيوجب الألم إذا كان تفريقا ويوجب التأليف إذا كان قربا ومقاربة ومجاورة، ويولد الألم بشرط انتفاء الصحة وهي تأليف مخصوص توجد في محل الحياة ويولد التأليف على وجه يصعب معه التفكيك بشرط أن يكون في أحد محلي التأليف رطوبة وفي الآخر يبوسة.
والمقتضي هو ككون الجوهر جوهرا فإنه يجب للجوهر لأجل كونه جوهرا عند الوجود كونه متحيزا، وكذلك كون الحي حيا فإنه يجب للحي عند زوال الآفات والموانع ووجود المدرك لأجل كونه حيا كونه مدركا. والشرط كالوجود فإنه شرط في اقتضاء كون الجوهر جوهرا كونه متحيزا وكوجود المدركات فإنه شرط في اقتضاء كون الحي حيا كونه مدركا وكذلك زوال الآفات والموانع. والدواعي هي التي يستمر ويجب وجود الأفعال والتصرفات بحسبها وذلك ظاهر في أفعالنا وأفعال البارئ تعالى. فهذا هو الكلام في حقائقها.
(٣) باب في تمييز بعضها من بعض
اعلم أن الفاعل يتميز عن غيره من المؤثرات بكونه مؤثرا على طريق الصحة والاختيار. ومعنى ذلك أنه يجوز تراخي وجوب تأثيره عن جوازه وصحته بل يجب تراخي ذلك فيمكنه أن يفعل وأن لا يفعل ولا يجب عند إمكان أن يفعل كونه فاعلا ومؤثرا لا محالة. والمؤثرات على طريق الإيجاب إنما تتميز من المؤثر على طريق الصحة والاختيار بكونها مؤثرة على طريق الإيجاب، ومعنى ذلك أنه لا يجوز تراخي وجوب تأثيرها عن جوازه وصحته بل متى صح تأثيرها وجب ومتى لم يجب استحال. فأما العلة فإنما تتميز من السبب من حيث أن العلة لا يجوز أن توجد بدون معلولها من حيث هي توجبه لما هي عليه في ذاتها، وما هي عليه في ذاتها ثابت في جميع أحوال الوجود، والسبب يجوز وجوده بدون وجود مسببه عند بعض الموانع ومن حيث أنها توجب الصفة وهو يوجب الذات. واعلم أن السبب وإن صح وجوده بدون وجود مسببه فإنه يفارق المؤثر على سبيل الصحة والاختيار من وجهين، أحدهما أنه لا يصح وجوده دون مسببه إلا لمانع والفاعل يصح وجوده دون فعله وإن لم يكن هناك مانع، والثاني أن السبب متى لم يجب حصول مسببه استحال حصوله لأنه مؤثر على طريق الإيجاب فمتى صح تأثيره وجب ومتى لم يجب استحال. والمانع هو الذي يزول عنده وجوب تأثيره وصحته ومتى زال المانع صح تأثيره ووجب. وليس كذلك الفاعل فإنه قد يثبت إمكان تأثيره وصحته وإن لم يجب في حال صحته تأثيره.
والفرق بين المقتضي وبين ما تقدم هو أن المقتضي ليس بذات بل هو صفة فيفارق الفاعل والعلة والسبب فإنها ذوات. ويفارق من وجه آخر وهو أن المقتضي يؤثر في صحة المقتضى وفي وجوبه فيفارق العلة فإنها تؤثر في وجوب المعلول دون صحته، وهو وإن شارك الفاعل في أن كون الفاعل قادرا هو المؤثر في صحة المقدور ووجوبه كما أن المقتضي يؤثر في صحة المقتضى ووجوبه، فهو يفارقه من وجه آخر وهو أن الفاعل يجب تراخي وجوب تأثيره عن صحته وإمكانه والمقتضي لا يجوز تراخي وجوب تأثيره عن صحته وإمكانه بل متى صح تأثيره وجب ومتى لم يجب استحال. ولهذا فإن كون الجوهر متحيزا لما لم يجب في حال عدمه استحال ومتى صح في حال وجوده وجب. ويفارق العلة من وجه آخر وهو أن المقتضي قد يثبت ولا يثبت تصحيحه للمقتضى ولا إيجابه له لعدم الشرط في تصحيحه وإيجابه له، والعلة ليست كذلك فإنه لا يجوز ثبوتها بدون تأثيرها ولا أن يقف تأثيرها على شرط يثبت وجودها بدونه.
والفرق بين الشرط وبين سائر ما تقدم أن الشرط لا تأثير له سوى في تصحيح الأحكام والصفات دون إيجابها ، فيفارق بذلك جميع ما تقدم.
والفرق بين الداعي وبين ما تقدم هو أن الداعي لا تأثير له في وجوب وجود الفعل الذي يفيد استحالة خلافه ولا في صحته وإمكانه. بل إنما يستمر عنده وقوع الأفعال والتصرفات عند سلامة الحال فيقع الفعل بحسب الداعي وينتفي بحسب الصارف ويستمر ذلك فيه على وتيرة مستمرة <عند السلامة>. فهذه طريقة القول في تمييز بعضها من بعض.
(٤) باب فيما يختص به كل واحد منها من التأثير
اعلم أن هذه المؤثرات منها ما يكون تأثيره في التصحيح والإيجاب معا ومنها ما يكون تأثيره في الإيجاب دون التصحيح ومنها ما يكون تأثيره في التصحيح دون الإيجاب ومنها ما يكون تأثيره في الاستمرار على وتيرة واحدة وطريقة مستمرة. أما ما يكون تأثيره في التصحيح والإيجاب معا فثلاثة، الفاعل والمقتضي والسبب. وبيان أنها ثلاثة أن ما يؤثر في التصحيح والإيجاب لا يخلو إما أن يجوز تراخي إيجابه عن تصحيحه أو لا يجوز ذلك فيه. فإن جاز ذلك فيه فهو الفاعل. وإن لم يجز ذلك فيه فلا يخلو إما أن يكون له تأثير في وجود الذات أو لا يكون له تأثير في ذلك بل إنما تأثيره في أمر زائد على الوجود فالأول السبب والثاني المقتضي.
[الكلام في النوع الأول]
والكلام في هذا النوع من المؤثرات يقع في موضعين، أحدهما في أنها مؤثرة في التصحيح والإيجاب معا، والثاني في أن الفاعل يجب تقدم تصحيحه على إيجابه وأن المقتضي والسبب بخلافه.
[الكلام في الفصل الأول]
فأما الكلام في الفصل الأول فالذي يدل على أن الفاعل مؤثر في صحة فعله ووقوعه فلأن الفاعل إنما صح منه فعله ووقع من جهته لكونه قادرا عليه. إذ لو لم يكن قادرا عليه بل كان عاجزا عنه لما صح منه وقوعه لما نعلمه من أن الحيين في الشاهد إذا حاول أحدهما حمل ثقيل صح منه ووقع ومتى حاول ذلك الآخر تعذر عليه، فإنه يجب أن يكون بين من صح ذلك منه ومن تعذر ذلك عليه مفارقة وله عليه مزية. إذ لو لم يكن بينهما مفارقة ولا لأحدهما على الآخر مزية لما كان أحدهما بصحة الفعل أو تعذره أولى من الآخر لأنهما حينئذ مشتركان في جميع الوجوه من حيث هما جسمان وحيان إلى غير ذلك ولم يختص أحدهما بصفة دون الآخر. فيجب إذن أن يختص من صح ذلك منه بصفة لم يشاركه فيها من تعذر عليه وهي أنه قادر على الحمل دون الآخر. فإذا كانت صحة الفعل تثبت بثبوت كونه قادرا وتزول بزواله عرفنا أنه المؤثر فيها دون غيره. وكذلك فوقوع الفعل يجب أن يكون المؤثر فيه كونه قادرا دون أن يكون المؤثر فيه الإرادة وما يتصل بها من الدواعي لما نعلمه من أن الساهي والنائم تقع منهما الأفعال من دون داع ولا إرادة، فعرفنا حينئذ أن المؤثر في صحة الفعل ووقوعه هو كونه قادرا لأن سائر صفات الحي لا تأثير لها في ذلك لأن كونه حيا مما لا يتعلق بالغير ولأنه قد يكون حيا ولا يصح منه الفعل كما ذكرنا من قبل، وكونه معتقدا وظانا يرجعان إلى الدواعي، وقد بينا أنه لا تأثير لها في ذلك، وكذلك كونه مريدا. وأما كونه كارها فإن منع من وقوع الفعل وإلا لم يجز أن يؤثر فيه. وكونه متفكرا لا تأثير له في ذلك لصحة الأفعال ووقوعها من القديم مع استحالة التفكر عليه. وكونه مشتهيا ونافرا لا يؤثران في ذلك لما نعلمه من أن القديم جل وعز تصح منه الأفعال وإن استحال كونه مشتهيا ونافرا، ولأن كونه مشتهيا ونافرا يتعلقان بالمدركات فقط وأكثر الأفعال ليست بمدركة. وكذلك الكلام في كونه مدركا في أنه لا تأثير له في وقوع الأفعال وصحتها لأن كونه مدركا لا يتعلق إلا بالمدركات وأكثر الأفعال يستحيل إدراكه، ولأن كونه مدركا واقف على وجود المدرك، فكيف يقف وجود الفعل المدرك عليه؟ ولأن الحيين يشتركان في كونهما مدركين ويتفاوتان في صحة الأفعال ووقوعها. فصح إذا أن الفاعل إنما أثر في صحة الفعل ووقوعه لكونه قادرا عليه.
ومتى قيل : لم قلتم أن أحوال الحي ليست إلا ما ذكرتم حتى يتم لكم أنه إذا بطل تأثيرها في وقوع الفعل لم يبق سوى كونه قادرا؟ وما أنكرتم من ثبوت صفة زائدة على ما ذكرتم وهي المؤثرة في ذلك؟
قلنا: لأن الصفة إما أن تعلم من النفس أو لا تعلم من النفس. فإن لم تعلم من النفس ولا كانت الذات مدركة عليها لم يكن بد لها من حكم يستدل عليها به، ولا شك أنه لا يعلم من النفس الصفة التي ذكر السائل ولا تدرك الذات عليها ولا حكم يستدل به عليها، فلا يجوز إثباتها لأن إثبات ما لا طريق إلى العلم بالذات عليه من الصفات يفتح باب الجهالات ويقتضي أن لا يوثق بالمؤثرات وتأثيرها فيما تؤثر فيه لأنه يجوز على هذا القول أن تكون الحركة مؤثرة في صفة لا طريق إلى العلم بالذات عليها وأن يكون المؤثر في كونه متحركا أمرا لا سبيل إلى العلم به ونحو ذلك من الجهالات. فلم يبق إلا أن يكون المؤثر في صحة الفعل ووقوعه أمرا واحدا وهو الفاعل لاختصاصه بكونه قادرا.
وأما المقتضي فالذي يدل على أنه مؤثر في صحة المقتضى ووجوبه هو أن المقتضي هو الصفات الذاتية فإنها تقتضي صفات أخر تدرك عليها المدركات وتؤثر لأجلها الذوات المؤثرة، وكون الحي حيا فإنه يقتضي كونه مدركا فصفات الذوات تقتضي مقتضياتها بشرط الوجود. إذ لو اقتضتها من دون شرط الوجود لوجب في العلل أن توجب الصفات في حال العدم لحصول الصفة المقتضاة التي لأجلها توجب في حال العدم، ولوجب تضاد الأضداد في العدم لحصول المقتضاة الموجبة لذلك، ولوجب أن تدرك المدركات في حال العدم لحصول المقتضاة التي تدرك عليها في العدم، ولوجب أن تشغل الجواهر المعدومة الجهات لحصول المقتضاة وهي التحيز لها في العدم. وذلك لا يجوز لما ثبت من أن العلل لا توجب إلا بشرط الوجود والاختصاص الذي هو فرع عليه. وإن المتضادات لا تتضاد في العدم وإلا لزم وجود ما لا يتناهى من البياض لعدم ما لا يتناهى من السواد، وكذلك في سائر المتضادات، ولوجب أن يكون الجسم كائنا في جهتين لعدم الكون في ثالثة وأن يكون أحمر أبيض لعدم السواد، ولما ثبت من أن المدركات لا تدرك إلا عند الوجود وإلا كان يجب أن تدرك الأصوات والآلام وسائر المدركات قبل وجودها وبعد عدمها، ومعلوم ضرورة خلاف ذلك، فإنا نعلم أنا لا ندرك الصوت في الثاني من وجوده كما أدركناه في الأول، وكذلك أحدنا لا يدرك الألم في حال صحته كما كان يدركه في حال مرضه، ولما ثبت من أن الجواهر المعدومة لا تشغل الأحياز في حال العدم وإلا لزم أن تكون جميع الجهات مشغولة لأن الجواهر المعدومة لا نهاية لها، فكان يجب أن لا يصح من أحدنا التصرف في الجهات لامتناع التداخل على الأجسام ومعلوم خلاف ذلك. فلم يبق إلا أن تقتضي مقتضياتها بشرط الوجود.
ثم لا يخلو إما أن يكون الوجود مصححا للمقتضيات أو لا يكون مصححا لها بل إنما يكون شرطا في تصحيح المقتضي وإيجابه لها. محال أن يكون مصححا لها لأنه كان يلزم أن تصح جميع المقتضيات على كل ذات موجودة حتى تكون الذات الموجودة تصح أن تكون متحيزة وأن تكون بصفة الحركة وبصفة السكون وبصفة اللون وسائر الصفات المقتضاة لحصول المصحح لجميع ذلك لها وهو الوجود. وذلك محال لأنه يؤدي إلى أن الذات تصح أن تكون بصفة مخالفها وضدها، ومحال انقلاب الجنس على الذوات لأنها لا تحصل على الصفة المقتضاة الثابتة لمخالفها ومضادها إلا بعد أن تحصل على المقتضي، وحصولها على المقتضي يوجب أن تكون الذات الواحدة مضادة لنفسها ومخالفة لها، فكان يجب أن تنتفي وأن لا تنتفي معا، وذلك محال، فبطل أن يكون الوجود مصححا للصفات المقتضيات. فلم يبق إلا أن يكون المصحح لها والموجب واحدا، وهو المقتضي، ويكون تصحيحه وإيجابه لمقتضاه بشرط الوجود، فكان الوجود مصححا لتصحيح المقتضي لمقتضاه وإيجابه له، فلا يصحح المقتضي مقتضاه ولا يوجبه إلا بشرط الوجود. وكذلك كون الحي حيا فإنه مصحح لكونه مدركا وموجب له بشرط زوال الآفات والموانع ووجود المدرك لأن كون الحي حيا هو الأصل لصفات الجملة والمصحح لجميعها لكنه يصحح بعضها بشرط وبعضها من دون شرط، فتصحيحه لكونه مدركا وإيجابه له هو بشرط ما قدمنا لأنه متى ثبت ما قدمنا من الشروط صح كونه مدركا ووجب ومتى زالت، أو بعضها، استحال كونه مدركا.
ومتى قيل: كيف يصح لكم هذا الإطلاق في جميع المقتضيات ومعلوم أن صفة الله الأخص مقتضية لصفاته الأربع من كونه قادرا عالما حيا موجودا وليس لها تأثير في صحتها بل إنما تؤثر في وجوبها؟
قيل له: إن ما ذكرته لا يصح بل هي مؤثرة في صحتها أجمع ووجوبها، وذلك لأنه لا مصحح لكونه تعالى موجودا إلا موجبه من صفته الأخص. وكذلك كونه حيا فإن صفته الأخص هي المصححة له والموجبة دون أن يكون الوجود مصححا لذلك. وإلا لزم في الأعراض أن يصح كونها حية لأنها موجودة، وذلك مستحيل، فلم يبق إلا أن يكون الوجود شرطا في اقتضاء صفته الأخص للصفات الثلاث. وكذلك فصفته الأخص مصححة لكونه قادرا على جميع أجناس المقدورات وعالما بجميع المعلومات، وتصحيح كونه حيا لذلك لا يمنع من تصحيح صفته الأخص وإيجابها لذلك، فإن الصفة قد يجوز أن تكون المؤثر في صحتها وجهين كل واحد منهما لو انفرد لأثر في التصحيح فإذا اجتمعا لم يتغير تأثيرهما. ألا ترى أن المؤثر في صحة كون الشيء مرئيا قد يكون تارة التحيز وأخرى كونه على هيئة مخصوصة كهيئة السواد والبياض وسائر الألوان؟ ولم يمنع تصحيح التحيز لرؤية الجوهر من تصحيح الهيئة المخصوصة لرؤية اللون. فلو قدرنا أن ذاتا حصلت على صفة الجوهر بكونه متحيزا وعلى صفة اللون بكونه هيئة مخصوصة لكان المؤثر في صحة كونها مرئية كلتا الصفتين دون أن يكون المؤثر إحداهما إذ لا تخصيص. وكذلك فالمؤثر في صحة كون الذوات معلومة هي صفاتها الذاتية على تماثلها واختلافها وتضادها، ولم يمنع تصحيح بعضها لكون الشيء معلوما من تصحيح البعض الآخر لذلك. فلو قدرنا أن الذات حصلت على صفتين للنفس لكان المؤثر في صحة كونها معلومة كلتيهما دون أن يكون المؤثر إحداهما، فكذلك يجب في صفة الله جل وعز الأخص وكونه حيا. فبطل ما قاله السائل وصح أن المقتضي يؤثر في صحة المقتضى ووجوبه. وذكرنا للصحة والتصحيح في صفاته جل وعز الأربع، إنما عنينا به نفي الاستحالة والامتناع لا الصحة المتقدمة للوجوب كصحة الفعل وصحة كون أحدنا عالما وقادرا إلى غير ذلك، فإن ذلك مستحيل في حقه جل وعز فإن صفاته الأربع لا تتقدم صحتها على وجوبها من حيث ثبتت له تعالى على سبيل الوجوب.
وأما السبب فالذي يدل على أن له تأثيرا في صحة المسبب هو أن السبب متى صح وجوده صح وجود مسببه على طريق التبع له ومتى استحال وجوده استحال وجود مسببه. إذ لو صح وجود مسببه من دون وجوده لقدح ذلك في كونه مسببا له ومتولدا عنه لأن الطريقة التي بها يعلم أن الشيء مبتدأ غير متولد هي أن يصح وجوده مع عدم ما يقدر كونه سببا، والطريقة التي بها يعلم أن شيئا متولد <هي> أن يوجد بحسب السبب ولا يوجد لولاه. فلو وجد المسبب من دون وجود سببه لعاد بالنقض على التفرقة بين المبتدأ والمتولد وعلى الطريقة في إثبات الأسباب والمسببات وللحق بما يكون مبتدأ، فيجب إذا أن لا يصح وجود المسبب إلا عن سببه.
فإن قيل: هلا صح وجود عين المسبب عن سبب آخر فيصح وجوده من دون وجود سببه الأول؟
قيل: إن السببين لا يجوز أن يشتركا في توليد مسبب واحد. إذ لو اشتركا في ذلك لم يخل الحال إما أن يصح وجود المسبب مع عدم كل واحد منهما عند وجود صاحبه أو لا يصح وجوده إلا عند وجودهما. فإن قيل بالأول قدح ذلك في كون كل واحد من السببين سببا له لأن من حق المسبب أن يستحيل وجوده من دون وجود سببه، وإلا لزم في الأفعال المبتدأة أن تكون مسببة وإن صح وجودها من دون وجود الأسباب. فلو صح وجود هذا المسبب مع عدم أحد سببيه أيهما كان لقدح ذلك في حاجته إليه وكونه مسببا عنه ولجاز أن يكون مسببا عن كل سبب وإن صح وجوده من دونه وذلك باطل. وإن قيل بالثاني لم يصح أيضا لأنه كان يجب لو قدرنا وجود أحد السببين دون الآخر أن لا يوجد المسبب وذلك أيضا يقدح في كون هذا الموجود سببا له، لأن من حق السبب أن يجب وجود مسببه عند وجوده وارتفاع الموانع. فمتى وجد هذا السبب وارتفع المانع ولم يوجد المسبب قدح ذلك في كونه سببا موجبا، وليس يصح أن يقال أن عدم السبب الثاني يكون في حكم المانع لأن المنع إنما يكون وجود ضد للمسبب أو عدم شرط من شروط توليده له، وعدم السبب الآخر ليس واحدا من الأمرين لأنه ليس بشرط في توليد السبب الآخر، وإنما هو سبب مولد ونحن لا نمنع أن يقف السبب في توليده على شرط وإنما منعنا أن يتولد المسبب عن سببين. فصح بهذه الجملة أنه لا يصح وجود عين المسبب إلا عن سببه وأنه يستحيل وجوده من دون وجود سببه. فإذا كانت صحة وجوده موقوفة على سببه، نفيا وإثباتا، عرفنا أنه مؤثر في ذلك لأن هذا طريق العلم بالمؤثرات، وكذلك فله تأثير في وجوب وجود مسببه لأن وجوبه يقف على وجوده نفيا وإثباتا. ولذلك يخرج المسبب عن التعلق بالقادر عند وجود سببه ويصير في حكم ما قد وجد، فلولا وجوبه عن السبب لما خرج عن التعلق بالقادر إلا عند وجوده في نفسه كالأفعال المبتدأة ومعلوم خلافه. فهذه طريقة الكلام في أن الفاعل والسبب والمقتضي مؤثرة في التصحيح والإيجاب معا.
[الكلام في الفصل الثاني]
وأما الكلام في الفصل الثاني من الكلام في هذه المؤثرات الثلاثة وهو أن الفاعل يجب تقدم تصحيحه على إيجابه وأن المقتضي والسبب بخلافه. فالذي يدل على أن الفاعل يجب تقدم تصحيحه على إيجابه هو أنه لو لم يتقدم تصحيحه على إيجابه لكان مؤثرا على طريق الإيجاب. ولو كان كذلك لم يحسن أمره ولا نهيه ولا مدحه ولا ذمه لأن أمر الواحد بما لا يمكنه الانفكاك منه أو نهيه عنه أو مدحه أو ذمه عليه لا يحسن، ولذلك يقبح أمر المرمي به من شاهق بالنزول أو نهيه عنه ومدحه أو ذمه عليه. وكذلك يقبح أمر السبب والعلة وسائر الموجبات ونهيها ومدحها وذمها على ما توجبه، ولم يقبح ذلك إلا لأنها مؤثرة على سبيل الإيجاب لا يمكنها الانفكاك مما توجبه ولا يتقدم تصحيحها على إيجابها. وفي علمنا بحسن أمر الفاعلين منا ونهيهم ومدحهم على ضروب الإحسان والأفعال الواجبة وذمهم على ضروب القبائح دلالة على أن الفاعل مؤثر على طريق الصحة والاختيار، فيجب تقدم صحة تأثيره على وجوبه حتى يمكنه أن يفعل الفعل وأن لا يفعله إن كان مبتدأ، وأن يفعله بأن يفعل سببه ولا يفعله بأن لا يفعل سببه بأن يكون متولدا، وأن يفعل ضده بدلا منه إن كان له ضد. ولذلك يحسن أمره بالفعل الواجب ونهيه عن ضده، فلو لم يكن قادرا على ضده بدلا منه لم يحسن نهيه عنه لأن نهي الواحد عما لا يقدر عليه قبيح. ولذلك يقبح نهي الأعمى عن نظر العورات والزمن عن مسابقة الخيل العربية ومن لا جناح له عن الطيران، وليس ذلك إلا لأنه نهى له عما لا يمكنه فعله. فثبت أن من حق القادر على الشيء أن يكون قادرا على ضده فيصح منه أن يوجده بدلا من ضده وضده بدلا منه. والصحة والبدل يقتضيان الاستقبال لاستحالة دخول البدل في الموجود الحاصل لأن البدل في معنى الاشتراط والاشتراط إنما يكون في المستقبل دون ما وجد وتقضى. فلو لم يتقدم تصحيح كون القادر قادرا على الفعل على وجوبه للزم وجود الضدين معا لأنا قد بينا أن كون القادر قادرا مؤثر في صحة الفعل ووجوده وأن كونه قادرا متعلق بالضدين، فكان يجب، إذا صحح كونه قادرا وجود الضدين ولم يتقدم تصحيحه لهما على إيجابهما، أن يوجدا معا وذلك محال، وكان يجب قبح أمره بالفعل لأن الأمر لا يحسن بما قد وقع وإنما يحسن الأمر بما لم يقع ليقع في المستقبل وذلك ظاهر. فصح بهذه الجملة أنه لا بد من تقدم تصحيح القادر على إيجابه.
وأما الذي يدل على أن المقتضي والسبب بخلافه فهو أنه لو تقدم تصحيحهما على إيجابهما لخرجا عن كونهما مؤثرين على جهة الإيجاب وللحقا بالمؤثر على جهة الصحة والاختيار. ومعلوم مفارقتهما له في الأحكام التي تقدم ذكرها ولأنه قد ثبت أن المقتضيات يستحيل ثبوتها في العدم للذوات ومتى وجدت الذوات صحت المقتضيات ووجبت في وقت واحد. فلو تقدمت صحة المقتضيات على وجوبها للزم أن تصح في حال العدم فكان يجب صحة التحيز على المعدوم إلى غير ذلك من الصفات المقتضيات أو أن يصح وجود الذوات من دون أن تثبت لها الصفات المقتضيات بأن تتقدم صحتها على وجوبها فتصح دون أن تجب. وكل ذلك لا يجوز لما نعلمه من استحالة التحيز وسائر الصفات المقتضيات على المعدومات. ولذلك يستحيل التضاد وإيجاب الصفات على العلل والإدراك على المدركات في حالة العدم لاستحالة الصفات المقتضيات الموجبة لذلك في حال العدم، لأن استحالة حكم العلة تقتضي استحالة ثبوت العلة على الوجه الذي توجب . وكذلك فلا يصح وجود الذوات من دون ثبوت الصفات المقتضيات عن صفاتها الذاتية لأن حكم الوجود ظهور الصفة المقتضاة، إذ لو لم تظهر المقتضاة عنده لم ينفصل الموجود من المعدوم، فإن الموجود إنما يتميز مما ليس بموجود بظهور المقتضاة، ولا يصح أن نجعل التفرقة بين الموجود والمعدوم بصحة المقتضاة على الموجود دون المعدوم، وذلك لأن صحتها لا تعلم إلا بثبوتها فإذا لم تثبت لم يكن طريق إلى صحتها حتى تقع بها البينونة.
وبعد، فلو صحت المقتضاة على الموجود ولم تجب لكانت ثابتة مع الجواز وحال الموجود بالوجود واحدة، فكان ذلك يقتضي افتقارها إلى معنى، ويلحقها بالصفات الثابتة للمعاني ويخرجها عن كونها مقصورة على المقتضي لها والشرط في اقتضائه وهو الوجود، لأن الطريق إلى إثبات المعاني هو ثبوت الصفات مع الجواز والحال واحدة، فبطل تقدم تصحيح المقتضي على إيجابه.
وأما السبب فقد ثبت أن عند وجوده وارتفاع المانع يصح وجود مسببه ويجب عند صحته، وعند عدمه أو حصول مانع يستحيل وجود مسببه. فلو تقدم تصحيحه على إيجابه لصح وجود مسببه عند وجود المانع الذي هو ضده وذلك محال، أو صح أن لا يوجد المسبب عند ارتفاع المانع وذلك أيضا محال. فهذه طريقة القول فيما يكون تأثيره في تصحيح الحكم أو الصفة وإيجابهما.
[الكلام في النوع الثاني]
وأما النوع الثاني من المؤثرات، وهو ما يكون تأثيره في الإيجاب دون التصحيح، فهو العلل. فإن العلة لا توجب الصفة إلا لمن يصح أن يكون عليها في الأصل دون أن توجبها لمن يستحيل كونه عليها بأن تصححها له وتوجبها.
وإنما قلنا ذلك لما نعلمه من أن الكون حاصل مع الجوهر ولونه على سواء في الاختصاص من حيث هو موجود بحيثهما، ثم هو يوجب كون الجوهر كائنا دون أن يوجب كون لونه كائنا. وليس ذلك إلا لأن الجوهر يصح كونه كائنا دون اللون من حيث هو متحيز دونه. فلو كانت العلة تصحح الصفة وتوجبها لوجب أن تصحح كون اللون كائنا، وتوجب له ذلك لأن اختصاصها به كاختصاصها بالجوهر، فلا يجوز أن تصحح لأحدهما وتوجب دون الآخر مع أنها قد حصلت معهما على سواء في نهاية الاختصاص الممكن الذي هو شرط في إيجابها ما توجبه. فإذا استحال ذلك لم يبق إلا أنها توجب كون الجوهر كائنا دون أن تصححه، وإنما المصحح له هو التحيز. وكذلك الحال في العلل التي توجب صفات راجعة إلى الجملة لأنها لا تختص بالجملة دون ألوانها وأكوانها وتأليفاتها وسائر المعاني الحالة فيها، <ثم هي توجب الصفات للجملة دون الأعراض الحالة فيها> لما صحت الصفات على الجملة واستحالت على الأعراض. فلو كانت مؤثرة في التصحيح مع الإيجاب لصححت للأعراض وأوجبت لها الصفات لاختصاصها بها وبالجملة على سواء، وذلك محال لاستحالة كون الأعراض حية قادرة ولاستحالة مقدور بين قادرين. وإذا استحال كون الأعراض حية استحال عليها سائر صفات الجملة لأنها تابعة لكونه حيا في الصحة.
[الكلام في النوع الثالث]
وأما النوع الثالث من المؤثرات وهو ما يكون تأثيره في التصحيح دون الإيجاب، فهو الشرط، فإنه مصحح لوجود المشروط، فإن اقترن به المؤثر وجب المشروط عند صحته، وإن تراخى عنه صح ولم يجب.
أما أنه مصحح فذلك ظاهر فإن كون الحي حيا شرط في كونه عالما وقادرا وفي سائر الصفات الراجعة إلى الجملة، وكذلك فهو شرط في وجود المعاني الموجبة للصفات الراجعة إلى الجملة كالعلم والقدرة والإرادة وغير ذلك. ومعنى ذلك أنه يصححها حتى لولا كون الذات حية لاستحال كونها عالمة وقادرة إلى غير ذلك، وكذلك فلولا وجود الحياة لاستحال وجود القدرة والعلم والإرادة وغيرها. وكذلك فالتحيز لما كان مصححا لوجود سائر الأعراض المحتاجة إلى المحال سمي شرطا في وجودها. وكذلك البنية لما كانت مصححة لوجود الحياة حتى لولاها لما صح وجود الحياة سميت شرطا في وجودها. وكذلك البنية المخصوصة في تصحيحها لأفعال القلوب.
وأما أنه غير موجب فلأن الشرط لو كان موجبا لأدى ذلك إلى اجتماع المتضادات لأن كون الحي حيا مصحح لكونه عالما وجاهلا ومريدا وكارها وظانا وناظرا ومشتهيا ونافرا، فلو كان كونه حيا موجبا لم يكن بإيجاب بعض هذه الصفات أولى من بعض لأنه مصحح لها على سواء، فكان يجب أن يكون الحي عالما بالشيء جاهلا به على أخص ما يمكن، مريدا له كارها مشتهيا له نافرا عنه في وقت واحد، وذلك محال.
ومتى قيل: إن كونه حيا يصحح الضدين على البدل فلا يجب أن يوجبهما على الجمع.
قيل له: إن البدل لا يدخل في الصحة لأن صحتهما ثابتة قبل ثبوت أحدهما، وإنما البدل يدخل في الوقوع. فلو كان كونه حيا موجبا لأوجب الضدين على الجمع كما صححهما على الجمع. وكذلك فلو كان التحيز موجبا لوجود الأعراض كما أنه مصحح لوجودها للزم اجتماع المتضادات، وذلك محال. ولأن كونه حيا لو أوجب صفات الجملة وصححها أجمع لخرج عن كونه شرطا فيها ولكان مقتضيا لها لأن المقتضي هو كل صفة اختصت بها ذات وجب لأجلها لتلك الذات صفة أخرى. ولهذا جعلنا كونه حيا مقتضيا لكونه مدركا مع الشرائط المعتبرة في ذلك لما كان مصححا له وموجبا. وكذلك فلو كان وجود البنية موجبا لوجود الحياة مع أنه مصحح له لخرج عن باب الشروط وللحق بباب الأسباب لأن السبب يصحح المسبب ويوجبه وهما ذاتان. فعرفت أن من حق الشرط أن يكون تأثيره في تصحيح المشروط دون إيجابه.
[الكلام في النوع الرابع]
وأما النوع الرابع من المؤثرات وهو ما لا يكون له تأثير في تصحيح ولا إيجاب بل إنما يكون تأثيره في الاستمرار على طريقة واحدة فهو الداعي والصارف. فإن الداعي لا تأثير له في صحة الفعل ولا في وجوده بل إنما ذلك راجع إلى كون الفاعل قادرا كما تقدم. وكذلك فالصارف لا تأثير له في وجوب عدم الفعل ولا في استحالة وجوده ولا في صحة عدمه. بل إنما الداعي يقتضي كون الفعل أولى بالوجود منه بالعدم ويستمر ذلك عنده، أعني وجود الفعل، على طريقة واحدة دون أن يكون له تأثير في وجوب الفعل الذي يقتضي استحالة خلافه. إذ لو كان له تأثير في ذلك لأخرج الفاعل عن حد الاختيار، فإن من حق الفاعل أن يمكنه أن يوجد فعله وأن لا يوجده كما تقدم، ولأن الداعي قد يحصل ولا يقع الفعل، فلو كان موجبا لحصوله لما صح ذلك، ولأنه لو أوجبه لم يخل إيجابه له من أن يكون إيجاب العلل أو الأسباب لأن الذوات الموجبة ليست إلا هذين، ومحال إيجابه للفعل إيجاب العلل فإن العلل لا توجب الذوات، ومحال أن يوجبه إيجاب الأسباب لأن السبب لا يخلو إما أن يختص بجهة في التوليد أو لا يختص بجهة. فإن كان الداعي من قبيل ما لا يختص بجهة لم يجز أن يولد إلا في محله. إذ لو ولد في غير محله لم يكن بعض المحال بتوليده فيه أولى من بعض لفقد الاختصاص. ومعلوم أن الفعل المدعو إليه قد يكون من أفعال الجوارح والداعي في القلب فلا يصح طريقة التوليد بينهما لأنه لا يحل محله.
وإن قيل بأن الداعي يختص في التوليد بجهة فمعلوم أن الذي يختص في التوليد بجهة إنما هو نوع الاعتماد. فلو اختص الداعي في التوليد بجهة لكان يجب أن يكون من قبيل الاعتمادات، فإن هذا القبيل يختص بهذا الحكم من بين سائر الأسباب، وكونه من قبيل الاعتماد محال لأنه مما يوجب للجملة حالا والاعتماد حكمه مقصور على محله.
وبعد فمن حق ما يختص في التوليد بجهة أن لا يصح توليده لمسببه إلا بشرط مماسة محله لمحل المسبب. وإلا لزم أن يصح من أحدنا أن يمنع الضعيف الذي يمشي على بعد منه من المشي بما يفعله في يده من الاعتماد، وإن فقد الاتصال والمماسة بأن يولد الاعتماد السكون في جسم الضعيف وذلك محال. ولأن من حقه إذا اختص في التوليد بجهة أن لا يولد إلا في محله أو في المحل المجاور لمحله دون ما عداهما. إذ لو تعداهما لم يكن بعض المحال بالتوليد فيه أولى من بعض، وذلك باطل لأنه يقتضي توليده في جميع المحال وهو محال. فثبت أنه لا بد من مماسة بين محله ومحل مسببه، ومعلوم أن أحدنا قد يفعل الأفعال بحسب الداعي في محال ليست مجاورة لمحله ولا هي نفس محله، فبطل إيجابه لها.
وكذلك فالصارف إنما يقتضي كون الفعل أولى بالعدم منه بالوجود لا استحالة وجوده لأن ذلك يخرج الفاعل أيضا عن حد الاختيار. فإن من حقه أن يمكنه أن يفعل وأن لا يفعل، وبين استحالة أن يفعل وإمكان أن يفعل تناف ظاهر، ولأن الفعل قد يوجد مع الصارف بأن يعارضه الداعي، فكيف يقضى باستحالة وجوده لأجله؟ وذلك ظاهر. فثبت أن من حق الدواعي والصوارف أن لا يكون لها تأثير في صحة الأفعال ولا في وجودها، بل إنما يكون الفعل أولى بالوجود منه بالعدم عند الداعي ويستمر وجوده عند خلوصه وارتفاع المانع مع إمكان أن لا يوجد. وكذلك فالفعل يكون عند الصارف أولى بالعدم منه بالوجود ويستمر عدمه عند خلوصه على طريقة واحدة مع إمكان وجوده.
ومتى قيل: إذا صار الفعل واجب الوجود بعد أن كان يمكن وجوده ويمكن أن لا يوجد ويمكن وجود ضده بدلا منه فهلا دلكم ذلك على افتقاره في وجوده إلى أمر زائد على كونه قادرا لأن كونه قادرا كان ثابتا من قبل ولم يجب مع ذلك وجود الفعل؟
قيل له: إن المؤثر في وجوب وجود الفعل هو كونه قادرا كما قدمنا أن ذلك لا يصح رجوعه إلى صفة من صفات الحي سوى كونه قادرا، وإنما يؤثر في وقوع الفعل على جهة الصحة والاختيار دون الإيجاب كما تقدم أن الفاعل يؤثر في وجود الفعل على وجه تتقدمه الصحة، ولا يصح تعليل وقوعه بأمور موجبة لأن ذلك يخرجه عن حد الاختيار ويزيل أحكام الفعل الراجعة إلى الفاعل من حسن الأمر بالواجبات من الأفعال والنهي عن القبائح منها والمدح على وجوه الإحسان والذم على الإساءات إلى غير ذلك. وكل تعليل يعود على ما علمناه من أحكام الفاعلين بالنقض والإبطال وجب كونه باطلا. ولأن الكلام في ذلك الأمر الموجب للفعل كالكلام في الفعل وأنه لم وجب بعد أن لم يجب فيجب أن يحتاج إلى علة أخرى ثم كذلك حتى تتسلسل العلل إلى ما لا يتناهى، وذلك محال. فيجب أن نقتصر هاهنا وأن نقضي بأن فعل الفاعل يستحيل تعليله بأمر زائد على كونه قادرا.
ومتى قيل: لم جعلتم المقتضي والشرط والداعي جارية مجرى المؤثرات ولم لم تجعلوها مؤثرة على التحقيق، وقد أعطيتموها معنى المؤثر فإن المؤثر هو ما يظهر به حكم أو صفة، وقد جعلتم ذلك ثابتا فيها؟
قيل له: أما المقتضي فإنه ليس بذات وإنما هو صفة راجعة إلى ذات كما قدمنا ومن حق المؤثر أن يكون ذاتا، فظهور الصفة المقتضاة هو راجع في التحقيق إلى الذات لأجل اختصاصها بالصفة الذاتية بشرط الوجود دون أن يكون راجعا إلى الصفة، والشرط ليس بمؤثر في ثبوت الأحكام والصفات وظهورها وإنما هو مصحح لها وإن كانت الصحة حكما وقد ثبت لأجل الشرط ففي ذلك نظر. وأما الداعي فقد بينا أنه لا تأثير له في صحة الفعل ولا في وجوده فالحال فيه أظهر من الحال في غيره.
فهذا طريق القول في حقائق المؤثرات وما يجري مجراها وتمييز بعضها من بعص وما يختص به كل واحد منها من التأثير. وقد أتينا على الكلام في ذلك على طريقة الإجمال دون التفصيل، والله ولي التوفيق.
অজানা পৃষ্ঠা