الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي
الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي
প্রকাশক
مكتبة وهبه
সংস্করণের সংখ্যা
العاشرة
জনগুলি
المقدمات:
مقدمة الطبعة الثامنة:
- "الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي": هو مواجهة مباشرة لتيارات فكرية مستترة وراء عناوين خادعة، وهي في جوهرها محاولات عنيفة لفصل المسلمين عن دينهم، ووضعهم في مجالات التبعية لغيرهم، هم وما تحت أيديهم من ثروات طبيعية، وما لهم من طاقات بشرية.
ويواجه تيار الماركسية الإلحادية، المتخفي وراء اسم: العدالة الاجتماعية.
وما في العالم المادي اليوم من مجتمعات يقع في حماية هذا الاتجاه، أو ذاك، والمجتمعات البشرية على تعددها تنتمي إذن إلى واحد منهما.
وإذ يحسن كل يتار منهما اتجاهه الخاص به في نظر الشباب المسلم، يحاول في الوقت ذاته أن يشوه رسالة الإسلام، ويصفها على الأقل: بأن دورها للبشرية قد انتهى ولم تعد صالحة اليوم لحل مشاكل المجتمعات الإنسانية.
والمهمة الأولى لهذا الكتاب:
أن يكشف عن قيم الإسلام وعن صلاحية هذه القيم وحدها لتلافي مشاكل المادية في المجتمعات المعاصرة وهي تلك المشاكل التي واجهها على عهد الرسالة باسم الجاهلية، فجاهلية الأمس هي مادية اليوم.
- وبهذا الكشف دخل الكتاب في صراع لا يهدأ مع الدافعين لهذا التيار أو ذاك، خارج المجتمعات الإسلامية أو داخلها، والمعانون لهذا التيار أو ذاك، هم في واقع الأمر أصحاب سلطة في هذه المجتمعات، وأصحاب عضلات قوية فيها.
ولهذا كان هذا الكتاب: "الفكر الإسلامي الحديث.. وصلته بالاستعمار الغربي". عرضة لأن يصادر ويمنع تداوله من أصحاب السلطة؛ لأنه يقل أن يكون هناك صاحب سلطة في هذه المجتمعات يود أن تكون مسئوليته فيها أمام مبادئ الإسلام وقيمه.
1 / 5
وقد صودر الكتاب، ومنع ويصادر ويمنع معه كل كتاب آخر بقلم مؤلفه، عندما يظهر التحول إلى الماركسية الإلحادية في أي مجتمع إسلامي.
والمؤلف لا يحزن على المصادرة والمنع؛ لأنه يوم ألفه لم يستهدف بتأليفه سوى وجه الله وحده لم يستهدف دنيا، ولم يستهدف إرضا نظام حكم، أو حاكم.
- واليوم يعود هذا الكتاب فيطبع وينشر في القاهرة، بعد عشر سنوات من مصادرته فيها، لا لأن رأي المؤلف في الكتاب قد تغير، ولكن لأن الخداع في أي تيار من التيارين المشار إليهما قد زال أو كاد، واتضح ما وراءه من استعمار صليبي، أو آخر ماركسي إلحادي، وهو ذلك الأمر الذي تحدث عنه الكتاب في غير مواربة، محذرا المسلمين من خداع الصليبية الدولية، والإلحاد العلمي للشيوعية العالمية.
ولعل تلك اليقظة التي ظهرت اليوم بين شباب المسلمين -بعد أن انكشف الخداع الاستعماري الفكري والأيديولوجي- تستمر حتى تدفع إلى الكشف عن قيم الإسلام كمنهج سليم للحياة الإنسانية في مجتمعات السلمين.
وبذلك يقبل الشباب على فكر أصيل في تاريخهم، يساعدهم على بقائهم مستقلين عن هذه الكتلة أو تلك.
ويجعلهم أصحاب إرادة حرة في توجيه طاقاتهم البشرية، واستخدام ثرواتهم المتكاملة في حفظ قوتهم، واستقلال إرادتهم، أولًا.
- وأنت يا مولاي:
لك الشكر أولا، وآخرا:
فقد أعنتني على ما كتبت،
ووفقتني فيما رأيت
وأعنت المسلمين اليوم على البدء في كشف خداع أعدائهم، وعلى الرجوع إلى أنفسهم وما حولهم، وما بين أيديهم.
﴿رَبَّنَا آَتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا﴾
مصر الجديدة: ١٦ من رجب ١٣٩٥هـ.
٢٥ من يوليه ١٩٧٥م
دكتور محمد البهي
1 / 6
تقديم الطبعة الرابعة:
فيما كتبت في هذا الكتاب عن صلة الاستعمار الغربي بالفكر الإسلامي الحديث، ومدى تأثير هذا الاستعمار على اتجاهات الفكر الإسلامي -في عصرنا الحاضر- لم أكتب ظنا ولا تخمينا، ولا متجاوزا معمما أو مقللا منتقصا وإنما وقائع سجلتها، وهي من عناصر التاريخ الحديث، ومن فعل المستعمرين أو ردا لفعلهم.
ولكن رغما عن ذلك، فإن بعض الكتاب والمفكرين في مجتمعنا الشرقي الحاضر -لأنه لم يزل متأثرا بالغرب وحضارته وبفكره واتجاهاته، إذ قد عاش فيها وبها في هذا المجتمع- لم يستطع أن يتصور أن "علماء الغرب" من الذين تصدوا للدراسات الشرقية الدينية واللغوية -على الأخص- سلكوا في طريق البحث ومنهج عرض التعاليم الإسلامية مسلك المعين على بقاء الاستعمار الغربي في البلاد الإسلامية، التي أحتلها بصفة عامة منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، مسلك الذي ترجم فكر المستعمر بقلم محترفي البحث ومرتدي ثوب العلم!
وقد حدث -بعد أن ظهر هذا الكتاب في طبعاته السابقة- أن صدرت بحوث تتعلق بالمستشرقين بينت في غير لبس مدى تحدي هؤلاء باسم البحث العلمي، ومدى جرأتهم في توجيه نداءاتهم المتعددة للمسلمين في الوقت الحاضر في وجوب إقدامهم على تعديل إسلامهم، حتى يلائم الحضارة الإنسانية القائمة أو مواجهة الركود فالفناء المحقق!!! كما أبانت مدى خطر هؤلاء على الإسلام والمسلمين، وأن دعوتهم هذه لا تقل -في هذا الخطر والضرر- عن تلك الدعوة الأخرى التي يوجهها إلحاد العلم الماركسي في الوقت الراهن في أفريقا وآسيا!
وآثرت -من أجل إزالة أي أثر للشك- أن أضيف هذه البحوث التي نشرت أخيرًا لهذا الكتاب كملاحق تلحق به.. وهي بحوث ثلاثة:
- أحدها للمؤلف، نشر في مجلة الأزهر.
- وثانيها: للدكتور حسين مؤنس، نشر في أهرام الجمعة.
1 / 7
- وثالثها: للأستاذ الطباوي، نشر باللغة الإنجليزية في مجلة "العالم الإسلامي".
وبذلك يكون قد توفر لكتاب "الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي" في طبعته الرابعة مزيد من الأدلة على قيمة ما عرض فيه من آراء واتجاهات.
وإلى الله وحده نتوجه في أن يوفقنا فيما نعمل ويجزينا خير الجزاء على ما نقصد لديننا وأمتنا.
والله من وراء القصد.
١٠ صفر الخير ١٣٨٤هـ.
٢٠ يونيه سنة ١٩٦٤م
محمد البهي.
1 / 8
تقديم الطبعة الثالثة
...
تقديم الطعبة الثالثة:
ليس لي من كلمة أقدمها بين يدي الطبعة الثلاثة لهذا الكتاب، إلا أن أعبر عن شكري لله ﷾ على نعمة التوفيق فيه. فليس لكاتب أو مفكر أن ينتظر في وصف توفيق الله على نعمة أنعم بها عليه، وراء قبول قرائه لما كتب ولما فكر، ولاستجابتهم لما أبدى من رأي وشرح من فكر، بما يعبرون عنه من تقدير في صور مختلفة.
فبالرغم من أن لي كتبا وكتابات غير كتاب "الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي". فقد كنت أعرف وأعرف به في رحلاتي المختلفة في المشرق والمغرب، التي قمت بها منذ منتصف عام ١٩٦٠ إلى آخر عام ١٩٦١ سواء في الباكستان، أو في الملايو، أو في أندونسيا، أو في الفلبين، أو في شمال أفريقيا في ليبيا وفي المغرب، أو في غرب أفريقيا في نيجيريا. فما ذكرت في مرة من المرات أثناء هذه الرحلات، وما عرفت عند إلقاء محاضرة أو حديث، إلا بأني مؤلف: "الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي".
وقد شاء الله أن تكون هذه الطبعة الثالثة بالعربية لهذا الكتاب، مقرونة في الوجود بالترجمة الأولى إلى اللغة الإندونيسية، والتركية، والإنجليزية، والأردية.
وذلك فضل الله أعتز به، وأشكره عليه بالتوفر على تأليف جزء ثان لهذا الكتاب بإذن الله، سيكون مجاله "الفكر الإسلامي في بلاد المغرب وفي الجزء الغربي من أفريقيا".
1 / 9
والله جلت قدرته أستلهمه السداد فيما أكتب، وحسن القصد فيما أخطو إليه.
وكما أملت في يقظة الوعي الإسلامي عن طريق هذا الكتاب عند صدوره في الطبعتين الأولى والثانية، يزداد أملي في قوة هذه اليقظة عند صدور هذه الطبعة.
والله ولي الأمر وحده ...
وإليه المآب.
القاهرة: مارس ١٩٦١
الدكتور محمد البهي
مدير جامعة الأزهر
وعضو مجمع البحوث الإسلامية
1 / 10
تقديم الطبعة الثانية:
ظهرت الطبعة الأولى لهذا الكتاب في أكتوبر سنة ١٩٥٧م، وما كادت تنتهي سنة على ظهوره حتى نفدت هذه الطبعة، رغم أن الإعلان عنه من المؤسسة التي تعهدت بتوزيعه كان محدودًا، ورغم أن الثمن الذي قدر للورق الجيد منه كان فوق مستوى الثمن للكتاب العربي في جملته.
ولم أحاول أن أتصل بناقد من نقاد الكتب، يعرض له بالمديح والثناء عليه في صحيفة يومية أو أسبوعية، ولم أقم بإهداء نسخ منه إلا لعدد قليل. لا شحا وبخلا به، ولكن خشية من أن يساء فهمه وفهم مؤلفه لو توسعت في إهدائه واقتحمت به بريد الكثيرين من الكتاب والمفكرين: خشيت أن تلصق به رغبة الترويج، وتلصق بمؤلفه رغبة الدفع لما فيه من آراء، وخاصة أنا أعلم أن ما فيه من آراء -تتصل بقيم المستشرقين والاستشراق، وبقيم الماركسية والوضعية المادية -سيغضب الكثيرين ممن يوالون هذا الاتجاه أو ذاك، ويعيشون في حايتنا اليوم على ترديد ما لواحد منهما أو لآخر ... وعددهم بين الكتاب والمؤلفين المعاصرين ليس بقليل.
تركت الكتاب إذن يعيش بنفسه وبقيمته، بين الكتب التي تخرجها المطابع العربية في القاهرة، وبيروت، وبغداد، ودمشق، والرباط، ومن فضل الله عليه وعلى مؤلفه، أن لقي من التقدير ما يسر له من نقاد طبعته الأولى في زمن قصير، رغم كل الظروف التي أشرت إليها، والتي من شأنها أن تمهله أو تبطئ به في السير نحو الرواج والنفاد.
وقد توج هذا التقدير للكتاب، ما تفضل به السيد الوزير "كمال الدين حسين" وزير التربية والتعليم المركزي مشكورًا، من نصح الشباب بقراءته، وذلك في حديث لسيادته في صحيفة "الأهرام" وفي حديث آخر في إذاعة الجمهورية العربية المتحدة بالقاهرة.
وما أن نفدت الطبعة الأولى، حتى دفعت بالكتاب للطبعة الثانية التي أقدمها اليوم، والتي استغرقت من الوقت قرابة عام، نظرًا لكثرة الأعباء التي أضيفت إلي في الإدارة العامة للثقافة الإسلامية بالأزهر، بجانب التدريس في كلية اللغة العربية.
1 / 11
وما في هذه الطبعة من موضوعات وآراء ومنهج للبحث، لا يختلف عما جاء في الطبعة الأولى ... لا تخلصا من أعباء امتحان ما في الكتاب من آراء -على الأقل- مرة ثانية في ضوء ما حدث من كتب للمعرفة علها صدرت، وتصل بموضوعات الكتاب، أو في ضوء مراجعة أخرى لبعض المصادر التي اعتمدت عليها من قبل؛ ولكن لأن نتيجة الاختبار الدقيق من جديد لما في الكتاب كله، قد أكدت نفس الآراء، كما أكدت سلامة منهج البحث فيه.
وكل ما تتميز به هذه الطبعة الثانية: هو البسط في عرض بعض الفكر مرة، والعدول عن بعض الألفاظ والتراكيب التي استعملت سابقا إلى غيرها مما هي أكثر دقة في تأدية المعنى المطلوب، أو أكثر وضوحا في التمييز عنه مرة أخرى.
والأمل الذي عبرت عنه عند تقديم الطبعة الأولى من هذا الكتاب -وهو إيقاظ الوعي بتفكير توجيهي محايد، وبـ"أيديولوجية" لا هي بالشرقية الإلحادية ولا هي بالغربية الصليبية، تقوم بين المسلمين على أساس من الإسلام الأصيل نفسه -لم يزل هو الأمل نفسه، يتجدد مرة أخرى؛ لأن فكرة "الحياد الإيجابي" في سياسة الشعوب الإفريقية والأسيوية بدت الآن أوضح عن ذي قبل، يوم أن صدر هذا الكتاب لأول مرة.
وكلما مال الأمر في سياسة هذه الشعوب إلى "الإيمان" بالحياد الإيجابي، كلما نشط الوعي بينها في دائرة التوجيه إلى الرجوع إلى القيم الأصيلة في تراثها الثقافي والروحي، والاستناد إليها في النظرة إلى الحياة، وفي السلوك الإنساني، وفي الترابط بين الأفراد.
ثم إن تطور وضع هذه الشعوب وتحررها تباعا من الاستعمار لا يقوي فيها دافع الحرص على استقلالها فحسب، وإنما ينمي مع ذلك فيها "ذاتيتها" و"شخصيتها" وتنمية الذات أو الشخصية يستتبع حتما التفتيش عن مصادر الأصالة في تكوينها وقيامها، أو هو لا يقوم نفسه على أساس من "اعتبار" هذه الأصالة، و"إعادة" تقديرها من جديد.
والقيم الإسلامية الخالدة، هي الأمر الأصيل الذي ارتبطت به شخصية الشعوب الإسلامية في وجودها واستمرارها.
1 / 12
ومن هنا، اقترب "الأمل" إلى "ثقة" ... سيصبح حتما بعدها حقيقة واقعة.
ولكن متى تقع هذه الحقيقة؟
هنا يعود الأمل من جديد في أن يكون قريبا، وهنا تشتد بنا الحاجة -كي يكون ذلك قريبا- إلى أن نتجه إلى الله جلت قدرته، في أن يهب هذه الشعوب الطاقة المادية والمعنوية على التحرر من هذا الاستعمار البغيض في صورتيه معا. إذ في زواله وبعد شبحه يتحقق الحياد الإيجابي كاتجاه سياسي وتظهر "الأيديولوجية" الإسلامية كمذهب رئيسي في التوجيه بين الشعوب الإسلامية.
والله الموفق والمعين.
القاهرة في ١٩ من جمادى الآخرة سنة ١٣٧٩هـ
دكتور محمد البهي
1 / 13
تقديم الطبعة الأولى:
اتصل الغرب المسيحي بالشرق الإسلامي اتصال اعتداء مسلح طوال قرنين كاملين من الزمن، من نهاية القرن الحادي عشر إلى آخر القرن الثالث عشر الميلادي، وهو اعتداء الحروب الصليبية، واختبر في هذا الاحتكاك عقيدة الإسلام في قوتها، وضعف المسلمين في مجتمعهم، وسعة ما يملكون من ثروة في بلادهم، فتأثر بالإسلام، وما جاء فيه من توحيد الله وبشرية الرسول: "لوثر"١ "Luther"، "كالفن"٢ "Calvin"، فيما قاما به من الإصلاح الديني في النصف الأول من القرن السادس عشر، وظهر أثر الإسلام واضحا في رفض البروتستنتينية: "التثليث"، و"عصمة" البابا، وكونه صاحب السلطة الأخيرة التي لا يجوز التعقيب عليها في تحديد رأي المسيحية، وغير ذلك من الرسوم والعقائد التي تعتبرها الكنيسة الرومانية -وهي الكنيسة الكاثوليكية- جزءا من الإيمان المسيحي.
ويعتبر الغاء عصمة البابا في الإصلاح الديني المسيحي ذا أثر قوي في توجيه الإنسان الغربي نحو الاستقلال في التفكير، وفي رد اعتبار قيمته في الوجود. كما يعتبر رفض سلطة الباب في تفسير المسيحية، على أنها السلطة الأخيرة التي لا تعقيب عليها: سببا مباشرا في نشاط الفكر الأوربي في المعرفة. وفي إفساح مجال للعلم والقوة على الملاحظة والتجربة، وفي وضع معايير جديدة للحياة الإنسانية، ولقيم المجتمع البشري، لا تتعارض مع "الكتاب المقدس"، وقد سلك "لوثر" نفسه -وكذا من عاونه في إصلاحه الديني- طريق الملائمة مع نصوص "الكتاب المقدس" في رفض ما رفضه وقبول ما قبله من عقائد ورسوم للعبادة، دون اعتبار آخر لسلطة بشرية أخرى تعقب على تفسيره وفهمه.
كما أفاد الغرب من هذا الاحتكاك -مرة ثانية- في إعداد نفسه ورسم خططه، انتهازا لزيادة ضعف المجتمع الإسلامي وتفككه، كي يحصل على ما لدى المسلمين من ثروة، تعد في تنوع مصادرها ومقدار كميتها أضخم ما عرف من ثروة في أي مكان آخر من العالم القديم.
_________
١ ١٤٨٣: ١٥٤٦م.
٢ ١٥٠٩: ١٥٦٤م.
1 / 15
وكما كان القرن السادس عشر هو مصدر الإصلاح الديني في الغرب، كانت نهايته بداية اتصال الغرب المسيحي بالشرق الإسلامي اتصالا اقتصاديا، سواء في كشف موارد الثروة فيه، أو استغلالها ونقلها إلى الغرب في صورة تبادل تجاري، أو في أية صورة أخرى.
واستتبع الاتصال الاقتصادي -بعد تقدم صنع السفينة في الغرب- اتصالا آخر؛ هو نفوذ الغرب المسيحي على التوجيه السياسي للشرق الإسلامي. وازداد هذا النفوذ بالتدريج، حتى وصل منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر حتى الربع الأول من القرن العشرين منتهى ما يصل إليه نفوذ قوي على ضعيف.
ولم يقف استخدام هذا النفوذ السياسي القوي عند حد الاستغلال الاقتصادي لأجل رفع مستوى الغرب وتقدم صناعته من جانب وإضعاف مستوى الشرق والحرص على تخلفه من جانب آخر، بل استخدم أيضا للتنفيس عن الهزيمة الصليبية في الحروب الماضية، وعن الحقد الصليبي على بقاء بيت المقدس في ظل السيادة الإسلامية!!
- فكيف يستمر للغرب نفوذه السياسي على الشرق الإسلامي؟
- وكيف يبقى تخلف المسلمين؟
- وكيف تنفس النفس الصليبية عن حقدها؟
هذه الأسئلة الثلاثة ... يرتبط بعضها ببعض في تصور الغرب المسيحي المستعمر، ويحرص على أن تبقى متصلة بعضها ببعض في مباشرة سلطته هنا في الشرق، على أن وجود أي واحد من هذه الأمور الثلاثة وتمتعه بالبقاء كفيل بتمكين الوجود للأمرين الآخرين.
لهذا ... ما أن باشر النفوذ الغربي سلطته في رقعة الشرق الإسلامي منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، حتى ابتدأ يعمل على تخلف المسلمين، وعلى تنفيس الحقد الصليبي.
وليس له هنا طريق آخر لتحقيق هذه الغاية، سوى تناول "مادة التوجيه" المحلية، وجعلها غير صالحة.. ولم يكن هناك في توجيه
1 / 16
الشرق الإسلامي سوى الإسلام، والتراث الإسلامي الذي خلفه المسلمون في شرح إسلامهم.
- فإفساد الإسلام والتراث الإسلام إذن، غرض أول للمستعمر الغربي.
- واختار وسيلته لذلك فيما أبرزه من المفارقة بين الغرب والشرق، من تقدم الأول وتأخر الثاني.
- وابتدأ "العلم" وابتدأت "الدراسة" هناك تبحث عن أسباب هذه المفارقة، وتركزت الاسباب أخيرًا في المقابلة بين المسيحية والإسلام ... المسيحية دين المتقدمين، والإسلام دين المتخلفين!!
وهناك قام بعض المسلمين ينادي باتباع الغرب فيما وصل إليه من حضارة صناعية وفكر طبيعي ... ولكن لا يكون هذا الاتباع مثمرا للشرق الإسلامي إلا إذا اتخذ موقفا من الإسلام يقربه من المسيحية!!
وعلى أساس هذا التقريب قامت حركة السيد "أحمد خان" في الهند التي سماها "تجديدا" وقامت حركة أخرى بعدها، هي حركة "ميرزا غلام أحمد" أخذت طابع الدين والعقيدة ... وقصدت هاتان الحركتان إلى "تأويل" ما في الإسلام مما يخالف المسيحية، وعلى الأخص ما يدعو إلى الاحتفاظ بـ"الشخصية الإسلامية" وباستقلال الجماعة الإسلامية، وعاون المستعمر الغربي هاتين الحركتين بوسائل مختلفة؛ لأن في نجاحهما بين المسلمين ما يحقق له تحويل مادة "التوجيه" في العالم الإسلامي إلى مادة غير صالحة.
لكن الإسلام بعد قيام هاتين الحركتين لم يقض عليه، وأيضا لم يزل بين المسلمين من يفهم الإسلام على الوجه الصحيح، ويؤمن به إيمانًا قويا ... فقام جمال الدين الأفغاني، ومن بعده الشيخ محمد عبده، ليدفعا حملة التشويه عن الإسلام، وليواجها المستعمر وجها لوجه.
ومن هنا كانت مقاومة الاستعمار مرتبطة ارتباطا وثيقا برد التحريف الذي قصد توجيهه للإسلام من المستعمرين وأعوانهم في البلاد الإسلامية.
1 / 17
وبهذا نشأ في التفكير الإسلامي -منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر-اتجاهان:
- أحدهما: لممالأة الاستعمار الغربي في "تقريب الإسلام من المسيحية" أو في تبديله إلى توجيه ديني يرضى عنه المستعمر.
- والثاني: لمقاومة هذا التقريب أو هذا التبديل، مع الدعوة إلى احتفاظ المسلمين بإسلامهم كما يصوره القرآن والسنة، وإلى إعادة تماسك الجماعة الإسلامية، والسعي إلى استقلالها، وعدم انصهار المسلمين في غيرهم.
وبانتهاء القرن التاسع عشر تم تبلور هذين الاتجاهين، وعرفت أسسهما في العالم الإسلامي، وأصبح لكل منهما أتباع وأنصار.
جاء القرن العشرون، واستمرت أيضا الثنائية في اتجاه التفكير الإسلامي، ولكن أحد الاتجاهين عرف باسم "التجديد" بينما عرف الاتجاه الآخر باسم "الاتجاه الإصلاحي" أو اتجاه تجديد المفاهيم الدينية.
- فاتجاه التجديد: سار في طريق خدمة الاستعمار الغربي -ولكن من غير قصد مباشر- على نحو ما سار الاتجاه المعاون له في النصف الأخير من القرن الماضي، فحركة "التجديد" في الفكر الإسلامي التي ظهرت في الشرق الإسلامي منذ بداية القرن العشرين، تعتبر "تقليدا" للدراسات الإسلامية في تفكير المستشرقين الغربيين، ثم أضيف إلى هذا التقليد فيما بعد -منذ نهاية الحرب العالمية الثانية بعد أن تهيأ الجو في الشرق الإسلامي للحديث عن الإلحاد في مواجهة الإسلام والمسلمين- ترديد للفكر الإلحادي المادي الغربي، وهو التفكير الوضعي والماركسي.
ودراسة المستشرقين للإسلام قامت أولا بوحي من الكنيسة الكاثوليكية خاصة، للانتقاص من تعاليم الإسلام وإهدار قيم تعاليمه، حرصا على مذهب "الكثلكة" من جانب، وتعويضا عن الهزائم الصليبية في "تحرير" بيت المقدس من جانب آخر! ثم تبني الاستعمار الغربي هذه الدراسة في الجامعات الغربية نفسها، حتى يقوى القائمون بأمرها على تصديرها إلى الشرق
1 / 18
الإسلامي في صورة كتب تؤلف وترسل إلى طلاب الثقافة، أو في صورة طلاب من الشرق الإسلامي يدعون أو يعانون على الدراسة هناك، ثم يمنحون من الألقاب العلمية ما يتمكنون بها من الظفر بوظيفة التوجيه في الكليات النظرية بالجامعات الحديثة في الشرق الإسلامي.
أما محاولة تجديد المفاهيم الدينية منذ بداية القرن العشرين، فقد باشرها في مصر تلاميذ الشيخ "محمد عبده" كما قام بها في الهند فيلسوف الباكستان" محمد إقبال".
وهكذا نجد أن الاستعمار الغربي له صلة وثيقة بالفكر الإسلامي منذ بداية النصف الثاني من القرن التاسع عشر حتى الآن ...
سواء في خلق، أو معاونة ما يسند من اتجاه.
أو في إثارة ما يقاومه من اتجاه آخر.
والفكر الإسلامي نفسه في هذه الفترة- التي تبلغ الآن قرنا كاملا- هو مرآة لهذين الاتجاهين؛ لذلك كان عنوان الكتاب الذي نقدم له:
"الفكر الإسلامي، وصلته بالاستعمار الغربي".
وسيعرض الكتاب من أجل ذلك:
لحركة السيد "أحمد خان" وحركة "ميرزا غلام أحمد" في القرن التاسع عشر كحركتين ممالئتين للاستعمار الغربي، كما يعرض لحركة "جمال الدين الأفغاني" وحركة "محمد عبده" في القرن التاسع عشر نفسه كحركتين مقاومتين للاستعمار.
ثم يعرض فكر "التجديد" منذ بداية القرن العشرين: كفكرة "بشرية القرآن" وفكرة "الإسلام دين لا دولة" من اتجاه الاستشراق، وفكرة "الدين خرافة"، وفكرة "الدين مخدر" من الاتجاه الإلحادي المادي.
كما يعرض لحركة تحديد المفاهيم الإسلامية التي قام بها في الهند "محمد إقبال".
1 / 19
وقد قصدت بهذا الكتاب بيان السبيل، لمن يحرص في الشرق الإسلامي على الاستقلال في التفكير وفي السياسة، من مفكري الإسلام وزعماء السياسة بينهم، وهذا السبيل ليس هو سبيل الغرب الذي يدعونا إليه؛ لأن في سبيل الغرب قبول الاستعمار والمذلة، والدعوة إلى التخلف، وإنما هو سبيل الشرق الذي يريد أن يتحرر من استعمار الغرب وإذلاله وحرصه على أن يبقى متخلفا.
لم أعرض استنتاجا، وإنما عرضت حركات قامت ... وعرضت أحداثا وقعت، والأحداث أقوى في التوجيه؛ لأنها من التاريخ، والتاريخ هو حياة الأشخاص والأمم، ومعبد الطريق أمام الإنسان وجماعته، عند السير على المستقبل.
القاهرة في ٥من ذي الحجة سنة ١٣٧٦هـ.
٣ من يولية سنة ١٩٥٧م.
دكتور محمد البهي
1 / 20
فاتحة:
الاستعمار الغربي يتسلل إلى العالم الإسلامي:
في بداية منتصف القرن التاسع عشر، وعلى التحديد في سنة ١٨٥٧م.
- تم للإنجليز الاستيلاء على الهند سياسيا، وانتقلت سلطة الحكم رسميا من شركة الهند الشرقية "التي تأسست في ٣١ ديسمبر سنة ١٦٠٠م، والتي انضمت إلى شركة أخرى جديدة في سنة ١٦٨٩م" إلى التاج البريطاني، وزالت بذلك إحدى الدول الإسلامية الكبرى التي قامت في مستهل القرن السادس عشر الميلادي، وهي دولة المغول في الهند أو الدولة التيمورية "نسبة إلى تيمورلنك مؤسس هذه الإمبراطورية" الإسلامية في آسيا الوسطى، أما الدولتان الأخريان إذ ذاك، فهما: الدولة الصفوية في إيران، ودولة الأتراك العثمانيين في آسيا الصغرى وشرقي أوربا.
- كما تم في السنة نفسها -وهي سنة ١٨٥٧ - استيلاء الفرنسيين على الجزائر كلها إلى الصحراء، بعد أن ابتدءوا غزوها سنة ١٨٣٠م.
- ومن قبل هاتين الدولتين الاستعماريتين -إنجلترا وفرنسا- احتلت هولندا في بداية القرن السابع عشر جزر الهند الشرقية "أندونسيا" عن طريق شركة الهند الهولندية التي تأسست في سنة ١٦٠٢. وذلك بعد ما ضاع استقلال البرتغال بإعلان ملك أسبانيا ضمها إلى بلاده ١٨٥٠م، تلك الدولة التي عبدت طريق الاستعمار الغربي المسيحي في وسط آسيا وشرقيها في الهند وفي أندونسيا سنة ١٥١١م، والتي حصل ملكها من الباب إسكندر على صك رسمي بأن البرتغال "سيدة بحار العرب والعجم والهند والحبشة"!!
فبعد قرنين ونصف، أي: منذ بداية القرن السابع عشر الميلادي إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر، تمكن الاستعمار الغربي المسيحي من السيطرة سيطرة تامة على المسلمين في وسط آسيا وشرقيها، واتخذ له نقطة ارتكاز رئيسية في إفريقيا، كما تمكن من مد نفوذه إلى قلب العالم الإسلامي ومركزه الرسمي في منطقة الشرق الأدنى، وبذلك طوق العالم الإسلامي من الشرق والغرب، وسلط ألاعيبه ودسائسه على بقية التجمعات الإسلامية الأخرى بين هذين الطرفين، فوهنت هذه التجمعات، وانحل عقدها، وسقط
بعضا إثر بعض تحت نفوذ المستعمر الغربي، وما جاءت الحرب العالمية الأولى وانقضى أجلها، حتى أصبح العالم الإسلامي كله تحت نفوذ هذا المستعمر.
1 / 23
العالم الإسلامي في نظر الغرب المستعمر
...
العالم الإسلام في نظر الغرب المستعمر:
نشرت جريدة "المؤيد" في تمام القرن التاسع عشر "١٣١٧هـ" ترجمة لمقال كتبه "هانوتو" المستشرق الفرنسي ومستشار وزارة الاستعمار الفرنسية، يصف فيه المسلمين وعقيدتهم، ويضح المقترحات الضرورية في نظره لتوجيه سياسة فرنسا في مستعمراتها الإفريقية الإسلامية تحت العنوان التالي:
"قد أصبحنا اليوم إزاء الإسلام والمسألة الإسلامية".
وكان مما جاء في هذا المقال:
"اخترق المسلمون أبناء آسياء شمال القارة الإفريقية بسرعة لا تجارى، حاملين في حقائبهم بعض بقايا تمدن البيزنطيين "يونان الشرق" تم تراموا بها على أوروبا، ولكنهم وجدوا في نهاية انبعاثهم هذا مدينة يرجع أصلها إلى آسياء بل أقرب في الوصلة إلى المدنية البيزنطية مما حملوه معهم، ألا وهي المدنية الآرية المسيحية، ولذلك اضطروا إلى الوقوف عند الحد الذي إليه وصلوا، وأكرهوا على الرجوع إلى أفريقية حيث ثبتت أقدامهم أحقابا متعاقبة، ولكن لا يزال الهلال ينتهي طرفاه: من جهة بمدينة القسطنطينة، ومن أخرى ببلدة فاس في المغرب الأقصى، معانقا بذلك الغرب كله.
" ... في تلك البقعة الإفريقية التي أصبحت مقر ملك الإسلام، جاءت الدولة الفرنسية لمباغتته، جاء القديس لويس -الذي ينتمي إلى إسبانيا بوالدته- ليضرم نيران القتال في مصر وتونس، وتلاه لويس الرابع عشر في تهديده الإمارت الإفريقية الإسلامية، وعاود هذا الخاطر نابليون الأول، فلم يوفق إلى تحقيقه الفرنسيون إلا في القرن التاسع عشر، حيث أخذوا على دولة الإسلام التي كانت لا تني في متابعة الغارات على القارة الأوربية، فأصبحت الجزائر في أيديهم منذ سبعين عاما، وكذلك القطر التونسي منذ عشرين عام.
1 / 24
" ... إذن فقد صارت فرنسا بكل مكان في صلة مع الإسلام، بل صارت في صدر الإسلام وكبده، حيث فتحت أراضيه وأخضعت لسطواتها شعوبه، وقامت تجاهه مقام رؤسائه الأولين! وهي تدير اليوم شئونه وتجبي ضرائبه، وتحشد شبابه لخدمة الجندية، وتتخذ منهم عساكر يذبون عنها في مواقف الطعان ومواطن القتال".
"إن شعبا جمهوري المبادئ "شعب فرنسا" يبلغ عدد نفوسه أربعين مليونًا لا مرشد له إلا نفسه: لا عائلات ملوكية فيه يتنازعن الحكم، ولا رؤساء يتناولون الرياسة بطريق الوراثة، هو الذي تقلد زمام إدارة شعب آخر لا يلبث أن ينمو حتى يساويه في العدد، وهو ذلك الشعب المنتشر في الأرجاء الفسيحة والأصقاع المجهولة، والمتبع لتقاليد وعادات غير التي نحنوا لها ونحترمها.. هو الشعب الإسلامي السامي الأصل، الذي يحمل إليه الشعب الآري المسيحي الجمهوري الآن ملح المدنية وروحها"!!.
"ليس الإسلام في داخلنا فقط، بل هو خارج عنا أيضا ... قريب منا في "مراكش" تلك البلاد الخفية الأسرار، التي يشبه وجودها الحاضر مقدور الأبد في الغموض والاشتباه، قريب منا في "طرابلس الغرب" التي تتم بها المواصلات الأخيرة بين مركز الإسلام في البحر الأبيض المتوسط وبين الطوائف في باطن القارة الإفريقية، قريب منا في "مصر" حيث تصادمت معنا الدولة البريطانية فصادمنا إياها في الأقطار الهندية، وهو موجود وشائع في آسيا حيث لا يزال قائما في بيت المقدس وناشرا أعلامه على "مهد الإنسانية مقر المسيح"، ويحسب أنصاره وأشياعه في قارات الأرض القديمة بالملايين، وقد انبعثت منه شعبة في بلاد الصين فانتشر فيها انتشارًا هائلا، حتى ذهب البعض إلى القول بأن العشرين مليونا من المسلمين الموجودين في الصين لا يلبثون أن يصيروا مائة مليون، فيقوم الدعاء لله مقام الدعاء "لساكياموني" وليس هذا بالأمر الغريب، فإنه لا يوجد مكان على سطح الأرض إلا واجتاز الإسلام فيه حدوده منتشرًا في الآفاق.
"فهو الدين الوحيد الذي أمكن انتحال الناس له زمرا وأفواجا، وهو الدين الوحيد الذي تفوق شدة الميل إلى التدين به كل ميل إلى اعتناق دين سواه، ففي البقاع الإفريقية نرى المرابطين وقد أفرغوا على أبدانهم الحلل البيضاء، يحملون إلى الوثنيين من العبيد العارية أجسامهم من كل شعار قواعد الحياة ومبادئ السلوك في هذه الدنيا، كما أن أمثالهم في القارة الأسيوية ينشرون بين الشعوب الصفر الألوان قواعد الدين الإسلامي، ثم
1 / 25
هو -أي: هذا الدين- قائم الدعائم ثابت الأركان في أوربا عينها، أعني في الآستانة العلية، حيث عجزت الشعوب المسيحية عن استئصال جرثومته من هذا الركن المنيع الذي يحكم منه على البحار الشرقية ويفصل الدول الغربية، بعضها عن بعض شطرين.
"وخلاصة القول: إن جميع المسلمين على سطح المعمورة تجمعهم رابطة واحدة. بها يديرون أعمالهم ويوجهون أفكارهم إلى الوجهة التي يبتغونها، وهذه الرابطة تشبه السبب المتين الذي تتصل به أشياء تتحرك بحركته وتسكن بسكونه، ومتى اقتربوا من الكعبة: من البيت الحرام، من زمزم الذي ينبع منه الماء المقدس، من الحجر الأسود المحاط بإطار من فضة، من الركن الذي يقولون عنه إنه سرة العالم، وحققوا بأنفسهم أمنيتهم العزيزة التي استحثتهم على مبارحة بلادهم في أقصى مدى من العالم للفوز بجوار الخالق في بيته الحرام اشتعلت جذوة الحمية الدينية في أفئدتهم، فتهافتوا على أداء الصلاة صفوفا.. وتقدمهم الإمام مستفتحا العبادة بقوله: "بسم الله" فيعم السكوت والسكون وينشران أجنحتهما على عشرات الألوف من المصلين في تلك الصفوف. ويملأ الخشوع قلوبهم ثم يقولون بصوت واحد: "الله أكبر"، ثم تعنوا جباههم بعد ذلك قائلين "الله أكبر" بصوت خاشع يمثل معنى العبادة.
"لا تظنوا أن هذا الإسلام الخارجي الذي تجمعه جامعة فكر واحد، غريب عن إسلامنا "في تونس والجزائر" ولا علاقة له به؛ لأنه وإن كانت البلاد "الإسلامية" التي تحكمها شعوب مسيحية ليست في الحقيقة بـ"دار إسلام" وإنما هي "دار حرب"، فإنها لا تزال عزيزة وموقرة في قلب كل مسلم صحيح الإيمان! والغضب لا يزال يحوم حول قلوبهم كما تحوم الأُسد حول قفص جلست فيه صغارها، ربما كانت قضبان هذا القفص ليست متقاربة ولا بدرجة من المتانة تمنعها عن الدخول إليهم من بينها.
"لا يؤخذ مما تقدم أن جراثيم الخطر لا تزال موجودة في ثنيات الفتوح وعلى أفكار المقهورين الذي أتعبتهم النكبات التي حاقت بهم، ولكن لم يثبط هممهم. نعم ليس لمقاومتهم رؤساء يشدون هذه المقاومة. ولكن رابطة الإخاء الجامعة لأفراد العالم الإسلامي بأسره كافلة بالرياسة.. ففي مسألة علاقتنا مع الإسلام تجد المسألة الإسلامية والمسألة الدينية والمسائل
1 / 26
الداخلية والخارجية شديدة الاتصال بعضها ببعض، وهذا ما يجعل حلها صعبا ومتعذرًا -كما سنبينه"١!!
فـ"هانوتو" يعرض -في هذه المقدمة لمقاله الطويل -لثلاث عناصر رئيسية:
أولا: أن ما لدى المسلمين من معرفة وثقافة هي بعض بقايا تمدن البيزنطيين "يونان المشرق" ... وليست ثقافة أصيلة ابتدعوها!
ثانيا: أن رسالة فرنسا بين المسلمين الذين خضعوا لسطوتها هي: "ملح المدنية وروحها"، التي يحملها شعب آري مسيحي جمهوري إلى شعب إسلامي سامي الأصل ... له تقاليد وعادات تغاير عادات وتقاليد المسيحيين الآريين!
ثالثا: أن المسلمين الذين وقعوا تحت سيطرة النفوذ الفرنسي ليسوا منقطعي الصلة عن بقية المسلمين في الخارج، بل تربط بعضهم بعضا رابطة قوية، وديار المسلمين التي تحتلها فرنسا يعتبرها المسلمون القاطنون فيها والخارجون عنها "دار حرب"، وليست "دار إسلام" ... ولذا فالخطر موجود في الداخل والخارج.
هذه الروح التي تجلت عند هذا المستشرق الفرنسي، هي نفس الروح التي يصفها المستعمر الفرنسي والإنجليزي والهولندي في نظرته إلى المسلمين في آسيا وإفريقيا، وفي توجيهه إياهم، وفي سلوكه معهم ... وهي ليست للمسلمين أصالة في الثقافة، فليست لهم قيمة ذاتية!
ولذا يجب على المسلمين أن ينتقلوا إلى الحضارة الأوروبية الآرية المسيحية!! ويجب على شعوب أوروبا المسيحية الآرية أن تتعاون فيما بينها على دفع الخطر الإسلامي الكامن ضمن الوحدة الإسلامية: الفكرية، والروحية، والغائية!
ولا يغفل "هانوتو" هنا أن يذكر -أو يتذكر- بواعث الحروب الصليبية في القرن: الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر، فيقول:
_________
١ تاريخ الإمام - ج٢ ص٤٠١: ٤٠٧.
1 / 27